التّربية نوعان

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

التّربية نوعان

ألقيت هذه الخطبة في كنيسة الموحّدين في دوبلن –أمريكا-

في 11 آب سنة 1912

هو الله

من المسلّم به لدى عموم العقلاء أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومحتاج إلى التّربية. فإنّكم تلاحظون أنّ الإنسان إذا لم يُربَّ فإنّه يكون في نهاية التّوحّش. فالتّربية هي الّتي تجعل الإنسان إنسانًا وإذا ترك على الطّبيعة فإنّه يكون مثل سائر الحيوانات.

انظروا إلى الممالك المتمدّنة تروا حينما يتربّى الإنسان ويكتسب الفضائل يصبح متمدّنًا ويصير عاقلاً ويصير عالمًا ويصبح كاملاً ولكنّه في البلاد المتوحّشة مثل أواسط أفريقيا عندما لا يربّى يبقى على حالة التّوحّش.

والفرق بين بلدان أمريكا وأواسط أفريقيا هو أنّ النّاس هنا تربّوا وهناك لا توجد تربية. وأهل أفريقيا باقون على حالتهم الطّبيعية أمّا أهالي أمريكا فقد نالوا من التّربية قسطًا موفورًا.

التّربية تجعل الغصن المعوجّ مستقيمًا وتجعل الأجمة حديقة وتجعل الشّجرة عديمة الثّمر مثمرة وتجعل الأرض الشّائكة حقلاً للسّنابل. والتّربية تعمّر الدّيار المنهدمة وتجعل المتوحّش متمدّنًا والتّربية تجعل الجاهل كاملاً. التّربية تجعل الإنسان عالمًا بالملكوت الإلهيّ وتجعله ينال معرفة الله وتجعل الإنسان روحانيًّا وكاشفًا لأسرار الطّبيعة ومطّلعًا على حقائق الأشياء.

والخلاصة أنّ من المسلّم به لدى الجميع أنّ عالم الطّبيعة ناقص وأن كمال الطّبيعة منوط بالتّربية فإن لم تكن هناك تربية فإنّ الإنسان يكون مثل سائر الحيوانات مفترسًا بل أحطّ منها.

مثال ذلك أنّه تصدر في بعض الأحيان من الإنسان بعض التّصرفات الّتي لا تصدر من الحيوان. فالحيوان عديم التّربية مهما يكن مفترسًا فإنّه يفترس في اليوم حيوانًا واحدًا أمّا الإنسان عديم التّربية المفترس يفترس يوميًّا مائة ألف نفر.

لاحظوا النّفوس السّفّاحة الّتي جاءت في التّاريخ تروها كانت أشدّ افتراسًا من الذّئب وأحطّ من الحيوان.

إذن فالإنسان إن لم ينل تربية يصبح أحطّ من الحيوان.

والتّربية على قسمين: تربية مادّيّة وتربية إلهيّة. فقد كان فلاسفة العالم معلّمين مادّيّين. كانوا يربّون النّاس تربية طبيعيّة لهذا صاروا سبب التّربية والرّقيّ الطّبيعي. لكنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة كانوا مربّين إلهيّين ربّوا الأرواح والقلوب وعالم الأخلاق.

ولقد ربّى الفلاسفة عالم الأجسام وربّت المظاهر المقدّسة عالم الأرواح. مثال ذلك حضرة المسيح عليه السّلام كان مربّيًا روحانيًّا. وكان ملكوتيًّا وكان مربّيًا إلهيًّا ربّى الأرواح وربّى عالم الأخلاق وروّج الحقائق المعقولة. أمّا حضرات الفلاسفة فقد خدموا المدنيّة وربّوا البشر من حيث المادّة.

وفي الحقيقة إنّ الإنسان محتاج إلى الاثنين: إلى التّربية الطّبيعيّة وإلى التّربية الإلهيّة. فهو إن لم ينل التّربية السّماويّة يكن مثل سائر الحيوانات ويكن مجرّد كاشف للحقائق المحسوسة. لكنّ الله وضع في الإنسان قوّة يصبح بها كاشفًا للحقائق المعقولة وكاشفًا للحقائق الملكوتيّة، تلك القوّة الإلهيّة كاشفة للفيوضات وهي سبب للحياة الأبديّة وتلك القوّة سبب حصول الكمالات المعنويّة وتلك القوّة تجعل الإنسان ممتازًا عن الحيوان لأنّ الحيوان كاشف للحقائق النّاسوتيّة والإنسان كاشف للحقائق اللاّهوتيّة.

إذًا فالإنسان مهما يحصل على ترقّيات مادّيّة فإنّه لا يزال محتاجًا إلى نفثات الرّوح القدس ومحتاجًا إلى التّربية الإلهيّة ومحتاجًا إلى الفيض الملكوتيّ وما لم ينل الإنسان هذه التّربية لا يصير كاملاً.

لهذا فقد ظهرت المظاهر المقدّسة في كلّ كور لتربّي النّفوس تربية إلهيّة ولتزيل نقائص الطّبيعة ولتظهر الكمالات المعنويّة.

والطّبيعة أشبه ما تكون بالغابة وحضرة المسيح بستانيّ إلهيّ حوّل هذه الغابة إلى حديقة وجعل الأشجار عديمة الثّمر مثمرة وجعل هذه الأراضي المليئة بالشّوك والعوسج بحكم الطّبيعة بستانًا مليئًا بالورود والرّياحين فقلّب التّربة وأخرج الحشائس الضّارّة عديمة النّفع فرماها خارجًا وقلع وقمع جميع الأشواك الّتي كانت قد نمت بمقتضى الطّبيعة وبعد أن كانت أرض أشواك أصبحت مزرعة وحديقة أزهار. ولو كانت تبقى على حالة الطّبيعة فلا شكّ أنّها كانت تصبح غابة أو أرضًا شائكة لكنّ الزّارع يحوّل الغابة إلى حديقة والأرض الشّائكة إلى مزرعة ويجعل هذه الأشجار عديمة الثّمر مثمرة ويجعل أرض الحشائش مزرعة.

وخلاصة القول هو إنّ الإنسان مهما يرتقِ رقيًّا طبيعيًّا ويكتسب كمالات مادّيّة فإنّه يعدّ حيوانًا ولهذا فهو محتاج لنفثات الرّوح ومحتاج للتّربية الإلهيّة لكي تظهر الحقيقة الإنسانيّة في نهاية الجمال والكمال ولتصير مصداق آية التّوراة فتكون صورة ومثالاً إلهيًّا وتستفيض من الحقائق الملكوتيّة، وبعد أن كانت أرضيّة تصبح سماويّة وبعد أن كانت ناسوتيّة تصبح لاهوتيّة وبعد أن كانت جسمانيّة تصبح روحانيّة، وبعد أن كانت ظلمانيّة تصبح نورانيّة وهذا غير ممكن إلا بنفثات الرّوح القدس فتنال حياة أبديّة وإلا فليس لها بأيّ وجه من الوجوه امتياز عن الحياة الحيوانيّة.

إنّ المظاهر المقدّسة تنفث روحًا جديدًا في الأجساد وتهب النّفوس عقلاً جديدًا وتمنحها ترقّيات عظيمة وتنير العالم، ولكن لا تمضي مدّة إلاّ ويعود مظلمًا مرّة أخرى فلا تبقى النّورانيّة السّماويّة بل تتغلّب الإحساسات الطّبيعية مثال ذلك زارع يعمّر أرضًا فبعد أن كانت أرض أشواك وحشائش يجعلها مزرعة طيّبة الخيرات والمحاصيل أمّا لو يتركها فإنّها تعود أرض أشواك وحشائش.

وهكذا كان العالم بقوّة المظاهر المقدّسة مزرعة ذات بركة وكان حقلاً وبستانًا لم تكن فيه ظلمة جهل بل كانت النّورانيّة الإلهيّة ساطعة فيه ولكنّه بعد مدّة غدا مظلمًا بالكلّيّة ولم تبقَ النّورانيّة الإلهيّة أبدًا ولم يدم الفيض الإلهيّ ولم تبقَ هناك تربية روحانيّة.

ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في زمن كانت فيه ملل الشّرق في نهاية النّزاع والجدال وكان أتباع الأديان فيه يسفك بعضهم دماء بعضهم الآخر وكانت المذاهب مشغولة في الحرب والجدال في ما بينها فلم تكن هناك أبدًا آثار للمحبّة ولم تكن هناك نورانيّة سماويّة. ففي وقت كهذا ظهر حضرة بهاء الله وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ متفضّلاً أنّ البشر كلّهم عبيد لله وجميع الأديان في ظلّ رحمة الله وكلّ ما في الأمر هو أنّ البعض جاهل وناقص وطفل يجب أن يصبح عالمًا كاملاً بالغًا والبعض غرقى ظلمة الطّبيعة يجب أن يصبحوا نورانيّين والله رؤوف بالكلّ وألطافه الإلهيّة شاملة للكلّ والجميع مستغرقون في بحر رحمته ومستفيضون من الفيوضات الإلهيّة.

وخلاصة القول فقد أزال حضرته النّزاع والجدال وأزال العداوة من ذات البين وجعل جميع الأديان تلتئم ببعضها وألّف بين المذاهب بعد أن كانت في منتهى البغضاء وحصل بينها منتهى المحبّة وهناك اليوم في إيران قوم أطاعوا أمر حضرة بهاء الله فأصبحوا في منتهى الألفة والوئام وأصبحوا جميعًا ممتزجين في منتهى المحبّة وقد تفضّل حضرة بهاء الله أنّ عالم البشريّة مثل شجرة واحدة وجميع الملل والأجناس عبارة عن أوراق تلك الشّجرة وأفنانها. والله البستانيّ لا يفرق بينها فقد ربّى الجميع وغاية ما في الأمر أنّ البعض جاهل يجب تعليمه والبعض ناقص يجب إكماله والبعض مريض تجب معالجته والبعض أطفال وتجب تربية الطّفل حتّى يصل إلى سنّ البلوغ ولكنّ الجميع عباد الله والله أب للجميع ورؤوف بالجميع والكلّ مستغرقون في بحر رحمته وما دام هو رؤوف بالكلّ فلماذا نكون نحن قساة؟ وما دام هو في صلح مع الجميع فلماذا يحارب بعضنا بعضًا؟ ولماذا نحاول تحطيم بعضنا بعضًا فنتذرّع بذريعة الأمّة ونتذرّع بذريعة المذهب ونتذرّع بذريعة الوطن ونتذرّع بذريعة السّياسة ونتذرّع بذريعة الأسماء فيحارب بعضنا بعضًا، ولأقل ذريعة وحجّة يسفك بعضنا دم البعض الآخر ونهدم البيوت، أهذا لائق بنا؟ مع أنّنا في ظلّ إله عطوف مثل هذا الإله الّذي يعفو عن خطايانا ويرحمنا ولا يبدّل لحاظ عنايته مهما كان عصياننا وطغياننا. فهل يليق بنا أن نخالف مثل هذا الإله؟ فهو رؤوف بالكلّ ونحن نكون قساة.

والخلاصة أنّ حضرة بهاء الله قد أسّس مثل هذا التّأسيس وروّج الصّلح العموميّ وكتب قبل خمسين سنة رسائل إلى جميع الملوك ودعاهم جميعًا إلى الصّدق والألفة وعبادة الحقيقة.

نعم ليست هناك آفة أعظم من الحرب المنبعثة من التّعصّبات والمخالفة للرّضاء الإلهيّ. لاحظوا أنّه منذ بداية التّاريخ إلى الوقت الحاضر كان بين البشر حرب وجدال وكانت الحروب منبعثة إمّا من التّعصّب السّياسيّ وإمّا من التّعصّب الجنسيّ وإمّا من التّعصّب الوطنيّ وإمّا من التّعصب المذهبيّ.

إنّ جميع هذه التّعصّبات هادمة للبنيان الإنسانيّ وليس عند الله تعصّب فلماذا يكون عندنا تعصّب؟ والله يعاملنا جميعًا معاملة واحدة فلماذا يعامل بعضنا بعضًا معاملة مختلفة. وجميع الأرض وطن واحد وكرة الأرض كرة واحدة وجميع البشر من وطن واحد ومن سلالة آدم ولهذا فهم عائلة واحدة وجنس واحد لا أجناس مختلفة فلماذا نحن يجب أن نختلف؟ ولِمَ هذه الحروب بيننا؟ ولماذا هذا الجدال والقتال؟

يجب أن نتابع الرّضاء الإلهيّ ولا شكّ أنّ رضاء الله هو في المحبّة والألفة لأنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ وما دامت الحرب مستمرّة فلن يرتاح العالم الإنسانيّ.

ومبدأ آخر هو أنّ التّقاليد الموجودة بين أيدي أولي الأديان مانعة للاتّحاد والاتّفاق لأنّ التّقاليد مختلفة واختلاف التّقاليد سبب للنّزاع، والنّزاع سبب للقتال.

ولهذا يجب ترك التّقاليد وتحرّي الحقيقة لأنّ الحقيقة واحدة وإذا تحرّى الجميع الحقيقة فلا شكّ أنّ الجميع يصبحون متّحدين متّفقين لأنّ كلّ هذا النّزاع هو من التّقاليد أمّا أساس الأديان الإلهيّة فواحد وهو الفضائل الإنسانيّة فلا يختلف أحد في الفضائل بل الكلّ متّفقون على أن الفضائل نور والرّذائل ظلمة، إذن فيجب علينا الرّجوع إلى أساس الأديان الإلهيّة وترك التّقاليد ومن المؤكّد أنّنا نتّحد ولا يبقى اختلاف بأيّ وجه من الوجوه.

ومن مبادئه أيضًا هو أنّ الدّين يجب أن يطابق العقل ويطابق العلم لأنّه إن لم يطابق العقل والعلم فإنّه يكون أوهامًا ولقد أعطانا الله قوّة عاقلة حتّى نتوصّل بها إلى حقيقة الأشياء وندرك حقيقة كلّ شيء فإذا كان الدّين مخالفًا للعلم والعقل فلا شكّ أنّه أوهام وإذا كان الدّين مانعًا للألفة فعدمه خير من وجوده لأنّ الدّين هو لأجل المحبّة والألفة فإن أصبح الدّين سبب النّزاع والجدال فلا شكّ أنّ عدم الدّين أحسن لأنّه بمنزلة العلاج فإن أصبح العلاج سبب المرض فلا شكّ أنّ عدمه أحسن من وجوده.

ثمّ إنّ الله خلقنا جميعًا على حدّ سواء فأعلن حضرة بهاء الله المساواة بين الرّجال والنّساء وأنّ الرّجل والمرأة كليهما عبيد لله وجميعهم بشر متساوون في الحقوق وليس عند الله رجل أو امرأة وكلّ شخص تكون أعماله أحسن وإيمانه أحسن يكون أكثر تقرّبًا من العتبة الإلهيّة. وفي العالم الإلهيّ ليس هناك ذكور وإناث وليس في عالم الملكوت ذكور وإناث والجميع واحد ولهذا فالرّجال والنّساء يجب أن يتّحدوا ويتساووا.

وخلاصة القول لمّا كان أكثر أهل العالم جهلاء فقد أعلن حضرة بهاء الله أنّ الكلّ يجب أن يحصِّلوا العلوم والفنون ويجب عليهم أن يدخلوا جميع الأطفال المدارس سواء في المدن أم في القرى وهذا فرض محتوم فإن عجز الأب وجب على المجتمع البشريّ أن يعينه حتّى لا تبقى نفس بدون تربية.

وفي المدارس يجب أن تدرّس التّربية الجسمانيّة كما تدرس التّربية الرّوحانيّة لأنّ العلوم المادّيّة بمثابة الجسد والعلوم الإلهيّة بمثابة الرّوح ويجب أن تنفخ في الجسد روح لينال الحياة. أمّا إذا لم تكن هناك روح فالجسد يكون ميتًا مهما يكن في منتهى الجمال لأنّه حينما يكون محرومًا من فيض الرّوح فإنّه يغدو عديم الثّمرة وبدون نتيجة بل إنّ عدمه أحسن لأنّه يفسد ويتعفّن فإنّ فناءه أحسن من بقائه ويتفضّل في الإنجيل: "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح"، أي أنّ المادّيّات هي بمنزلة الجسد أمّا نفثات الرّوح القدس فهي روح وهذا الجسد يجب أن يحيا بهذه الرّوح ولهذا السّبب جعل حضرة المسيح الولادة الثّانية لازمة والمقصود بهذا هو أن الإنسان حينما كان في عالم الرّحم كان محرومًا من جميع هذه الفيوضات وحينما جاء إلى هذا العالم انفتحت عيناه وصارت أذناه سامعتين وأصبح ذا عقل وقوى جسمانيّة وحصل على قوى روحانيّة فهذه المواهب أعطاها الله له في عالم الرّحم ولكنّها ما كانت ظاهرة في عالم الرّحم فلمّا ولد ظهرت هذه المواهب وتجلّت فشاهد أن له عينًا وأنه كان قد وهب أذنًا فأصبح يرى جميع الكائنات فيرى البحر ويشاهد هذه الصّحراء ويرى الحديقة والبستان وما كان له علم بجميع هذه الأشياء حين كان في عالم الرّحم.

وبمثل هذه الكيفية أيضًا يجب أن يولد الإنسان من عالم الطّبيعة ليدخل عالم ما وراء الطّبيعة أي ينجو من نقائص عالم الطّبيعة لينال نصيبًا من فضائل العالم الإلهيّ لأنّ الطّبيعة ناقصة وبدون هذا لا يستطيع كشف الرّوحانيّات وكشف الملكوت ولا يكون له علم بالعالم الإلهيّ.

والطّفل في عالم الرّحم كان يستحيل عليه أن يكون له علم بهذا العالم فكان منكرًا لهذا العالم ولو قيل له بأنّ هناك عالمًا غير عالم الرّحم هو أوسع، فيه شمس وقمر وحديقة وبستان لأنكر ذلك وقال ليس هناك عالم غير عالم الرّحم ولكنّه بعد أن وُلد رأى جميع هذه المواهب في حين أنه لم يكن مطّلعًا على ذلك في عالم الرّحم.

وبنفس هذه الكيفية ما لم يولد الإنسان من عالم الطّبيعة فإنّه لن ينال خبرًا عن عالم الملكوت ولا يكون له علم بالله ولا ينال خبرًا عن الرّوحانيّات ولا يكون مطّلعًا على الفيوضات الإلهيّة ولكنّه حينما يولد من الطّبيعة يشاهد أنوار المواهب وبعدها يعرف أنّ الملكوت الإلهيّ منوط بالولادة الثّانية.

ولقد جاءت المظاهر الإلهيّة من أجل تربية البشر ليولدوا ولادة ثانية لينالوا معرفة الله وليطّلعوا على الملكوت الإلهيّ وليطّلعوا على الحقائق الإلهيّة، مثال هذا جزيرة العرب الّتي كانت في منتهى الظّلمات وكانت النّفوس الإنسانيّة مظاهر شيطانيّة وكانت الآفاق محرومة بالكلّيّة من إشراق النّور الرّحمانيّ وكانت القوانين والآداب مخلّة بسعادة العالم الإنسانيّ وكانت الفضائل منسوخة والرّذائل مقبولة ومشروعة وما كان هناك خبر عن العالم الإلهيّ وما كان هناك أثر من الفيوضات غير المتناهية وفجأة أشرق النّور المحمّديّ من مطلع الحجاز وأشرقت شمس الحقيقة من أفق البطحاء فتنوّرت جزيرة العرب وقام المعلّم الإلهيّ بالتّعليم وقام المربّي الحقيقيّ على التّربية فأفاق النّائمون وانتبه عديمو الشّعور وارتقى النّوع الإنسانيّ وتدنّت الآداب القديمة وأنشد العرب انشودة المدنيّة باللّحن الحجازيّ بصوت عالٍ ظلّ يتردّد صداه أبدًا في آذان البشريّة.

يا إلهنا الغفور إنّ هذا الجمع مرتصدون لدى بابك وعاشقون لجمالك وقد اجتمعوا في هذا المعبد طالبين رضاءك وملتمسين ألطافك وآملين عفوك وراجين غفرانك. إلهي نحن أطفال وأنت الأب الرّؤوف. ونحن أذلاّء وأنت العزيز الفريد الوحيد. إلهي نحن في منتهى العجز وأنت القدرة المحضة ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن عاجزون وأنت القدير. إلهي فاعفُ عن ذنوبنا وأجرنا في جوارك ونجّنا من ظلمات النّاسوت وأنرنا بنورانيّة اللاّهوت. نجّنا من عالم الطّبيعة وأوصلنا إلى عالم الحقيقة. إلهي نحن عطاش هبنا عذب فراتك ونحن جياع أكرمنا من المائدة السّماويّة ونحن مرضى أنعم علينا بالشّفاء الأبديّ ونحن فقراء هبنا من كنز الملكوت وآونا إلى ظلّ عنايتك حتّى تتنوّر العيون بمشاهدة أنوارك وحتّى نصغي بآذان واعية إلى ندائك. إلهي افتح مشامّنا حتّى تستنشق رائحة حديقة عنايتك. إلهي هبنا قوّة حتّى نسلك في سبيلك ونحن في عالم النّاسوت اهدنا إلى عالم اللاّهوت وافتح لنا أبواب الملكوت واشملنا بألطافك وأكمل علينا فيضك. إنّك أنت الغفور إنّك أنت الرّحمن إنّك أنت الرّحيم وإنّك أنت الوهّاب الرّؤوف.

المصادر
المحتوى
OV