اللّوح المبارك: إلى مدير وقراء المجلة الشّرقيّة – لندن
هو الله
صديقي المحترم،
وصلتني رقيمتكم وأصابني منتهى السّرور من تلك الرّوابط الرّوحانيّة المنبعثة من ذاتكم وروحكم.
ومع أنّه قد اتّضح لي جليًّا في سفري هذا أنّ عالم الغرب قد ارتقى في المدنيّة رقيًّا كبيرًا لم يسبق له مثيل إلا أنّ المدنيّة الإلهيّة أوشكت أن تصبح نسيًا منسيًّا لأنّ جميع الأفكار غرقت في عالم الطّبيعة وكلّ ما في العالم اليوم هو صورة للطّبيعة وليس له صبغة إلهيّة.
وحيث إنّ النّقائض كثيرة في عالم الطّبيعة ولهذا فقد حجبت أنوار المدنيّة الإلهيّة وأصبحت الطّبيعة حاكمًا مسيطرًا. وأعظم قوّة في عالم الطّبيعة هي قوّة التّنازع على البقاء وهذا التّنازع هو مبدأ ومنشأ جميع المشاكل وسبب الحرب والجدال والعداوة والبغضاء بين جميع البشر لأنّ الظّلم والأنانيّة وحبّ السّيطرة والاعتداء على حقوق الآخرين الموجودة في عالم الطّبيعة إنّما هي صفات ذميمة ومن رذائل العالم الحيواني ولهذا فما دامت مقتضيات عالم الطّبيعة هي الحاكمة بين البشر، فالفلاح والنّجاح محال لأنّ فلاح العالم الإنسانيّ ونجاحه إنّما هما بالفضائل والخصائل الّتي تزيّن حقيقة الإنسان وهذا أمر مخالف لمقتضيات الطّبيعة.
فالطّبيعة محبّة للحرب والنّزاع والطّبيعة محبّة للدّماء والطّبيعة ظالمة عاتية والطّبيعة غافلة عن الله.
وعليه تلاحظون حضراتكم أنّ صفات الافتراس هذه طبيعيّة في العالم الحيوانيّ، ولهذا بعث الرّحمن الرّسل بلطفه وعنايته وأنزل الكتب حتّى ينجو العالم الإنسانيّ عن طريق التّربية الإلهيّة من فساد الطّبيعة وظلمة الجهل ويصل إلى الكمالات المعنويّة والإحساسات الوجدانيّة والفضائل الرّوحانيّة ويصبح مصدر السّنوحات الرّحمانيّة وهذه هي المدنيّة الإلهيّة.
والمدنيّة المادّيّة في العالم الإنسانيّ اليوم مثل زجاجة في منتهى الصّفاء إلا أنّها ويا ألف أسف زجاجة محرومة من السّراج، والسّراج هو المدنيّة الإلهيّة الّتي تؤسّسها المظاهر الإلهيّة.
وخلاصة القول لمّا كان هذا القرن قرن الأنوار وقرن ظهور الحقيقة وقرن التّرقّيات فوا ألف أسف على البشريّة الّتي لا تزال في التّعصّبات الجاهليّة والمنازعات الطّبيعيّة، وفيها الخصومات والعداوات في منتهى العنف.
وجميع هذه الأضرار ناتج عن زوال المدنيّة الإلهيّة بالكلّيّة ونسيان تعاليم الأنبياء. فمثلاً ورد في نصّ التّوراة أنّ جميع البشر هم خلق الرّحمن وفي ظلّ ألطاف الرّبّ العطوف وليسوا من خلق الشّيطان وكذلك نصّ الأنجيل على أن الشّمس الإلهيّة أشرقت على العاصي والمطيع على السّواء كما وأنّ القرآن يتفضّل:- "لا ترى في خلق الرّحمن من تفاوت". هذا هو أساس المظاهر المقدّسة الإلهيّة. إلاّ أنّه ويا ألف أسف قد هدم سوء التّفاهم ما بناه الأنبياء، والدّين الّذي كان ينبغي أن يكون سبب المحبّة والألفة ومؤسّس وحدة العالم الإنسانيّ، أصبح سبب البغضاء والعداوة.
ولقد مرّت ستة آلاف سنة استمرّ خلالها بنو البشر في سفك الدّماء والافتراس وهما من خصائص عالم الحيوان، ولكنّ البشر أطلقوا على ذلك الاسم التّعصّب الدّينيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب الوطنيّ ويضربون بمعاولهم على جذور شجرة العالم الإنسانيّ، فوا ألف أسف لذلك.
والخلاصة فقد تجوّلتُ في جميع ممالك الغرب وأعلنتُ في جميع المجامع والكنائس العظمى، بموجب تعاليم حضرة بهاء الله، وحدة العالم الإنسانيّ، وروّجت الصّلح العموميّ، ودعوت بأعلى صوتي الجميع إلى الملكوت الإلهيّ قائلاً: الحمد لله على ما أشرقت شمس الحقيقة من أفق الشّرق في منتهى اللّمعان وأشرقت بأنوارها على جميع الآفاق وأنّ أنوارها هي التّعاليم السّماويّة، وهي إعلان وحدة العالم الإنسانيّ وترويج الصّلح العمومي وتحرّي الحقيقة وتأسيس الألفة والمحبّة بقوّة الدّين وتطابق العلم والعقل مع الدّين ونبذ التّعصّب الدينيّ والجنسيّ والوطنيّ والسّياسيّ وتعميم المعارف العامّة وتحكيم المحكمة الدّوليّة الكبرى الّتي تحلّ معضلات المشاكل المتنوّعة بين الدّول والملل وتربية جميع الإناث كتربية الرّجال على جميع الفضائل الإنسانيّة وحل المسائل الاقتصاديّة وتأسيس اللّغة العالميّة وأمثال ذلك، حتّى ينجو العالم الإنسانيّ من ظلمة الضّلالة ويصل إلى مطلع أنوار الهداية، وينهدم هذا النّزاع والجدال والخصومة والعداوة من بين البشر، ويزول سوء التّفاهم الموجود بين أهل الأديان، لأنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد، وهو وحدة العالم الإنسانيّ.
ولله الحمد وجدنا في أمريكا آذانًا صاغية وشاهدنا نفوسًا متوافقة متآلفة، ومقاصد تلك النّفوس إيجاد الألفة بين جميع البشر، وغاية آمالهم رقيّ العالم الإنسانيّ رقيًّا لم يسبق له مثيل.
وكذلك قابلنا في لندن نفوسًا مباركة يجهدون بقلوبهم وأرواحهم لإلقاء المحبّة والألفة بين البشر.
وأملي أن تنتشر هذه الأفكار العالية يومًا فيومًا وتتجلّى هذه المقاصد الخيريّة حتّى تصبح جميع ملل العالم مظاهر السّنوحات الرّحمانيّة ولا يبقى بين الأديان والأقوام نزاع وجدال. هذه هي العزّة الأبديّة وهذه هي السّعادة السّرمديّة وهذه هي جنّة العالم الإنسانيّ.
ع.ع