السّرور والحزن

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

السّرور والحزن

ألقيت في يوم الثّلاثاء الموافق 21 تشرين 

الثّاني 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله

جميع البشر معرّضون دائمًا لإحساسين: أحدهما السّرور والآخر الحزن، وعندما يكون الإنسان مسرورًا تطير روحه وتزداد جميع قواه، وتكبر قوّته الفكريّة، وتشتدّ قوّة إدراكه وتترقّى قوّة عقله في جميع المراتب وتحيط بحقائق الأشياء، ولكن عندما يستولي الحزن على الإنسان ينخمد وتضعف جميع قواه ويقلّ إدراكه، ولا يفكّر، ولا يستطيع أن يدقّق في حقائق الأشياء، ولا أن يكشف عن خواص الأشياء، ويصبح كالميّت.

وهذان الإحساسان يشملان جميع البشر طرًّا.

من الرّوح لا يتأتّى للإنسان أيّ حزن، ومن العقل لا تحصل للإنسان أيّ مشقّة ولا ملال، أي أنّ القوى الرّوحانيّة لا تسبّب للإنسان كدرًا ولا تعبًا.

وإذا تأتّى للإنسان الحزن فمن المادّيّات يتأتّى هذا الحزن، وإذا خمد الإنسان وجمد فمن المادّيّات، فالتّاجر مثلاً إذا خسر حزن، والزّارع إذا لم تنجح زراعته اغتمّ، وإذا بنى الإنسان بناء وانهدم حزن واضطرب.

المقصود أنّ حزن الإنسان وكدره يأتيان من عالم المادّيّات، وأنّ اليأس والقنوط من نتائج عالم الطّبيعة وعلى هذا فمن الواضح والمشهود أنّ حزن الإنسان ونكبة الإنسان ونحس الإنسان وذلّة الإنسان كلّها من المادّيّات. وأمّا الإحساسات الرّوحانيّة فلا يتأتّى منها للإنسان أيّ ضرر ولا خسارة ولا همّ ولا غمّ. وجميع البشر عرضة للهمّ والغم والملالة، فما من إنسان إلاّ وأصابه الحزن والألم والمشقّة والنّصب والتّعب والخسارة.

ولمّا كانت هذه الأحزان من المادّيّات لم يكن أمامنا من سبيل سوى الرّجوع إلى الرّوحانيّات. فإذا ضاق صدر الإنسان من المادّيّات ضيقًا شديدًا وتوجّه إلى الرّوحانيّات زال ذلك الضّيق. وإذا وقع الإنسان فريسة لليأس والقنوط والتّعب ثمّ تذكّر الله الرّحمن الرّحيم سرّ خاطره. وإذا وقع في وهدة الفقر المادّيّ الشّديد ثمّ استروح الإحساسات الرّوحانيّة رأى نفسه غنيًّا بكنز الملكوت. وإذا مرض وفكّر في الشّفاء شفى غليل صدره. وإذا وقع أسيرًا لمصائب عالم النّاسوت تسلّى بالتّفكير باللاّهوت. وإذا ضاق ذرعًا بسجن عالم الطّبيعة ثمّ طار بفكره إلى عالم الرّوح سرّ خاطره. وإذا اختلّت حياته الجسمانيّة ثمّ فكّر في الحياة الأبديّة عاد ممنونًا شاكرًا.

ولكن ما الّذي يسلّي خاطر الّذين اقتصر اهتمامهم على عالم المادّيّات وغرقوا في بحر النّاسوت إذا ألمّت بهم البلايا والمحن؟! وبأيّ شيء يتعلّق أمل الّذي يعتقد بأنّ حياة الإنسان محصورة في الحياة المادّيّة –إذا عجز أو أصابته مصيبة أو وقع في البلاء أو نفخ في بوق الرّحيل؟ وبأيّ شيء يتسلّى؟! كيف يجد الرّوح والرّيحان من لا يؤمن بالحيّ القدير. يقيني أنّه في العذاب الأبديّ والقنوط السّرمديّ.

إذن فاشكروا الله. فأنتم لديكم الإحساسات الرّوحانيّة والانجذابات القلبيّة. وعيونكم مبصرة، وآذنكم سميعة، وأرواحكم حيّة، وقلوبكم عامرة بمحبّة الله. ولديكم ما تتسلّى به خواطركم إذا ألمّت بكم مصيبة، وإذا اختلّت المعيشة الدّنيويّة استبشرتم بالحياة السّماويّة. وإذا أحاطت بكم ظلمة الطّبيعة سررتم بنورانيّة الملكوت. وكلّ من يتوفر له الإحساس الرّوحانيّ تتوفّر له تسلية الخاطر.

فلقد قضيت في السّجن أربعين سنة مع أنّه لم يكن في الإمكان تحمّل سنة واحدة، وكلّ من زجّ به في ذلك السّجن لم يعش فيه أكثر من سنة واحدة إذ كان يهلك من الغمّ والهمّ. ولكنّني كنت –والحمد لله- في نهاية السّرور طوال هذه السّنوات الأربعين. وكنت أنهض كلّ صباح كأنّما جاءتني بشارة جديدة. وكان كلّما أظلم اللّيل ازداد في قلبي نور السّرور. فالإحساسات الرّوحانيّة سبب تسلية الخاطر والتّوجه إلى الله سبب الرّوح والرّيحان. وإذا لم يكن هناك توجّه إلى الله لم تكن هناك إحساسات روحانيّة. وإلا فكيف كنت أحتمّل السّجن أربعين سنة؟

من هذا يتبيّن لكم أنّ الإحساسات الرّوحانيّة هي أعظم موهبة العالم الإنسانيّ، وأن التّوجه إلى الله هو حياة الإنسان الأبديّة.

وإنّني لآمل أن يزداد توجّهكم إلى الله يومًا بعد يوم وأن تزداد تسلية خاطركم، وأن يزداد تأثير نفثات الرّوح القدس، وأن يزداد ظهور القوى الملكوتيّة.

هذا هو منتهى رغائبنا وآمالنا.

وهذا هو ما أطلبه من الله.

المصادر
المحتوى
OV