وحدة الإنسانيّة
في يوم السّبت الموافق 11 تشرين الثّاني 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:
هو الله
بالأمس ذكرنا أوّل ما يجب على الإنسان فعله هو تحرّي الحقيقة. وفي سبيل هذا الأمر يتوجّب على الإنسان أن ينسى ما سمعه وما ورثه من الآباء والأجداد، أو اقتبسه من الأفكار، وأن يساوي بين أديان الأرض ولا ينحاز إلى دين معيّن ولا ينفر من غيره كي يتمكّن من أن يميّز الدّين الّذي مقرون بالحقيقة. فإذا تحرّى الحقيقة على هذا النّحو فلا بدّ أن يدركها في النّهاية.
والأساس الإلهيّ الثّاني هو الوحدة الإنسانيّة، بمعنى أنّ جميع البشر هم عباد الله الأكبر، وأنّ الله خالق الكلّ ورازق الكلّ ومحيي الكلّ، كما أنّه رؤوف بالكلّ. وجميع النّاس يكوّنون الجنس البشريّ. فالتّاج الإنسانيّ زينة لكلّ رأس وخلعة الموهبة الإلهيّة جمال لكلّ هندام والكلّ عباد الله. وهو بهم جميعًا رؤوف رحيم، وعنايته تشمل الكلّ. لا يفرّق بين مؤمن وكافر، بل يرحم الكلّ ويرزقهم. هذه هي الصّفة الرّحمانيّة الإلهيّة. لهذا لا يمكننا أن نفضّل إنسانًا على آخر لأنّ الخاتمة مجهولة. وكلّ ما في الأمر أنّ بعض النّاس ما زالوا كالأطفال لم يصلوا إلى مرحلة البلوغ. وهؤلاء يجب علينا أن نربّيهم حتّى يبلغوا أشدّهم أو أن بعضهم مرضى يجب علينا أن نعالجهم حتّى يظفروا بالشّفاء. أو أنّ بعضهم جاهل يجب تعليمهم حتّى يعلموا ويدركوا. ولا ينبغي أن نعتبر هؤلاء أشرارًا وننفر منهم بل يجب علينا أن نكون أشدّ رأفة بهم لأنّهم أطفال أو مرضى أو جهلاء.
دقّقوا النّظر في عالم الوجود تجدوا أنّ الألفة هي سبب الوجود وأنّ المحبّة هي سبب الحياة، وأنّ الانفصال سبب الممات.
دقّقوا النّظر في جميع الكائنات، فهذا الخشب مثلاً أو هذا الحجر تركّبا من العناصر، أيّ أنّ الذّرّات تآلفت وامتزجت حتّى برز هذا الخشب وهذا الحجر إلى حيّز الوجود، ولو لم تتحقّق هذه الألفة لكانا في العدم. فالعناصر أو الأجزاء الفرديّة تتم بينها الألفة وتتركّب وبذلك توجد الكائنات، فإذا اضطرب أمر هذه الألفة تحلّل التّركيب وتلاشى.
وكذلك تآلفت الذّرّات وامتزجت، وارتبطت واجتمعت لتحقّق ظهور الإنسان، وعندما يتطرّق إلى هذه العناصر التّحليل والتّفريق يتلاشى جسد الإنسان.
من هذا يتّضح أنّ الألفة والمحبّة سبب الحياة، وأنّ النّفور والاختلاف والفرقة سبب الممات. هذه هي الحال في جميع الكائنات.
فالجنس البشريّ إذن عباد الله، ويجب أن تتحقّق بينهم الألفة والمحبّة، وأن ينفروا من البغض والعداوة.
ولو لاحظتم الحيوانات الأليفة لوجدتم أنّها في غاية الألفة. أمّا الحيوانات الكاسرة كالذّئب والضبع والنّمر فتعيش منفردة منعزلة وفي غاية التّوحّش، وهكذا لا يعيش ذئبان ذكران في غار واحد، في حين يجتمع ألف رأس من الغنم في مكان واحد، ولا ينزل صقران في عشّ واحد، في حين تأوي ألف حمامة إلى وكر واحد. فالحيوانات الأليفة هي حيوانات مباركة، لأنّ الألفة والمحبّة دليل على البركة. في حين أنّ النّفور دليل على الهمجية.
وقصارى القول إنّ حضرة بهاء الله أعلن وحدة العالم الإنسانيّ كي يعيش البشر مع بعضهم البعض كما يعيش الأخ والأخت والأم والابن والابنة والأب معًا. وإنّني لآمل أن تضعوا تعاليم حضرة بهاء الله بشأن وحدة العالم الإنسانيّ موضع التّنفيذ. يقول حضرة بهاء الله: إذا كان لكم –لا قدّر الله- عدوّ فلا تعتبروه عدوًّا بل عدّوه صديقًا، وعاملوه كما تعاملون الصّديق. وهو يؤكّد على ذلك كي تتحقّق الألفة بين جميع البشر.
أيّدكم الله.