الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ

الخطبة المباركة ألقيت غداة نشوب الحرب العالميّة الأولى (1914)

هو الله

لقد تأزّمت الأمور واضطربت الدّنيا والقوم مشغولون ينحر بعضهم بعضًا.

لقد قلت في أمريكا وأوروبّا في المجامع والكنائس والمحافل: "إنّ عاقبة الحالة الحاضرة وخيمة جدًّا فأوروبّا أشبه بمخزن متفجّرات وانفجاره ينتظر شرارة واحدة فتعالوا وأخمدوا هذه النّار ما دام ذلك ممكنًا حتّى لا تحدث هذه الحرب" ولكنّهم لم يسمعوا النّصح.

والآن حدثت هذه النّتيجة مع أنّكم ترون أنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ وسبب خراب العالم ولا نتيجة منها أبدًا وكلا الغالب والمغلوب يتضرّر منها ضررًا بالغًا ومثلهما مثل سفينتين اصطدمتا بعضهما ببعض فإن أغرقت إحداهما فالسّفينة الباقية لا بدّ أن يصيبها ضرر وتبقى معطوبة. وغاية ما في الأمر أنّ دولة تتغلّب غلبة مؤقّتة على دولة أخرى ولن تمضي أيّام إلاّ ويصبح المغلوب غالبًا والمقهور منتصرًا. وكم من مرّة حدث أن غلبت فرنسا ألمانيا ثمّ تغلّب الألمان بعد ذلك على الفرنسيّين.

يا للعجب ما أشد تأثير الأوهام في القلوب في حين أنّ الحقائق لا تأثير لها. إنّ هذا شيء غريب جدًّا. فالاختلاف الجنسيّ مثلاً أمر وهميّ ولكن ما أعظم تأثيره! مع أنّ الجميع كلّهم بشر وكلّ ما في الأمر أنّ جماعة تسمّى بجنس الصقالبة وجماعة تسمى بجنس الألمان وجماعة تسمى بجنس الفرنسيّين وجماعة تسمى بجنس الإنجليز. لاحظوا أنّ اختلاف الأجناس هذا أمر وهميّ ولكن ما أشدّ تأثيره ونفوذه! والحال أنّ الجميع بشر وهذه حقيقة واضحة وهي أنّ جميع البشر نوع واحد.

لكنّ هذه الحقيقة لا تأثير لها في حين أنّ هذا الاختلاف الجنسيّ الّذي هو أمر موهوم ومجازيّ له كلّ التّأثير.

ومع كلّ هذه الحروب الّتي وقعت والدّماء الّتي سفكت وكلّ هذه البيوت الّتي هدمت وكلّ هذه المدن الّتي دمّرت فالقوم لم يشبعوا من الحروب والقلوب لا تزال قاسية ولم ينتبه النّاس بعد إلى أنَّ هذه البغضاء والعداوة هادمة للبنيان الإنسانيّ وأنّ الحبّ والألفة سبب راحة البشر ورخائهم.

فما أشدّ اضطراب النّاس في هذه الأيّام!

وكم من آباء يئنّون ويستغيثون ولا يقرّ لهم قرارًا وكم من أمّهات يبكين في حال من الاضطراب لا توصف! فما الّذي أجبر هؤلاء على الحرب؟

إنّ مسبّبي الحرب جالسون في منتهى العزّة في مساكنهم وألقوا بهؤلاء الفقراء المساكين في ساحة الحرب يمزّق بعضهم بعضًا، فما أشدّ هذا التّعسف!

وبينما لا يرضون أن تقطع شعرة واحدة من رؤوسهم تراهم يقتلون آلاف النّفوس في ميدان الوغى والقتال. دون جدوى.

فالآن قد حصلت مشاكل بين النّمسا والصّرب فلو أحيلت هذه المشاكل إلى محكمة عموميّة لتحلّها فإنّ تلك المحكمة الكبرى تقوم بالتّحقيق فإن كان الذّنب ذنب النّمسا فإنّها تصدر الحكم وإن كان الذّنب ذنب الأخرى فإنّها تحكم عليها أيضًا. فما الحاجة لهذه الحرب؟

فالمحكمة الكبرى تحلّ المسألة وإن حصلت بين الأفراد مشاكل فإنّ المحكمة الفضائيّة تحلّها. وعلى هذا النّحو تتشكّل محكمة كبرى تفصل في المشاكل بين الدّول والملل. فما أحسن هذا التّرتيب! وأيّ ضرر في ذلك؟ فالدّول والملوك أنفسهم يرتاحون وينالون كلّ الاطمئنان.

وفي الحقيقة منذ بداية العالم وكتابة التّاريخ حتّى الآن لم يحصل ضرر من التّآلف والمحبّة والصّلح مطلقًا لأيّ إنسان بل كان في ذلك سرور للكلّ وراحة للكلّ وحصلت الأضرار من الحرب للجميع. ومع هذا فالبشر مصرّون على الحرب ويجدّون دائمًا في البحث وراء الحرب.

والعجيب في أمر هذه الملل أنّها ظنّت أنّ أساس الدّين الإلهيّ مبنيّ على الحرب فما أشدّ هذه الغفلة وما أحطّ هذا العقل! كأنّ القلوب ليست فيها ذرّة من المحبّة.

لاحظوا إنّ الإنسان لديه صفة الوحشيّة والافتراس ولكنّه يتّهم الحيوان بتهمة الافتراس. فالحيوان المفترس يصيد من غير نوعه صيدًا واحدًا يضطرّ إليه لطعامه. ومثلاً يقولون عن الذّئب إنّه مفترس. مسكين هذ الذّئب يفترس حملاً لطعامه لأنّه إن لم يفترس يمت من الجوع لأنّه من آكلات اللّحوم ولكنّ إنسانًا يسبّب تمزيق مليون نسمة ثمّ يتّهم الحيوان المسكين بهذه التّهمة. أيّها الرّجل إنّك قتلت مليون نفس وتقول إنّك فاتح، مظفّر، شجاع، مقدام، وتفخر بهذا القتل ومع هذا تتّهم الذّئب والدّبّ بالافتراس! عجيب أمرك!

المصادر
المحتوى
OV