الإنسان مرآة ممثّلة للحقّ
في يوم الإثنين الموافق 6 تشرين الثّاني ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:
هو الله
لقد جئت قادمًا من الشّرق إلى الغرب. وكنّا نسمع ونحن في الشّرق أنّ أهل الغرب ليست لديهم إحساسات روحانيّة. إلاّ أنّني ألاحظ الآن أنَّ لديهم –والحمد لله- مثل هذه الإحساسات، بل إنّ إحساساتهم الرّوحانيّة تفوق إحساسات أهل الشّرق، إلاّ أنّه لم يتيسّر لهم مربّ روحانيّ حتّى الآن. فلو ظهر في الغرب مربّون روحانيّون كما ظهر في الشّرق لاتّضح ما للغرب من تفوّق روحيّ. ولو أنّ التّعاليم الّتي اشتهرت في الشّرق اشتهرت في الغرب لعرف اليوم مدى الرّوحانيّة الّتي كانت تظهر في الغرب.
وإنّني لعلى يقين أنّ استعداد أهل الغرب للرّوحانيّات عظيم وإن وجد فيه بعض من حرموا من الرّوحانيّات على الإطلاق، فكانوا مثل الحجارة الّتي لا تدرك شيئًا من الرّوحانيّات. ويريد هؤلاء أن يكون الإنسان شبيهًا بالحيوان فكما أنّ الحيوان محروم من الرّوحانيّات كذلك يحرم الإنسان. يجب أن تكون همّة الإنسان عالية، وأن يتّجه نحو العلاء حتّى يبلغ عالم الرّحمن. ولكن هؤلاء النّاس يجتهدون في أن يرتقي الإنسان ارتقاءً معكوسًا، ويريدون أن يصلوا نسب الإنسان بالقرد
بالرّغم من أنَّ الإنسان من سلالة إلهيّة مقدّسة، وهذا هو غاية همّتهم.
وما أبعد أفكارهم عن الصّواب! فالواقع أنّه ليس بين الإنسان والحيوان أيّ تشابه برغم اشتراكهما في بعض الأمور الجسمانيّة. فللإنسان عقل وأفكاره وعلومه ومعارفه ترتقي يومًا بعد يوم وإنّكم لتلاحظون مدى الرّقيّ الّذي حقّقه الإنسان منذ القرون الوسطى حتّى اليوم، ومقدار الاكتشافات والبدائع الّتي ظهرت على يديه. ولو أنّنا قارنّا بين جميع الصّناعات والعلوم والاكتشافات الّتي تمّت في خمسين قرنًا وبين صناعات هذا القرن واكتشافاته لوجدنا أنّها لا تكاد تعادل ما تمّ منها في سنة واحدة لهذا العصر. فما تحقّق منذ أيّام موسى وحتّى القرن الحالي من العلوم والصّناعات والاكتشافات لا يعادل ما ظهر منها في القرن الأخير وحده.
أصبح من الواضح إذًا أنّ الإنسان في رقيّ دائم، وسبب هذا الرّقي تلك القوّة العاقلة، وقوّة الفيوضات الإلهيّة. أمّا الحيوان فإنّه لا يملك هاتين القوّتين بمعنى أنّ حيوان اليوم هو نفسه حيوان خمسة آلاف سنة مضت. وليس هناك امتياز للإنسان أعظم من هذا الامتياز. وواضح أنّ الإنسان أشرف المخلوقات وأنّه مرآة ممثّلة للحقّ.
ولمّا كنت قد لاحظت وجود الإحساسات الرّوحانيّة في هذه البقاع لذلك فإنّني مسرور جدًّا. وأملي أن يصبح الغرب شرقًا، وأن تعمّ الإحساسات الرّوحانيّة فيه وتحيط بأرجائه، وأن يصل إلى النّفوس –بواسطة تعاليم حضرة بهاء الله- من القوّة ما يضيء الغرب كالشّرق.
اللّهم يا واهب العطاء، ويا غافر الخطأ، ويا راحم الضّعفاء من عبادك الأصفياء، تراني واقفًا بين يديك مبتهلاً إليك ناظرًا إليك. أسألك برحمتك الّتي سبقت الممكنات بأن تؤيّد هؤلاء على ما تحبّ وترضى. ونوّر قلوبهم بنور الهدى وأسمعهم نداء ملكوتك الأبهى، واجعل لهم نصيبًا من بحر العطاء ثمّ استقمهم على أمرك بين الورى لئلاّ تزعزعهم أرياح الاختلاف من أولي الاعتساف.
ربّ اجعلنا آيات رحمتك بين خلقك. ورايات معرفتك بين عبادك. ونفوسنا منقطعة إليك، وقلوبنا منجذبة بآيات تقديسك، وأيّد هؤلاء الضّعفاء برحمتك الكبرى، وهؤلاء الفقراء بموهبتك العظمى. ربِّ إنّك حنّان على كلّ فقير، ومنّان لكلّ أسير، ومعين لكلّ ضعيف، ومغيث لكلّ ذليل. ترانا أذلاّء ببابك، فقراء إلى ملكوت غنائك. فارحمنا بفضلك وجودك. واعفُ عنّا خطايانا بفضلك وعنايتك. إنّك أنت الكريم. إنّك أنت المقتدر القدير.