المكافأة والمجازاة
في يوم الجمعة الموافق 17 تشرين الثّاني 1911
ألقيت هذه الخطبة في منزل مسيو دريفوس:
هو الله
ينبغي للإنسان في هذا العالم أن يعلّق أمله بالمكافأة وأن يشعر بالخوف من المجازاة، وبخاصّة موظفو الحكومة ومن بيدهم أمور الدّولة والشّعب. فإذا لم يتعلّق أمل موظفي الحكومة بالمكافأة ولم يشعروا بالخوف من المجازاة فإنّهم لن يعدلوا أبدًا. مثل المكافأة والمجازاة كمثل العمودين ترتفع عليهما خيمة العالم. ولهذا يجب أن يكون رادع موظفي الحكومة عن الظّلم هو الخوف من المجازاة والأمل في المكافأة.
وإنّكم لترون أنّ الحكومة الاستبداديّة ينعدم فيها الخوف من المجازاة والأمل في المكافأة. ولذلك فإنّ الأمور في مثل هذه الحكومة لا تدور على محور العدل والإنصاف.
والمكافأة والمجازاة نوعان: أحدهما المكافأة والمجازاة السّياسيّة، والآخر المكافأة والمجازاة الإلهيّة، ولا شكّ أنّ الإنسان إذا جمع بين الاعتقاد في المكافأة والمجازاة الإلهيّة والاعتقاد في المكافأة والمجازاة السّياسيّة كان أكمل من غيره لأنّ خوف الله وخشية المجازاة مانع ورادع عن الظّلم، ومعنى ذلك أنّه إذا توفّر الرّادع المعنويّ والسّياسيّ كان ذلك أكمل ولا شكّ. والموظفون القلائل الّذين يخشون انتقام الدّولة والعذاب الإلهيّ يحرصون على إجراء العدالة حرصًا أكبر. ولا شكّ أنّه إذا توفّر لدى أحد النّاس الخوف من العقاب الأبديّ والأمل في المكافأة الأبديّة بذل هذا الإنسان غاية الهمّة في إجراء العدل واجتناب الظّلم. ذلك لأنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه إذا ظلم في هذا العالم ناله العذاب الإلهيّ في العالم الباقي تجنّب الظّلم والاعتساف وخاصّة إذا شفع هذا الاعتقاد بأنّه إذا اجرى العدل كان مقرّبًا لدى العتبة الإلهيّة، وفاز بالحياة الأبديّة ودخل الملكوت الإلهيّ واستنار وجهه بأنوار الفضل والعناية.
ومعنى ذلك أنّ موظفي الدّولة إذا كانوا متدينيّن كان حالهم أفضل لأنّهم عندئذٍ يكونون مظاهر خشية الله. وليس مقصودي من هذا الكلام أنّ للدّين دخلاً بالسّياسة. إذ ليس للدّين أيّة علاقة ولا دخل في الأمور السّياسيّة. لأنّ الدّين يتعلّق بالأرواح والوجدان، والسّياسة تتعلّق بالجسم لهذا لا ينبغي لرؤساء الأديان أن يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة بل يجب عليهم أن يشتغلوا بتعديل أخلاق الأمة، وأن يقدّموا النّصح للنّاس ويشوّقوهم ويحيّوهم على العبودية لله، وأن يخدموا قضية الأخلاق العامّة، ويهبوا الإحساسات الرّوحانيّة للنّاس ويعلّموهم العلوم والمعارف، وينبغي عليهم ألاّ يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة قط. هكذا يتفضّل حضرة بهاء الله.
وقد ورد في الإنجيل: أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
والخلاصة أنّ في إيران موظّفين بهائيّين متديّنين يراعون منتهى العدل لأنّهم يخافون غضب الله ويأملون في رحمة الله. ولكنّ الموظفين الآخرين لا يبالون بشيء ولا يكفّون أيديهم عن الأذى والظّلم. وهذا هو السّبب في أنّ إيران وقعت في ما هي فيه من الشّدّة.
وإنّني لآمل أن يكون جميع أحبّاء الله مظاهر العدل في جميع الأمور. فإجراء العدل ليس قاصرًا على موظّفي الحكومة وحدهم، فالتّاجر أيضًا يجب أن يكون عادلاً في التّجارة. وأهل الصّنائع يجب أن يكونوا عادلين في صناعاتهم ويجب على جميع البشر –صغارًا وكبارًا- أن يكونوا عادلين ومنصفين والعدل هو ألاّ يتجاوز الإنسان حدوده، وأن يرجو لغيره ما يرجوه لنفسه. هذا هو العدل الإلهيّ.
والحمد لله، لقد طلعت شمس العدل من أفق حضرة بهاء الله. وإنّ في ألواح حضرة بهاء الله أساسًا للعدل لم يخطر مثله على بال بشر من أوّل الإبداع إلى يومنا هذا. فقد قرّر لجميع أصناف البشر مقامًا لا ينبغي أن يتجاوزه، فهو يتفضّل مثلاً بأنّ العدل لازم لأهل كلّ صناعة بمعنى أنّه لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا استحقاقهم. فإذا تعدّوا حدودهم في صناعتهم لم يختلف حالهم عن حال الملك الظّالم. وكلّ نفس لا تقيم العدل في معاملاتها كان مثلها مثل الرّئيس الظّالم.
من هذا يتّضح أنّه من الممكن أن يكون كلّ إنسان عادلاً وأن يكون ظالمًا. ولكنّي آمل أن تكونوا جميعًا عادلين، وأن تحصروا كلّ فكركم في أن تعاشروا جميع البشر وأن تراعوا منتهى العدل وغاية الإنصاف في معاملاتكم معهم، وأن تراعوا حقوق الآخرين قبل حقوقكم دائمًا، وأن تعرفوا أنّ منفعة الآخرين مقدّمة على منفعتكم وراجحة عليها. وذلك حتّى تكونوا مظاهر العدل الإلهيّ، وتعملوا بموجب تعاليم حضرة بهاء الله.
ولقد لاقى حضرة بهاء الله غاية المشقّة وتحمّل منتهى البلاء طوال حياته حتّى يربّي الجميع فيتّصفوا بالعدل وبفضائل العالم الإنسانيّ ويفوزوا بالنّورانيّة الأبديّة. فالتمسوا العدالة الإلهيّة وكونوا رحمة الرّحمن ومظاهر الألطاف الإلهيّة الشّاملة لكلّ البشر.
لهذا فإنّي أدعو لكم جميعًا:
(اللّهم يا واهب العطايا، وغافر الخطايا، والرّاحم على البرايا، يا ربَّ الكبرياء. إنّ عبادك الفقراء يبتهلون إلى عتبتك العليا، ويتضرّعون إلى ملكوتك الأبهى، ويستغيثون برحمتك فأغثهم، ويستفيضون من سحاب موهبتك فأمطرهم، ويتضرّعون إلى جبروت جلالك فأكرمهم، يتمنّون قربك فارزقهم لقاءك ومشاهدة طلعتك، ربِّ تراهم عطاشى ظامئين إلى معين رحمانيّتك جرّعهم من سلسال موهبتك وسلسبيل عنايتك، ربِّ إنّهم جياع أطعمهم من مائدة سمائك، ربِّ إنّهم مرضى داوهم بدوائك، ربِّ إنّهم أذلاء ببابك اجعلهم أعزّاء في ملكوتك، إنّك أنت الكريم إنّك أنت العظيم، إنّك أنت الرّحمن الرّحيم).