بيان معنى الأب في الابن والابن في الأب

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

بيان معنى الأب في الابن

والابن في الأب

في ليلة الخميس الموافق 20 تشرين الأوّل ألقيت

هذه الخطبة في منزل مسيو دريفوس في باريس

هو الله

الحمد لله على أنّ هذا المجمع نورانيّ، كم تتشكّل جمعيّات وتتألّف محافل في باريس، إمّا لنشر المعارف وإمّا للتّباحث في توسيع التّجارة وإمّا لأجل التّقدّم الصّناعيّ، وإمّا لتبادل الرّأي في شؤون السّياسة. وجميع هذه المجامع والمحافل مفيدة ومقبولة لأنّها سبب الرّقي المادّيّ في عالم الوجود. وأمّا مجمعنا هذا فمجمع رحمانيّ غايته التّوجّه إلى الملكوت الرّبّانيّ، وحصول الإحساسات الرّوحانيّة وترويج وحدة العالم الإنسانيّ، والسّعي لإزالة التّعصّب من بين الملل والمذاهب، وإحلال المحبّة في جميع القلوب. لهذا نأمل أن يمتاز هذا المجمع عن سائر المجامع وأن يكون مقبولاً لدى الله.

ورد في التّوراة أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وورد في الإنجيل قوله "الأب في الابن والابن في الأب"، وذكر محمّد رسول الله أنّ الله تعالى قال: "الإنسان سرّي وأنا سرّه"، وقال حضرة بهاء الله على لسان الله تعالى: "فؤادك منزلي قدّسه لنزولي، وروحك منظري طهّرها لظهوري". وهذه الكلمات جميعًا تدلّ على أنّ الإنسان مثال إلهيّ، وصورة ربّانيّة. إلاّ أنّ حقيقة الألوهيّة بذاتها خارجة عن نطاق إدراك البشر. ذلك لأنّ الإدراك فرع من فروع الإحاطة. فالإنسان لا يحيط بشيء إلاّ إذا أدركه. ولمّا كان الله سبحانه وتعالى محيطًا ولا يمكن أن يحاط به لذلك فإنّ إدراك الإنسان له مستحيل وممتنع ومحال، لأنّ المحيط أعظم من المحاط. وعلى ذلك فإدراكات الإنسان الّتي هي محاطة بالإنسان والإنسان بها محيط لا يمكن أن تكون هي حقيقة الألوهيّة لأنّ عقل البشر ليس في طاقته ولا بمقدوره أن يدرك حقيقة الذّات الإلهيّة، ولهذا فكلّ ما يخطر بتصوّر الإنسان مخلوق مثله وليس خالقًا، بل هو صورة فكريّة من صنع الإنسان.

ولو أنّنا دقّقنا النّظر في الكائنات لوجدنا أنّ تفاوت مراتبها يحول دون إدراكها بعضها البعض مع أنّ جميعها مخلوقة. فهذا الجماد مخلوق وهذا النّبات وهذا الحيوان كلاهما من المخلوقات أيضًا. ومع ذلك فلا يمكن للجماد أن يدرك القوّة النّامية في النّبات. وكذلك الحال في النّبات، فإنّه مهما ارتقى وتقدّم فإنّه لا يستطيع أن يدرك عالم الحيوان، ولا يمكن للنّبات أن يتصوّر قوّة السّمع والبصر، وذلك بالرّغم من أنّ الجماد والنّبات كليهما مخلوقان وكذلك شأن الحيوان فإنّه لا يستطيع أن يتصوّر قوّة الإنسان الفكريّة. وفي الإنسان قوّة عاقلة. وهذه القوّة العاقلة الكاشفة تكشف عن حقائق الأشياء. وإذا قيل إنّ الحيوان يدرك المحسوس هو الآخر، لأجبنا أنّه لا يدرك الشّيء غير المحسوس. إذ لا يمكنه أن يتصوّر مركزيّة الشّمس وحركة الأرض، ولا يستطيع أن يتصوّر الصّور المرئيّة في المرآة، ولا يستطيع أن يكشف القوّة الكهربائيّة ولا آلة التّصوير أو آلة البرق أو الحاكي أو التّلفون أو السّينما. فهذه المكتشفات يختصّ بها الإنسان. كلّ ذلك بالرّغم من أنّ الحيوان والإنسان كليهما مخلوقان حادثان.

ثبت إذن أنّ تفاوت مراتب المخلوقات يحول دون إدراكها بعضها لبعض بمعنى أنّ الرّتبة الأدنى لا تستطيع أن تدرك الرّتبة الأعلى. فإذا كان تفاوت المراتب في عالم الخلق يحول دون إدراك بعض الخلق للبعض الآخر فكيف يمكن للحادث أن يدرك القديم، فمن المؤكّد إذًا أنّه لا يدركه. فإذا كان الأمر كذلك فإنّ كلّ ما يخطر بتصوّر الإنسان لا يمكن أن يكون هو الله. تعالت حقيقة الألوهيّة عن ذلك تعاليًا كبيرًا.

ولكن لما كانت جميع الكائنات وجميع الموجودات محتاجة إلى فيض الوجود كان لا بدّ أن يصدر عن الحضرة الإلهيّة فيض يكون سببًا لحياة الكائنات. لهذا أشرقت على الكائنات فيوضات أسمائها وصفاتها. وهذا الفيض الإلهيّ شامل لجميع الكائنات مثله في ذلك مثل شعاع الشّمس الفائض على جميع الأشياء، إذ تنمو جميع الأشياء بفيض الشّمس وتعيش جميع الكائنات الأرضيّة على حرارة الشّمس. ولكن سائر الكائنات في الحقيقة هي في منزلة الحجر والمدر لا حياة فيها والإنسان هو الكائن الّذي له نفس وروح وعقل. ولا ريب في أنّ نصيب الإنسان من الفيض الإلهيّ أعظم لأنّه ممتاز على جميع الكائنات. فالجماد له وجود جماديّ لأنّه جسم إلاّ أنّه ليس له كمال النّبات، والنّبات له وجود نباتيّ، ولكن ليست لديه قوّة الحسّ، بمعنى أنّه لا يبصر ولا يسمع. وللحيوان قوّة الحسّ، ولكن ليست لديه القوّة العاقلة. أمّا الإنسان فجامع لجميع الكمالات جامع للوجود الجسمانيّ وجامع للقوّة النّباتية وجامع للقوّة الحيوانيّة وجامع للحواس. وفضلاً عن ذلك فإنّ لديه القوّة العاقلة. ولذلك فالإنسان ممتاز على جميع الكائنات. ولمّا كان ممتازًا على جميع الكائنات فإنّ نصيبه من فيض شمس الحقيقة أعظم ولا سيّما نصيب الفرد الكامل في العالم الإنسانيّ. وهو الفرد الكامل الّذي يعدّ سائر الأفراد بالقياس إليه في أدنى درجات الإدراك. وهذا الفرد الكامل هو المظهر الإلهيّ. وهو بمنزلة المرآة الصّافية الّتي يتلألأ فيها نور الحقيقة أعظم التّلألؤ وأسنى اللّمعان. بل إنّ شمس الحقيقة لتتجلّى فيها بصورتها ومثالها وحرارتها وضيائها وتمامها وكمالها. حتّى إنّنا لنشاهد الشّمس في تلك المرآة. ولهذا قال السّيّد المسيح: الأب في الابن. وهو يعني أنّ الشّمس ظاهرة في هذه المرآة. ولم يكن يعني بهذه العبارة أنّ الشّمس تنزّلت من علوّ تقديسها ودخلت في المرآة. ذلك لأنّ الدّخول والحلول من خصائص الأجسام وحقيقة الألوهيّة منزّهة ومقدّسة عن الإدراك. إلاّ أنّ أنوار شمس الحقيقة الّتي تنطلق إلى مظاهر الظهور تكون في غاية الظّهور والبروز.

هذه هي حقيقة مسألة الألوهيّة، يقبلها كلّ عقل ويذعن لها كلّ إدراك وإنّ الله البرّ العطوف لم يكلّف عباده بأن يبحثوا في أمور خارجة عن دائرة العقل وإذا كنّا نحن العباد لا نكلّف نفسًا أمرًا غير معقول فكيف يكلّفنا الله الرّحمن الرّحيم الاعتقاد بأمور غير معقولة.

وإذا نحن أخذنا هذه المسألة بموجب التّقاليد المتوارثة بين المسيحيّين وجدنا أنّها غير معقولة. أمّا إذا تحرّينا الحقيقة وجدناها محقّقة ومعقولة. وإذا أنتم دقّقتم النّظر في ما بيّنته لكم وجدتم المسألة واضحة مشروعة بحيث لا يمكن أن ينكرها أحد.

إنّني هذه اللّيلة في مجمعكم. وإنّني لمسرور من ملاقاتكم. إلاّ أنّني أرجو أن يصير كلّ فرد منكم –بإذن اللّه- شمعًا نورانيًّا ومركزًا للمحبّة الرّحمانيّة وأن تلهم قلوبكم بالإلهامات الإلهيّة، وتكتحل عيونكم بمشاهدة الآثار.

إنّ مدينة باريس هذه في غاية الجمال. إلاّ أنّه أتى عليها حين طويل من الدّهر لم تسطع فيه الأنوار الرّوحانيّة. ولهذا تخلّفت من النّاحية الرّوحيّة. ولا بدّ لها من قوّة عظيمة حتّى تهبّ عليها نسمة من نفثات الرّوح القدس. إنّ المرض العارض يمكن علاجه بالوسائل العاديّة. وأمّا المرض المزمن فلا بدّ له من ترياق فاروق وأدوية قويّة ناجعة. ولنأخذ مثلاً هذه الفواكه الّتي هي أمامنا الآن، إنّ بعضها ينضج بحرارة قليلة تعادل عشر درجات، وبعضها الآخر ينضج بعشرين درجة، وغيرها بخمسين. ولكنّ باريس تحتاج إلى ألف درجة من الحرارة كي تبعث فيها الحركة. ولنأخذ مثلاً آخر الفتيل يشعل بمجرد أن تمسّه النّار، وأمّا الحطب فلا يشتعل بهذه السّرعة. فباريس بحاجة إلى قوّة روحانيّة عظيمة حتّى تؤثّر فيها. فلو أنّنا عملنا بموجب التّعاليم الإلهيّة الّتي نزلت على جميع الأنبياء لأحدث ذلك تأثيرًا شديدًا. وهذه التّعاليم هي أن نتخلّى عن جميع التّعصّبات المذهبيّة والعنصريّة والوطنيّة والسّياسيّة، ونترك التّقاليد ونظهر المحبّة والمودّة لجميع البشر وجميع الطّوائف ونخدم وحدة العالم الإنسانيّ، ونعترف بأنّ جميع الخلق هم عباد الله ومظاهر ألطاف الرّبّ الجليل. وكلّ ما في الأمر أنّ بعضهم بمنزلة الأطفال الرّضّع فينبغي علينا أن نسعى في سبيل تعليمهم، وبعضهم مريض علينا أن نداويهم ونعالجهم، وبعضهم عميان وعلينا أن نجعلهم يبصرون ولا ريب أنّ العالم الإنسانيّ يفوز عندئذٍ بالإشراق والاتّحاد والاتّفاق.

وإنّني لأدعو الله من أجلكم. وقد سررت اللّيلة غاية السّرور من ملاقاتكم فإنّني أرى أقوامًا مختلفين قد اجتمعوا هنا وهم في منتهى الألفة والمحبّة. والواقع أنّ مثل هذه المجالس باعث على السّرور، ولا يمكن لإنسان ألاّ يكون مسرورًا. انظروا كيف اجتمعت الأقوام المختلفة في مكان واحد وبهذه المحبّة والصّداقة وبهذا الوئام والاتّفاق. إنّ هذا سبب سرور كلّ إنسان إلاّ من فقد الإنصاف وإنّكم لتلاحظون أنّ الإنسان يسرّ إذا وجد بعض الحيوان قد اجتمع وتآلف. فما بالكم بمقدار سروره وابتهاجه إذا رأى نفوسًا مختلفة الجنس مختلفة الأوطان مختلفة العادات قد اجتمعت مع بعضها البعض على الألفة والمحبّة والوداد. وإنّني لأتوجه إلى أعتاب الأحديّة بكمال العجز والافتقار ضارعًا أن يأتلف البشر كألفتكم حتّى يصبح الجنس البشريّ كلّه أسرة واحدة، وأن يجتمع جميع الخلق في محفل واحد يلهجون –وهم في كمال الألفة وفي كمال الصّفاء وفي كمال الصّدق- بشكر الله الفرد الأحد ولهذا فإنّني أدعو لكم فأقول:

إلهي إلهي. ترى هؤلاء العباد وهؤلاء الإماء قد انجذبوا بنفحات القدس في هذا الأوان، ولبّوا لندائك بين الأنام. ربِّ إنّ هؤلاء عباد أودعت في قلوبهم آية الهدى، وهديتهم إلى ملكوتك الأبهى ونزّلت عليهم من سحاب رحمتك الفيض الشّامل والغيث الهاطل. ربِّ قد غشت الأبصار حجبات الاعتساف وغفلوا عن ذكرك يا خفيّ الألطاف. وأمّا هؤلاء قرّت أعينهم بمشاهدة آيات توحيدك وطابت نفوسهم بالاستفاضة من غمام تقديسك، وصفت ضمائرهم بتجلّيات جمالك، ونوّرت سرائرهم بظهور ألطافك. ربِّ قدّر لهم كلّ خير في ملكوتك. وصوّرهم بصور الملأ الأعلى بين الورى، حتّى يكونوا آيات توحيدك الباهرة على الأشياء ورايات تقديسك الخافقة في كلّ البلاد. ربِّ اجعلهم كلمات كتابك وارزقهم من نعمائك، واسبغ عليهم نعمتك واجعلهم ينادون بالملكوت في صقع الإمكان وسُرُجًا منيرة في زجاج النّاسوت بنور الإيمان والإيقان . إنّك أنت المقتدر العزيز الغفور العطوف الرّحمن.

المصادر
المحتوى
OV