الرّقيّ المادّيّ والرّوحانيّ

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

الرّقيّ المادّيّ والرّوحانيّ

ألقيت في يوم الإثنين الموافق 20 تشرين الثّاني

سنة 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله

الافتراس أمر يليق بالحيوانات المتوحّشة. أمّا الّذي يليق بالإنسان فهو الألفة والمحبّة. ولقد أرسل الله جميع الأنبياء حتّى يلقوا الألفة والمحبّة بين القلوب. ونزلت الكتب السّماويّة للألفة بين القلوب. وقدّم الأنبياء وأولياء الله أنفسهم فداء حتّى يتحقّق الاتّحاد والاتّفاق في قلوب البشر. ولكن واأسفاه إنّ البشر ما يزالون يسفكون الدّماء. ولو أنّنا تأملنا التّاريخ- في القرون الأولى أو الوسطى أو الأخيرة- وجدنا أن أديم هذه الغبراء تلطخ بدماء البشر، وأنّ البشر كانوا كالذّئاب الكاسرة يمزق بعضهم بعضًا إربًا إربًا. وبالرّغم من أنّهم وصلوا إلى هذا العصر النّوارنيّ، عصر المدنيّة وعصر التّرقّيات المادّيّة وترقّي العقول. ولقد زاد الإحساس الإنسانيّ ومع ذلك فالدّماء تراق في كلّ يوم. لاحظوا ما يجري في طرابلس، وانظروا في أيّ بلاء وقع هؤلاء البؤساء. تركت إيطاليا مملكتها الوسيعة وهاجمت الأعراب المساكين في الصحراء الّتي لا ماء فيها ولا علف. ما أكثر الشّبان الّذين قتلوا من الطّرفين! ما أكثر البيوت الّتي خربت! ما أكثر الأمّهات اللاّئي فقدن أولادهنّ! ما أكثر الأطفال الّذين فقدوا آباءهم! إنّ أفواج اليتامى تتموّج! ما أكثر ما اقتلع من النّبت النّاشئ وهو ما زال في بداية نشوئه ونموّه! وما أكثر ما قتل من الطّيور الحسنة الصوت من قبل أن تغرّد! وليس هناك من غاية سوى الحرص والطّمع.

من هذا يتّضح أنّ التّرقي المادّيّ ليس سببًا في تحسين الأخلاق. إنّ التّرقّيات المادّيّة لا تعدّل الأخلاق. بل في الأزمنة السّابقة حين لم تتحقّق كلّ هذه التّرقّيات المادّيّة لم يكن فيها أيضًا كلّ هذا القدر من سفك الدّماء. لم يكن فيها مدافع كروب ولا بنادق موزر ولا الميتراليوز ولا الدّيناميت ولا المواد الجهنّمية. لم يكن فيها غوّاصات ولا سفن الطّوربيد. أمّا اليوم- وقد ارتقت المدنيّة المادّيّة- فإنّ هذه الآلات الهدّامة لبنيان البشر قد ارتقت أيضًا. واليوم نجد أنّ هذه المواد الجهنّمية مهيّأة للالتهاب تحت أقدام أوروبّا جميعًا. ذلك لأنّ أوروبّا مليئة بالمواد الملتهبة. لا قدّر الله أن تشتعل. فإنّها إذا اشتعلت جعلت الكرة الأرضيّة قاعًا صفصفًا. وخلاصة مقصدي أنّه من الواضح والمشهود أنّ التّرقّيات المادّيّة وحدها ليست سببًا لراحة العالم الإنسانيّ ولا علّة لارتقاء عالم الأخلاق إلاّ أنّها إذا انضمّت إلى الإحساسات الرّوحانيّة عندئذٍ يتحقّق التّرقي. وتتحقّق الإحساسات الرّوحانيّة للنّاس إذا انتشرت التّعاليم الإلهيّة، ونفّذت وصايا الأنبياء ونوّرت النّصائح الإلهيّة القلوب. وعندما ينضمّ هذا التّرقي المادّيّ إلى التّرقي الرّوحانيّ تحصل النّتائج الطّيّبة، ذلك لأنّ التّعاليم الإلهيّة أشبه بالرّوح والتّرقّيات المادّيّة أشبه بالجسد. والجسد يحيا بالرّوح وإلاّ فهو ميّت.

وإنّنا لنأمل –بعون الله وعنايته- أن تؤثّر روحانيّات الأنبياء في النّاس حتّى يستنير عالم الأخلاق من هذه النّورانيّة. وتحصل الإحساسات الرّوحانيّة في القلوب حتّى تعلم أنّ الله عادل فلا بدّ أن يجزى كلّ عمل. والله لا يفوّت ظلم أحد لأنّه عادل ولا شكّ. ومهما سعى المادّيّون واجتهدوا فإنّهم مع ذلك في نصب وتعب ومشقّة تركبهم الغموم دائمًا. ذلك لأنّ سرور قلب الإنسان يحصل بمحبّة الله. واستبشار روح الإنسان بمعرفة الله. وإذا لم يتعلّق قلب الإنسان بالله فبأيّ شيء يفرح. وإذا لم يعقد أمله بالله فأيّ شيء يهواه قلبه في هذه الحياة الدّنيا الزّائلة وهو يعلم أنّها حياة محدودة وسوف تنتهي؟ وعلى هذا يجب على الإنسان أن يكون أمله بالله، ذلك لأنّ فضله لا نهاية له، وألطافه قديمة، ومواهبه عظيمة، وشمسه مشرقة دائمًا وأمطار رحمته هاطلة دائمًا، ونسيم عنايته يهبّ باستمرار. فهل يليق بنا أن نغفل عن مثل هذا الإله لنكون أسرى الطّبيعة وعبيد الطّبيعة؟! على حين أنّه أعطانا المواهب لنتحكّم في الطّبيعة.

جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة ما عدا الإنسان. فالشّمس مثلاً –على ضخامتها- محكومة بالطّبيعة فلا إرادة لها قط، ولا يمكنها أن تتجاوز عن مدارها قيد شعرة فهي أسيرة لقانون الطّبيعة. وهذا البحر –على عظمته- أسير الطّبيعة. وهذه الكرة الأرضيّة أسيرة الطّبيعة، لا يمكنها أن تتجاوز عن قانون الطّبيعة أبدًا. ولكنّ الله وهب لنا الإرادة حتّى نخرق قانون الطّبيعة ونتحكّم في الطّبيعة. ونحن نحطّم قوانين الطّبيعة فعلاً. ذلك لأنّ الإنسان –بمقتضى الطّبيعة- تراب ذو روح ولكنّه يطير مع ذلك في الهواء، ويسير في البحر، وهو يسير في هذا الفضاء الواسع كالسّحاب. وهو يحبس قوّة البرق العاصية، ويقيّد الصّوت الطّليق. وكلّ هذا مخالف لقانون الطّبيعة. نعم لقد اختطف الإنسان السّيف من يد الطّبيعة وهو يهوي به على رأسها، ويخرق قوانينها. ولقد أعطى الله للإنسان هذه القوّة الهائلة.

ومع ذلك أَمِنَ الجائز أن يصبح الإنسان أسير الطّبيعة وعبدًا لها بل ويعبد الطّبيعة ويقول إنّ الطّبيعة هي الله؟ رغم أنّه يهوي بالسّيف على أمّ رأسها ويلقي الاضطراب في قواعد الطّبيعة العامّة. وعلى ذلك فاعلموا أيّة مواهب وهبها الله للإنسان وحرم الطّبيعة منها، لقد وهب الله لنا الشّعور والإرادة والطّبيعة محرومة منهما، ووهب لنا العقل والإرادة، والطّبيعة محرومة منهما، ونحن حاكمون على الطّبيعة، هكذا أراد الله.

المصادر
المحتوى
OV