تعديل المعيشة
في يوم الخميس الموافق 16 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء أيضًا الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:
هو الله
ساتّحدث إليكم اليوم باختصار.
من بين مبادئ بهاء الله تعديل المعيشة، طبقات النّاس مختلفة، هناك من هم في نهاية الغنى، وهناك من هم في نهاية الفقر، هناك من ينزل في القصر العالي الرّفيع، وهناك من لا يجد لنفسه مأوى على الإطلاق، هناك من تمدّ على مائدته صفوف الطّعام، وهناك من لا يحصل على الخبز القفار ولا يجد قوت يومه. ولهذا فإصلاح المعيشة لازم للبشر. أقول الإصلاح لازم لا المساواة، فالمساواة غير ممكنة، وإلاّ فإنّ نظام العالم يختلّ ويضطرب.
إنّ نظام العالم يقتضي أن تكون هناك طبقات، وإلاّ يكون البشر سواسية، ذلك لأن النّاس مختلفون في الخلقة، فبعضهم في الدّرجة الأولى من العقل، وبعضهم في الدّرجة الوسطى، وبعضهم محروم من العقل على الإطلاق. فهل يمكن أن يستوي مَنْ هو في أعلى درجات العقل، ومَنْ لا عقل له قط؟
إنّ عالم البشر كالمعسكر، والمعسكر لا بدّ له من القائد كما لا بدّ له من النّفر، فهل يمكن أن يكون الجميع قادة أو أصحاب مناصب عالية؟ أو هل يمكن أن يكونوا جميعًا من الجنود؟ لا شكّ أنّه لا بدّ من وجود المراتب.
كان بين ملوك اليونان ملك يدعى ليكرجوس، وكان ملكًا وفيلسوفًا معًا، وكانت نيّته حسنة جدًّا، فخطر له أن يسوّي بين بني جنسه في المعيشة. وعلى هذا قسّم أهل مملكته إلى ثلاثة أقسام: فجعل قسمًا رؤساء، وجعل قسمًا –وهم أهل البلد الأصليّون- فلاّحين يزرعون ويؤدّون العشور. وأمّا القسم الثّالث فجعلهم تجّارًا وصنّاعًا وكان معظمهم من الغرباء. وقرّر أن يعطي القسمين الأخيرين في كلّ عام بعضًا من المال واعتبر القسم الأوّل من أبناء جنسه. وبلغ هذا القسم تسعة آلاف نفس جعلهم رؤوس المملكة، وأعطى لكلٍّ منهم امتيازات خاصّة وهي ألاّ يزرعوا وألاّ يشتغلوا بالصّناعة ولا التّجارة. وإنّما يظلّون رؤساء، وعهد إليهم بالإدارة والسّياسة والحروب، فإذا بدرت بادرة الحرب هبّ هؤلاء لها. فلا يدخل أفراد القسمين الآخرين الحرب إلاّ إذا رغبوا من تلقاء أنفسهم. وربّى هؤلاء الألوف التّسعة منذ طفولتهم على تحمّل المشقّات ومواجهة الصّعاب حتّى سنّ السّادسة، ثمّ أخذهم بعد ذلك بأنواع الرّياضات الحربيّة يمرّنون على الأعمال الحربيّة طيلة النّهار، فإذا بلغوا العاشرة تعلّموا الفروسيّة، وإذا بلغوا العشرين عهد إليهم بالمناصب وميّزهم بالامتيازات العسكريّة، وقسّم لهم الأراضي إلى تسعة أقسام، وأعطى هؤلاء قسمًا بأن لا يغيّروا هذه القواعد فلمّا أقسم الأهلون على ذلك ترك مملكته وتخلّى عن سلطته ولم يعد إلى مملكته كي يظلّ هذا القانون ثابتًا.
ولما كان الأهلون قد أقسموا فإنّهم ظلّوا محافظين على هذه القواعد مدّة، ولكنّ التّغيّر تطرّق بعد مدّة، واختلّت هذه القوانين.
يتّضح من ذلك أن المساواة بين البشر في المعيشة أمر غير ممكن. ولم يستطع هذا الملك أن يسوّي بين بني جنسه في المعيشة. ومع ذلك فلا يجوز أن يظلّ بعض النّاس في نهاية الغنى، وبعضهم في نهاية الفقر. بل لا بدّ من إصلاح الحال، وسَنّ قانون يكفل للكلّ الوسعة والرّفاهية. لا أن يبتلي أحد بالفقر ويرتع الآخر في بحبوحة الغنى، فالشّخص الّذي لا حدّ لغناه لا يسمح لنفسه أن يترك شخصًا آخر في منتهى الفقر، بل لا بدّ أن يرعاه حتّى يرتاح أيضًا هو الآخر. ولا بدّ من تنفيذ هذا الأمر بمقتضى القوانين. فكما أنّ الأغنياء يجب عليهم أن ينفقوا فضل ما لهم من تلقاء أنفسهم على الفقراء، يجب أن تكون قوانين البلاد بموجب شريعة الله كي يضمن الأمن والرّاحة للفقراء.