ترك التّعصّب

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

ترك التّعصّب

في يوم الإثنين الموافق 13 تشرين الثّاني سنة 1911 ألقى

حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله

من بين مبادئ بهاء الله ترك التّعصّب الوطنيّ والتّعصّب المذهبيّ والتّعصّب العنصريّ والتّعصّب السّياسيّ. ذلك لأنّ عالم البشر ابتلي بمرض التّعصّب. وهذا المرض مزمن وهو سبب الهلاك. إذ إنّ جميع الاختلافات والحروب والمنازعات وسفك الدّماء سببها هذا التّعصّب. وكلّ حرب تقع تكون ناتجة إمّا من التّعصّب الدّينيّ وإمّا من التّعصّب العنصريّ، أو من التّعصّب الوطنيّ أو من التّعصّب السّياسيّ، وطالما أنّ هذه التّعصّبات قائمة فلن يقرّ للعالم الإنسانيّ قرار.

لهذا يقول حضرة بهاء الله إنّ هذه التّعصّبات هادمة لبنيان العالم الإنسانيّ.

انظروا أوّلاً إلى أصحاب الأديان. فلو كان هؤلاء مؤمنين بالله حقًا، ومطيعين للتّعاليم الإلهيّة لما تعصّبوا لأنّ التّعاليم الإلهيّة تأمر بألاّ يكون هناك تعصّب قطّ. وهي تنصّ صراحة على وجوب معاملة البشر بعضهم البعض بالمحبّة، وعلى أنّ الإنسان يجب أن يرى القصور في نفسه لا في غيره، وأنّه لا ينبغي له أن يفضّل نفسه على غيره. ذلك لأنّ العاقبة الحسنة مجهولة له ولا يمكنه الوقوف عليها. وكم من إنسان بدأ بداية النّفس الزّكيّة ثمّ انصرف عن ذلك فيما بعد. ومن أمثال هؤلاء يهوذا الأسخريوطي الّذي كان طيّبًا في البداية، ثمّ انقلب خبيثًا في النّهاية. وكم من إنسان بدأ بداية سيّئة جدًّا ثمّ أصبح في النّهاية حسنًا جدًّا. ومن هؤلاء بولس الحواريّ الّذي كان في البداية عدوًّا للمسيح، ثمّ أصبح في النّهاية أعظم عبيد المسيح. فعاقبة الإنسان مجهولة إذن. فكيف يمكن –والحال هذه- أن يفضّل أحد نفسه على غيره، ولهذا ينبغي ألاّ يكون بين البشر أيّ تعصّب فلا يقولنّ أحد أنا مؤمن وفلان كافر ولا يقولنّ أنا مقرّب إلى الله وذاك مردود. فحسن الخاتمة مجهول.

ثانيًا: لا بدّ للمرء أن يسعى كي يعلّم الجاهلين، ويبلغ بالأطفال الجهلاء درجة الرّشد والبلوغ، ويحسّن أخلاق الشّرير ويهديه بكمال المحبّة ولا يعاديه.

ثالثًا: وأمّا التّعصّب العنصريّ فوهم محض. ذلك لأنّ الله خلقنا جميعًا بشرًا، ونحن جميعًا جنس واحد، ولا اختلاف بيننا من حيث الخلقة، وليس بيننا أي تمايز قوميّ. فكلّنا بشر وجميعنا من سلالة آدم. فكيف نختلف مع وجود وحدة البشر هذه، فنقول هذا ألمانيّ وذاك إنجليزيّ وذلك فرنسيّ، وهذا روميّ وهذا تركيّ وهذا إيرانيّ، ألا إنّ هذا لوهم محض. أفمن أجل وهم من الأوهام يجوز النّزاع والجدال؟ وهل يمكن أن نجعل هذه التّفرّقة الّتي لم يصنعها الله أساسًا للعقيدة؟ إنّ جميع الأجناس، أبيضهم وأسودهم وأصفرهم وأحمرهم وجميع الملل والطّوائف والقبائل عند الله سواء، لا امتياز لأحد منهم على أحد اللّهم إلا الّذين يعملون بموجب التّعاليم الإلهيّة، والّذين هم صادقون رحماء محبّون للعالم ويمثلون رحمة الرّحمن. فهؤلاء ممتازون حقًّا سواء كانوا سودًا أم صفرًا أم بيضًا ، أم أيًّا كانوا وهم مقرّبون عند الله. هؤلاء هم مصابيح عالم البشر المضيئة وأشجار جنّة الأبهى المثمرة. ولهذا فالامتياز بين البشر قائم على أساس الأخلاق والفضائل والمحبّة والمعرفة وليس على أساس نسبته إلى الشّرق والغرب.

والرّابع هو التّعصّب السّياسيّ، إذ إنّ في العالم أشخاصًا يبتغون التّفرّد، ويحصر هؤلاء جهودهم في أن يرتقوا بمملكتهم ولو على حساب خراب سائر الممالك. ولهذا يلجأون إلى شتّى الوسائل لتحقيق غايتهم، فيحشدون الجيوش، ويخرّبون الممالك، ويسوقون الآلاف إلى موارد الهلاك حتّى يخلقوا لأنفسهم اسمًا وشهرة، ولأن يُقال هذا مدبّر وفاتح المملكة الفلانيّة. في حين أنّه كان السّبب في هلاك آلاف من البؤساء، وتفكّك آلاف من الأسر وتيتّم آلاف من الأطفال. ثمّ إنّ هذه الفتوحات لا تدوم، فلعلّ الغالب يصبح مغلوبًا في يوم من الأيّام، ولعلّ المغلوب يواتيه يوم يصبح فيه غالبًا. فارجعوا إلى التّاريخ، كم من مرّة غلبت فرنسا ألمانيا ثمّ عادت فغُلبت على يدها. وكم من مرّة غلب الإنجليز الفرنسيّين ثمّ عادت فرنسا فغلبتهم بعد مدّة. إذن فالظّفر لا يدوم، بل إنّه ينقلب على صاحبه، فلماذا يتعلّق به الإنسان طالما أنّه لا يبقى؟ طالما أنّه سبب لسفك الدّماء وهدم كيان الإنسان الّذي هو بنيان إلهيّ؟

إنّنا لنأمل في هذا العصر النّورانيّ ألاّ تدوم هذه التّعصّبات، وأن تضيء العالم نورانيّة المحبّة، وأن يحيط بالكون فيض ملكوت الله، وأن تشمل الجميع رحمة الرّحيم المنّان، وأن يظفر العالم الإنسانيّ بالانطلاق والتّحرّر من هذه القيود الأرضيّة، ويتّبع الخطط الإلهيّة. ذلك لأنّ خطط البشر ناقصة، أمّا السّياسة الإلهيّة فكاملة، دقّقوا النّظر تجدوا أنّ الله خلق جميع البشر، وهو رؤوف بهم جميعًا، يشملهم برعايته وعنايته. فنحن إذًا عبيد الله وينبغي للعبد أن يتابع مولاه بالرّوح والفؤاد.

فتضرّعوا وابتهلوا وتوجّهوا إلى الملكوت الإلهيّ كي تزول هذه الظّلمات وتتجلّى النّورانيّة الحقيقيّة.

المصادر
المحتوى
OV