العلم يحطّم أغلال الطّبيعة
في يوم الأربعاء الموافق 25 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء في منزله المبارك في باريس الخطبة التّالية:
هو الله
العلم أعظم فضائل العالم الإنسانيّ وهو سبب ظهور الفيض الإلهيّ. والعلم كاشف الأسرار وهو كالمرآة الّتي ترتسم فيها صور الأشياء. العلم يعطي كلّ إنسان معلومات عن جميع الأشياء، ويجعل كلّ فرد من البشر كأنّه جميع البشر. ذلك لأنّ العلم يعلم الإنسان جميع ما اكتشفه البشر أي جميع المعلومات الّتي يمتلكها البشر. والعلم هو الّذي يمكّن الإنسان من الاطّلاع على جميع وقائع الأزمنة السّابقة. وهو الّذي يمكّنه من أن يكشف أسرار المستقبل.
وإنّكم لتلاحظون أنّ جميع الكائنات –كبيرة كانت أم صغيرة- أسيرة للطّبيعة. فالشّمس مثلاً أسيرة للطّبيعة وكذلك جميع السّيّارات وجميع النّجوم أسيرة للطّبيعة. والعناصر أسيرة للطّبيعة والجماد والنّبات والحيوان أسرى للطّبيعة ولا يمكنها أن تتجاوز عن مقتضيات الطّبيعة. فالشّمس بكل عظمتها لا يمكنها أن تتجاوز مدارها ولا إرادة لها فهي أسيرة للطّبيعة. والوحوش والطّيور أسيرة الطّبيعة. والمحيط بكلّ عظمته أسير للطّبيعة. والكرة الأرضيّة أسيرة الطّبيعة فلا يمكنها أن تتجاوز قانون الطّبيعة أدنى تجاوز.
أمّا الإنسان فحاكم على الطّبيعة بحيث إنّه يستطيع أن يحطّم قواعدها وأحكامها ويتحكّم فيها. فالإنسان - بمقتضى الطّبيعة - مخلوق ترابيّ مثل سائر الحيوانات، ومقامه ومقرّه التّراب. وبالرّغم من أنّه ليس بذي روح هوائيّ ولا مائيّ إلاّ أنّه يتخطّى قانون الطّبيعة فهو يجول على سطح البحر ويقطع المحيط الأكبر. وهو يطير في الهواء ويسير تحت الماء. وقوّة الكهرباء هذه الّتي تشاهدونها -بالرّغم من أنّه لا قوّة أشد عصيانًا وتمرّدًا منها بحيث لو أصابت جبلاً لاخترقته حتّى الأساس- إلاّ أنّ الإنسان يأتي بها ويحبسها، وفي دقيقة يتفاهم بها الشّرق والغرب. والإنسان يستطيع أن يحبس الصّوت الطّليق في آلة، وأن يثبّت صورة الإنسان رغم أنّها ظلّ زائل. وجميع هذه الأمور خارقة للطّبيعة. وهذا هو معنى قولنا: إنّ الإنسان حاكم على الطّبيعة. فمن أين استحصل الإنسان على هذه الفضيلة؟ لقد تأتّت له من العلم.
اتّضح إذن أنّ العلم هو أعظم الفضائل الإنسانيّة. وأنّ خرق العادات وهتك قوانين الطّبيعة منوط بالعلم. أمّا وقد وهب الله للإنسان هذه القوّة وهذا الاستعداد اللّذين يخرق بهما قوانين عالم الطّبيعة فإنّه لمن المؤسف أن يضيّع الإنسان هذه الموهبة في الأمور الضّارّة. من المؤسف أن يجريها في قنوات البغض والعداوة. من المؤسف أن يسخّرها للظّلم والتّعدّي. إذ يجب على الإنسان أن يبذل هذه القوّة في سبيل إحياء النّفوس، وأن يسخّرها للخير العام، ويستخدمها في الصّلح والصّلاح، ويحصرها في تعمير العالم وراحة النّفوس، وترويج الألفة والمحبّة بين البشر. وهذه هي الموهبة الّتي تتزيّن بها حقيقة الإنسان.
وإنني لآمل أن يوفّق الجميع إلى هذه الموهبة الكاملة، وأن تحصروا همكم في أن يتلقّى النّاس العلم، وأن يحصّلوا العلوم والفنون. وتحصيل العلم لا يرتبط بزمان، فهو يبدأ مع بداية الحياة وينتهي بنهايتها. وبواسطة العلم يصبح المتعلّمون سببًا لمحبّة من على الأرض وعلّة للصّلح الأكبر إلى أن يتداعى بنيان الحرب بعون الله وعنايته، ويوضع أساس الصّلح والمحبّة وتفوزوا بالنّجاة في الدّارين.
وإنّني لأدعو الله أن يوفّقكم في هذا السّبيل.