الرّوح القدس سبب المحبّة الجامعة
في يوم الخميس الموافق 26 تشرين الأوّل سنة 1911
ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية أمام الأحبّاء الّذين
اجتمعوا في بيته المبارك في باريس
هو الله
بالرّغم من أنّ المحبّة قائمة في عالم المادّيّات إلا أنّها فيه محدودة. فوسائط المحبّة وروابطها موجودة في العالم الجسمانيّ، إلا أنّ الوسائط المادّيّة محدودة في حين أنّ حقيقة المحبّة غير محدودة. فكيف يمكن، بالوسائل المحدودة، أن تتمّ الحقيقة غير المحدودة؟
ومن بين وسائط المحبّة في العالم المادّيّ الرّباط العائليّ. ولكن من المعلوم أن هذا الرّباط محدود إذ كثيرًا ما نجد في العائلة الواحدة نهاية البغض والعداوة. ومن المعلوم أيضًا أنّ المحبّة لا تتمّ بصورة كاملة بروابط قابلة للانفصال. إذن أصبح واضحًا أنّ الرّباط العائلي ليس كاملاً ومن جملة الرّوابط أيضًا الرّباط الوطنيّ. فالمحبّة والألفة قد تنشآن بين بعض النّاس على أساس أنّهم أهل وطن واحد. لكن هذا الرّباط لا يكفي لأنّه أوّلاً محدود بالوطن، وثانيًا لأنّه قد يحدث بين أهل الوطن الواحد أشدّ أنواع البغض والعداوة. والرّوابط العنصريّة - من ناحية ثالثة محدودة، إذ من المحتمل أن تقع العداوة بين أبناء الجنس الواحد. ومن الرّوابط الاتّحاد رابعًا وحدة المصالح: وهذه تزول عندما تختلف المصلحة. والسّبب الخامس للألفة والمحبّة الوحدة السّياسيّة. وقد يأتي وقت تندثر فيه هذه الوحدة السّياسيّة.
إذن أصبح من المعلوم والمحقّق أن الرّوابط المادّيّة ليست كافية لإحداث الألفة بين البشر، وأنّ الأمر محتاج إلى قوّة من نوع آخر تجعل جميع البشر يتآلفون وتورثهم منتهى المحبّة، كما ينبغي أن تكون هذه القوّة غير محدودة.
ولا شكّ أنّ هذه القوّة هي قوّة الرّوح القدس. إذ إنّها هي سبب الوحدة الّتي تجمع جميع البشر تحت ظلّ كلمة واحدة، ولا قوّة غير هذه القوّة الملكوتيّة تستطيع أن تجعل جميع البشر مجتمعًا واحدًا وتقيم روابط المحبّة على أساس متين.
لهذا ينبغي علينا جميعًا أن نسعى ونجتهد كي تشعّ النّوراية الإلهيّة بين البشر. فالنّورانيّة السّماويّة تبعث ضوءًا يربط بين قلوب جميع البشر ربطًا كاملاً قويًّا. وهذا هو أساس المحبّة الحقيقيّة، إذ لا تحصل المحبّة بلا سبب.
وإنّني أنصحكم وأوصيكم فأنا الآن بينكم أيّامًا معدودة أترككم بعدها بألاّ تكونوا أسرى المادّيّات. وأن تتحرّروا من القيود المادّيّة. فالحيوان أسير للمادّة أمّا الإنسان فليس أسير المادّيّات لأنّ الله تعالى حرّره منها.
وإذا أمعنتم النّظر وجدتم أنّ جميع الكائنات أسيرة لعالم الطّبيعة فلا يمكنها التّجاوز عنه أبدًا. أمّا الإنسان فطليق من الأسر، وهو يخرق الطّبيعة. فأنتم تلاحظون مثلاً أنّ الإنسان –بمقتضى الطّبيعة- مخلوق ترابيّ إلاّ أنّه يطير في الهواء وهذا مخالف للطّبيعة. وهو يجول على سطح البحر، ويسير تحت الماء وهذا خارق لقانون الطّبيعة العام. وحقائق الأشياء –بمقتضى الطّبيعة- سرّ مكنون ورمز مصون، إلاّ أنّ الإنسان يدركها بقوّته الكاشفة، وبهذه القوّة يبرزها من حيّز الغيب إلى حيّز الوجود. وكل هذه أدلّة على أنّ الإنسان ليس أسيرًا للطّبيعة بل هو خارق لها.
لهذا ينبغي لكم أن تتوسّلوا القوّة الإلهيّة كي تبرزوا وحدة العالم الإنسانيّ إلى حيّز الوجود. ولا تلقوا المحبّة في قلوب النّاس بالقوى المادّيّة ولكن بالوسائط والرّوابط المعنويّة. ولا تجعلوا سبب محبّتكم لإنسان ما وحدة العائلة أو وحدة الوطن أو وحدة الجنس. بل يجب أن تحبّوا النّاس لوجه الله. أحبّوا كلّ إنسان كامل ولو لم يكن من أبناء وطنكم أو من أفراد عائلتكم، وبهذه الوسيلة تستطيعون أن تخدموا العالم الإنسانيّ وتجعلوه نورانيًّا، وأن تهدموا بنيان ظلمات العداوة والبغضاء، فيجتمع جميع البشر تحت ظلّ علم الوحدة الإنسانيّة وتصل إليكم التّأييدات السّماويّة، وتفيض عليكم الفيوضات الرّبّانيّة إلى أن تصبحوا ملكوتيّين رحمانيّين. فابذلوا جهودكم من أجل أن يتحقّق هذا الأمر.
لا تقولوا قط هذا إنجليزيّ وذاك ألمانيّ وذاك فرنسيّ أو إيطاليّ لا تجروا هذا القول على ألسّنتكم قط. بل أنتم جميعًا عبيد الله وإماء الرّحمن هذا هو ميزان الكلّ. وفي محفل الألفة لا يعرف الفرنسيّ من التّركيّ ولا الألمانيّ من الإنجليزيّ أو الإيرانيّ أبدًا.
فإذا ركّزتم فكركم في هذا فلا شكّ أنّ الله يرضى عنكم وتصل إليكم التّأييدات السّماويّة، لا تنظروا إلى استعداداتكم فإنّ تأييدات الله ستصل إليكم. وأنا نفسي كنت رجلاً ضعيفًا مسجونًا إلاّ أنّ التّأييد الإلهيّ وصل إليّ بحيث الآن أعاشركم بالرّوح والرّيحان في باريس آملاً نشر نفحات الله.
فلنتوجّه إلى الله، وإن نظرنا لأنفسنا نخجل لأنّنا لا نملك الاستعداد واللّياقة. وأمّا إذا نظرنا إلى قوّة الملكوت جاءنا الأمل والرّجاء، ولم ترهقنا أية مشقّة مهما عظمت والسّلام.