اللّوح المبارك بافتخار جناب سلام – في الصين

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

اللّوح المبارك بافتخار جناب سلام في الصين

هو الله

يا مفتونًا بالحقيقة وظمآنًا إليها، لقد وصلتني رسالتكم وكانت دليلاً على طلوع صبح منير من أفق وجدانكم، وإنّي لأرجو بعد طلوع الصّبح أن تشرق الشّمس المنيرة إشراقًا تفيض أشعته على الآفاق.

لا يخفى على حضرتكم أنّ عالم الوجود يحتاج إلى معلّم ومربّ والمربّون على نوعين: المربّي في عالم الطّبيعة والمربّي في عالم الحقيقة.

إنّكم لو تركتم الأرض على حالتها الطّبيعيّة فإنّها تصبح غابة ومنبتًا للأشواك، ولكن عندما تدخل يد البستانيّ الرّؤوف ورعايته تصبح الغابة بستانًا والأرض الشّائكة حديقة ورود. إذن اتّضح أنّ التّربية ضروريّة في عالم الطّبيعة.

وكذلك لاحظ النّوع البشريّ إذا حُرم من التّربية والتّعليم أصبح جسمًا مسمومًا لأنّ الأقوام المتوحّشة لا تمتاز عن الحيوانات بأيّ وجه من الوجوه فمثلاً ما هو الفرق بين السّود الأفريقيّين والسّود الأمريكيّين. فأولئك ينطبق عليهم القول: "خلق الله البقر على صورة البشر" وهؤلاء متمدّنون أذكياء علماء. حتّى إنّني خلال سفري هذا تحدّثت بصورة مسهبة في واشنطن في مجامع السّود وكنائسهم ومدارسهم، وشاهدتهم مثل فضلاء أوروبّا يدركون جميع الدّقائق من الأمور. إذن فما هو الفرق الّذي جعل هذين النّوعين من السّود أحدهما في أسفل دركات الجهل والآخر في أوج المدنيّة؟

هل الفرق إلاّ بالتّربية؟ ومن المؤكّد أن التّعليم والتّربية أدّيا إلى عزّة هؤلاء وأنّ عدم التّربية أصبح بذلك سبب ذلّة أولئك.

إذن اتّضح أنّ التّربية ضرورة من ضروريّات عالم المدنيّة.

إنّ المدنيّة على قسمين: أحدهما المدنيّة في عالم الطّبيعة والآخر المدنيّة في عالم الحقيقة الّذي يتعلّق بعالم الأخلاق وما لم تجتمع المدنيّتان في الهيئة الاجتماعيّة فلن يتحقّق فلاحها ونجاحها.

لاحظوا أوروبّا تروا أنّ خيمة المدنيّة الطّبيعيّة قد ضربت أطنابها في جميع الأرجاء ولكن ما أشد الظّلام في أوروبّا! فإنّ جميع الأفكار فيها متّجهة نحو التّنازع على البقاء وفي كلّ يوم سلاح جديد وزيادة في المواد المتفجّرة، فلا استقرار فيها للنّاس والنّاس فيها تحت كابوس الذّلّة والذّهول لأنّ المدنيّة الأخلاقيّة والرّوحانيّة والانجذاب بنفحات الله مفقودة فيها بصورة تامّة.

وخلاصة القول كما أنّ المربّي والمعلّم ضروريّان في عالم الطّبيعة فكذلك وجود المربّي ضروريّ ولازم في عالم الحقيقة أي في عالم الرّوح والوجدان والشّيم والأخلاق والفضائل الّتي لا منتهى لها والكمالات الحقيقيّة في عالم الإنسان، وسعادة الدّارين.

إنّ مؤسّسي المدنيّة الطّبيعيّة هم فلاسفة الأرض، أمّا معلّمو المدنيّة الحقيقيّة فهم المظاهر المقدّسة الإلهيّة. لذا لو حُرم العالم الإنسانيّ من المربّي الطّبيعي ومن المربّي الحقيقيّ فلا شكّ أنه يتدهور إلى أسفل دركات العالم الحيواني.

إنّ المدنيّة الطّبيعيّة بمثابة الزّجاج، والمدنيّة الإلهيّة بماثبة السّراج، وإنّ المدنيّة الجسمانيّة بمثابة الجسد، والمدنيّة الإلهيّة بمثابة الرّوح، وكما يحتاج الزّجاج سراجًا، يحتاج الجسد روحًا.

طالعوا رسالة جالينوس الحكيم المسمّاة (مائة رسالة) والّتي دارت حول رقيّ مدنيّة العالم الإنسانيّ تجدوا أنّه يقول فيها: "إنّ العقائد الدّينيّة من أعظم وسائل عالم المدنيّة والإنسانيّة. ففي وقتنا الحاضر هناك جماعة تسمّى بالمسيحيّين، وبما أنّها ثابتة مستقيمة على عقائدها الدّينيّة فإنّ عوام هذه الجماعة فلاسفة حقيقيّون لأنّهم يتحلّون بأخلاق وآداب لا يستطيع أن يتوصّل إليها أعظم فيلسوف إلاّ بعد مشقّة سنين طويلة في الزّهد والرّياضة الأخلاقيّة. أمّا عوام هذه الجماعة فإنّهم متحلّون بهذه الفضائل بمنتهى درجة الكمال".

إذن اتّضح أنّ العالم الإنسانيّ يحتاج إلى مربّ حقيقيّ عمومي ليجمع الأحزاب المتفرّقة في ظلّ كلمة واحدة ويسقي الملل المتخاصمة من عين واحدة وليبدّل العداوة والبغضاء بالمحبّة والولاء، والحرب والجدال بالصّلح والسّلام، كما ألّف الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بين القبائل العربيّة المتحاربة المتخاصمة المتوحّشة وربطها برابطة الوئام

وجمعها في ظلّ خيمة الوحدة ولهذا السّبب ارتقت أعراب البادية ورفعت الرّاية في عالم الكمالات المعنويّة والمادّيّة ونالت العزّة الأبديّة.

وكذلك جمع السّيّد المسيح الملل المتنافرة المتباغضة المتخاصمة من اليونان والرّومان والسّريان والكلدان والآشوريّين والمصريّين على معين واحد بعد أن كانت في منتهى البغضاء والعداوة وربطها برباط الوئام المتين.

إذن اتّضح أنّ العالم الإنسانيّ محتاج إلى مربّين ومعلّمين عموميّين وأولئك هم المظاهر المقدّسة الإلهيّة.

وقد يقول البعض : "إنّنا من الخواص ولا نحتاج إلى معلّم عموميّ" فمثل هؤلاء كمثل خواص الجيش وقوّاده إذا قالوا: "إنّنا ماهرون في فنون الحرب ولا نحتاج إلى القائد العام ولا إلى أمير اللّواء". فمن الواضح أنّ هذا القول لا أساس له فالجميع في الجيش من خواصٍ وعوام محتاجون كلّهم إلى أمير اللّواء الّذي هو المربّي العموميّ.

وهذا كافٍ وافٍ لمن ألقى السّمع وهو الشّهيد.

وعليك البهاء الأبهى.

عبد البهاء عبّاس

المصادر
المحتوى
OV