عالم الطّبيعة ناقص
الخطبة المباركة ألقيت بمنزل السّيّد والسّيّدة
مكسويل في مونتريال مساء 3 أيلول سنة 1912
هو الله
لقد جاءنا قبل ساعة شابّ وبحثنا معه موضوع هل أنّ الطّبيعة كاملة أم ناقصة، منيرة أم مظلمة، والآن أريد أن أكمل البحث في هذا الموضوع.
إنّ الطّبيعة من حيث المجموع هي العالم الجسمانيّ وإذا نظرنا إلى عالم الطّبيعة بالنّظر الدّقيق واطّلعنا على عمقها وأسرارها فإنّنا نلاحظ أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومظلم. لاحظوا لو أنّنا تركنا أرضًا لتبقى على حالتها الطّبيعية فإنّها ستصبح منبتًا للأشواك والنّباتات غير النّافعة ولو تركنا المناطق الجبليّة على حالها فإنّها تنبت أشجارًا لا ثمرة فيها وتصبح غابات لا فائدة فيها ولا انتظام، إذًا فعالم الطّبيعة مظلم تجب إنارته وبماذا تتمّ إنارته؟ تتمّ إنارته بحرث تلك الأرض الّتي أنبتت بحكم الطّبيعة أشواكًا وأعشابًا غير نافعة وببذر البذور حتّى تنمو فيها أزهار معطّرة وتنبت حبوب وفيرة البركة الّتي هي رزق الإنسان. وهذه الغابات المتروكة على حالتها الطّبيعية المظلمة لا بركة فيها ولا خير فنقوم بتربيتها ونجعل الأشجار عديمة الأثمار مثمرة فتصبح بستانًا بعد أن كانت غابة وتغدو منتظمة بعد أن كانت متشابكة، ولقد كانت في البدء مظلمة فلمّا استحالت بستانًا أصبحت نورانيّة. وكذا الإنسان لو تركناه على طبيعته فإنّه يصبح أحطّ من الحيوان فيبقى جاهلاً بليدًا مثل أهالي أواسط أفريقيا. إذًا فكلّما أردنا أن نجعل هذا العالم المظلم نورانيًّا وجب علينا أن نربّيه فيكون المحروم من الأدب ذا أدب ويكون سيّئ الخلق طيّب الأخلاق، ولكنّنا لو تركناه على حالته الطّبيعية ولم نقم بتربيته فمن المؤكّد أنّه أسفل من الحيوان يقتل أبناء نوعه ويفترسهم ويأكلهم. إذًا اتّضح أنّنا لو تركنا الطّبيعة على حالها فإنّها تصبح مظلمة. ولهذا يجب أن نربّي الإنسان حتّى يصبح هذا الإنسان المظلم نورانيًّا ويصبح هذا الجاهل عالمًا ويصبح هذا المحروم من الأدب أديبًا ويصبح النّاقص كاملاً ويصبح سيّئ الأخلاق خلوقًا ويصبح هذا الحيوان إنسانًا. وممّا لا مِرية فيه أنّ الإنسان يكون بدون التّربية أحطّ من الحيوان. إذًا فقد اتّضح أنّ الطّبيعة ناقصة تلزمها التّربية لتصبح كاملة. يقول الفلاسفة اليوم جميعًا قولاً يلقونه على عواهنه وهو "إنّ عالم الطّبيعة كامل" غير ملتفتين إلى أنّه ناقص يجب بالتّربية إكماله، تُرى لماذا يربّون التّلاميذ في المدرسة ما دام عالم الطّبيعة كاملاً؟ فإن صحّ قولهم يجب أن يتركوا البشر وشأنهم حتّى يربّوا أنفسهم بأنفسهم. إنّ جميع هذه الاختراعات قد ظهرت بنتيجة التّربية لأنّ هذه الاختراعات لم تكن موجودة في عالم الطّبيعة، وهذه الاكتشافات إنّما حصلت من التّربية فالكهرباء والتّلفون والبرق والحاكي وسائر الاختراعات الحديثة إنّما ظهرت جميعها من التّربية، ولو لم ينل البشر التّربية وتركوا على حالتهم الطّبيعية لما ظهر أيّ واحد من هذه الاختراعات ولما كانت هذه المدنيّة والتّرقّيات في العالم الإنسانيّ. ترى ما الفرق بين الفيلسوف الكامل والشّخص الجاهل؟ الفرق هو أنّ الجاهل ترك ليبقى على حاله في حين أنّ الفيلسوف ربّي حتّى أصبح كاملاً وإلاّ فكلاهما بشر. من أجل هذا أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب السّماويّة ونفخ نفثات الرّوح القدس وفتح أبواب الملكوت وأبدع الإلهامات الغيبيّة. ولقد منح الخلق قوى عقلية حتّى تسدّ نقائص الطّبيعة فتكمّلها وحتّى تزول ظلمات رذائل الطّبيعة يزول جهل عالم الطّبيعة وتزول الأخلاق الذّميمة من عالم الطّبيعة ويزول ظلم عالم الطّبيعة. ولقد بعث الأنبياء من أجل هذا المقصد حتّى يربوا نفوس البشر تربية إلهيّة لتنجو من نواقص عالم الطّبيعة.
ومثل الأنبياء كمثل البستانيّ ومثل الخلق كمثل الأجمة أو الأرض البور فالأنبياء الّذين هم بستانيّون إلهيّون يربّون الأشجار الإنسانيّة ويقوّمون الأغصان المعوجّة ويحوّلون الأشجار عديمة الأثمار مثمرة ويقلّبون الغابة غير المنتظمة إلى بستان يبهج القلب. ولو كان عالم الطّبيعة منيرًا كاملاً لما كانت الحاجة ماسّة للتّربية ولما كانت المدارس والمعاهد ضروريّة ولما كانت هناك حاجة إلى الاختراعات لأنّ عالم الطّبيعة كامل ولما كان محتاجًا إلى الأنبياء ولا إلى معلّم ولا إلى كتب ولا إلى إله لأنّ عالم الطّبيعة كامل. وإنّ كلّ هذه الأمور وجدت لأنّ عالم الطّبيعة ناقص. فهذه القارّة الأمريكيّة ماذا كانت؟ لقد كانت غابة وكانت أرضًا خالية وذلك من مقتضيات الطّبيعة فما الّذي عمّرها؟ لقد عمّرتها العقول الإنسانيّة إذًا فالطّبيعة ناقصة وقامت العقول الإنسانيّة فأكملت هذه النّواقص فبعد أن كانت أرضًا جرداء وغابة أصبحت الآن مدنًا عامرة وقبل أن يأتي كولومبس ماذا كانت أمريكا؟ لقد كانت مثالاً لعالم الطّبيعة أمّا الآن فقد أصبحت مثالاً لعالم الإنسان ولو كان عالم الطّبيعة كاملاً لوجب أن تبقى القارّة كما كانت فانظروا الآن إنّها كانت في أوّل الأمر مظلمة وأصبحت الآن منيرة وكانت خربة فأصبحت عامرة وكانت غابة فأصبحت بستانًا وكانت منبت أشواك فأصبحت حديقة أزهار. إذًا ثبت أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومظلم ولو ولد طفل وما قمنا بتربيته وتركناه على حالته الطّبيعية فماذا تكون النّتيجة لا شكّ أنّه سيبقى جاهلاً لا إدراك له وسيصبح حيوانًا. لاحظوا أواسط أفريقيا تجدوا أهليها مثل الحيوانات بل وأحطّ من الحيوانات. من هذا نلاحظ ماذا عملت التّربية الإلهيّة في العالم الإنسانيّ. إنّ عالم الطّبيعة هو عالم الحيوان والحيوان باقٍ على حالته الطّبيعية والحيوانات الوحشيّة لا الأهليّة باقية في الصّحارى والغابات على حالتها الطّبيعية وكلّها في عالم الطّبيعة. وليس هناك تعليم وتربية في عالم الحيوان وليس في عالم الحيوان خبر عن عالم الرّوح والحيوان لا خبر عنده عن الله والحيوان لا خبر له مطلقًا عن العقل الإنسانيّ ولا خبر عنده عن القوّة الرّوحانيّة الإنسانيّة والحيوان يتصوّر الإنسان شبيهًا له ولا يرى امتيازًا بينهما، لماذا؟ لأنه باقٍ على حالته الطّبيعية وجميع الحيوانات طبيعيّة وجميع المادّيّين مثل الحيوانات لهم إحساسات جسمانيّة وليست لهم إحساسات روحانيّة فهم منكرون لوجود الله لا يعرفون شيئًا عن الله ولا خبر لهم عن الأنبياء ولا خبر لهم عن الجنّة الإلهيّة، وجميع الحيوانات كذلك لا خبر لها عن التّعاليم الإلهيّة وجميع الحيوانات أسرى المحسوسات. والواقع أنّ شبيه الفلاسفة في هذا اليوم هو الحيوانات فكما أنّ هؤلاء الفلاسفة لا خبر لهم عن الأنبياء ولا عن الإحساسات الرّوحانيّة ولا عن فيض الرّوح القدس ولا عمّا وراء الطّبيعة فكذلك كلّ حيوان حائز على هذه الكمالات بدون عناء. والفلاسفة بعد دراسة عشرين سنة ينكرون الله وينكرون القوى الرّوحانيّة والإلهامات الإلهيّة في حين أنّ الحيوان بدون عناء فيلسوف كامل مثل حضرة الثّور لا خبر عنده عن كلّ شيء فلا خبر عنده عن الله ولا خبر عنده عن الإحساسات الرّوحانيّة وجميع الحيوانات لا خبر لها عن الرّوح وهؤلاء الفلاسفة لا خبر عندهم عن أيّ شيء غير المحسوسات وهم كالحيوانات، ومع هذا فإنّهم يقولون إنّنا فلاسفة لأنّنا لا نعلم غير المحسوسات. والحال أنّ حضرة الثّور عنده هذه الفضيلة بجميع أوصافها بدون اكتساب للعلوم. ليس هذا فخرًا إنّما الفخر أن يطّلع الإنسان على الإحساسات الرّوحانيّة وأن يتنسّم أخبار ما وراء الطّبيعة وأن يستفيض من نفثات الرّوح القدس ويجب أن يكون فخر الإنسان في اطّلاعه على التّعاليم الإلهيّة، وما عدا هذا فعدم الاطلاع ليس بفخر إنّما هو جهل. وهل من الممكن أن تطّلع النّفوس الّتي هي أسفل درجة الجهل على الكمالات الإلهيّة وأن تطّلع على الحقيقة وأن تنال علمًا بحضرة المسيح وجميع المظاهر المقدّسة؟ وهل من الممكن أن تكون إدراكات هذه النّفوس أعظم من إدراك المظاهر المقدّسة؟ لقد كان حضرة المسيح إلهيًّا سماويًّا ملكوتيًّا روحانيًّا ولا شكّ أنّه يفهم أحسن من فهم هؤلاء الفلاسفة فقد كان عقله أكبر وإدراكه أوسع وقواه أعلى وشعوره أسمى. إذًا فكيف صرف حضرته النّظر عن كلّ شيء وعن هذه الحياة الجسمانيّة وعن الرّاحة والنّعمة وقبل جميع البلايا وتحمل جميع الرّزايا؟ لماذا؟ لأنّه كان ذا إحساسات روحانيّة وكان ذا قوّة من الرّوح القدس. كان يشاهد الملكوت وكانت له فيوضات إلهيّة وكانت له قوى معنويّة وكانت له روحانيّة محضة وكذا كان جميع المظاهر المقدّسة الإلهيّة.