الخلاف الدّينيّ وإثبات نبوّة سيّدنا محمّد

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

الخلاف الدينيّ وإثبات نبوّة

سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسّلام

في يوم الجمعة الموافق 27 تشرين الأوّل 1911

ألقى حضرة عبد البهاء هذه الخطبة أمام الّذين معه

في منزل مسيو دريفوس في باريس

هو الله

لمّا كانت تعاليم حضرة بهاء الله تدعو إلى توحيد جميع البشر وإيجاد منتهى الألفة والاتّحاد في ما بينهم لذلك يجب أن نبذل كلّ ما في وسعنا كي يزول سوء التّفاهم القائم بين الملل. كما يجب أن نبحث قليلاً في سوء التّفاهم الواقع بين الأديان حتّى إذا زال سوء التّفاهم هذا تمّ الاتّحاد الكلّيّ وحصل منتهى الألفة بين جميع الملل.

إنّ السّبب الأصلي لهذا الاختلاف والجدال هو علماء الملل. ذلك لأنّ كلّ فريق من هؤلاء قد أفهم رعيّته أنّ الله غضب على سائر الملل فحرمها من رحمة الرّحمن.

لقد اتفق لي وأنا بطبريّة أن كنت أسكن بجوار معبد لليهود إذ كان المنزل الّذي أنزل فيه مشرفًا عليه. ورأيت حاخام اليهود يعظ ويقول: يا أمّة اليهود! أنتم شعب الله وبقية الأمم شعب غيره. خلقكم الله من سلالة إبراهيم ووهب لكم الفيض والبركة، وفضّلكم على سائر العالمين. اختار منكم إسحاق وبعث يعقوب واصطفى يوسف وأرسل موسى وهارون وسليمان وداود وإشعيا وإيليا. وجميع هؤلاء الأنبياء من شعبكم. ومن أجلكم أغرق آل فرعون وشقّ البحر وأنزل لكم مائدة من السّماء، وأجرى لكم من الصّخر ماء. فأنتم عند الله مقرّبون. إنّكم أبناء إسرائيل أي أبناء الله الممتازون على جميع الملل وسوف يأتي المسيح الموعود وعندئذٍ تعتزّون وتحكمون جميع ملل العالم. وأمّا سائر الملل فيرتدّون مخذولين مرذولين، وقد فرح اليهود من قوله هذا وسرّوا سرورًا لا يمكن وصفه.

وكذلك الحال بالنّسبة لجميع الملل. فسبب اختلافهم ونزاعهم وجدالهم هو علماؤهم. ولكن لو تحرّى هؤلاء عن الحقيقة لحدث الاتّفاق والاتّحاد بلا شكّ. ذلك لأنّ الحقيقة واحدة ولا تقبل التّعدّد.

فيا طالبي الحقيقة

إنّ كلّ ما سمعتوه حتّى الآن من الرّوايات في حقّ سيّد الكائنات سيّدنا محمّد عليه السّلام كان منبعثًا عن الغرض والتّعصب الجاهل. ولم يكن مطابقًا للحقيقة قط. وها أنا اليوم أبيّن لكم الحقيقة الواقعة. ولن نروي لكم الرّوايات ولكنّنا سنتحدّث بميزان العقل. ذلك لأنّ وقائع الأزمنة السّابقة لا بدّ من وزنها بميزان العقل. فإن طابقته قُبلت وإلاّ كانت غير أهل لأن تُعتمد.

أوّلاً إنّ ما تقرأونه من طعن بسيّدنا الرّسول عليه السّلام في كتب الكهنة يشبه الكلام الّذي يقال في السّيّد المسيح في كتب اليهود. لاحظوا ماذا قيل في السّيّد المسيح وهو برغم ما هو عليه من العظمة والجلال وفي الوقت الّذي بعث فيه بوجه صبيح ونطق فصيح.

يلاحظ اليوم أنّ نصف أهل العالم من عبدة الأصنام والنّصف الآخر قسمان: القسم الأعظم من المسيحيّين والقسم الثّاني من المسلمين أمّا بقية الملل الأخرى فقليلة. ولذلك فهذان القسمان هما المهمّان. ولقد استمر النّزاع والجدال ألفًا وثلاثمائة سنة بين المسلمين والمسيحيّين في حين أنّ سوء التّفاهم هذا يمكن أن يزول بأمر يسير وتحلّ محلّه الألفة فلا يبقى جدال ولا نزاع ولا قتال. وهذا ما نريد أن نبيّنه.

عندما بعث سيّدنا محمّد عليه السّلام اعترض أوّل ما اعترض على عشيرته الأقربون إذ لم يؤمنوا بالتّوراة والإنجيل. وهذا منصوص في القرآن وليس من الرّوايات التّاريخيّة. قال لِمَ لَمْ تؤمنوا بجميع النّبيّين ولماذا لم تؤمنوا بالنّبيّين الثّمانية والعشرين الّذين ورد ذكرهم في القرآن. والقرآن ينصّ على أنّ التّوراة والإنجيل من كتب الله، وأنّ سيّدنا موسى كان نبيًّا عظيمًا، وأنّ السّيّد المسيح ولد من الرّوح القدس، وأنّه كلمة الله، وأنّ السّيّدة مريم مقدّسة. لا بل إنّ القرآن ينصّ على أن السّيّدة مريم لم تكن مخطوبة لأحد، وأنّها كانت معتكفة منزوية في قدس الأقداس بأورشليم، وأنّها كانت منقطعة للعبادة ليل نهار، وأنّ مائدة من السّماء كانت تأتي إليها. وكان كلّما دخل عليها زكريا أبو يحيى المحراب ووجد عندها رزقًا فيسألها من أين لك هذا يا مريم فتجيب مريم هو من عند الله من السّماء. ونصّ القرآن أيضًا على أن السّيّد المسيح تكلّم في المهد وأنّ الله اصطفى مريم وفضّلها على نساء العالمين.

هذه هي نصوص القرآن حول السّيّد المسيح.

وقد لام سيّدنا محمّد عليه السّلام قومه ووبّخهم إذ لم يؤمنوا بالمسيح وموسى. فقالوا إذا آمنا بالمسيح وموسى والتّوراة والإنجيل فماذا نفعل بآبائنا وأجدادنا الّذين نفتخر بهم؟ فقال سيّدنا محمّد من لم يؤمن بالمسيح وموسى فهو من أهل النّار. هذا نصّ القرآن وليس من روايات التّاريخ. بل إنّه قال لا تستغفروا لآبائكم ودعوا أمرهم لله فإنّهم لم يؤمنوا بالسّيّد المسيح ولا بالإنجيل، هكذا لام محمّد قومه.

وقد بُعث سيّدنا محمّد في وقت لم يكن فيه لدى هذه الأقوام مدنيّة ولا تربية ولا إنسانيّة وبلغ توحّشهم درجة أنّهم كانوا يدفنون بناتهم أحياء، وكانت النّساء لديهم أحطّ من الحيوان وكانوا يتعطّرون ببول الأبل ويشربونه. بين هؤلاء النّاس بعث سيّدنا محمّد. فربّى هذه الأقوام الجاهلة بحيث تفوّقوا على سائر الطّوائف في زمن قصير. فأصبحوا علماء من أهل المعرفة والدّراية والصّناعة. ونصّ القرآن يقول بأنّ النّصارى أودّاؤكم، ولكن عليكم أن تمنعوا بشدة عبدة الأصنام من العرب عن عبادة الأصنام والهمجيّة. هذه هي حقيقة الإسلام. فلا تنظروا إلى أفعال بعض أمراء الإسلام. ذلك لأنّ أعمالهم لا صلة لها بسيّدنا محمّد. اقرأوا التّوراة لتجدوا كيف كانت الأحكام. ثمّ انظروا ماذا فعل ملوك اليهود. واقرأوا الإنجيل تروا أنّه رحمة بحتة. فقد منع السّيّد المسيح النّاس جميعًا من الحرب والقتال. وحين سلّ بطرس سيفه أمره السّيّد المسيح بأن يعيد السّيف إلى غمده. أمّا الأمراء المسيحيّون كم سفكوا من الدّماء وكم ظلموا النّاس كذلك حكم الكثير من القساوسة بما يخالف تعاليم السّيّد المسيح.

مقصدي من هذا هو أن المسلمين يعترفون بأنّ السّيّد المسيح هو روح الله وكلمة الله وأنّه مقدّس واجب التّعظيم، وأنّ موسى كان نبيًّا عظيم الشّأن وصاحب آيات باهرات، وأنّ التّوراة كتاب الله.

وخلاصة القول إنّ المسلمين يكنّون للمسيح ولموسى أقصى التّمجيد والتّقديس. فلو قابل المسيحيّون نبيّ الإسلام بالمثل فقدّسوه ومجّدوه إذن لزال هذا النّزاع. فهل ينتكس إيمان المسلمين؟ أستغفر الله ماذا لحق بالمسلمين من أذى أو ضرر لتمجيدهم السّيّد المسيح؟ وأيّ ذنب اقترفوا؟ إنّهم على العكس أصبحوا مقرّبين إلى الله لأنّهم إذ أنصفوا وقالوا إنّ السّيّد المسيح روح الله وكلمة الله. ثمّ أليست نبوّة محمّد ثابتة بالدّلائل الباهرة؟

من بين البراهين على نبوّة سيّدنا محمّد القرآن الّذي أوحى الله به إلى شخص أمّيّ وإحدى معجزات القرآن أنّه حكمة بالغة، وأنّه يقيم شريعة في غاية الإتقان كانت بمثابة روح لذلك العصر. وفضلاً عن ذلك فقد بيَّن من المسائل التّاريخيّة والمسائل الرّياضيّة ما خالف القواعد الفلكيّة الّتي سادت في ذلك الزمان. ثمّ ثبت أنّ منطوقه كان حقًّا.

في زمان محمّد كانت قواعد بطليموس الفلكيّة مسلّمًا بها في الآفاق وكان كتاب المجسطي هو أساس القواعد الرّياضيّة عند جميع الفلاسفة إلا أنّ منطوقات القرآن جاءت مخالفة لتلك القواعد الرّياضيّة المسلّم بها. ولهذا عمَّ الاعتراض بأنّ آيات القرآن هذه دليل على عدم الاطّلاع. إلا أنّه بعد مرور ألف سنة اتّضح من تحقيق الرّياضيّين وتدقيقهم أنّ كلام القرآن مطابق للواقع، وأنّ قواعد بطليموس الّتي كانت أساسًا لأفكار آلاف الرّياضيّين والفلاسفة في اليونان والرّومان وإيران باطلة.

فمثلاً من بين مسائل القرآن الرّياضيّة تصريحه بحركة الأرض وقد كانت قواعد بطليموس تقرّر أنّ الأرض ساكنة. وكان الرّياضيّون القدامى يقولون بأنّ الشّمس تتحرّك حركة فلكيّة. فجاء القرآن وبيّن أن حركة الشّمس محوريّة، وقال بأنّ جميع الأجسام الفلكيّة والأرضيّة متحرّكة. ولهذا فإنّه حين قام الرّياضيّون المحدثون بالتّحقيق والتّدقيق في المسائل الفلكيّة واخترعوا الآلات والأدوات لهذه الغاية، وكشفوا الأسرار ثبت وتحقّق أنّ منطوق القرآن الصّريح صحيح، وأنّ جميع الفلاسفة والرّياضيّين القدامى كانوا على خطأ.

والآن لا بدّ من الإنصاف، ماذا يعني أن يخطئ آلاف الحكماء والفلاسفة والرّياضيّين من الأمم المتمدّنة رغم الدّرس والتّحصيل في المسائل الفلكيّة، وأن يتوصّل شخص أمّيّ من قبائل بادية العرب الجاهليّة -لم يسمع باسم الرّياضيّات- إلى حقيقة المسائل الفلكيّة الغامضة ويحلّ مثل هذه المشكلات الرّياضيّة رغم أنّه نشأ وترعرع في الصّحراء بواد غير ذي زرع! لا شكّ أنّ هذه القضيّة خارقة للعادة. وأنّها حصلت بقوّة الوحي.

ولا يمكن الإتيان ببرهان أشفى من هذا ولا أكفى. وهذا غير قابل للإنكار.

المصادر
المحتوى
OV