كنّا نبحث بالأمس في موضوع خلود الرّوح ، فاعلم أنّ تصرف الرّوح الإنسانيّ وإدراكه على نوعين، يعني له نوعان من الأفعال ونوعان من الإدراك، نوع يكون بواسطة الأعضاء فهو يرى بهذه العين، ويسمع بهذه الأذن، ويتكلّم بهذا اللّسان، فهذه أعمال الرّوح وإدراكات الحقيقة الإنسانيّة ولكنّها بواسطة الأعضاء، يعني أنّ الرّائي هو الرّوح ولكنّ الرّؤية بواسطة العين، والسّامع هو الرّوح ولكن بواسطة الأذن والنّاطق هو الرّوح ولكن بواسطة اللّسان.
والنّوع الآخر من تصرّفات الرّوح وأعمالها يكون بدون الأعضاء مثلاً وهو في حال النّوم يرى بدون عين، ويسمع بدون أذن، ويتكلّم بغير لسان، ويمشي بغير قدم، وبالجملة فهذه التّصرّفات بدون واسطة الأعضاء، وكثيراً ما يرى في منامه ما يتحقّق حدوثه بعد عام، وكذلك كثيراً ما يتعذّر عليه حلّ مسألة في عالم اليقظة، ثمّ تحلّ في عالم الرّؤيا، فالعين لا ترى إلاّ المسافة القصيرة في عالم اليقظة، ولكنّ الإنسان في عالم الرّؤيا يرى الغرب وهو في الشّرق، ويرى في عالم اليقظة الحال وفي عالم النّوم يرى المستقبل، ونهاية ما يطويه بالوسائط السّريعة في عالم اليقظة عشرين فرسخاً في السّاعة، ولكنّه في عالم النّوم يطوي الشّرق والغرب في طرفة عين، لأنّ سير الرّوح على نوعين، سير من غير واسطة وهو السّير الرّوحانيّ، وسير بالواسطة وهو السّير الجسمانيّ، كسير الطّيور الّتي تطير والطّيور المحمولة الّتي تتحرّك بواسطة حامل، وأمّا في وقت النّوم فالجسد يكون كالميّت لا يرى ولا يسمع ولا يحسّ ولا يشعر ولا يدرك، يعني تتعطّل القوى الإنسانيّة، ولكنّ الرّوح حيّ باقٍ، وهو في هذه الحال أكثر نفوذاً وطيراناً وإدراكاً، فمثل قولنا بفناء الرّوح بعد موت الجسد كمثل تصوّرنا بهلاك طير بسبب تكسّر قفصه مع أنّ الطّير لا يهمّه تكسير القفص، وهذا الجسد كالقفص والرّوح كالطّير.
ونحن نلاحظ أنّ لهذا الطّير (أي طير الرّوح )، طيراناً في عالم النّوم بدون هذا القفص، إذاً لو كسر القفص فالطّير باقٍ ومستقرّ، بل إنّ إحساس ذلك الطّير يزيد وادراكاته تتوسّع وابتهاجه يزداد، وفي الحقيقة إنّه ينتقل من الجحيم إلى جنّة النّعيم، لأنّه ليس للطّير الشّكور جنة أعظم من إطلاقه من القفص، وهذا هو سبب هرع الشّهداء بنهاية الطّرب والسّرور إلى ميدان الفداء، وكذلك فإنّ نهاية ما ترى عين الإنسان في عالم اليقظة مسافة سير ساعة واحدة، لأنّ هذا هو مقدار تصرّف الرّوح بواسطة الجسد، ولكنّها بعين البصيرة والعقل ترى أمريكا وتدرك أنحاءها، وتكتشف أحوالها وتدّبر أمورها، بينما لو كان الرّوح عين الجسد للزم أن تكون قوّة بصيرتها محدودة بذلك أيضاً.
إذاً تبيّن أنّ الرّوح غير هذا الجسد، وأنّ الطّير غير القفص وأنّ نفوذ الرّوح وقوّته بدون واسطة الجسد أشدّ، من أجل هذا لو تعطّلت الآلة فصاحبها مستمرّ في العمل، مثلاً لو انكسر القلم وتعطّل فالكاتب حيّ حاضر، ولو انهدم البيت فصاحبه باقٍ مستقرّ، هذا من جملة البراهين العقليّة على بقاء الرّوح ، وهناك دليل آخر، هذا الجسد يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ويتعب ويستريح، بل أحياناً تقطع اليد والرّجل وتختلّ القوى الجسمانيّة، فالعين تعمى والأذن تصمّ واللّسان يبكم والأعضاء تبلى بمرض الفلج، وبالاختصار فقد ينتقص الجسد بالكلّيّة والرّوح باقٍ مستديم على حاله الأصليّة وادراكاته الرّوحانيّة لا يعتريها نقص ولا اختلال، ولكن حينما يبتلى الجسد كلّه بالأمراض والعاهات يحرم من فيض الرّوح ، كالمرآة عند تكسّرها أو عندما تتغبّر لا ينعكس شعاع الشّمس فيها، ولا يظهر فيضها.
وقد سبق وأنْ بيّنّا أنّ الرّوح الإنسانيّ ليس بداخل الجسد، لأنّه مجرّد ومقدّس عن الدّخول والخروج اللّذين هما من شأن الأجسام، بل تعلّق الرّوح بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، والخلاصة أنّ الرّوح الإنسانيّ بحال واحدة، لا تمرض بمرض الجسد، ولا تصحّ بصحّة الجسد، فلا تصير عليلة ولا ضعيفة، لا ذليلة ولا حقيرة، لا خفيفة ولا صغيرة، يعني لا يعتري الرّوح أيّ خلل ولا تتأثّر بسبب فتور الجسد ولو صار الجسد سقيماً ضعيفاً وقطعت الأيدي والأرجل والألسن واختلّت قوّة السّمع والبصر.
إذاً اتّضح وتحقّق أنّ الرّوح غير الجسد، وبقاؤه ليس مشروطاً ببقاء الجسد، بل الرّوح في نهاية العظمة له سلطان في عالم الجسد، ويتجلّى نفوذه واقتداره كما يتجلّى ويظهر فيض الشّمس في المرآة. فإذا انكسرت المرآة أو تغبّرت حرمت من أشعّة الشّمس.