أسس المدنيّة الإلهيّة
ألقيت في يوم الأحد الموافق 14 نيسان
1912 في كنيسة إسنشن في نيويورك
هو الله
في هذا الاجتماع ذكر القسيس عبارة من عبارات القدّيس بولس الّتي يقول فيها: "إنّكم لترون من وراء زجاجات ملوّنة وسيأتي يوم تواجهون فيه النّور وجهًا لوجه".
وفي الواقع إنّ نور الحقيقة يرى اليوم من وراء زجاجات ملوّنة ولهذا فأتمنّى الآن أن تنظروا إلى التّجلّيات الإلهيّة بواسطة مرآة القلب الصّافية وبواسطة الرّوح الطّاهرة. إنّ نور الحقيقة هذا هو التّعاليم السّماويّة والأخلاق الرّحمانيّة والمدنيّة الرّوحانيّة.
وإنّني حينما جئت هذه البلاد شاهدت المدنيّة الجسمانيّة في منتهى الرّقيّ فالتّجارة في منتهى الأزدهار وكذا الصّناعة والزّراعة. فالمدنيّة المادّيّة في منتهى درجة الكمال ولكنّ المدنيّة الرّوحانيّة تأخّرت في حين أنّ المدنيّة الجسمانيّة هي بمثابة الزّجاج والمدنيّة الرّوحانيّة هي بمثابة السّراج فإن اقترنت هذه المدنيّة الجسمانيّة بتلك المدنيّة الرّوحانيّة فإنّها حينذاك تصبح مدنيّة كاملة لأنّ المدنيّة الجسمانيّة مثل جسم لطيف والمدنيّة الرّوحانيّة مثل الرّوح فإن ظهرت تلك الرّوح العظيمة في هذا الجسم اللّطيف فحينذاك ينال الجسم كمالاً.
وقد جاء حضرة المسيح ليعلّم أهل العالم المدنيّة السّماويّة لا المدنيّة الجسمانيّة فنفخ روحًا إلهيًّا في جسم عالم الإمكان وأسّس مدنيّة نورانيّة.
ومن جملة أسس المدنيّة الإلهيّة الصّلح الأكبر.
ومن جملة أسس المدنيّة الرّوحانيّة وحدة العالم الإنسانيّ.
ومن جملة أسس المدنيّة الرّوحانيّة فضائل العالم الإنسانيّ.
ومن جملة أسس المدنيّة الإلهيّة تحسين الأخلاق.
إنّ عالم البشر اليوم محتاج إلى وحدة العالم الإنسانيّ، محتاج إلى الصّلح العمومي ويحتاج هذا الأساس العظيم إلى قوّة عظيمة لكي تروّجه.
ومن الواضح أنّ وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العمومي لا يمكن ترويجهما بواسطة القوى المادّيّة ولا يمكن تأسيسهما بواسطة القوّة السّياسيّة لأنّ المنافع السّياسيّة للأمم مختلفة ومنافع الدّول متفاوتة ومتضاربة وكذلك لا يمكن ترويجهما بواسطة القوّة العنصريّة والقوّة الوطنيّة لأنّ هذه القوى قوى بشريّة وقوى ضعيفة ونفس اختلاف الأجناس وتباين الأوطان مانع دون الاتّحاد والاتّفاق.
ومن المؤكّد أنّ ترويج وحدة العالم الإنسانيّ هذه الّتي هي جوهر تعاليم المظاهر المقدّسة ممتنع بغير القوّة الرّوحانيّة وبغير نفثات الرّوح القدس. أمّا سائر القوى فهي ضعيفة لا تستطيع ترويجها.
ويحتاج الإنسان إلى جناحين: أحدهما القوّة المادّيّة والمدنيّة الجسمانيّة والآخر القوّة الرّوحانيّة والمدنيّة الإلهيّة. ولا يمكن الطّيران مطلقًا بجناح واحد بل يحتاج إلى جناحين ومهما ارتقت المدنيّة الجسمانيّة فإنّها لن تبلغ مرحلة الكمال بدون المدنيّة الرّوحانيّة. وقد جاء جميع الأنبياء من أجل ترويج الفيوضات الإلهيّة وتأسيس المدنيّة الرّوحانيّة وتعليم الأخلاق الرّحمانيّة. إذًا يجب علينا أن نجهد بجميع قوانا حتّى تتغلّب القوى الرّحمانيّة لأنّ القوّة المادّيّة قد تغلّبت وأصبح عالم البشريّة غريق المادّيّات وصارت أنوار شمس الحقيقة تُشاهد من وراء زجاجات ملوّنة ولم يعد للألطاف الإلهيّة ظهور وبروز.
وفي إيران كانت هناك اختلافات شديدة بين الأحزاب والأديان فأسّس حضرة بهاء الله المدنيّة الرّوحانيّة في إيران وألَّف بين أمم مختلفة وروّج وحدة عالم البشر ورفع راية الصّلح الأكبر وكتب بهذا الصّدد رسائل خاصّة لكلّ واحد من الملوك. وقبل ستّين سنة أبلغ أمره إلى رؤساء العالم السّياسيّين والرّوحانيّين ولهذا صارت المدنيّة الرّوحانيّة ترتقي في الشّرق وبدأت الوحدة الإنسانيّة والصّلح بين الأمم تروّج بالتّدريج وإنّي آمل أن يظهر تأسيس وحدة العالم الإنسانيّ بمنتهى القوّة ليلتئم الشّرق والغرب بعضهما مع بعض التئآمًا تامًّا ويرتبطا ارتباطًا كاملاً وتتّحد قلوب الشّرق والغرب وينجذب بعضها إلى بعض وتظهر للعيان الوحدة الحقيقيّة ويشرق نور الهداية وتبرز التّجلّيات الإلهيّة يومًا فيومًا لينال العالم الإنسانيّ راحة كاملة وتتجلّى سعادة البشر الأبديّة وتصبح قلوب البشر كالمرآة فتسطع فيها أنوار شمس الحقيقة.
ولهذا فرجائي منكم هو أن تجهدوا حتّى يشرق ذلك النّور نور الحقيقة، وحتّى تظهر السّعادة الأبديّة للعالم الإنسانيّ وإنّي لأدعو في حقّكم حتّى تنالوا هذه السّعادة الأبديّة. وإنّني عندما جئت هذه المدينة سررت كثيرًا حين وجدت أهلها مستعدّين حقًّا للمواهب الإلهيّة ولديهم قابليّة للمدنيّة السّماويّة ولهذا فإنّني أدعو لكم بالفوز بجميع الفيوضات الرّحمانيّة وأقول: يا إلهي الرّؤوف إنّ عبدك هذا قد توجّه إلى الغرب من أقصى بلاد الشّرق لعلّ نفحات عنايتك تعطّر مشام هذه النّفوس ويهبّ نسيم حديقة الهداية على هذه الممالك وتستعدّ النّفوس لقبول ألطافك وتستبشر القلوب ببشاراتك وتشاهد الأعين نور الحقيقة وتنال الآذان نصيبًا من نداء الملكوت. إلهي أنر القلوب واجعلها يا ربّي الرّؤوف غبطة حدائق الورد والرّياحين يا محبوبي الفريد هبّ نفحات عطائك وأشرق أنوار الإحسان حتّى تصبح القلوب طاهرة نقيّة وتنال نصيبًا من تأييداتك. فهذا الجمع سائرٌ في طريقك وآملٌ أسرارك ليرى وجهك ويقتبس من خصالك فابذل يا إلهي الرّؤوف ألطافك بذلاً وأبح لهم كنز الهداية لينال هؤلاء المضطرّون أملاً ورجاءً. إنّك أنت الرّؤوف وإنّك أنت المعطي العليم القدير.