الحكمة الإلهيّة
الخطبة المباركة في باريس في مجمع التّياصفة
الكبير ليلة الخميس في 6 كانون الأوّل سنة 1911
هو الله
الحكمة الإلهيّة أعظم فضائل العالم الإنسانيّ والحكمة هي الاطّلاع على حقائق الأشياء على ما هي عليه.
والعلم والإحاطة بحقائق الأشياء أمر مستحيل من دون الحكمة الإلهيّة لأنّ العلم قسمان: أحدهما تصوّري والآخر تحقّقي أو بعبارة أخرى: حصوليّ وحضوريّ.
فمثلاً يعلم كلّنا أنّ هنالك ماء ولكن علمنا هذا تصوّر محض. أمّا عندما نشربه فإنّ علمنا يصبح تحقّقيًّا. لهذا قيل إنّ العلم التّامّ هو التّحقّق من الشّيء لا التّصوّر للشّيء.
ومثلاً لو علم إنسان أنّ هنالك مائدة ونعمة موجودة فإنّه لا يحصل على اللّذة بمجرد هذا التّصوّر أمّا إذا تناول من هذه المائدة فإنّه يتلذّذ ويتغذّى وبعد هذا يحصل لديه التّحقّق العلميّ التّامّ.
ومثلاً يعلم الإنسان أنّ هناك في الدّنيا شيئًا يسمّى العسل لكنّ هذا لا يكفي ولا يجعله يتذوّق طعم الحلاوة بل يجب عليه أن يذوق العسل حتّى يحصل على علم بطعمه. إذن فالحكمة هي الاطّلاع على حقائق الأشياء على ما هي عليه ذوقًا وتحقّقًا.
لهذا خلق الله الإنسان جامعًا لجميع الحقائق. فمثلاً نجد أنّ هنالك مراتب للوجود إمّا هي جماد أو هي نبات أو هي حيوان. والإنسان نوع ممتاز جامع لجميع الكمالات الجماديّة والكمالات النّباتيّة والكملات الحيوانيّة. فالكمالات الجماديّة مثلاً أمور جسمانيّة وتركيب للعناصر وتحقّق للصّورة والمثال. وهذا الكمال موجود في الإنسان. أمّا الكمالات النّباتية فهي القوّة النّامية وهذه موجودة أيضًا في الإنسان. والكمالات الحيوانيّة هي قوّة الحسّ وهذه القوّة موجودة أيضًا في الإنسان.
إذن ففي الإنسان شموليّة ومعنى ذلك أنّه متضمّن على جميع الكمالات الجماديّة والنّباتيّة والحيوانيّة. وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه الشّموليّة مؤيّدة بقوّة الرّوح وبتلك الرّوح يمتاز الإنسان عن سائر الكائنات فهو أشرف الموجودات والجامع لجميع الكمالات الكونيّة ومظهر الفيوضات الرّحمانيّة والمستفيض من الكمالات الرّبانيّة.
فإنّ كلّ اسم وصفة تصف بهما الله تعالى تجد منهما آية في الإنسان فمثلاً تصف الله بأنّه بصير وآية البصر عين الإنسان وإن لم تكن لديك عين تبصر بها لما تصوّرت بصيرة الله. ومن جملة الكمالات الإلهيّة السّمع ومن جملة الكمالات الإلهيّة الجود ومن جملة الكمالات الإلهيّة الإرادة ومن جملة الكمالات الإلهيّة القدرة فهذه هي كمالات إلهيّة تنعته بها. ولكلّ واحد من هذه الكمالات آية في الإنسان. إذن فهذه الكمالات فيض إلهيّ ولهذا فالإنسان جامع للكمالات الكونيّة ومستفيض من الكمالات الإلهيّة.
ولهذا السّبب صار الإنسان قاهرًا لجميع الكائنات ومتغلّبًا عليها. لأنّ جميع الكائنات العلويّة والسّفليّة أسيرة للطّبيعة. فالشّمس على ما هي عليه من العظمة أسيرة للطّبيعة والبحر على سعته أسير للطّبيعة وجميع الأجرام السّماويّة العظيمة أسيرة للطّبيعة ولا تستطيع التّجاوز قيد شعرة عن قانون الطّبيعة. والشّمس لا تنحرف عن مركز مدارها والأرض لا تتجاوز مدارها وجميعها محكومة للطّبيعة ولكنّ الإنسان على العكس منها حاكم على الطّبيعة.
فمثلاً بمقتضى الطّبيعة وأحكامها نجد كائنًا حيًّا خلق ليعيش على اليابسة وهو ليس هوائيًّا ولا مائيًّا ومع هذا فإنّه يكسر قانون الطّبيعة فيطير في الهواء ويجول فوق سطح البحر كما يجول في الميادين ويقود سفينة تحت سطح الماء وهذه أمور مخالفة لقانون الطّبيعة العام كما أنّه يحبس في الزّجاجة القوّة الكهربائيّة العاتية الّتي تشق الجبال شقًّا ويجعلها خادمة له تحمل على كاهلها جميع الأحمال. والحال أنّ هذه القوّة بموجب قانون الطّبيعة قوّة حرّة طليقة قاهرة لجميع الأشياء ولكنّها صارت مقهورة للإنسان. إذن اتّضح أنّ الإنسان يخرق قانون الطّبيعة ولهذا فهو أشرف جميع الكائنات لأنّه ذات شموليّة كاملة.
والعجيب أنّ المادّيّين غفلوا عن هذه النّقطة ويصرّون على القول في تعاليمهم إنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة ولا يستطيع شيء أيّ كان من الأشياء أن يتجاوز قانون الطّبيعة والحقيقة أنّ الإنسان يخرق قانون الطّبيعة. فمثلاً يستكشف الأفلاك وهو على سطح الأرض كما ترى ويكشف الأمور الّتي هي بموجب قانون الطّبيعة سرّ مكنون وفي حيّز الغيب المستور ويجعلها في حيّز الشّهود. فمثلاً القوّة الكهربائية وجهاز التّصوير وجهاز الحاكي كانت كلّها في القرون الماضية سرًّا مكنونًا ورمزًا مخزونًا وكان اختفاؤها واجبًا بمقتضى الطّبيعة أمّا عقل الإنسان الّذي هو موهبة إلهيّة فقد نقل هذا السّرّ المكنون من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود. إذن برغم كون الكائنات جميعها أسيرة للطّبيعة فإنّ الحقيقة الإنسانيّة غالبة على الطّبيعة. سبحان الله كيف يحسب المادّيّون الطّبيعة فاعلة مطلقة؟ وكيف يعبدونها في الوقت الّذي فيه نراهم وقد قهروها؟ وفوق هذا يستدلّون على الطّبيعة بأدلّة فيقولون إنّ الوجود عبارة عن تركيب العناصر وإنّ الفناء عبارة عن تحليلها. فمثلاً تركّبت عناصر ومن ذلك التّركيب وجد الإنسان وعندما يتحلّل هذا التّركيب ويتفرّق يكون الموت وما دام وجود الأشياء عبارة عن تركيب العناصر وموتها عبارة عن تحليلها فما الحاجة إذًا إلى صانع قدير فريد؟
ولكنّهم لا يفكّرون أنّ التّركيب على ثلاثة أنواع: فهو إمّا تركيب بالصّدفة للعناصر أو تركيب إلزاميّ لها أو تركيب بإرادة الحيّ القدير.
فلو قلنا إنّ تركيب العناصر هو تركيب بالصّدفة لوجب أن نقول بحدوث المعلول بدون علّة وهذا واضح البطلان.
ولو قلنا إنّ تركيب العناصر ناتج عن اللّزوم الذّاتيّ لها لوجب أن نعترف أنّ اللّزوم الذّاتيّ لا يمكنه الانفكاك فمثلاً الحرارة لزوم ذاتيّ للنّار والرّطوبة لزوم ذاتيّ للماء. فالحرارة لا تنفكّ عن النّار والرّطوبة لا تنفكّ عن الماء. إذن ما دام هذا التّركيب لزومًا ذاتيًّا فلا يمكن أن يكون له تحليل أو تفريق لأنّ اللّزوم الذّاتيّ لا يناله انفكاك. إنّ هذا النّوع الثّاني ليس أيضًا السّبب في تركيب العناصر. إذن فما الّذي بقي؟ إنّه النّوع الثّالث وهو تركيب العناصر بتقدير الحيّ القدير.
إذن ينحصر تركيب العناصر بهذا النّوع الثّالث. وهكذا يثبت أنّ هناك موجدًا وخالقًا للكائنات.
وخلاصة القول لقد اتّضح بالأدلّة العقلية الواضحة وضوح الشّمس أنّ عقل الإنسان وروحه مدركان لحقائق الأشياء. لماذا؟ لأن عقل الإنسان محيط بالأشياء وروح الإنسان محيطة بالأشياء ولكنّ النّفس النّاطقة والرّوح الإنسانيّة الّتي هي الحاملة لهذه القوّة مهما كانت في منتهى النّفوذ ولكنّ نفوذها محدود. دليل ذلك أنّ تأثير عظماء الفلاسفة وحكماء السّلف والخلف محدود وقد ربّوا نفوسًا معدودة أو ربّوا أنفسهم فقط.
ولكنّ نفوذ الرّوح القدس غير محدود وفيوضاتها غير محدودة ومهما زاد اطّلاع الإنسان على الحكمة والفلسفة وحصل على القدرة والمهارة فيهما فإنّه يظلّ محتاجًا إلى نفثات الرّوح القدس.
فمثلاً أفلاطون الّذي كان الفيلسوف الأقدم لدى اليونان وكذلك أرسطو وفيثاغورس وإقليدس كلّهم كانت دائرة نفوذهم محدودة وبرغم هذه القوّة الفلسفيّة والحكمة الّتي كانت لديهم لم يستطيعوا أن يربّوا إنسانًا يضحّي بحياته من أجل العموم.
أمّا النّفوس الّتي كانت مؤيّدة بالرّوح القدس فقد كان لها نفوذ بحيث سارع جمّ غفير من النّاس من تأثير أنفاسهم إلى ميدان الفداء، من أمثال هذه النّفوس بطرس الّذي لم يكن له على حسب الظّاهر علم. فقد كان هذا الشّخص صيادًا للأسماك ولم يكن له علم وفضل وكان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب إلى درجة لم يكن يعرف حساب أيّام السّبت ومع هذا فإنه لمّا تأيّد بنفثات الرّوح القدس أثّر في عالم الوجود تأثيرًا جسيمًا وأيّ تأثير!
ومقصدي هو أنّ الإنسان مهما ارتقى في الحكمة وارتقى في الفلسفة فإنّه يبقى محتاجًا لنفثات الرّوح القدس، ومهما اكتسب الإنسان من الكمال فإنّ دائرة نفوذه تبقى محدودة. وإذا أراد أن يسيّر أفكار البشر فإنّ تحريكه لها يكون محدودًا ولا يكتسب صفة الشّمول والإحاطة.
ولكنّ أولياء الله أوجدوا في عالم الأفكار حركة عموميّة وظهرت آثار غريبة فمثلاً حضرة إبراهيم مع أنّه كان ابن نحّات للأحجار فإنّه أوجد في عالم الفكر البشريّ حركة جديدة وكذلك حضرة موسى أوجد حركة عامّة في الأفكار البشريّة وكذلك أيضًا السّيّد المسيح فمع أنّه كان من أسرة فقيرة إلاّ أنّه أوجد في عالم الأفكار حركة عموميّة غير اعتيادية وعمّت سطوته أرجاء العالم. وكذلك حضرة محمّد فمع أنّه كان أميًّا إلا أنّه كان ذا نفوذ عجيب في مجال الأفكار العموميّة وأوصل الأمة العربية إلى أعلى درجات الكمال وكذلك حضرة الباب أوجد حركة عموميّة في عالم الأفكار.
إذن فقد اتّضح أن النّفوس المؤيّدة بالرّوح القدس لها نفوذ كامل بحيث إنّها تجدّد العالم وتهبه حياة أبديّة وتنير الشّرق والغرب وإنّ قدرتها وتأثيرها غير محدودين بل تمرّ آلاف السّنين ويبقى نفوذها. أمّا لو كان الإنسان غير مؤيّد بالرّوح القدس فإنّ حركته تظلّ محدودة مهما كان عالمًا ومؤسّسًا للفلسفة، واليوم لما انقطعت حركة الأفكار اللاّهوتية بصورة كلّيّة ونسخت الحكمة الإلهيّة وتغلّبت المادّيّات وسيطرت ظلمة الأوهام واختفت الحقيقة ظهر حضرة بهاء الله من أفق إيران وأوجد في عالم الأفكار حركة قويّة فوجد الإيرانيّون إحساسات ربّانيّة وأدركوا الحكمة الإلهيّة وتغيّرت أفكارهم وأطوارهم وأفعالهم بصورة كلّيّة.
وكان النّاس كلّهم أسرى التّقاليد فأصبحوا خلقًا جديدًا ونالوا روحًا جديدة وأشرق نور الحقيقة.
إنّ جميع الملل والأديان غارقة في بحر الأوهام ولم يبقَ من حقيقة الأديان الإلهيّة أثر ولا خبر وقبل النّاس كلّ ما سمعوه من الآباء والأجداد فاتّبعوه ولا زالوا يتّبعونه. فالطّفل اليهوديّ يصبح يهوديًّا والولد المسيحيّ يصبح مسيحيًّا والبوذيّ بوذيًّا والزرادشتيّ زرادشتيًّا. إذن فالجميع أسرى التّقاليد ويتّبعون تقاليد آبائهم وأجدادهم.
أمّا بهاء الله فقد قال إنّ التّقليد غير جائز ويجب تحرّي الحقيقة.
ثمّ إنّ بهاء الله تفضّل أنّ العلم والدّين توأمان لا ينفكّان عن بعضهما والدّين الّذي ليس متّفقًا مع العقل والعلم والفن ليس بدين بل هو تقاليد للآباء والأجداد وهو أوهام لأن العلم عبارة عن الحقيقة، إذن يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم وإن لم يكن مطابقًا فهو باطل وأوهام.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة بين البشر وأن يؤلّف بين القلوب والأرواح فإن أصبح الدّين سبب العداوة فإنّ عدمه خير من وجوده.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يكون سبب وحدة العالم الإنسانيّ لا سبب الاختلاف وكلّ دين حقّ لا بد أن يوحّد القبائل المختلفة فالدّين إن لم يكن سببًا لوحدة العالم الإنسانيّ فلا شكّ أنّ عدمه خير من وجوده.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يزيل التّعصّب فإن لم يزله فليس بدين لأن الدّين هو اتباع الحقّ والله يحبّ جميع الخلق وهو في صلح وسلام مع جميع الخلق وهو رؤوف بجميع الخلق فيجب علينا اتّباع الله ويجب أن نحبّ جميع الخلق وأن نكون شفوقين بهم جميعًا إذًا يجب أن نغضّ الطّرف عن التّعصّب الجنسيّ والتّعصب الوطنيّ والسّياسيّ والمذهبيّ ونتحرّى الحقيقة لأنّ هذه التّعصّبات سبب الاختلاف بين البشر ومن أجلها سفكت الدّماء ونتيجتها هي نواح الأمّهات المسكينات بالويل والثّبور لمقتل أبنائهن. وهذا التّعصّب نتيجته فقدان الآباء أبنائهم وهذا التّعصّب هو الّذي يهدم الممالك. وكان هذا التّعصّب، ولا يزال سببًا لاضطراب العالم. أمّا لو ذهبت التّعصّبات فإنّ جميع البشر يأتلفون بمنتهى المحبّة في ما بينهم.
والمقصود أننا يجب أن نتّبع الله وننفّذ السّياسة الإلهيّة ولقد أراد الله أن نكون نحن أنوارًا فلماذا نكون ظلاّمًا؟ وأراد الله أن نكون نحن مظهر الرّحمة والرّأفة فلماذا نكون مظهر الغضب والنّقمة؟ والله يحبّ جميع عبيده فلماذا لا نحبّهم نحن؟ وهو يرزق الجميع ويحيي الجميع ويحفظ الجميع وهوعلى شأن من الرّأفة عظيم فلماذا نكون قساة؟ فلو اتّبعنا نفثات الرّوح القدس فمن المؤكّد أن الرّحمة الإلهيّة وموهبة الرّبّ الغفور تشملنا وإن استفضنا من شمس الحقيقة كنّا نورًا للجميع ولو اقتبسنا الفيض من المركز كنّا للكلّ رحمة دون شكّ.
وإنّي هذه اللّيلة مسرور جدًّا وقد جئت إلى مجلس حضرت إليه هذه الذّوات المحترمة وتشرّفت بلقائهم فالوجوه ولله الحمد منيرة والقلوب طاهرة والأرواح مستبشرة بالبشارات الإلهيّة ومقصود الجميع هو تحرّي الحقيقة.
وإنّي أرجو الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم جميعًا لعل تزداد الرّوحانيّة والحكمة الإلهيّة وتظهر أسرار الكائنات وتحيط الفيوضات حتّى تصبح فرنسا جنّة اللاّهوت.