في مجمع الرّوحانيّين

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

في مجمع الرّوحانيّين

في يوم الخميس الموافق 9 تشرين الثّاني سنة 1911 دعي

حضرة عبد البهاء إلى مجمع الرّوحانيّين بقاعة سان جرمان

21 شارع ريو كلمبيد في باريس وقد أثنى رئيس المجلس

على البهائيّين ثناءً عاطرًا فألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية:

هو الله

إنّني ممتنّ من أقوال الرّئيس ومشاعره القلبيّة غاية الامتنان. وأشكر الله إنّني حضرت في مثل هذا المجمع الرّوحانيّ في باريس.

فلو نظرنا الآن إلى جوّ هذا المجلس بمنظار الحقيقة لوجدناه مملوءًا بالرّوح ولوجدنا الفيوضات السّماويّة شاملة له محيطة به، ولشاهدنا تأييدات الرّوح القدس. فالحمد لله على أنّ هذه القلوب فيّاضة بالإحساسات الرّوحانيّة، تتردّد فيها اهتزازات الرّوح. فالرّوح بمنزلة المحيط وهذا المجمع بمنزلة الأمواج. وبالرّغم من أنّ الأمواج متعدّدة إلا أنّها منبعثة من محيط واحد. وبالرّغم من أنّها في ظاهرها مختلفة الصّور والأشكال إلاّ أن وحدة الرّوح تتجلّى فيها. لقد أتى جميع الأنبياء وجميع المظاهر الإلهيّة المقدّسة لتربية البشر كي تتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ وتبرز، فلا يبقى للأمواج أيّ أثر، وإنما الشّأن يكون شأن المحيط. ذلك لأنّ الرّوح كالمحيط والأجسام كالأمواج.

ولقد ورد في الإنجيل –كما ذكر رئيس المجمع- أنّ أورشليم تنزل من السّماء. ولا شكّ أنّ أورشليم السّماويّة هذه ليست حجرًا وجصًّا وطينًا بل هي التّعاليم الإلهيّة الّتي تتجلّى بين البشر بقوّة الرّوح. ولمّا كانت قد انقضت مدّة طويلة نسيت فيها التّعاليم الإلهيّة ولم يعد هناك أيّ أثر لنورانيّة أورشليم السّماويّة لذلك ظهر بهاء الله من الشّرق، وأورشليم السّماويّة الّتي هي التّعاليم الإلهيّة تجلّت في إيران وسائر الأقطار.

ومن المعلوم أنّ أورشليم السّماويّة هي التّعاليم السّماويّة النّازلة من السّماء وبالرّغم من أنّ أورشليم هذه انهدمت من أساسها فقد تأسّست مرّة أخرى. وقد تغلّبت القوى الجسمانيّة والقوى المادّيّة في الغرب بينما الغلبة في الشّرق للقوى الرّوحانيّة. والحمد لله فإنّني أرى في باريس جمعًا محترمًا يعيش بنفحات الرّوح. فالإنسان لا يكون إنسانًا بجسمه، إنّما الإنسان إنسان بروحه، ذلك لأنّ الجسمانيات يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، أم الرّوح فيمتاز بها الإنسان على الحيوان. تأمّلوا كيف يضيء شعاع الشّمس الأرض كذلك تضيء الرّوح الأجسام. إنّها الرّوح الّتي تجعل الإنسان سماويًّا، هي الرّوح الّتي تجعله يستفيض من نفثات الرّوح القدس، هي الرّوح الّتي تكشف حقائق الأشياء، هي الرّوح الّتي أظهرت كلّ هذه الآثار، وهي الرّوح الّتي أسّست كلّ هذه العلوم، هي الرّوح الّتي وهبت الحياة الأبديّة، هي الرّوح الّتي توحّد الملل المختلفة. هي الرّوح الّتي تجمع الشّرق والغرب، هي الرّوح الّتي تجعل العالم الإنسانيّ عالمًا ربّانيًّا. ولهذا فالمستفيضون من قوّة الرّوح هم سبب حياة العالم. فالحمد لله على أنّكم مستفيضون من عالم الرّوح، ولا شكّ أنّكم مسرورن ومبتهجون من تعاليم بهاء الله الّذي هو مؤسّس الرّوحانيّات ذلك لأنّ تعاليم بهاء الله روحانيّة محضة.

وأوّل هذه التّعاليم تحرّي الحقيقة. وتحرّي الحقيقة سبب ظهور الرّوح. ذلك لأنّ الرّوح لا تحسّ بالقوّة المحسوسة. وإنّما تظهر وتتجلّى بالقوى الباطنيّة. وبالرّغم من أنّ جسم الإنسان محسوس إلاّ أنّ روحه مخفيّة وهي متحكّمة في الجسد. وللرّوح تصرّفان: أحدهما بواسطة الآلات والأدوات بمعنى أنّها ترى بالعين وتسمع بالأذن وتتكلّم باللّسان. وبالرّغم من أنّ هذه الآلات تعمل، إلا أنّ المحرّك هو الرّوح. وبالرّغم من أنّ هذه الأدوات تتعلّق بالجسد إلاّ أنّها تعمل بقوّة الرّوح. وأمّا التّصرّف الثّاني فيتمّ دون الآلات، ففي عالم الرّؤيا ترى الرّوح بلا عين، وتسمع بلا أذن، وتنطق بلا لسان، وتمشي بلا قدم. وجميع القوى الرّوحانيّة تظهر وتتجلّى في عالم الرّؤيا دون وساطة الجسم.

إذن صار معلومًا أنّ الرّوح لها تصرّفان، أحدهما بواسطة آلات الأجسام كالعين والأذن وغيرها، وثانيهما بدون الآلات. والدّليل على ذلك أن الجسم قد يكون في الغرب إلاّ أنّ الرّوح تكشف حالات الشّرق وتدير فيه الأمور وتسيّرها.

من ذلك يثبت ويتحقّق أنّ الرّوح عظيمة وأنّ الجسد إذا ما قيس بها فهو حقير. فالجسم بمثابة البلّور والرّوح النّور. ومهما بلغ البلّور من الصّفاء إلاّ أنّ ظهور جماله وتجلّيه لا يتحقّق إلاّ بالضّياء والنّور. والنّور ليس محتاجًا إلى البلّور لأنّه مشعّ ومضيء. إلاّ أنّ البلّور محتاج إلى النّور كي يضيء ويظهر جماله. وكذلك فالرّوح ليست محتاجة إلى الجسم، بل إنّ الجسم هو المحتاج إلى الرّوح. والرّوح لا تحيا بالجسم أمّا الجسم فلا يحيا إلا بالرّوح. لاحظوا كيف يتناقص الجسم في حين تبقى الرّوح على عظمتها وقوّتها. إذا بترت يد الإنسان مثلاً فإنّ الرّوح تظلّ على ما هي عليه من قدرة وسلطة. وإذا عميت عين الإنسان بالعمى فإنّ بصيرته تظلّ على ما هي عليه. أمّا إذا انقطعت فيوضات الرّوح عن الجسد فإنّ الجسد ينعدم على الفور.

ثبت إذن أنّ الإنسان بروحه لا بجسده، وهذه الرّوح فيض من الفيوضات الإلهيّة، وإشراق من إشراقات شمس الحقيقة. ولكنّ هذه الرّوح الإنسانيّة إذا ما تأيّدت بالرّوح القدس – ونفثات الرّوح القدس هي التّعاليم الإلهيّة- أصبحت روحًا حقيقيّة، وعندئذٍ تفوز بالحياة الأبديّة، وتظفر بالنّورانيّة السّماويّة. ويتنوّر العالم الإنسانيّ بالفضائل الرّحمانيّة.

فيجب علينا أن نجتهد في العمل بموجب تعاليم بهاء الله، وأن نسعى في أن نزداد روحانيّة يومًا بعد يوم، ونزداد نورانيّة ونزداد خدمة لوحدة العالم الإنسانيّ، وأن نجري المساواة بين البشر وننشر الرّحمة الإلهيّة ونقدّم محبّة الله إلى جميع من على الأرض حتّى تتجلّى القوّة الرّوحانيّة غاية التّجلّي ولا يعود هناك للأجسام شأن. وإنّما يكون الشّأن شأن الأرواح. عند ذاك يصير عالم البشر في حكم النّفس الواحدة، وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ ولا يبقى نزاع ولا اختلاف. وتتأسّس أورشليم الإلهيّة على أساس متين. ويصبح جميع البشر من أهل الملكوت، ويفوزون بنصيب من الفيوضات الإلهيّة.

وبعد – فإنّي أشكر الله على أنّني حضرت مجمعكم، وإنّني أعبّر لكم عن امتناني لإحساساتكم الرّوحانيّة، وأدعو لكم أن تزداد هذه الإحساسات يومًا بعد يوم، وأن يزداد هذا الاتّحاد والاتّفاق حتّى يظهر ويتّضح ما أخبر به الأنبياء في الكتب. ذلك لأنّ هذا العصر عصر عظيم، وهذا القرن قرن ربّاني. وجميع ما ذكر في الكتب ظهرت آثاره. فما تفضّل به السّيّد المسيح بانت علاماته، فاليوم هو يوم الرّبّ الجليل. وسوف يتجلّى العدل الإلهيّ في نهاية الأمر، وهذا العصر هو عصر الصّلح والصّلاح، وهذا العصر هو عصر الاتّحاد والنّجاح، والمأمول في هذا العصر أن يصبح العالم النّاسوتي انعكاسًا للعالم اللاّهوتيّ، هذا هو أملنا. والحمد لله إنّنا في هذا الأمل متّفقون. نسأل الله أن يحيا الجميع بنفثات الرّوح القدس، وأن نتّفق، وتمتلئ قلوبنا من محبّة الله، وتشتغل ألسنتنا بذكر الله، وتصبح أعمالنا أعمال الرّوحانيّين، وإحساساتنا إحساسات الملكوتيّين حتّى يلوح ويسطع النّور الإنسانيّ الّذي هو المثال الإلهيّ.

اللّهم يا رؤوف يا كريم يا رحيم. نوّر هذا الجمع بشمع المحبّة. وأحيي هذه النّفوس بنفثات الرّوح القدس. وهب لهم أنوار السّماء. وابذل لهم الموهبة الكبرى، وابعث لهم بالتّأييدات الغيبيّة، ويسّر لهم المكاشفات الرّوحانيّة. نوّر الأبصار بنور الهدى، واشرح الصّدور بالفيوضات اللاّنهائيّة. وبشّر الأرواح الكبرى وتوّج النّفوس بالموهبة العظمى. أيربِّ نحن فقراء فيسّر لنا كنز الملكوت. وأَذلاّء فأعزّنا في ملكوتك، مشرّدون فآوِنا في ملجئك وملاذك. جاهدون فاهدنا بألطافك الّتي لا تتناهى. ساكتون فهب لنا النّطق الفصيح. عاجزون فأحسن إلينا بالقدرة الملكوتيّة، اللّهم يا غفّار اغفر لنا خطايانا، وهب لنا العطاء، وكفّر عنا سيّئاتنا. وعلّمنا من الآداب الرّحمانيّة. إنّك أنت المعطي الباذل الرّحيم.

المصادر
المحتوى
OV