السّؤال: إلى كم تنقسم أخلاق النّوع الإنسانيّ ومن أين جاء هذا الاختلاف والتّفاوت؟
الجواب: الأخلاق فطريّة وموروثة واكتسابيّة والأخيرة تحصل بالتّربية، أمّا الأخلاق الفطريّة وإن كانت الفطرة الإلهيّة خيراً محضاً ولكنّ اختلاف الأخلاق الفطريّة في الإنسان ناشئ عن تفاوت الدّرجات، فكلّها خير أمّا بحسب الدّرجات هي بين حسن وأحسن، كما أنّ لجميع النّوع الإنسانيّ إدراكاً واستعداداً، ولكن يتفاوت الإدراك والاستعداد والقابليّة فيما بين النّوع الإنسانيّ، وهذا واضح، مثلاً هناك أطفال في بيت واحد وفي محلّ واحد وفي مكتب واحد يتعلّمون من معلِّم واحد ويتربّون من غذاء واحد وفي هواء واحد وبلباس واحد ويدرسون درساً واحداً فلا بدّ أن يكون البعض من بين هؤلاء الأطفال ماهراً في الفنون والبعض متوسّطاً والبعض متأخّراً، إذاً صار من المعلوم أنّ التّفاوت في الدّرجات موجود في أصل الفطرة، وأنّ تفاوت القابليّة والاستعداد مشهود، ولكن ليس هذا التّفاوت من وجهة الخير والشّر بل هو مجرّد تفاوت في الدّرجات، فواحد في الدّرجة العليا وواحد في الدّرجة الوسطى وواحد في الدّرجة الدّنيا، مثلاً للإنسان وجود وللحيوان وجود وللنّبات وجود وللجماد وجود، أمّا الوجود فمتفاوت في هذه الموجودات الأربعة، فأين وجود الإنسان من وجود الحيوان، والحال أنّ الكلّ موجود، فمن الواضح إذاً أنّ في الوجود تفاوتاً في الدّرجات.
وأمّا تفاوت الأخلاق الموروثة فهو من ضعف المزاج وقوّته، يعني لمّا يكون مزاج الأبوين ضعيفاً يكون أطفالهما مثلهما، وإن كانا قويّين فأطفالهما يكونون نشيطين، وكذلك يكون لطهارة الدّم حكم كلّيّ، لأنّ النّطفة الطّيّبة كالجنس الأعلى الّذي يوجد في النّبات والحيوان أيضاً، مثلاً يلاحظ أنّ الأطفال الّذين يولدون من أب وأمّ ضعيفين عليلين يبتلون طبعاً بضعفٍ في البنية وضعف في العصب وهم عجولون فلا صبر لهم ولا جلد ولا ثبات ولا همّة، لأنّ ضعف الأبوين ووهنهما يصير ميراثاً للأطفال، وفضلاً عن هذا فإنّ بعضاً من السّلالات والأسر يختصّون بموهبة، مثلاً إنّ سلالة إبراهيم كانت مختصّة بموهبة وهي كون جميع أنبياء بني اسرائيل من سلالة إبراهيم، فقد أعطى الله هذه الموهبة لتلك السّلالة، فحضرة موسى ينتسب إليها من جهة الأب والأمّ، وحضرة المسيح من جهة الأمّ، وحضرة محمّد وحضرة الأعلى وجميع أنبياء بني إسرائيل والمظاهر المقدّسة كانوا من تلك السّلالة، وحضرة بهاء الله أيضاً من سلالة إبراهيم، لأنّه كان لحضرة إبراهيم أولاد آخرون غير إسماعيل وإسحق هاجروا في تلك الأزمنة إلى أنحاء إيران وأفغانستان، فحضرة بهاء الله أيضاً من تلك السّلالة.
إذاً صار من المعلوم أنّ الأخلاق الوراثيّة موجودة أيضاً، بحيث إذا لم يكن هناك تطابق في الأخلاق فإنّه لا يعتبر من الوجهة الرّوحية من تلك السّلالة، ولو أنّه من الوجهة الجسمانيّة من تلك السّلالة مثل كنعان فإنّه لا يعدّ من سلالة نوح.
وأمّا تفاوت الأخلاق من حيث التّربية فهو عظيم جدّاً، لأنّ التّربية لها تأثير عظيم، إذ تصيِّر الجاهل عالماً والجبان شجاعاً والغصن الأعوج مستقيماً وفواكه الجبال والغابات المرّة حلوة لذيذة، والوردة ذات خمس غلالات تصبح ذات مائة غلالة، وبالتّربية تتمدّن الأمّة المتوحّشة، حتّى الحيوان فإنّه بالتّربية يقلّد الإنسان في حركاته وأعماله، فيجب اعتبار التّربية أنّها في غاية الأهمّيّة، لأنّ الأمراض كما أنّها تسري بشدّة في عالم الأجسام وتنتقل من بعضها إلى بعض، كذلك الأخلاق لها سريان عظيم في الأرواح والقلوب، فالتّفاوت في التّربية عظيم جدّاً، وله حكم كلّيّ، ولربّ قائل يقول ما دام استعداد النّفوس وقابليّتها متفاوتاً فلا بدّ أن تتفاوت الأخلاق بسبب تفاوت الاستعداد، فنقول أنّ الأمر ليس كذلك لأنّ الاستعداد على قسمين: استعداد فطريّ واستعداد اكتسابيّ، فالاستعداد الفطريّ الذّي خلقه الله كلّه خير محض، إذ ليس من شرّ في الفطرة، أمّا الاستعداد الاكتسابيّ فهو سبب حصول الشّرّ، مثلاً خلق الله جميع البشر ووهبهم قابليّة واستعداداً ليستفيدوا من الشّهد والسّكر ويتضرّروا ويهلكوا من السّمّ، فهذه القابليّة والاستعداد كلاهما فطريّ أعطاهما الله لجميع النّوع الإنسانيّ على حدّ سواء، ولكنّ الإنسان يشرع في استعمال السّمّ قليلاً قليلاً ويتناول منه كلّ يوم مقداراً ويزيد عليه شيئاً فشيئاً، حتّى يصل الأمر إلى أنّه لو لم يتناول كلّ يوم درهماً من الأفيون لهلك، وانقلب استعداده الفطريّ انقلاباً كلّيّاً، فانظروا كيف يتغيّر الاستعداد والقابليّة الفطريّة تغيّراً جذريّاً حتّى يتحوّل إلى العكس بسبب تفاوت العادة والتّربية، فليس الاعتراض على الأشقياء من جهة الاستعداد والقابليّة الفطريّة بل من جهة الاستعداد والقابليّة الاكتسابيّة، إذ ليس في الفطرة شرّ بل كلّها خير، حتّى الصّفات والأخلاق المذمومة الملازمة لذاتيّة البعض من النّوع الإنسانيّ فإنّها في الحقيقة ليست بمذمومة، مثلاً يلاحظ في بداية حياة الطّفل الذّي يرضع من الثّدي أنّ آثار الحرص بادية منه كما يشاهد منه أيضاً آثار الغضب والقهر، وإذاً يقال أنّ الحسن والقبح كلاهما فطريّ في الحقيقة الإنسانيّة، وهذا مناف للخير المطلق الذّي هو في الخلقة والفطرة، فالجواب أنّ الحرص الذّي هو طلب الزّيادة صفة ممدوحة لو استعملت في موضعها، فمثلاً لو يحرص الإنسان على تحصيل العلوم والمعارف وعلى أن يكون رحيماً ذا مروءة وعدالة فإنّ ذلك ممدوح جدّاً، ولو يغضب على الظّالمين السّفّاكين للدّماء الذّين هم كالسّباع الضّارية ويقهرهم فذلك ممدوح جدّاً، ولكنّ هذه الصّفات لو استعملت في غير موضعها لكانت مذمومة، إذاً صار من المعلوم أنّه لا يوجد في الفطرة شرّ أبداً، أمّا لو تستعمل أخلاق الإنسان الفطريّة في المواقع غير المشروعة فذلك مذموم، مثلاً لو أنّ شخصاً غنيّاً كريماً أعطى فقيراً مبلغاً ليصرفه في حاجاته الضّروريّة لنفسه، وهذا الشّخص الفقير صرف ذلك المبلغ في أمور غير مشروعة، فإنّ ذلك يكون مذموماً، وكذلك لو استعملت جميع الأخلاق الفطريّة الّتي هي رأس مال الحياة في أمور غير مشروعة فإنّها تكون مذمومة.
إذاً صار من الواضح أنّ الفطرة خير محض، فلاحظوا أنّ أسوأ الأخلاق وابغض الصّفات الّتي هي أساس جميع الشّرور هو الكذب ولا يتصوّر في الوجود صفة أسوأ ولا أذمّ منه، لأنّه هادم لجميع الكمالات الإنسانيّة وسبب الرّذائل الّتي لا تتناهى، وليس من صفة أسوأ من هذه الصّفة فهو أساس جميع القبائح، ومع هذا فلو واسى حكيم مريضاً بقوله الحمد لله إنّ أحوالك أحسن ويرجى لك حصول الشّفاء، فهذا القول ولو أنّه مخالف للحقيقة لكنّه قد يكون أحياناً ذا جدوى لتسلية قلب المريض وسبباً لشفائه، فهو إذاً ليس بمذموم، وقد وضّحت هذه المسألة بأجلى بيان والسّلام.