صبح الصّلح الأكبر

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

صبح الصّلح الأكبر

ألقيت في مساء يوم الأحد الموافق 26 تشرين

الثّاني 1911 في منزل مدام كاسته في باريس

هو الله

جميع أنبياء الله هم مظاهر الحقيقة. فقد أعلن سيّدنا موسى الحقيقة، وروَّج السّيّد المسيح الحقيقة وأسّس سيّدنا محمّد الحقيقة. وأعلن جميع أولياء الله الحقيقة، كما رفع حضرة بهاء الله علم الحقيقة وكانت جميع النّفوس المقدّسة الّتي جاءت إلى هذا العالم مصابيح الحقيقة. والحقيقة هي وحدة العالم الإنسانيّ، وهي المحبّة بين البشر، وهي إعلان العدالة. وهي هداية الله. وهي فضائل العالم الإنسانيّ.

كان أنبياء الله جميعًا منادين بالحقيقة. وكانوا جميعًا متّحدين ومتّفقين. وكان كلّ رسول يبشّر بخلفه، كما كان كلّ خلف يصدّق سلفه. فسيّدنا موسى أنبأ بمجيء المسيح. والسّيّد المسيح جاء مصدّقا ًلموسى. المسيح أخبر عن محمّد، وسيّدنا محمّد جاء مصدّقًا للمسيح ولموسى. كانوا جميعًا متّحدين. فلماذا نختلف ونحن أمة هؤلاء النّفوس المقدّسة؟ فيتوجب علينا إذًا أن نحبّ بعضنا بعضًا كما كان الأنبياء يحبّون بعضهم بعضًا. ذلك لأنّنا عبيد إله واحد تشملنا جميعًا ًألطافه، وإذا كان الله في سلام مع الجميع فلماذا يقاتل بعضنا بعضًا؟ وإذا كان رؤوفا ًبالعباد جميعًا فلماذا يظلم بعضنا بعضًا.

إنّ أساس الأديان الإلهيّة: هو المحبّة والألفة والاتّحاد. وقد ترقّت العقول بحمد الله في هذا العصر، عصر النّورانيّة، وتهيّأت أسباب الألفة والاتّحاد، واستحكمت روابط المحبّة بين البشر. وقد آن الأوان لكي يصالح بعضنا بعضًا، ونعيش بالصّدق والصداقة، فلا يبقى تعصّب مذهبيّ، ولا يبقى تعصّب جنسيّ، ولا يبقى تعصّب وطنيّ بل يعيش بعضنا مع بعض في نهاية الألفة والمحبّة، ذلك لأنّنا عبيد عتبة واحدة ونستفيض من نور شمس واحدة، ويجب علينا أن نؤمن بجميع الأنبياء، وأن نؤمن بجميع الكتب السّماويّة، وأن نتخلّص من جميع التّعصّبات، وأن نخدم الله، ونروّج وحدة العالم الإنسانيّ، ونظهر فضائل العالم الإنسانيّ. ويجب علينا ألاّ نكون كالحيوانات المفترسة، وألاّ نرضى بسفك الدّماء، وأن نعتبر دماء البشر مقدّسة، وألاّ نريق الدّماء المقدّسة من أجل أهداف أرضيّة، وأن نتّفق جميعًا على قضيّة واحدة، وهذه القضيّة هي وحدة العالم الإنسانيّ.

لاحظوا اليوم ماذا يجري في طرابلس الغرب. ما أكثر الآباء الّذين يفقدون أبناءَهم وما أكثر الأطفال الصغار الّذين يحرمون من آبائهم. وما أكثر الأمّهات الحنونات اللاّتي يبكين على مصيبتهنّ في أبنائهنذ، وما أكثر النّساء اللاّتي يندبن على مصيبتهنّ في أزواجهنّ. الدّم الإنسانيّ يراق من أجل التّراب، مع أنّ الحيوانات المفترسة نفسها لا تتقاتل من أجل التّراب، وإنّما يقنع كلّ منها بموضعه، فالذّئب يقنع بوكره، والنّمر يكتفي بمغارته، والأسد بعرينه. ولا يفكّر أيّ حيوان في التّعدّي على حقّ الآخرين، فواأسفاه للإنسان الغاشم الّذي لو تسلط على جميع الأوكار لظلّ يفكّر في وكر آخر يستولي عليه، وعلى الرّغم من أنّ الله خلق البشر إنسانيّين إلا أنّهم أصبحوا أسوأ من الحيوانات المفترسة. ذلك لأنّ الحيوانات المفترسة لا تفترس أبناء جنسها. فالذّئب إذا اشتد توحّشه لا يفترس في اللّيلة الواحدة أكثر من عشرة خراف، في حين أنّ الرّجل الواحد يتسبّب في قتل عشرة آلاف نفس في يوم واحد، فأنصفوا وقولوا بأيّ قانون يصحّ هذا الّذي يجري في هذا العالم؟ إذا قتل إنسان إنسانًا سمّوه قاتلاً في حين أنّه إذا سفك دماء مائة ألف نفس سّموه أشجع الأبطال وإذا سرق إنسان عشرة دراهم من شخص آخر سمّوه سارقا ًمجرمًا، في حين أنه إذا أغار على مملكة بأسرها سمّوه فاتحًا. وإذا أحرق منزلاً عدّوه مجرمًا، أمّا إذا أشعل إحدى الممالك بنيران المدافع والبنادق سمّوه فاتح العالم. هذه جميعًا دلائل آفات البشر ووحشيّتهم وعدم إيمانهم. ذلك لأنّ الإنسان لو آمن بالعدالة الإلهيّة لما رضي بأن يؤذي أيّ إنسان، ولما سمح بإراقة قطرة واحدة من الدّم. بل لراح يسعى ليل نهار كي يسرّ خواطر النّاس.

وإننا نحمد الله على أنّ آثار اليقظة قد تجلّت اليوم في بعض النّاس، فهذه بداية إشراق صبح الصّلح الأكبر. وإنّنا لنأمل أن تنتشر وحدة العالم الإنسانيّ، وأن تزول العداوة والبغضاء بين البشر، وأن يتجلّى الصّلح الأكبر وأن تتآلف جميع الأمم، وأن يتشكّل محفل الصّلح، وأن تفصل هذه المحكمة الكبرى في المشكلات الّتي تقع بين الأمم والدّول. وهذا الأمر مرتبط بازدياد أنصار الصّلح في الدّنيا، وازدياد محبّي العالم الإنسانيّ واتّجاه الأفكار العامّة نحو الصّلح بحيث تضطرّ الأمم والدّول إلى الاتّحاد نتيجة لكثرة محبّي الصّلح والصّلاح.

إنّ المحبّة نور في حين أن البغض والعداوة ظلمة. والمحبّة سبب الحياة أمّا العداوة فسبب الممات. ولا شكّ أنّ العقلاء يفضّلون الحياة على الممات والاتّحاد على الاختلاف ويسعون –بكلّ ما أوتوا من قوّة- كي تزول السّحب السّوداء وتشرق شمس الحقيقة، ويصبح العالم عالمًا آخر، وتصبح كرة الأرض جنّة في نهاية الجمال واللّطف، ويتعانق الشّرق والغرب، ويتصافح الجنوب والشّمال وتتجلّى المحبّة الحقيقيّة الإلهيّة في العالم الإنسانيّ. ذلك لأنّ إظهار المحبّة للخلق بمثابة إظهارها للخالق، والرّأفة بالخلق تعتبر خدمة لله.

فابتهلوا واسعوا بكلّ ما أوتيتم من قوّة حتّى تكونوا سبب المحبّة بين البشر وسبب العدالة، وسبب اتّحاد الشّرق والغرب، وحتّى يزول التّعصّب المذهبيّ والتّعصّب الجنسيّ، والتّعصّب السّياسيّ والتّعصّب الوطنيّ بإذن الله ويفوز العالم بالطّمأنينة والرّاحة.

إنّ لكم جميعًا أبناء، وتعرفون كم هم أعزّاء لديكم. وهؤلاء البؤساء الّذين يتمزّق أولادهم إربًا إربًا هم مثلكم أيضًا. فتأمّلوا كيف تكون حال الأب والأم إذا رأيا طفلهما العزيز ملطّخًا بالدّماء. كيف تبدو حالتهما آنذاك؟ هل يتبقّى لهما من قلب وهل يهنئا براحة بال؟ هل من مسلّ لهما؟ وهكذا هو الحال الآن في طرابلس فهنالك الكثير من الآباء والأمّهات الّذين يعيشون هذه الحالة المأساوية.

لقد خلقنا الله لنكون محبّين ومتآلفين بعضنا مع بعض، لا لنسلّ السّيف على بعضنا، خلقنا لنشكّل محفل الألفة والمحبّة، ولنؤسّس ناديًا للعدل لا لنهيّئ للحرب. لقد وهبنا الله البصر لننظر إلى بعضنا البعض بمحبّة الله وأعطانا القلب لنتعلّق بعضنا ببعض لا لنتباغض ويعادي بعضنا بعضًا. تأمّلوا مدى فضل الله على الإنسان. لقد أعطاه العقل وأعطاه الإحساس لكي يستخدم هذه القوى الرّحمانيّة في سبيل المحبّة الصّرفة وليس لمضرّة الآخرين.

فاسألوا الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم إلى فضائل العالم الإنسانيّ، كي لا نطفئ السّراج الّذي أضاءه الله، ولا نقطع أمطار رحمة الرّحمن، ولا نمنع البركة السّماويّة. وكي نوفّق إلى أن نزيّن العالم الإنسانيّ، وأن ننير الشّرق والغرب وأن نربط جميع الأمم بعضها ببعض وأن نهدم بنيان الحرب ونكون سببًا لألفة القلوب. هذا منتهى آمالنا، وهذا هو رجاؤنا ونسأل الله أن يوفّقنا إلى ذلك.

لقد أشرق حضرة بهاء الله من أفق إيران بنورانيّة الهداية. وكتب إلى جميع الملوك رسالات خاصّة ودعاهم جميعًا إلى الصّلح الأكبر، وأسدى النّصح لهم جميعًا. ومن بين هؤلاء نابليون الثّالث الّذي كان حاكمًا لباريس. وقد ظلّ حضرة بهاء الله مدّة خمسين عامًا حتّى يوم صعوده يبذل الجهد من أجل أن تنجذب القلوب تدريجيًّا إلى الصّلح الأكبر. فالحمد لله إنّ هذا النّور في انتشار، وإنّ علم الصّلح الأكبر سيرتفع إن شاء الله. ونحن نبذل الجهد ليل نهار كي يتنوّر عالم البشر وتشرق شمس الحقيقة على الشّرق والغرب جميعًا.

المصادر
المحتوى
OV