حوار في المصيف
البيانات المباركة في بيت السّيّد بن شو في
مصيف ميلفرد في أمريكا في 3 حزيران سنة 1912
هو الله
نرجو أن نتذوّق في مجلسكم هذا من المائدة السّماويّة فإنّ ذلك يوافق تمامًا مذاقنا لأنّ هذه الجماعة الّتي اجتمعت هنا إنّما اجتمعت بالمحبّة وكلّ جماعة تجتمع بالمحبّة فهناك لا شكّ تكون المائدة السّماويّة.
وأصل المائدة السّماويّة هو المحبّة. وفي الإنجيل مذكور أنّ المائدة السّماويّة نزلت على بطرس. ومشهور لدى أهل الشّرق أنّها نزلت على حضرة المسيح. وكذلك مشهور أنّ المائدة الإلهيّة كانت تنزل على حضرة مريم. ولا شكّ أنّ هذا صحيح. فالمائدة السّماويّة نزلت على حضرة المسيح وعلى حضرة مريم كليهما. إنّ المائدة السّماويّة تكون وفقًا لمقتضى السّماء وإنّ مائدة الرّوح تكون بمقتضى الرّوح ومائدة العقل تكون بمقتضى العقل وتلك المائدة الّتي كانت تنزل على حضرة المسيح وعلى حضرة مريم كانت محبّة الله وبها كانت تحيا الرّوح الإنسانيّة وكانت غذاء القلوب. إنّ تأثيرات هذا الغذاء الجسماني مؤقّتة أمّا تأثيرات ذلك الغذاء السّماويّ فأبديّة. وفي هذا الغذاء حياة الجسم أمّا في ذاك فحياة الرّوح.
فعرض أحدهم: إنّ في الجرائد خبرًا يشير إلى أنّكم اشتريتم بيتًا في مونت كلير وتفكّرون في التّوطّن فيه.
فتفضّل: إنّهم صادقون في قولهم ولكنّهم لم يفهموا أي نوع من المساكن. فجميع العالم وطني وأنا متوطّن في كلّ مكان وفي أيّ مكان أجد فيه نفوسًا مثلكم فهناك وطني والأصل في الوطن وطن القلوب. ويجب على الإنسان أن يستوطن في القلوب لا في التّراب وهذا التّراب ليس ملكًا لأحد وهو يخرج من يد الجميع. وهو أوهام لكنّ الوطن الحقيقيّ هو القلوب.
وسأل آخر عن الحياة بعد الموت وماذا يحدث لروح الإنسان؟
فتفضّل: إنّ الجسد يذهب تحت التّراب من حيث أتى. فمنه جاء وإليه يذهب. وكلّ ما تشاهدونه يعود إلى حيث جاء منه. جسم الإنسان لمّا كان من التّراب فإنّه يعود إلى التّراب. أمّا الرّوح الإنسانيّة فإنّها جاءت من الله وتعود إلى الله فأنتم مسرورون وفي منتهى البهجة وهذا المكان جنّة وهو مكان بهج جدًّا وفيه روحانيّة كثيرة لذا فالرّوح الإنسانيّة تهتزّ هنا وتجد بهجة عظمى ولقد اخترتم مكانًا طيبًا.
وسألت امرأة: هل هذا المكان الهادئ مناسب للأطفال أيضًا أم إنّهم يحتاجون إلى مؤانسين من سنّهم؟
فتفضّل: إنّه مناسب جدًّا للأطفال وهو مناسب لعيونهم ولفكرهم ولعقلهم ولكلّ شيء. وإذا كان الأطفال مؤدّبين فيجب أن يجتمعوا سويّة في بعض الأوقات. لاحظوا أنّه عندما يبلغ الطّفل سن الثّانية يميل إلى اللّعب مع الأطفال ولاحظوا الطّيور كيف أنّها تطير مع بعضها وكيف تجتمع ببعضها؟ وهل تتذكّرون طفولتكم وكم كنتم تأنسون بالأطفال من سنّكم وكم كنتم تفرحون بهم؟
كان حضرة بهاء الله يفرح كثيرًا بمثل هذه المناظر الطّبيعية وقال إنّ المدينة عالم الأجسام أمّا الجبال والسّهول فعالم الأرواح ومع ذلك فقد كان حضرته طوال أيّام حياته سجينًا مبتليًا ببلايا شديدة.
يجب أن تكونوا ممتنّين شاكرين لكولمبس على اكتشافه هذه القارّة العظيمة لكم ومن أغرب الغرائب أنّه اكتشفها ولكنّها اشتهرت باسم "أمريك" ويجب أن يكون اسمها في الحقيقة "كولمبيا". هذا هو الحقّ والعدل.
كلّ كائن من الكائنات النّاسوتيّة مهما كانت له فوائد فلا بدّ أن تكون له أضرار أيضًا ولكنّنا يجب أن ننظر هل فائدته أكثر أم أضراره؟ والآن نرى العالم حسب الظّاهر قد ابتلي بمتاعب ومشقّات نتيجة اكتشاف كولمبس. فمثلاً لو لم يكتشف كولمبس أمريكا لما بنيت باخرة مثل تيتانيكا ولما غرقت كلّ هذه النّفوس ولكنّ هذه الأضرار ليست شيئًا بالنّسبة للمنافع. ولهذا يجب أن ننظر إلى الفوائد الأخرى. والشّيء الّذي هو خير محض في هذا اليوم هو الأمور الرّوحية الّتي هي خير محض وخير بحت وليس لها أبدًا ضرر من أيّة ناحية لأنّها نور ولا ضرر من النّور.
وتفضّل: وأمّا نيويورك فإنّ بيوتها مخنقة وتشبه الأقفاص وتشبه خلية النّحل. أمّا هنا فالبيوت طيّبة وحينما ركبنا السّيارة ووصلنا هذا المصيف دخلناه وكأنّنا دخلنا من الجحيم إلى الجنّة. واليوم بعد وصولنا ذهبنا إلى الشّلال وعند عودتنا أمطرت السّماء فتبلّلنا قليلاً فلجأنا إلى أحد البيوت القريبة. لقد ورد في ألواح حضرة بهاء الله أنّ حضرة المسيح كان ذات يوم في الصّحراء وكان الوقت ليلاً والظّلام حالكًا وكان يهطل مطر شديد على حضرته فتوجّه إلى مغارة فلاحظ أنّ فيها حيوانات ضارية فوقف خارجًا تحت المطر وكانت السّماء تمطر مطرًا غزيرًا على رأس حضرته فتفضّل: "يا إلهي خلقت للطّيور أوكارًا وللحيوانات الضّارية كهوفًا وللأغنام مكانًا أمّا ابن الإنسان فلم يجد له مكانًا يحفظ فيه نفسه من المطر. يا إلهي ترى أنّ فراشي التّراب وغذائي علف الصحراء وسراجي في اللّيالي النّجوم! ثمّ تفضّل: "أيّ إنسان أغنى منّي؟ لأنّ تلك الموهبة الّتي لم تعطها للملوك ولم تعطها للفلاسفة ولم تعطها للأغنياء أنعمت عليّ بها فمن هو أغنى مني؟ وفي آثار حضرة بهاء الله نجد بعض القضايا الّتي ليست مذكورة في الإنجيل وهي روايات عن حضرة المسيح وهي تدور حول سموّ المسيح وعظمة المسيح. وأقصّ لكم قصّة أخرى: "يقال إنّ حضرة المسيح دخل ذات يوم قرية وكانت الحكومة قد منعت الأهلين أن يستضيفوا غريبًا لأنّه وجد في تلك الأطراف كثير من اللّصوص. ووصل حضرة المسيح إلى بيت امرأة عجوز فاستحت من منعه وحينما وقعت عينها على جمال حضرته ولاحظت وقار حضرته لم تحبّ أن تقول: "إنّني لا أستطيع أن أنزلك ضيفًا عندي." ولهذا استقبلته بكمال الاحترام ثمّ التفتت هذه المرأة العجوز إلى هيئة حضرته فشاهدت أنّ آثار العظمة بادية على أطواره وسيماه فتقدّمت وقبّلت يد حضرته وعرضت: "إنّ لي ولدًا وليس لي غيره. وكان هذا الولد عاقلاً كاملاً. كان يشتغل وكنّا نعيش بمنتهى السّعادة. وقد حدث في الآونة الأخيرة أن اضطربت أفكاره وكأنّه في مأتم وعزاء. وقد ملأ بيتنا همًّا وحزنًا فهو يشتغل نهارًا ولكنّه يأتي ليلاً مضطرب الأحوال ولا ينام وكلّما أسأله لا يجيبني". فتفضّل حضرته: "ادعيه إليّ". وحلّ المساء وجاء الولد فقالت له أمّه: "يا ولدي إنّ هذا شخص عظيم فإن كان لديك همّ فأخبره به". ثمّ جاء الولد وجلس في حضور حضرته. فتفضّل مخاطبًا إيّاه: "أخبرني هل فيك مرض أو داء؟" فعرض: "ليست بي علّة" فتفضّل: "لا تكذب بك داء لا دواء له. فقل وأنا أمين لا أكشف سرّ أحد بل أستره. وكن مطمئنًّا. فقل وأنا لا أكشف سرّك." فعرض: "إنّ لي داء لا دواء له." فتفضّل: "قل وأنا أعالجك". فعرض: "بما أنّه ليس له دواء فلا تمكن معالجته" فتفضّل: "قل وأنا عندي العلاج" فعرض: "لأيّ مرض كان؟" فتفضّل: "لأيّ مرض كان". فعرض: "إنّني أخجل وأستحي أن أقول". فتفضّل: قل إنّك ولدي". ففكّر الولد قليلاً وقال: "لا أستطيع أن أنطق به بلساني وهذا من سوء الأدب". فتفضّل: "أنا أعفو عنك" فعرض: "إنّ في المدينة المجاورة ملكًا وقعت في حبّ ابنته وأنا مهنتي بيع الأشواك اليابسة وماذا أقول بعد هذا؟" فتفضّل: "اطمئن فإنّني إن شاء الله أوصلك إلى مرادك". وخلاصة القول فقد هيّأ حضرته الأسباب له وذهب الولد وتزوّج تلك البنت وفي ليلة دخوله غرفة الزّفاف خطر بباله أمر وهو يدخل الغرفة ويرى الجمال والجلال فقال في نفسه: إنّ هذا الشّخص قد حقّق لي أمرًا عظيمًا كهذا فلماذا لم يحقّق لنفسه؟ وما دام أنّه هيّأ لي فهو يستطيع أن يهيّء هذا أيضًا لنفسه وبرغم امتلاكه هذه القوى المعنويّة إنّه يقطع الصحارى ويأكل الأعشاب وينام على التّراب ويجلس في الظّلام ويعيش في منتهى الفقر. وبمجرّد خطور هذه الفكرة بباله قال للبنت: "ابقي هنا وأنا لي شغل سأذهب إليه وأعود" وخرج وذهب إلى الصّحراء يفتش عن حضرته. فوجده وقال له: "يا مولاي إنّك لم تعاملني بالعدل" فتفضّل: "لماذا؟" فعرض: "إنّك حقّقت لي خيرًا لا تريده لنفسك ولا شكّ في أنّ لديك أمرًا أعظم من هذا ولو كان هذا مقبولاً لاخترته لنفسك. لهذا صار معلومًا أنّ لديك شيئًا أعظم من هذا فأنت لم تنصفني. فقد أعطيتني شيئًا غير مرغوب لديك". فتفضّل حضرته: "إنّ ما تقوله صحيح ولكن هل لديك استعداد وقابليّة لما عندي؟" فعرض: "أرجو أن يكون لي" فتفضّل: "هل تستطيع أن تغمض عينيك عن كلّ هذا؟" فعرض: "نعم" فتفضّل: "إنّ لدي هداية الله وهي أعظم من كلّ هذه الأشياء وإن تستطع ذلك فتعال" فسار وراء حضرته حتّى ورد إلى الحورايّين وتفضّل: "كان عندي كنز مخفيّ في هذه القرية فأخرجته الآن وها هو كنزي الّذي أخرجته من باطن الأرض وأقدّمه لكم."
كشف أأكشف الابتيسليبلمايلايلاهخشساهلها
وأبدى أحد الحاضرين أسفه لأنّه لا يستطيع التّحدث باللّغة الفارسيّة.
فتفضّل: الحمد لله ليس حجاب اللّغة موجودًا في عالم القلوب. فالقلوب تحادث القلوب الأخرى وفي ذات وقت تشكّلت في إيران جمعيّة أساسها التّحدث بدون استعمال اللّغة وبأقلّ إشارة كانوا يحلّون قضية مهمّة كلّيّة وقد ارتقت هذه الجمعية كثيرًا بحيث وصلت إلى درجة أنّها صارت توضّح بإشارة إصبع واحد قضيّة كلّيّة فخافت الحكومة من تشكيلهم جمعيّة لا يستطيع أحد فهم مقاصدها وتكون لها أضرار بالغة على الحكومة لهذا منعتهم باستعمالها القوّة ضدّهم. وأقصّ لكم حادثة حدثت في تلك الجمعيّة فقد كان كلّ من يريد الدّخول فيها يأتي إلى الباب فيقف وكانوا يشاورون في ما بينهم بالإشارات ويبدون آراءهم بدون كلام، فجاء ذات يوم رجل عجيب الخلقة ووقف لدى الباب فنظر الرّئيس إليه ورأى أنّه عجيب الخلقة وكان أمامه قدح ماء فصب الماء فيه حتّى امتلأ القدح إلى حافته وكانت هذه إشارة إلى رفضه دخول الرّجل وهذا يعني أنّ مجلسنا لا مجال فيه لهذا الرّجل. ولكنّ ذلك الرّجل كان ذكيًّا فأخذ ورقة زهرة رقيقة جدًّا ودخل الغرفة وبكمال الاحترام وضعها بكلّ لطف فوق سطح الماء في القدح بحيث لم يتحرّك ماء القدح. ففرح الجميع حين فهموا أنّ هذا يعني أنّني لا أحتاج إلى مكان كبير وأنا لطيف مثل ورقة هذه الزّهرة هذه ولا أحتاج إلى مكان. فصفّقوا له وقبلوه. وكانت جميع محادثاتهم بالإشارات وقد ارتقوا كثيرًا واكتسبوا توقّد ذهن وذكاء وزادت فراستهم وكانوا غالبًا يتّحدثون بالأعين ويتكلّمون بنهاية الإتقان بتحريك العين في اتّجاهات مختلفة.
ثمّ تفضّل في المناسبة: "بمرور الزّمن سوف تدخل جميع ممالك أمريكا مثل المكسيك وكندا وأمريكا الجنوبية والوسطى في اتّحاد عام."
وبخصوص الحرب العظمى الّتي كان يتوقّع البعض انفجارها بين دول العالم تفضّل حين سأله أحدهم: "لا بدّ أن تحدث وسوف لا تدخلها أمريكا لأنّ هذه الحرب تحدث في أوروبّا وأنتم في زاويتكم لا شأن لكم بالآخرين ولا تفكّرون في امتلاك أوروبّا ولا أحد يطمع في اغتصاب أرضكم وأنتم مرتاحون لأنّ لديكم المحيط الأطلسي قلعة طبيعيّة محكمة".
وبخصوص وضع الحكومات الجمهوريّة والدّستورية تفضّل: "ستضطرّ أوروبّا وسائر البلاد إلى تطبيق أنظمتكم وستحدث في جميع أوروبّا تغييرات عظيمة وستنتهي المركزيّة في الحكم إلى الاستقلال الدّاخلي للولايات وفي الحقيقة ليس من الإنصاف أن يحكم مركز واحد على مملكة واحدة لأنّه مهما كانت كياسة أعضاء الحكومة المركزيّة وعقولهم كبيرة فإنّها لا علم لها بالاحتياجات المحليّة علمًا تامًّا، ولا ينصفون أعضاءها في بذل الجهد لرقيّ جميع أنحاء المملكة فمثلاً جميع ألمانيا تخدم اليوم برلين وجميع فرنسا تخدم باريس وجميع الممالك والمستعمرات تخدم لندن وتسعى في تجميلها ولكنّ حكومتكم فيها أنظمة طيّبة".
وعرض شخص من الحاضرين حول المشاكل السّياسيّة والاقتصاديّة فتفضّل: "إنّ أمريكا لا يمكن قياسها بأوروبّا فمشاكل أمريكا لا شيء بالنّسبة لمشاكل أوروبّا. فإحدى المشاكل في أوروبّا كثرة الجيوش. ففي فرنسا وألمانيا عامّة الشّعب جنود ولكنّكم أنتم مرتاحون من هذه المصيبة الكبرى. فاشكروا الله على أنّه نجّاكم من هذا البلاء. وفي داخل أمريكا أمن وأمان وهنا ترتفع أوّل راية للصّلح العموميّ فأيقنوا بحدوث ذلك لأنّ الإنسان يتوصّل إلى نتيجة كلّيّة من الأوّليات وهي أنّ الصّلح قد استقرّ هنا أوّلاً بين جميع الأمّة وسوف يسري من هنا إلى بقيّة الأطراف.
وسأل أحد الحاضرين: "هل يجب أن يكون حكم الأمّة بيد الأمّة بصورة مطلقة أم بيد العقلاء؟
فتفضّل: "من المعلوم أنّ عموم الأمّة لو انتخبت أفضل رجالها وهؤلاء انتخبوا رؤساء الجمهورية فإنّ هذا أحسن. أي أنّ الرّئيس يكون منتخب المنتخبين لأن عموم الأمّة عوام وليسوا مثقّفين في المسائل السّياسيّة كما ينبغي ويليق بل يجرون وراء حبّ الشّهرة. وفي الحقيقة إنّ كلّ موضوع هامّ يروّجه العقلاء فالعوامّ يلتفون حولهم وإنّ العمل يجب أن يكون في أساسه بيد العقلاء لا بيد العوام ولكنّ العقلاء ينبغي أن يكونوا في منتهى الصّدق والإخلاص ونيّتهم خدمة عموم الأمة وحفظ مصالحها وصيانتها. لاحظوا الأمور الكلّيّة عندما تسلمون مقاليد هذه الأمور إلى يد العوامّ فإنها تنهدم. فإذا تركتم العمل بيد العمّال فإنّ البيت لن يبنى ولا بدّ أن يكون هناك مهندس عاقل. فالعمل يعمله العقلاء والعوامّ يتحملون العناء. والقائد يرسم الخطّة الحربية ولكنّ العوام يحاربون ولا يمكن تسليمهم خريطة المعركة. وهل يمكن أن يكون أفراد الجيش مسؤولين عن إدارة فرقتهم؟ فإذا أردنا الفتح والظّفر وجب علينا تعيين رجل مجرّب عاقل قائدًا".
وسأل سائل حول العلاقات الاقتصاديّة بين الرّأسماليّين والعمّال فتفضّل: "إنّ هذه إحدى المبادئ الأساسيّة لحضرة بهاء الله ولكنّها يجب أن تعالج بالاعتدال لا بالتّهور وإن لم يفصل في هذه المسألة بطريق المحبّة فإنّ الأمر سيؤول أخيرًا إلى الحرب. وإنّ الاشتراك والتّساوي التّام غير ممكنين لأنّ أمور العالم ونظامه يختلاّن. ولكن هناك طريق واحد معتدل وهو أن لا يبقى الفقراء على هذه الحال من الاحتياج ولا يبقى الأغنياء على هذه الحال من الغنى بل يعيش الفقراء ويعيش الأغنياء حسب درجاتهم براحة واطمئنان وسعادة. وقد فكّر بهذا الموضوع قديمًا شخص واحد كان ملكًا لمملكة أسبارطة وضحّى بعرشه من أجل هذا الأمر وكان قد عاش قبل ولادة الإسكندر اليوناني وفكّر في أن يقوم بخدمة لا تفوقها خدمة ويصبح سببًا في سعادة فئة في هذا العالم. لهذا قسم أهالي أسبارطة إلى ثلاثة أقسام أوّلها أهالي المدينة الأصليّون الّذين كانوا زرّاعًا، وثانيها أهل الصّناعة والتّجارة، وثالثها الطّبقة الحاكمة وهم يونانيون من أصل فينيقي. وأراد هذا الملك المدعو ليكارغوس أن يوجد المساواة الحقيقيّة بين هذه الأقسام الثّلاثة وبهذه الطّريقة يؤسّس حكومة عادلة فقال إنّ الأهالي الأصليّين وهم الزّرّاع ليسوا مكلّفين بشيء ما عدا إعطاء عشر حاصلاتهم وليسوا مكلّفين بشيء آخر. وأهل الصّناعة والتّجارة كذلك يقدّمون سنويًّا الخراج وليسوا مكلّفين بشيء آخر. أمّا الطّبقة الثّالثة أي النّجباء والسّلالة الحاكمة الّذين كانت وظيفتهم إشغال المناصب والدّفاع عن الوطن وقت الحرب وإدارة المملكة. فقد مسح جميع أراضي أسبارطة وقسمها بالتّساوي بين أفرادها. فمثلاً كانوا تسعة آلاف شخص فقسّم الأراضي إلى تسعة آلاف قسم وأعطى كلّ شخص من هذه الطّبقة سهمه وقال إنّ عشر الحاصلات في كلّ أرض يعود إلى صاحبها. وكذلك وضع للأهلين بعض القوانين والأنظمة الأخرى وبعد أن وضع أحكام هذه القوانين حسب ما كان يحبّ دعا الأمّة للحضور إلى المعبد وقال لهم إنّي أريد السّفر إلى سوريّة ولكنّني أخاف بعد ذهابي أن تلغوا هذه القوانين ولهذا يجب أن تقسموا اليمين وأن لا تلغوا هذه القوانين أبدًا قبل رجوعي. فأقسموا في المعبد قسمًا غليظًا أن لا يغيّروها وأن يبقوا متمسّكين بها دائمًا حتّى يرجع الملك ولكنّه خرج من المعبد وسافر توًّا وما رجع وترك الملك لكي تبقى هذه القوانين محفوظة. ولم يمضِ زمن طويل على هذه المسألة الاشتراكيّة حتّى دبّت أسباب الخلاف، فقد ولد لأحدهم خمسة أولاد وللآخر ثلاثة أولاد وللثّالث ولدان وحدث التّفاوت بينهم واضطربت الأمور.
لهذا فمسألة المساواة مستحيلة وبقي أن يرحم الأغنياء الفقراء طوعًا لا كرهًا ولو فعلوا ذلك كرهًا لما كانت له فائدة. فلا يكون ذلك جبرًا بل بالقانون حتّى يعرف كلّ واحد واجبه حسب القانون العموميّ. فمثلاً شخص غنيّ عنده حاصلات كثيرة وشخص فقير حاصلاته قليلة أو نقول بصورة أوضح إنّ شخصًا غنيًّا له حاصلات تعادل عشرة آلاف كيلو وشخصًا فقيرًا حاصلاته عشرة كيلوات فليس من الإنصاف أن تؤخذ ضرائب متساوية من الاثنين بل يجب إعفاء هذا الفقير في هذه الحال من الضرائب. فلو أعطى الفقير ضريبة العشر وأعطى الغني ضريبة العشر فليس هذا إنصافًا. إذن يجب وضع قانون لإعفاء هذا الفقير الّذي عنده عشرة كيلوات فقط يحتاجها لمعيشته الضّروريّة ولكنّ الغني الّذي عنده عشرة آلاف كيلو لو أعطى عشرًا أو عُشْرَيْن لن يصيبه ضرر. فلو أعطى الغنيّ لبقيت عنده ثمانية آلاف أخرى. وإنسان آخر عنده خمسون ألف كيلو فإنه لو أعطى عشرة آلاف كيلو لبقي لديه بعد ذلك أربعون ألف كيلو. لهذا يجب وضع القوانين على هذا المنوال.
أمّا قوانين الأجور الموجودة فيجب إلغاؤها تمامًا. فلو زاد أصحاب المعامل أجور العمال اليوم فإنّهم بعد شهر أو سنة أخرى يتظاهرون أيضًا ويضربون ويطلبون المزيد. وليست لهذا نهاية.
والآن أخبركم بشريعة الله في هذا الباب. فبموجب شريعة الله لا تُعطى أجور فقط لهؤلاء بل يكونون في الحقيقة شركاء في كلّ عمل. فمثلاً زارع في قرية يزرع ويجمع حاصلات زراعيّة فتؤخذ ضريبة العشر من الزّرّاع أغنياء وفقراء حسب حاصلاتهم ويؤسّس في تلك القرية مخزن عموميّ فيه تجمع جميع الضّرائب والحاصلات ثمّ ينظر أيّ النّاس فقير وأيّهم غني. فالزّرّاع الّذين يحصلون على حاصلات تساوي طعامهم ومصروفاتهم لا يؤخذ منهم شيء. وخلاصة القول فإنّ جميع الضّرائب من الحاصلات تجمع في مخزن عموميّ وإن وجد في القرية عاجز يعطى له بقدر معيشته الضّروريّة. وإذا وجد غنيّ يحتاج إلى خمسين ألف كيلو فقط ولكنّ حاصلاته تزيد على مصروفاته بمقدار خمسمائة ألف كيلو يؤخذ منه عُشران وكلّ ما يبقى في المخزن آخر السّنة ينفق على المصروفات العموميّة.
إنّ مسألة الاشتراكيّة مهمّة جدًّا ولا تحلّ بإضراب العمّال ويجب أن تتّفق جميع الدّول وفي مجلس ينتخب أعضاؤه من برلمانات الأمم وأعيانها ويقرّر هؤلاء الأعضاء في منتهى العقل والكفاءة قرارًا لا يتضرّر بموجبه الرّأسماليون كثيرًا ولا يبقى العمال محتاجين، ويضعون قانونًا بمنتهى الاعتدال ثمّ يعلنون أنّ حقوق العمال مضمونة بضمان قويّ وكذلك تحفظ حقوق أصحاب رؤوس الأموال. وإذا تمّ تطبيق هذا القرار برضى الطّرفين فإنّ أيّ إضراب ينشأ فيما بعد يكون عرضة لمقاومة جميع الدّول له. وإلاّ انتهى الأمر إلى خراب أكثر وأكثر وخاصّة في أوروبّا حيث يحدث فيها اضطراب عظيم. ومن بين أسباب الحرب العامّة في أوروبّا هذه المسألة نفسها. فمثلاً يملك أحد الرّأسماليّين منجمًا ويملك الآخر مصنعًا فإذا أمكن أن يشرك صاحب المنجم وصاحب المصنع عمّالهم في الأرباح وبصورة معتدلة بأن يعطوا العمّال نسبة مئويّة من الأرباح فإنّ العمال سيكون لهم بالإضافة إلى أجورهم قسط من الأرباح العامّة ويبذلون الجهد بأرواحهم، فسوف لا يبقى في المستقبل احتكار وسوف تلغى الاحتكارات بالكلّيّة وكذلك يخصّص كلّ مصنع يملك عشرة آلاف سهم ألفي سهم من هذه الآلاف العشرة للعمّال وباسمهم حتّى تكون ملكًا لهم وما يبقى آخر الشّهر أو السّنة من الأرباح يقسّمه أصحاب الأموال بعد دفع الأجور والمصروفات تقسيمًا متناسبًا مع الأسهم بين الطّرفين. وفي الحقيقة قد جرى حتّى الآن ظلم كبير بحقّ العامّ فيجب وضع قوانين لأنّه لا يمكن أن يرضى العمال بالأوضاع الحاضرة فهم يضربون في كلّ شهر وفي كلّ سنة ويكون الضّرر آخر الأمر على الرّأسماليّين. وقد حدث قديمًا إضراب في معسكر عثمانيّ فقال الجيش للحكومة: إنّ رواتبنا قليلة تجب زيادتها فزادت الدّولة رواتبهم مجبرة. ثمّ بعد مرّة أضربوا أيضًا وأخيرًا ذهبت كلّ الضّرائب في جيب الجيش ووصل الأمر إلى درجة أنّ الجنود قتلوا السّلطان قائلين لماذا لم تزد الضّرائب حتّى تزداد رواتبنا؟ فلا يمكن أن تجد مملكة راحة بدون القانون ويجب وضع قانون قويّ في هذه القضيّة بحيث تحمي جميع الدّول هذا القانون. وخلاصة القول إنّ الإضراب سبب الدّمار أمّا القانون فسبب الحياة ويجب وضع قانون وتتمّ المطالبات بالحقوق وفق القانون لا بالإضراب وبالقوّة وبالعنف. وأنتم في هذه اللّيلة تحدّثتم في السّياسة وليست عادتنا أن نتكلّم في السّياسة بل نحن نتكلّم عن عالم الرّوح ونتكلّم عن الثّروة الملكوتيّة لا عن الثّروة النّاسوتيّة. فمقتضى السّياسة هو العنف وأمّا السّعادة لا تتحقّق بالعنف ولا تجتمع السّعادة والقوّة الجبريّة. ما هي السّعادة؟ والمراد من السّعادة أن تعيش الأمّة في منتهى فضائل العالم الإنسانيّ وبقوّة الملكوت الإلهيّ فتلك قصّة وهذه قصّة أخرى غيرها.