نداء الله ونداء الشّيطان

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

نداء الله ونداء الشّيطان

ألقيت في يوم الأحد الموافق 19 تشرين الثّاني سنة

1911 الخطبة التّالية في المنزل المبارك في باريس:

هو الله

منذ بداية العالم وحتّى اليوم كلّما ارتفع النّداء الإلهيّ ارتفع معه النّداء الشّيطاني. ذلك لأنّ الظّلمة تريد دائمًا أن تقاوم النّور، والظّلم يريد أن يقاوم العدل. والجهل يريد أن يقاوم العلم. وتلك هي عادة أهل العالم الدّائمة.

أنتم تعرفون أنّ فرعون كان يقاوم في أيّام موسى كي يمنع نورانيّته من الانتشار. وفي زمان السّيّد المسيح كان قيافا وحنّا رئيسين لمذهب اليهود. وقد قاوما السّيّد المسيح بمنتهى القوّة، وكتبا كثيرًا من المفتريات ونشراها حتّى حكم مجمع الفرّيسيّين بقتل المسيح بدعوى أنّه هو المسيخ، وأنّه –أستغفر الله!- ضال، وأنّه –أستغفر الله!- بلا أب شرعيّ وغير ذلك ممّا لا أودّ أن أنطق به. وكانوا ينشرون هذه المفتريات بين يهود الشّرق يريدون بها أن يمنعوا انتشار نورانيّة المسيح. وكذلك الحال في زمان محمّد فقد أراد علماء قريش أن يمنعوا نورانيّة محمّد من الانتشار. وأفتى الجميع بقتله وآذوه أذىً بالغًا وأرادوا أن يهدموا بحدّ السّيف ذلك البنيان العظيم. فهل صمد جميع هؤلاء؟ لقد غلبوا على أمرهم آخر الأمر وأحاطت نورانيّة الأمر الإلهيّ بالآفاق. وانسحبوا جميعًا من الميدان كالجنديّ المهزوم. ونفذت كلمة الله وانتشرت شريعة الله وأحاطت التّعاليم الإلهيّة بالآفاق. أمّا الأشخاص الّذين استظلّوا بظلّ الحقّ فقد أشرقوا كالنّجوم من أفق السّعادة الكبرى.

واليوم يتكرّر الشّيء نفسه، فجمع الجهّال الّذين ينسبون أنفسهم إلى الدّين يريدون أن يمنعوا نورانيّة بهاء الله من الانتشار. وهم يقاومون أمر الله كي يحرموا الآفاق من هذا الإشراق. ولمّا لم يكن لديهم أيّ برهان فقد شرعوا في الافتراء، لأنّ عادة الجهّال هي أنّهم عندما يعدمون البرهان يلجأون إلى سلاح الافتراء. ولو كان لديهم برهان لهاجموا به ولتكلّموا ولما سبّوا ولما جرى الكلام السّخيف على أقلامهم وعلى ألسنتهم، ولَبيّنوا برهانهم كما يفعل العلماء.

وليس بيننا وبين هؤلاء نزاع ولا جدال. وإنّما نحن نقدّم البراهين ونقول لهم إذا كان لديكم برهان في مقابل برهاننا فأبرزوه. ولكنّهم لا يقتربون منا أبدًا، بل يتفوّهون بالمفتريات، ويكتبون في الجرائد أنّ هؤلاء البهائيّين كذا وكذا ويقولون بحقّنا ما قاله الفرّيسيّون في حقّ الحواريّين. وهم يكتبون كلّ ما يعنّ لهم فإذا رأيتم مثل هذه الأوراق تتوزّع فلا تتكدّروا قط. بل عليكم أن تعملوا بموجب تعاليم بهاء الله بكلّ قوّة ولا تلقوا بالاً لذلك. إنّ أمثال هؤلاء النّفوس هم السّبب في انتشار كلمة الله بين الخلق. فما من شكّ في أنّ المنصفين سيفحصون ويحقّقون ويدقّقون في ما يقولون، ويكون هؤلاء سبب هدايتهم. مثلهم مثل شخصٍ قال إنّ في هذه الغرفة شمعة غير مضيئة. فتفحّص السّامع في الأمر فرأى أنّها مضيئة. أو كمثل رجل قال إنّ في البستان الفلاني أشجارًا ذات أوراق مصفرّة وأغصان مكسورة وثمر مرّ وأزهار كريهة فإيّاكم أن تقتربوا منها. إلاّ أنّ النّفوس المنصفة لا تقنع بذلك دون شكّ. بل تقول: فلنذهب لنرى ونتحرّى الحقيقة. فإذا فحصوا وتحقّقوا ورأوا أنّ أشجار البستان في نهاية الاعتدال، وسيقانها في غاية الاستقامة وأوراقها في نهاية الاخضرار وبراعمها ذات عطر، وأثمارها ذات حلاوة، وأزهارها ذات طراوة قالوا الحمد لله لقد كان هذا القادح سببًا في أن نهتدي إلى هذا البستان، وإنّه كان علّة هدايتنا. والواقع أنّ القادحين الهجائين هم السّبب الّذي يدفع النّاس إلى البحث. ففي زمان المسيح ألّف القادحون الكتب في مذمّة المسيح، ورموه بالمفتريات وقالوا في الحورايّين ما قالوا من الأكاذيب فهل كان لشيء من هذا أثر؟ وهل كان للكتب الّتي كتبها فلاسفة ذلك الزمان عن المسيح أيّ ضرر؟ بالعكس، كانت هذه الكتب سببًا للتّرويج لأن النّاس الّذين سمعوا ذكر المسيح أقبلوا يبحثون ويفحصون ففازوا في الهداية.

ونحن لا نريد أن نقول شيئًا عن هؤلاء النّاس ولن نبسط لساننا فيهم. ولكنّنا نكتفي بالقول إنّ هذه المفتريات ليس لها أيّ وزن قط. إنّ هذه المفتريات بمنزلة السّحاب الّذي يحجب الشّمس. فمهما كان السّحاب كثيفًا فإنّ أشعّة الشّمس تمحوه آخر الأمر. وما من سحاب يمكنه أن يحجب شمس الحقيقة، وما من سدّ يمكنه أن يمنع سريان نسيم البستان الإلهيّ، وما من حائل يمكنه أن يحجز أمطار السّماء. ومرادي من هذا الكلام هو ألاّ تحزنوا كلّما انتشرت كتب الافتراء أو نشرت في الجرائد المفتريات، وأن تعلموا أنّ هذا هو سبب قوّة أمر الله. ذلك لأنّ الإنسان لا يصوّب الحجر إلى شجرة بلا ثمر، ولا يتعرّض لمصباح مطفئ. وما يحدث شيء إلاّ ويكون سببًا لقوّة أمر الله مصداقًا لما حدث من قبل. فإذا تأمّلتم في زمان موسى وجدتم أنّ غرور فرعون كان مددًا وعونًا لبني إسرائيل. وبالرّغم من أن ذلك الظّالم أعلن أنّ موسى قاتل، وأنّه لا بدّ من إنزال القصاص به إلاّ أنّ هذا الإعلان لم يكن له أيّ تأثير. وقد صاح فرعون وقال إنّ موسى وهارون كليهما مفسدان يريدان أن يفسدا دينكم المبين ويلقيا المملكة بين براثن الاختلاف والفساد ولذلك يجب اهلاكهما وإعدامهما "إنّ هذين لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى" إلاّ أنّ ذلك لم يكن له أيّ تأثير قط بل لقد أضاء نور موسى وانتشرت شريعته وأحاطت النّورانيّة الّتي تجلّت في سيناء.

وكذلك صاح الفرّيسيّون أنّ المسيح هو المسيخ –أستغفر الله من ذلك- لأنّه كسر السّبت ونسخ شريعة الله وحرّم الطّلاق ومنع تعدّد الزّوجات، وأنّ مقصده هدم قدس الأقداس واقتلاع بيت الله فواويلاه! واديناه! وامذهباه! وصاحوا اصلبوه، اصلبوه! ولكنّ هذه الاعتراضات لم يكن لها أيّ أثر. إذ طلع صبح المسيح، وسرت نفثات الرّوح القدس في العالم أجمع، ووحّدت بين الأقوام المختلفة.

ومقصدي هو أنّ أمر الله لا يلحقه أيّ فتور من مفتريات القوم وأكاذيبهم ومجادلاتهم. بل إنّ ذلك سبب علو أمر الله. ولو كان هذا الأمر أمرًا عاديًّا لما تعرّض لمثل هذه الاعتراضات الّتي تدلّ على أن هذا الأمر أمر خارق للعادة. وكلّما عظم قدر الأمر كثر أعداؤه. ولذلك يجب علينا أن نعمل بموجب تعاليم حضرة بهاء الله بنهاية الثّبات والرّسوخ.

مرحبًا بكم.

المصادر
المحتوى
OV