الاعتماد على الملكوت السّماويّ
في يوم السّبت الموافق 14 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزل مسيو دريفوس في باريس:
هو الله
هذه هي المرّة الثّانية الّتي أحضر فيها مجمع الأحبّاء في باريس. والحمد لله إنّني أرى وجوهًا منيرة وآذانًا صاغية وقلوبًا منجذبة بنار محبّة الله. ولهذا فإنّ قلبي مسرور لأنّنا- والحمد لله- قد عقدنا في هذه المدينة هذا الاجتماع لمحبّة الله. والواقع أنّ مدينة باريس قد بلغت في المدنيّة نهاية الرّقيّ، وأصابت في جميع الشّؤون المادّيّة النّجاح والفلاح. وبلغت من ذلك منزلة جعلتها أشبه بالمرآة الّتي تنعكس على صفحتها صور المدنيّة الّتي لا تتناهى، ولقد كان من المؤسف أن تظلّ هذه المرآة محرومة من نور الشّمس الحقيقيّة، ولكن نحمد الله إنّ نور شمس الحقيقة انعكس على هذه المرآة فكانت كبلّور في نهاية الصّفاء، ومع ذلك فإنّه من المؤسف ألاّ يشتعل بداخله سراج المحبّة، وكانت كبستان في غاية الجمال ولكنّه ظلّ محرومًا من رشحات أمطار العناية. فالحمد لله على أنّ غمام الملكوت يسقيه اليوم. وآمل أن يصبح في نهاية اللّطف والطّراوة. ولقد أضاء شمع محبّة الله في هذا البلّور بحيث بلغ الأطراف شعاعه. وعمّا قريب ستلاحظون أنّ الغرب سيصير شرقًا من أنوار حضرة بهاء الله، وسوف يهطل غمام رحمة الرّحمن وتهتزّ به جميع القلوب وتنمو وتزدهر، وسوف تحرّك البشارات الإلهيّة جميع الأفئدة. لقد كانت هذه الأجسام تلتمس القوّة الرّوحانيّة والحمد لله أن قد أشرقت بارقة الصّبح السّماويّ. ولقد كانت هذه الأقطار مثل إنسان في نهاية الجمال إلا أنّه دون روح. والحمد لله أن دبّت فيه الرّوح الأبديّة. سوف يزداد رقيّه يومًا بعد يوم حتّى يأتي يوم يرتفع فيه نداء يا بهاء الأبهى من جميع هذه الصّحارى والقرى والوديان. أمّا الآن فإنّ ما حدث لا يتجاوز بارقة صبح جديد قد تنفسّت. على أنّ هذا الصّبح يعقبه طلوع الشّمس، وعند ذاك تستنير جميع الآفاق.
ولمّا كانت باريس مركزًا عظيمًا فأملي أن تصبح مركزًا للسّنوحات الرّحمانيّة وتستنير جميع بلاد الفرنجة من نورها.
وكان مقدّرًا منذ بداية العالم أن يسري النّور الإلهيّ دائمًا من الشّرق إلى الغرب إلاّ أنّه كان في الغرب يسطع سطوعًا شديدًا. تأمّلوا مثلاً دعوة السّيّد المسيح - روحي فداه- فقد ظهر في الشّرق ولمّا وجه ضوءه النّورانيّ إلى الغرب انتشر نور الملكوت في الغرب انتشارًا أعظم. وأملي أن تسطع اليوم أنوار حضرة بهاء الله في الغرب سطوعًا شديدًا، وأن يكون كلّ فرد منكم شمعًا منيرًا ونجمًا بازغًا، وأن يكون كالشّجرة المثمرة. ذلك أنّ مواهب ملكوت حضرة بهاء الله عظيمة، وبحر رحمة الرّحمن زاخر موّاج، والألطاف الإلهيّة الّتي لا نهاية لها أحاطت الشّرق والغرب جميعًا.
فلا تنظروا إلى ضعف استعداداتكم بل اعتمدوا عى الملكوت الأبهى، فإنّ الملكوت الأبهى يجعل من الذّرّة شمسًا ومن القطرة محيطًا، ومن الضّعيف قويًّا، ومن الجاهل عالمًا، ومن الأعمى بصيرًا، ومن الأبكم ناطقًا ومن الأصمّ سميعًا. ذلك هو شأن فيوضات الملكوت الأبهى. لهذا فليكن اعتمادكم على الملكوت الأبهى ولا تلقوا بالاً للياقتكم الشّخصيّة تأمّلوا في ما حدث من قبل، فبطرس كان صيّادًا، وكذلك كان سائر الحواريّين، كان أحدهم نجّارًا، وكان الآخر صبّاغًا إلا أنّهم –بفضل الفيض الإلهيّ وعناية السّيّد المسيح- جلسوا على سرير السّلطنة الأبديّة وفازوا بالحياة الأبديّة، وسطعوا من الملكوت الأبهى، ووجدوا فيوضات لا تتناهى وذلك لأنّهم لم ينظروا إلى استعداداتهم الخاصّة. وكانت مريم المجدليّة امرأة قرويّة فلمّا شملتها الألطاف الإلهيّة أصبحت مريم المجدليّة المجيدة فأشرقت من أفق العزّة الأبديّة إلى أبد الآباد، إنّ فضل الله لواسع، وعناياته لكثيرة، وخزائن قدرته لمليئة. وإنّ الله الّذي أنعم عليهم هو الّذي ينعم عليكم أيضًا، فلا تنقص خزائنه. لذلك يجب أن تطمئنّوا جميعًا إلى العنايات الإلهيّة حتّى تصبحوا أنتم أيضًا من الفائزين بها.
اللّهم يا ربي ورجائي ومعيني ومنائي. أسألك بفضلك الّذي أحاط الموجودات وبرحمتك الّتي سبقت الممكنات أن تُنزل علينا في هذه اللّيلة النّوراء جزيل مواهبك، واجعلنا يا إلهي مشمولين بلحظات عين رحمانيّتك ومستغرقين في بحار نور فردانيتك ومبتهلين إلى ملكوت صمدانيّتك ومتضرّعين إلى أفق ألطافك. ربّي إنّ هؤلاء عباد وإماء قد اجتمعوا في هذا المحفل الرّوحانيّ مبتهلين إلى ملكوتك، مشتعلين بنار محبّتك، منجذبين بنور معرفتك، ومتموّجين كالبحور بأرياح موهبتك، متذلّلين إلى ملكوت رحمانيّتك. ربّي أيّدهم بشديد القوى وأنزل عليهم الرّحمة من السّماء. واجعلهم آيات توحيدك ورايات تقديسك بين الورى وسرجًا لامعة بنور العرفان ساطعة بأنوار الهدى بين أهل الوفاء. إنك أنت الكريم. إنك أنت الرّحيم إنك أنت العزيز القديم.