نداء الملكوت
في يوم الجمعة الموافق 29 أيلول 1911 دعت مسز كروبر ما يقرب من
أربعمائة وستين شخصيّة من شخصيّات لندن وأحبّائها لحضور حفل
الوداع الّذي أقامته لحضرة عبد البهاء في لندن. وبعد عدة خطب ألقاها
أحباؤه تكريمًا له ألقى حضرته الخطبة التّالية:
هو الله
أيّها الأحبّاء الأعزّاء طالبو ملكوت الله!
منذ ستّين عامًا، حيث اضطرمت نيران الحروب بين الأمم، وحين كان سفك الدّماء يعتبر شرفًا للعالم الإنسانيّ، وحين لطّخت وجه البسيطة دماء الآلاف، وحين تيتّم الأطفال وثكل الآباء وامتلأت نفوس الأمّهات بالحسرات، وحين أحاطت ظلمة التّعصب العنصريّ والعداوة بالبشر وحرمت النّفوس من النّور الإلهيّ، وحين بدا أن نسائم الرّحمن قد انقطعت – عند ذاك أشرق بهاء الله من أفق إيران كالنّجم السّاطع حاملاً رسالة السّلام والأخوّة بين البشر.
فقد جاء بهاء الله بنور الهداية إلى العالم، وأشعل نار المحبّة، وكشف عن حقيقة المحبوب الحقّ، وجاهد كي يحطّم أسس التّعصّبات الدّينيّة والعنصريّة والمنافسات السّياسيّة وشبّه العالم الإنسانيّ بشجرة، وشبّه الأمم بأغصانها، وشبّه النّاس بأوراقها وبراعمها وثمارها. وكان هدفه أن يحوّل تعصب الجاهليّة إلى محبّة شاملة عالية، وأن يضع في نفوس أتباعه أساس وحدة الجنس البشريّ، وأن يطبّق المساواة بين الأمم والملل تطبيقًا عمليًّا، وأعلن أنّ جميع النّاس سواسية أمام رحمة الله وعنايته، وبذلك فتح باب الملكوت على مصراعيه، وتجلّت أنوار السّماء الجديدة على الأرض لكلّ ذي عينين.
ومع ذلك فقد قضى بهاء الله كلّ حياته يقاسي من البلايا والمحن والاضطهاد، ففي إيران ألقي في غياهب السّجن وقُيّد بالسّلاسل والأغلال وعاش وحدّ السّيف المصلت() على عنقه، وأهين وضرب بالسّوط وعندما ناهز الثّلاثين من عمره نفي إلى بغداد، ومن بغداد إلى الآستانة، ومنها إلى أدرنة، وأخيرًا إلى سجن عكّا.
إلا أنّه نجح –وهو أسير القيد سجين الزّنزانة- في أن ينشر أمره ويرفع راية وحدة الجنس البشريّ. ونحمد الله الآن على أنّنا نرى نور المحبّة ساطعًا في الشّرق وفي الغرب، وخيمة الأخوّة قد ضربت بين الشّعوب والأمم لتأليف القلوب والنّفوس والأرواح.
لقد ارتفع نداء الملكوت وأيقظ ضمائر النّاس فأدركوا حاجتهم إلى السّلام العام.
وإنّني لآمل أن تجتهد القلوب الطّاهرة المخلصة في إزالة ظلام البغضاء والاختلاف والشّحناء إزالة كاملة. فإنّ هذا العالم سوف يصبح عالمًا آخر، ويصبح العالم الأدنى مرآة للعالم الأعلى، وتجتمع قلوب البشر وتتعانق، وتصبح الأرض كلّها وطنًا واحدًا، والعناصر المختلفة جنسًا واحدًا، وتنتهي المنازعات والخلافات، ويتجلّى المحبوب الإلهيّ على هذه الأرض. وكما استضاء الشّرق والغرب بنور شمس واحدة كذلك ستصبح كلّ العناصر والأمم والملل عبيدًا لإله واحد.
إنّ العالم كلّه وطن واحد، وكلّ الأمم تسبح في بحر رحمانيّة الله الواحد لو كانوا يعلمون. وإنّ الله خلق الكلّ ورزق الكلّ وربّى الكلّ في كنف عنايته. ويجب علينا أن نقتدي بالرّبّ الجليل ونقضي على كلّ المنازعات والخلافات.
الحمد لله أن قد تجلّت آثار الأخوّة: والدّليل على ذلك هو أنّني –أنا القادم من الشّرق- قد قوبلت في لندن هذه بالتّكريم والاحترام والمحبّة. وإنّني لشاكر لكم ذلك جدًّا وممتنّ وسعيد. ولن أنسى قط الوقت الجميل الّذي قضيته بينكم.
لقد تحمّلت أربعين عامًا من العذاب في سجن الأتراك، وفي سنة 1908 حطّمت تركيا الفتاة –"لجنة الاتّحاد والتّرقي"- أسوار الظّلم والطّغيان وأطلقت سراح المسجونين وأنا معهم، وأسأل الله أن يبارك كلّ من يعمل من أجل الاتّحاد والتّرقي.
وعمّا قريب ستنشر التّقارير الكاذبة عن بهاء الله لتعوق انتشار الحقّ، وأنا أقول لكم ذلك كي تنتبهوا وتستعدّوا.
والآن أودّعكم سائلاً الله أن تكون كلّ مواهب الملكوت من نصيبكم وأنا جدّ آسف لفراقكم.نوار أنو