الخطبة المباركة باللّغة العربية في تونون – سويسرة

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

الخطبة المباركة باللّغة العربيّة في تونون – سويسرة

يوم الإثنين 27 آب 1911

هو الله

أيّها الحاضرون إلى متى هذا الهجوع والسّبات، وإلى متى هذا الرّجوع القهقرى، وإلى متى هذا الجهل والعمى، وإلى متى هذه الغفلة والشّقاء، وإلى متى هذا الظّلم والاعتساف، وإلى متى هذا البغض والاختلاف، وإلى متى الحميّة الجاهليّة، وإلى متى التّمسّك بالأوهام الواهية، وإلى متى النّزاع والجدال، وإلى متى الكفاح والنّزال، وإلى متى التّعصّب الجنسيّ، وإلى متى التّعصّب الوطنيّ، وإلى متى التّعصّب السّياسيّ، وإلى متى التّعصّب المذهبيّ. "ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"، هل ختم الله على القلوب أم غشت الأبصار غشاوة الاعتساف أولم تنتبه النّفوس إلى أنّ الله قد فاضت فيوضاته على العموم خلق الخلق بقدرته ورزق الكلّ برحمته وربّى الكلّ بربوبيّته، "لا ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور"، فلنتّبع الرّبّ الجليل في حسن السّياسة وحسن المعاملة والفضل والجود ولنترك الجور والطّغيان ولنلتئم التئام ذوي القربى بالعدل والإحسان ولنمتزج امتزاج الماء والرّاح ولنتّحد اتّحاد الأرواح، ولا نكاد نؤسّس سياسة أعظم من سياسة الله ولا نقدر أن نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله ولكم أسوة حسنة في الرّبّ الجليل فلا تبدّلوا نعمة الله، وهي الألفة التّامّة في هذا السّبيل. عليكم يا عباد الله بترك الاختلاف وتأسيس الائتلاف والحبّ والإنصاف والعدل وعدم الاعتساف.

أيّها الحاضرون قد مضت القرون الأولى وطُويَ بساط البغضاء والشّحناء حيث أشرق هذا القرن بأنوار ساطعة وفيوضات لامعة وآثار ظاهرة وآيات باهرة والأنوار كاشفة للظّلام دافعة للآلام داعية للائتلاف قامعة للاختلاف، إلاّ أنّ الأبصار قد قرّت وأنّ الآذان قد وعت وأنّ العقول قد أدركت أنّ الأديان الإلهيّة مبنيّة على الفضائل الإنسانيّة، ومنها الألفة والوداد بين العموم والوحدة والاتّفاق بين الجمهور. يا قوم ألستم من سلالة واحدة ألستم أفنانًا وأوراقًا من دوحة واحدة ألستم مشمولين بلحظات أعين الرّحمانيّة مستغرقين في بحار الرّحمة من الحضرة الوحدانيّة ألستم عبيدًا للعتبة الرّبّانيّة، هل أنتم في ريب أنّ الأنبياء كلّهم من عند الله وأنّ الشّرائع كلّها قد تحقّقت بكلمة الله، وما بعثهم الله إلا لتعليم وتربية الإنسان وتثقيف عقول البشر والتّدرّج إلى المعارج العالية من الفلاح والنّجاح وقد ثبت بالبرهان السّاطع أنّ الأنبياء اختارهم الله رحمة للعالمين وليسوا نقمة للسّائرين وكلّهم دعوا إلى الهدى وتمسّكوا بالعروة الوثقى حتّى أنقذوا الأمم السّافلة من حضيض الجهل والعمى إلى أوج الفضل والنّهى، فمن أمعن النّظر في حقيقة التّاريخ المنبئة الكاشفة لحقائق الأسرار من القرون الأولى يتحقّق عنده بأنّ موسى عليه السّلام أنقذ بني إسرائيل من الذّلّ والهوان والأسر والخذلان وربّاهم بتأييد من شديد القوى حتّى أوصلهم إلى أوج العزّة والعلى، ومهّد لهم السّعادة الكبرى ومَنَّ الله عليهم بعدما استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمّة من ورثة الكتاب وحملة لفصل الخطاب حتّى كان منهم عظماء الرّجال وأنبياء أسّسوا لهم السّعادة والإقبال، وهذا برهان ساطع واضح على نبوّته عليه السّلام. وأمّا المسيح الجليل كلمة الله وروح الله المؤيّد بالإنجيل فقد بعثه الله بين قوم ذلّت رقابهم وخضعت أعناقهم وخشعت أصواتهم لسلطة الرّومان فنفخ فيهم روح الحياة وأحياهم بعد الممات وجعلهم أئمّة في الأرض خضعت لهم الرّومان وخشعت لهم اليونان وطبّق الأرض صيتهم إلى هذا الأوان. وأمّا الرّسول الكريم محمّد المصطفى عليه الصلاة والتّسليم فقد بعثه الله في واد غير ذي زرع لا نبات فيه بين قبائل متنافرة وشعوب متحاربة وأقوام ساقطة في حضيض الجهل والعمى لا يعلمون من دحاها ولا يعرفون حرفًا من الكتاب ولا يدركون فصلاً من الخطاب، أقوام متشتّتة في بادية العرب يعيشون في صحراء من الرّمال بلبن النّياق وقليل من النّخيل والأعناب فما كانت بعثته عليه السّلام إلاّ كنفخ الرّوح في الأجساد أو كإيقاد سراج منير في حالك من الظّلام فتنوّرت تلك البادية الشّاسعة القاحلة الخاوية بتلك الأنوار السّاطعة على الأرجاء فانتهض القوم من رقد الضّلال وتنوّرت أبصارهم بنور الهدى في تلك الأيّام فاتّسعت عقولهم وانتعشت نفوسهم وانشرحت صدورهم بآيات التّوحيد فرتّلت عليهم بأبدع الألحان، وبهذا الفيض الجليل قد نجحوا ووصلوا إلى الأوج العظيم حتّى شاعت وذاعت فضائلهم في الآفاق، فأصبحوا نجومًا ساطعة الإشراق فانظروا إلى الآثار الكاشفة للأسرار حتّى تنصفوا بأنّ ذلك الرّجل الجليل كان مبدأ الفيض لذلك القوم الضّئيل وسراج الهدى لقبائل خاضت في ظلام الهوى وأوصلهم إلى أوج العزّة والإقبال ومكّنهم من حياة طيّبة في الآخرة والأولى، أمّا كانت هذه القوّة الباهرة الخارقة للعادة برهانًا كافيًا على تلك النّبوّة السّاطعة؟

لعمر الله إنّ كلّ منصف من البشر يشهد بملء اليقين أنّ هؤلاء الرّجال كانوا أعلام الهدى بين الورى ورايات الآيات الخافقة على صروح المجد في كلّ الجهات، وتلك العصبة الجليلة استشرقت فأشرقت واستضاءت فأضاءت واستفاضت فأفاضت واقتبست الأنوار من حيّز ملكوت الأسرار وسطعت بأنوار الوحي على عالم الأفكار، ثمّ إنّ هذه النّجوم السّاطعة من أفق الحقيقة ائتلفت واتّحدت واتّفقت وبشّر كلّ سلف عن كلّ خلف، وصدّق كلّ خلف نبوّة كلّ سلف، فما بالكم أنتم يا قوم تختلفون وتتجادلون وتتنازعون ولكم أسوة حسنة في هذه المظاهر النّورانيّة والمطالع الرّحمانيّة ومهابط الوحي العصبة الرّبّانيّة وهل بعد هذا البرهان يجوز الارتياب والتّمسّك بأوهام أوهن من بيت العنكبوت وما أنزل الله بها من سلطان؟

يا قوم البدار البدار إلى الألفة، عليكم بترك البغضاء والشّحناء، عليكم بترك الجدال، عليكم بدفع الضّلال، عليكم بكشف الظّلام، عليكم بتحرّي الحقيقة في ما مضى من الأيّام، فإذا ائتلفتم اغتنمتم وإذا اختلفتم اعتسفتم عن سبيل الهدى، وغضضتم النّظر عن الحقيقة والنّهى وخضتم في بحور الوهم والهوى إنّ هذا لضلالة مهلكة للورى، وأمّا إذا اتّحدتم وامتزجتم وائتلفتم فيؤيّدكم شديد القوى بصلح وصلاح وحبّ وسلام وحياة طيّبة وعزّة أبديّة وسعادة سرمديّة والسّلام على من اتّبع الهدى.

المصادر
المحتوى
OV