لقد سألت عن مسألة الإضراب. وهذه مسألة ما زالت ولا تزال سبب المتاعب والمشاكل العظيمة، ومنشأ هذه المشاكل أمران: أحدهما حرص أصحاب المصانع والمعامل وجشعهم، والثّاني طمع العمّال ومغالاتهم وطغيانهم، وكلا الأمرين يجب علاجه.
أمّا السّبب الأصليّ لهذه المشاكل فهو القوانين الطبيعيّة للمدنيّة الحاضرة، لأنّ هذه القوانين تمكّن نفوساً معدودة من جني ثروة غير محدودة فوق ما يلزم، بينما الأكثريّة تبقى عرايا محرومين لا حول لهم ولا قوّة، وهذا أمر لا يرضي الرّحمن ومخالف للعدالة والمروءة والإنصاف، بل هو عين الاعتساف، وهذا التّفاوت قاصر على النّوع البشريّ، حال أنّه يوجد بين سائر الكائنات أي جميع الحيوان نوع ما من العدالة والمساواة تقريباً، مثلاً توجد مساواة بين قطعان الأغنام وقطعان الغزلان في الصّحارى، وكذلك بين طيور البراري في الوديان والجبال والحدائق وبين كلّ نوع من أنواع الحيوان تقريباً شيء من المساواة، ولا يوجد بينهما تفاوت ما يذكر في المعيشة، ولذلك تعيش في منتهى الرّاحة والسّعادة، بخلاف بني الإنسان فإنّك ترى فيما بينهم عدم الإنصاف ونهاية الاعتساف، ويلاحظ أنّ الفرد الواحد من بني الإنسان ادّخر كنزاً واستعمر إقليماً لنفسه، وجمع ثروة باهظة وهيّأ لشخصه المنافع والموارد تتدفّق كالسّيول، بينما مائة ألف غيره من النّفوس بائسون ضعفاء وفي حاجة إلى كسرة من الخبز، فلا مساواة ولا مواساة، من أجل ذلك ترى أنّ راحة النّوع البشريّ وهدوءه وسعادة العامّة مختّلة مسلوبة، بحيث أنّ الجمّ الغفير من البشر لا ثمر له من حياته، لأنّ الثروة والتّجارة والصّناعة والعزّة محصورة في أنفس معدودة، بينما الباقون يئنّون من ثقل الأحمال الشّاقّة والمتاعب الّتي لا حدّ لها، وهم محرومون من الفوائد والأرباح والهدوء والرّاحة.
فيجب إذاً وضع نظم وقوانين تعدّل الثّروة المفرطة لتلك الأنفس المعدودة، وتكون سبباً في سدّ الحاجة للملايين العديدة من جمهور الفقراء حتّى يحصل قليل من الاعتدال، ولكنّ المساواة التّامّة أيضاً غير ممكنة لأنّ المساواة التّامة في الثّروّة والعزّة والتّجارة والصّناعة والزّراعة تؤدّي إلى اختلال المعيشة واضطرابها وفسادها وحرمان العموم، ويضطرب نظام أمور الجمهور كلّيّاً لأنّ ثمة محظور أيضاً في المساواة غير المشروعة. إذاً فالأحسن أن يكون هناك اعتدال، والاعتدال يكون بوضع أنظمة وقوانين تحول دون تجمّع ثروة مفرطة لا لزوم لها لدى أنفس معدودة، وتكون سبباً في سدّ الحاجات الضّروريّة للجمهور، مثلاً ترى أصحاب المصانع وأرباب المعامل يجنون كلّ يوم كنزاً، ولكنّ العمّال البؤساء لا يحصلون من أجرتهم ما يكفي لمعيشتهم اليوميّة، وهذا منتهى الاعتساف ولا شكّ أنّ الإنسان المنصف لا يقبله، فالواجب إذاً أن توضع أنظمة وقوانين يحصل العمّال بمقتضاها على أجورهم اليوميّة من صاحب المصنع ويشتركون معه في الرّبع أو الخمس من أرباحه حسبما تسمح به ظروف المصنع، أو أن يشترك العمّال مع صاحب المصنع في الأرباح الحاصلة بطريقة معتدلة بأن يكون رأس المال والإدارة من جانب صاحب المصنع، والعمل من جانب العمّال وبعبارة أخرى إمّا أن يحصل العمّال على أجرتهم اليوميّة على قدر ما يكفي للمعيشة المعتدلة ويكون لهم حقّ الاستفادة من دخل المصنع على قدر الكفاية في حال العجز أو الضّعف، وإمّا أن تكون الأجرة على قدر يقتنع العمّال بصرف جزء منه وادّخار جزء آخر لأيام الضّعف والعجز، فإذا سارت الأعمال على هذا المنوال فإنّ صاحب المصنع لا يتمكّن من أن يدّخر كلّ يوم كنزاً لا فائدة له منه ولا ثمر بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ الثّروة إذا عظمت أثقلت كاهل صاحبها وسبّبت له المحنة والمشقّة وتصبح إدارة شؤونها في نهاية الصّعوبة، وتكون سبباً في اضمحلال قواه الطّبيعيّة، وكذلك لا تنهك قوى العمّال من المتاعب والمشاقّ الزّائدة، ولا يبتلون في أيّام كهولتهم بشدّة الاحتياج، فاتّضح من ذلك وتبيّن أنّ اختصاص أفراد معدودين بالثّروة المفرطة بينما الجمهور في شدة واحتياج، ظلم واعتساف، وكذلك المساواة التّامّة هي أيضاً مخلّة لمعيشة النّوع الإنسانيّ وراحته وانتظامه وهدوء باله.
بناء على ذلك فالاعتدال خير من كلّ الوجوه، وذلك بأن يراعي أصحاب الثّروة جانب الاعتدال في جني الأرباح، وبأن يكون مطمح أنظارهم مراعاة المحتاجين والفقراء، وبأن يقرّروا للعمّال أجوراً يوميّة معلومة على أن يكون لهم سهم ونصيب أيضاً من الرّبح العامّ للمصنع.
وبالاختصار يجب وضع قانون للحقوق المشتركة بين أصحاب المصانع وبين عموم العمّال يؤدّي إلى الاعتدال في الأرباح لأرباب المصانع ويكفل تسهيل وسائل المعيشة اللاّزمة للعمّال وضمان مستقبلهم حتّى إذا عجز العامل أو وهنت قواه أو انتابه الضّعف والهرم أو مات وترك ذرّيّة ضعافاً لا يضمحلّون من شدّة الفقر، إذ يكون لهم حقّ بشيء من واردات المصنع يعيشون منه، وكذلك يجب على العمّال ألاّ يضربوا وألاّ يتمرّدوا وألاّ يبالغوا في طلب أجور فاحشة أو يبتغوا أكثر ممّا يستحقّون، بل ينبغي لهم أن يكونوا في نهاية الطّاعة والانقياد، والحقوق المشتركة بين الطّرفين تتحقّق وتتعيّن رسميّاً بقانون العدل والحقّ، وأيّ طرف يتجاوز القانون يحكم عليه بعقوبة، وبعد المحاكمة تجري القوّة التّنفيذيّة عليه الجزاء القطعيّ حتّى تنتظم الأمور وتزول المشاكل.
إنّ تدخّل الحكومة والقضاء في المشاكل الحاصلة بين العمّال وأصحاب المصانع إنّما هو تدخّل مشروع، وليست من قبيل المعاملات العاديّة الجزئيّة بين العمّال وأرباب عملهم لا تكون لها صلة بالمصلحة العامّة ولا يكون للحكومة فيها حقّ التّدخّل، بل إنّ مسألة المصانع والعمّال وإن كانت تبدو أنّها من المسائل الخاصّة إلاّ أنّها تضرّ بمصالح الجمهور، لأنّ شؤون التّجارة والصّناعة والزّراعة بل وكلّ الأشغال العامّة في الأمّة مرتبط بعضها ببعض، بحيث إذا حصل فتور في إحداها أضرّ ذلك بالعموم، وعلى ذلك تكون المشاكل الحاصلة بين العمّال وأصحاب المصانع سبباً في مضرّة العموم، وللحكومة والقضاء حقّ التّدخّل فيها لأنّه عندما يقع اختلاف بين شخصين في الحقوق الجزئيّة فلا بدّ من وجود ثالث في دعواهما ألا وهو الحكومة، فكيف يمكن إذاً إهمال مسألة الإضراب التي تنبعث تارة من شدّة اعتساف العمّال وآونة من كثرة طمع أصحاب المصانع، وتؤدّي إلى اختلال نظام البلاد؟
سبحان الله كيف يطمئنّ الإنسان ويستريح في قصره العالي وهو يرى جموعاً من بني جنسه يتضوّرون جوعاً وهم عراة في غاية من البؤس والشّقاء وفي شدّة الاحتياج، أو كيف يسرّ ويهنأ بثروته؟
من أجل ذلك سُنَّت الشّرائع الإلهيّة فقرّرت أن ينفق أولوا الثّروة في كلّ سنة جزءاً من أموالهم لمساعدة الفقراء وإغاثة الضّعفاء، وهذا من أسس الشّريعة الإلهيّة وفرض عين على الجميع، ولمّا كان الإنسان غير مجبور وليس محكوماً عليه من طرف الحكومة بهذا الإنفاق بل ينفق بمحض إرادته وعن طيب خاطره على الفقراء بغاية الرّوح والرّيحان، لذا كان هذا العمل محبوباً ومرغوباً ومستحسناً جدّاً. هذا هو المقصود من الأعمال المبرورة المذكورة في الكتب والألواح الإلهيّة والسّلام.