حضرة زرادشت عليه السّلام

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

حضرة زرادشت عليه السّلام

الخطبة المباركة ألقيت في رملة الإسكندريّة

في فندق فكتوريا في 4 آذار 1912

هو الله

من جملة المظاهر المقدّسة الإلهيّة كان حضرة زرادشت عليه السّلام نبوّته واضحة وضوح الشّمس وبرهانه ساطع ودليله لائح وحجّته قاطعة وقد ظهر زرادشت عليه السّلام في وقت كانت فيه إيران خرابًا يبابًا وكان أهلها في منتهى الخذلان وكانت الحرب الدّائمة مستعرة بين إيران وتركستان. ولقد استقرّت إيران قليلاً أيّام لهراسب لأنّه كان رجلاً تقيًّا يتحرّى الحقيقة ثمّ تربع كَشتاسب على سرير السّلطنة.

وخلاصة القول إنّه قد أحاطت بإيران ظلمات الذّلّ والهوان وفي هذا الوقت ظهر زرادشت فأنار إيران وأيقظ أهلها بعد أن تفكّكت قواها وتدنّت من جميع الجهات فتاه الإيرانيّون وسيطرت ظلمة الجهل في بلادهم ولكنّها بعثت مرّة أخرى من أثر تعاليم زرادشت ونالت روحًا جديدًا واتّجهت جهة الرّقيّ.

ومن الواضح أنّ تعاليم زرادشت عليه السّلام تعاليم سماويّة، وأنّ نصائحه ووصاياه إلهيّة، ولو لم يظهر عليه السّلام لمحيت إيران وفنيت. ولولا تعاليمه عليه السّلام لما بقي للإيرانيّين أثر ولا اسم ولحرموا من فضائل الإنسانيّة بصورة كلّيّة ولحجبوا عن الفيوضات الرّبّانيّة بصورة كلّيّة. ولكنّ ذلك الكوكب النّورانيّ أنار أفق إيران وعدل عالم الأخلاق وربّى الإيرانيّين بالتّربية الإلهيّة.

وخلاصة القول إنّ نبوّته عليه السّلام واضحة كالشّمس. ومن العجيب أن يعترف النّاس بنبوّة موسى عليه السّلام وينكروا زرادشت عليه السّلام. إذ لمّا لم يذكر اسم زرادشت عليه السّلام بصورة صريحة في القرآن فقد أنكره أهل الفرقان واعترضوا عليه. والحقيقة أنّ بعض الأنبياء فقط ذكرت أسماؤهم في الفرقان ومعظمهم ذكرت صفاتهم ولم تذكر أسماؤهم ما عدا ثمانية وعشرين نبيًّا. أمّا الآخرون فقد ذكر أكثرهم بالتّلويح دون التّصريح بأسمائهم. وأمّا بخصوص زرادشت عليه السّلام فيذكره القرآن كنبيّ بعث على سواحل نهر (آراس) وبهذا العنوان ذكر زرادشت عليه السّلام في القرآن بأنّه نبيّ "أصحاب الرّس" ولما لم يفهم حضرات المفسّرين كلمة "الرّس" فقد فسروها بمعنى البئر. ولمّا كان شعيب عليه السّلام قد ظهر في مدين وكان أهل مدين يشربون الماء من الآبار لذا ظنّ المفسرون أنّ النّبي الّذي بعث في الرّس كان شعيبًا عليه السّلام. وقد ذكر بعض المفسرين أنّ المقصود بالرّس هو نهر آراس وأنّه بعث عدد من الأنبياء هناك ولم تذكر أسماؤهم في القرآن وهكذا كان قولهم.

وخلاصة القول إنّ زرادشت عليه السّلام ذكر في القرآن باسم "نبيّ ضفاف الرّس" وإنّ عظمته واضحة كالشّمس وقد بقيت عظمته مستورة حتّى يوم ظهور الجمال المبارك وبعد ذلك رفع الجمال المبارك اسمه وذكر في الألواح أنّ زرادشت عليه السّلام كان أحد المظاهر المقدّسة الإلهيّة. وكما أنّ مكنونات الأرض تظهر عندما يهطل الغيث ويهب النّسيم وتشرق الشّمس كذلك حينما ظهر الجمال المبارك شمس الحقيقة وأشرقت أنواره ظهرت للعيان جميع الحقائق والأسرار، ومنها قضية زرادشت عليه السّلام. فقد ظلّ الفرس تائهين مدّة ألف سنة ونيّفًا لا مأوى لهم ولا ملجأ لهم. ولكنّ الجمال المبارك ولله الحمد احتضنهم في كنفه وبعد ألف سنة أنقذهم من هذه الذّلّة ومن هذه المشقّة وأعلن نبوّة زرادشت عليه السّلام. وصارت هذه القضيّة أيضًا سببًا في ألفة العالم الإنسانيّ ومحبّته وارتباطه ووحدته. وقد وضع الجمال المبارك جميع الأمم تحت ظلّ جناح عنايته وواسى قلوب الجميع وترأّف بالجميع.

ولهذا فإنّ أمره رحمة للعالمين وظهوره سبب نجاة من على الأرض وسرور جميع الملل. وقد رفع حكم السّيف ووضع مكانه المحبّة الحقيقيّة ومحا التّباعد والتّنافر وأسّس الألفة والتّجاذب بين العموم. وقد نجّانا ولله الحمد من كلّ قيد وصالحنا مع جميع الملل وجعلنا محبّين للعالمين واعتبرنا من البهائيّين لهذا يتوجب علينا أن نرفع له الشّكر في كلّ آن ألف مرّة وأن نقوم بواجب العبوديّة له وهذا منتهى آمالنا وأمانينا. لاحظوا أيّة موهبة تلطّف بها! فهذا الجمع المجتمع الآن جاء من أماكن مختلفة وجاءت كلّ نفس من إقليم وبلد. وما أعظم الاختلاف الّذي كان بيننا وما أشد النّزاع الّذي كان بيننا. وما أكثر ما كنّا مبتعدين عن بعضنا. فتجلّى علينا بالصّفات الرّحمانيّة وجمعنا وألَّف بيننا ووحَّدنا وجمعنا حول مائدة في مكان مثل هذا المكان في بلاد الغربة فصرنا كلّنا في كمال المحبّة والألفة والاتّحاد مجتمعين حول هذه المائدة وليس لنا هدف غير عبوديّة العتبة المباركة ولا نبتغي غير المحبّة والألفة فقلوبنا مرتبطة بعضها ببعض وأرواحنا كلّها مستبشرة بعناية الجمال المبارك وكلّ هذا واضح شديد الوضوح في هذا الجمع الّذي نحن فيه. ترى ماذا سيحدث في المستقبل؟ وكيف ستتّحد جميع الملل والمذاهب والشّعوب والقبائل المختلفة المتحاربة المتنازعة؟ فالاتّحاد الموجود الآن هو بمثابة عنوان المقالة. ترى ماذا سيكون متن هذا المقال وشرحه؟ ومجلسنا هو ديباجة الكتاب ومنها تعرف حقائق هذا الكتاب ومعانيه.

وأملي أن يكون كلّ واحد منا حين يرجع إلى وطنه أو مسكنه آية من الآيات الإلهيّة وموهبة من المواهب الرّبّانيّة ويكون سببًا في ألفة القلوب وسببًا في اتّحاد النّفوس وارتباطها. فاخدموا الوحدة الإنسانيّة وكونوا خدّامًا لجميع البشر ومحبّين لجميع من على الأرض واجتمعوا بين الغريب والقريب وانظروا إلى العدو والحبيب نظرة واحدة وعاشروا الجميع في منتهى المحبّة والرّأفة وهذا منتهى آمالنا وأمانينا وإنّي على يقين بأنّكم ستعملون هذا.

المصادر
المحتوى
OV