نبذة عن تعاليم بهاء الله
في يوم السّبت الموافق 30 أيلول سنة 1911 دعت رئيسة جمعية
الثّيوسوفيّين حضرة عبد البهاء فألقى حضرته هذه الخطبة
أمام الجمع المحتشد الّذي حضر لوداعه()
هو الله
أيّها الجمع المحترم،
إنّ النّار لها لزوم ذاتيّ وهو الاحتراق، وقوّة البرق لها لزوم ذاتيّ وهو الإنارة والإبراق، والشّمس لها لزوم ذاتيّ وهو الإشراق، والتّربة لها لزوم ذاتيّ وهو الإنبات. ولا يجوز أن ينفكّ الشّيء عن لزومه الذّاتيّ. ولمّا كان التّغيّر والتّبدّل والتّحوّل والانتقال من حال إلى حال من اللّوازم الذّاتيّة لعالم الوجود – بمعنى أنّ تتابع فصول الرّبيع والصيف والخريف والشّتاء وتعاقب اللّيل والنّهار من اللّوازم الذّاتيّة لعالم الأرض- لزم أن يكون بعد كلّ ربيع خريف وبعد كلّ صيف شتاء وبعد كلّ نهار ليل؛ وبعد كلّ صباح مساء.
وحينما انهدم أساس الأديان الإلهيّة، وفسدت أخلاق العالم الإنسانيّ وانعدم كلّ أثر للنّورانيّة السّماويّة، واختلّت المحبّة بين البشر وسيطرت ظلمة العناد والجدال والقتال، وطغى برد الجمود والخمود، وأحاطت الظّلمة كلّ الجهات طلع حضرة بهاء الله من مشرق إيران مثل كوكب الآفاق فسطعت أنوار الهداية الكبرى، وفاضت النّورانيّة السّماويّة، وأقام التّعاليم البديعة وأسّس فضائل العالم الإنسانيّ، وأظهر الفيوضات السّماويّة، وجلى القوّة الرّحمانيّة، وروّج في عالم الوجود المبادئ التّالية:
الأساس الأوّل هو تحرّي الحقيقة: فلقد تشبّثت جميع الأقوام بتقاليد العوام، ولذلك اختلف بعضهم عن بعض اختلافًا شديدًا وما زالوا في نزاع وجدال. غير أنّ ظهور الحقيقة يكشف هذه الظّلمات ويؤسّس وحدة الاعتقاد. ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.
والأساس الثّاني هو وحدة العالم الإنسانيّ. فجميع البشر مشمولون بألطاف الرّبّ الجليل الأكبر وهم عباد الله الواحد ويترعرعون في ظلّ ربوبيّته وهي الّتي شملتهم جميعًا بالرّحمة. وإنّ التّاج الإنسانيّ لزينة لرأس كلّ عبد من عبيد الله. لهذا يجب أن نرى جميع الطّوائف والملل أنّ بعضها أخوة لبعض، وأنّهم أغصان وأوراق وبراعم وأثمار لشجرة واحدة. ذلك لأنّ الجميع أبناء لأب واحد هو آدم، ولآلئ مكنونة في صدف واحد. وكلّ ما في الأمر أنّهم بحاجة إلى التّربية، بعضهم غافلون جاهلون وهؤلاء تجب هدايتهم، وبعضهم مرضى وينبغي علاجهم، وبعضهم أطفال وتجب تنشئتهم بين أحضان العطف وأكتاف الحنان حين يبلغوا أشدّهم، ولا بدّ من صقل قلوبهم حتّى تشرق هذه القلوب وتنير.
والأساس الثّالث هو أنّ الدّين أساس الألفة والمحبّة وبنيان الارتباط والوحدة، فلو كان الدّين سبب العداوة لما وهب للنّاس الألفة بل لكان أورثهم العداوة، ولكان عدمه أفضل من وجوده ولرجحت كفّة تركه على التّشبث به.
والأساس الرّابع هو أن الدّين والعلم توأمان لا انفكاك لأحدههما عن الآخر، فهما للإنسان بمثابة الجناحين للطّائر يطير بهما، ومن الواضح أنّ جناحًا واحدًا لا يكفي للطّيران، وكلّ دين يتجرّد من العلم فهو تقليد لا اعتقاد، ومجاز لا حقيقة، ولذلك كان التّعليم فريضة من فرائض الدّين.
والخامس وهو أنّ التّعصّب الدينيّ والتّعصّب العنصريّ والتّعصّب الوطنيّ والتّعصّب السّياسيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ. وحقيقة الأديان الإلهيّة واحدة، لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد، وجميع الأنبياء في غاية الائتلاف والاتّحاد. فحكم النّبوّة كحكم الشّمس، تطلع في كلّ فصل من مطلع. ولهذا السّبب بشّر كلّ سلف بخلفه وصدّق كلّ خلف سلفه: "لا نفرّق بين أحد من رسله".
والسّادس هو المساواة والأخوّة التامّة بين البشر وأنّ العدل ليقتضي أن تُحفظ جميع حقوق النّوع الإنسانيّ وتُصان، وأن تتعادل الحقوق العامّة. وهذه القاعدة من اللّوازم الذّاتيّة للهيئة الاجتماعيّة.
والسّابع تعديل معيشة الجنس البشريّ حتّى ينجو الجميع من العوز والحاجة، ويستقرّ حال كلّ فرد بقدر الإمكان وبقدر اقتضاء رتبته ومكانته. فكما يتدلّل الأمير ويتقلّب في بحبوحة النّعمة كذلك يجب أن يجد الفقير قوت يومه، ويتحرّر من الذّلّة الكبرى ولا يحرم إثر شدّة الجوع من نعمة الحياة.
والثّامن هو الصّلح الأكبر فجميع الملل والدّول يجب أن يجدوا الرّاحة والطّمأنينة في ظلال سرادق الصّلح الأكبر. وهذا يستلزم أن تقوم جميع الدّول والملل بتأسيس محكمة كبرى عن طريق الانتخاب العام، لتفصل في نزاع الدّول وخلاف الملل وذلك حتّى لا تنتهي هذه الخلافات بالحروب.
والأساس التّاسع هو أنّ الدّين منفصل عن السّياسة لا صلة له بها ولا دخل له فيها. بل إنّ الدّين مختص بعالم الأخلاق، وهو أمر روحانيّ ووجداني متعلق بالقلوب لا الأجسام. ويجب على رجال الدّين أن ينصرفوا إلى تربية النّاس وتعليمهم وترويج الأخلاق الحميدة، وألاّ يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة.
والأساس العاشر هو تربية النّساء وتعليمهنّ ورفعهنّ ورعاية حرمتهنّ لأنّهنّ شريكات الرّجال وسهيماتهم في الحياة، وهنّ من حيث الإنسانيّة متساويات معهم.
الأساس الحادي عشر هو الاستفاضة من فيوضات الرّوح القدس حتّى تتأسّس المدنيّة الرّوحانيّة. لأنّ المدنيّة المادّيّة وحدها لا تكفي ولا تكفل سعادة الإنسان. وإذا كانت المدنيّة المادّيّة بمثابة الجسم فالمدنيّة الرّوحانيّة بمثابة الرّوح. والجسم لا يمكن أن يحيا بلا روح.
هذه نبذة عن تعاليم حضرة بهاء الله، وفي سبيل تأسيسها وترويجها تحمَّل كلّ مشقّة وعناء، فقد كان مسجونًا دائمًا ومعذّبًا أبدًا، وكان في غاية التّعب والإرهاق. إلاّ أنّه في السّجن رفع قواعد هذا الإيوان الرّفيع. وفي ظلمات الحبس ألقى على الآفاق بهذا النّور السّاطع البرّاق.
وإنّ أقصى آمال البهائيّين هو تنفيذ هذه التّعاليم وإجراؤها، وإنّهم ليبذلون جهدهم الأقصى لكي يضحّوا بذواتهم فداء لهذا المقصد حتّى تضيء الآفاق الإنسانيّة بالأنوار السّماويّة.
هذا وإنّني لمسرور غاية السّرور، لأنّني اتّحدث إليكم في هذا المحفل المحترم، ولي كبير الأمل في أن تكون إحساساتي الوجدانيّة مقبولة لديكم وإنّني لأدعو لكم بالتّأييد والتّوفيق إلى أعظم مواهب العالم الإنسانيّ.