الوحدة

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

الوحدة

ألقيت في يوم الجمعة الموافق 18 أيّار

1912 في مجمع التّياصفة في نيويورك

هو الله

إنّني ممتن جدًّا من إحساسات جناب الرّئيس وكذلك مسرور جدًّا من إحساسات نائبة حضرته.

إنّ مقصودنا واحد وأملنا واحد. أملنا وحدة العالم الإنسانيّ وهدفنا الصّلح العمومي. إذن فنحن في الهدف والأمل متّحدون وليست في عالم الوجود مسائل أهمّ من هاتين المسألتين لأنّ وحدة العالم الإنسانيّ سبب عزّة النّوع البشريّ وأنّ الصّلح العمومي سبب راحة جميع من على الأرض ولهذا فنحن متّحدون في هذين الهدفين وليس هناك هدف أعظم من هذه الأهداف.

لهذا أرجو أن تحدث بين البهائيّين والتّياصفة منتهى الألفة والمحبّة لأنّ أهدافهم واحدة وآمالهم واحدة وهم مشتركون في الإحساسات الرّوحانيّة ومتّفقون في توحيد الملكوت الإلهيّ.

في هذا اليوم لا بدّ من وجود قوّة عظيمة لإجراء هذه الأهداف الجليلة وحضراتكم تعلمون أنّ قضيّة الصّلح الأكبر قضيّة عظيمة جدًّا وأنّ جميع قوى الآفاق اليوم مخالفة لاستقرار هذا الأمر وهذه الأمم تظنّ أنّ الحرب سبب السّرور وتظنّ أنّ التّفرّقة سبب العزّة لأنّها تظنّ أنّه لو هجمت أمّة على أمّة وفتحت فتحًا مبينًا وغلبت على مملكة ودولة فإنّ هذا يكون سببًا في رقيّ تلك الملّة والدّولة والحال أنّ هذا خطأ محض ونستطيع أن نقيس الملل بأفراد عائلة واحدة فالعائلة تتألّف من أفراد وكلّ أمة كذلك تتألف من أفراد وأشخاص ولو اجتمعت جميع الأمم فإنّها ستكون عائلة عظيمة واحدة.

وواضح أنّ النّزاع والجدال بين أفراد العائلة الواحدة يؤدّيان إلى فنائها. وهكذا تؤدّي الحروب إلى فناء الأمم وانهدامها.

إنّ خلاصة منطوق جميع الكتب الإلهيّة وكلام جميع أنبياء الله وجميع عقلاء البشر هي أنّهم جميعًا متّفقون على أنّ الحرب سبب الخراب وأنّ الصّلح سبب العمران وكلّهم متّفقون على أنّ الحرب تهدم البنيان الإنسانيّ إلاّ أنّه لا بدّ من وجود قوّة عظيمة لإجراء هذا الصّلح فتمنع الحرب وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ.

إنّ مجرد العلم بالشّيء لا يكفي فالإنسان لا يصبح غنيًّا بمجرد أن يعلم أنّ الغنى شيء طيّب ولا يصبح عالمًا بمجرد أن يعلم أنّ العلم ممدوح ولا يصبح عزيزًا بمجرد أن يعلم أنّ العزّة مقبولة، وقس على هذا. فالعلم بالشّيء لا يكون سببًا في حصوله وأكرّر القول إنّ الإنسان لا يكسب الصحّة من مجرد علمه بفائدة الصحّة بل يحتاج إلى العلاج وإلى استعمال الأدوية وإلى طبيب حاذق مطّلع على جميع أسرار الأمراض ومطّلع على جميع العلاجات فيعطي العلاج بحكمة تامّة حتّى تحصل الصحّة الكاملة. فمجرّد معرفتنا أنّ الصحّة شيء مفيد لا يؤدّي إلى حصولنا على الصحّة بل لا بدّ من وجود عمل وجهد وقوّة.

ثمّ إنّ حصول كلّ شيء مشروط بثلاثة شروط أوّلها العلم وثانيها الإرادة وثالثها العمل ولأجل تحقّق أيّة مسألة يجب اجتماع هذه الأمور الثّلاثة. فأوّل شيء يقتضي لبناء بيت هو وضع خريطة للبيت ثمّ وجود الإرادة للبناء وبعد ذلك العمل والعمل يتوقّف على الثّروة وعندئذٍ يتحقّق الأمل.

لهذا فنحن نحتاج إلى قوّة عظيمة لتحقيق هذه الآمال وواضح أنّ هذه الآمال والمقاصد لا تتحقّق بالقوى المادّيّة فلو قلنا إنّها تتحقّق بالقوّة القوميّة فالأقوام مختلفة. ولو نقول بالقوّة الوطنيّة فالأوطان مختلفة. ولو نقول إنّ إيجاد وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العمومي يتحقّق بالقوّة السّياسيّة فإنّ سياسات الملوك مختلفة بسبب اختلاف منافع الدّول والملل. ولو نقول إنّ وحدة العالم الإنسانيّ تتأسّس بقوّة التّقاليد الدينيّة فإنّ هذه التّقاليد مختلفة.

إذن فقد اتّضح أنّ جميع هذه القوّات مختلفة ومحدودة وأنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلا بالقوّة المعنويّة وبالقوّة الرّوحانيّة وبالفتوحات الإلهيّة وبنفثات الرّوح القدس الّتي ظهرت في هذا القرن العظيم. وبغير هذا فإنّ هذا الهدف يبقى في حيّز القول ولا يخرج إلى حيّز العمل.

لاحظوا التّاريخ وشاهدوا أيّ شيء وحَّد الأمم وأيّ شيء عدَّل الأخلاق العامّة وأيّ شيء سبّب رقي جميع البشر. ولو دقّقنا وحقّقنا في جميع التّواريخ لشاهدنا أنّ أساس الاتّحاد والاتّفاق كان الدّين الإلهيّ دائمًا وأنّه كان أعظم سبب لوحدة البشر ونقصد بالدّين الإلهيّ أساس الأديان الإلهيّة لا التّقاليد الموجودة في أيدي النّاس لأنّ هذه التّقاليد الموجودة الآن بين أيدي النّاس يخالف بعضها البعض الآخر ولهذا فإنّها سبب النّزاع وسبب الحرب وسبب البغضاء وسبب العداء ولكنّنا نعني أساس الأديان الإلهيّة.

فلننظر الآن ما هي أسس الأديان الإلهيّة؟

أوّل أساس هو وحدة الخلق وثاني أساس هو وحدة الأجناس وثالث أساس هو وحدة الأوطان ورابع أساس هو الوحدة السّياسيّة فلا تبقى بعد هذا امتيازات شخصيّة ولا امتيازات عنصريّة ولا امتيازات وطنيّة ولا امتيازات سياسيّة.

لاحظوا لمّا ظهر حضرة المسيح جمع أممًا مختلفة وصالح بين أمم متحاربة وروّج وحدة العالم الإنسانيّ وجمع أمّة الرّومان الّتي كانت أمّة قاهرة وأمّة اليونان الّتي كانت أمّة ذات فلسفة وأمّة مصر الّتي كانت أمة متمدّنة وسائر الأمم من سريانيّين وآشوريّين وكلدانيّين وغيرهم وقد كانوا في منتهى الاختلاف والنّزاع والجدال فجمع حضرة المسيح هذه الأقوام المختلفة ورفع الاختلاف والنّزاع والجدال من بينها ولم يعمل هذا العمل بالقوّة القوميّة ولا بالقوّة الوطنيّة ولا بالقوّة السّياسيّة بل بالقوّة الإلهيّة وحقّقها بقوّة الرّوح القدس ولهذا فليس من الممكن تحقيق ذلك إلاّ بهذا الوسائط. وبغير ذلك يبقى هذا الاختلاف وهذا التّنازع إلى الأبد.

ولكن قد يخطر على البال هذا السّؤال: من أين نأتي بالقوّة الإلهيّة وبنفثات الرّوح القدس وبالفيوضات الرّبانيّة الّتي يتوقّف عليها تحقّق هذه الأمور العظيمة؟

في الحقيقة إنّ هذا السّؤال يخطر على البال وفي الجواب نقول فقط إنّ هذا الإله إله قديم وليس إلهًا جديدًا وإنّ سلطنة الله سلطنة قديمة وليست سلطنة جديدة وليست هذه السّلطنة سلطنة ستّة آلاف سنة. فإنّ هذا الكون لا يتناهى ولاحظوا أنّ هذا التّرتيب بهذه العظمة وهذه السّلطنة بهذه الشّوكة ليسا عمل بضعة قرون فإنّ أسماء الله وصفاته قديمة ونفس أسماء الله وصفاته تستلزم وجود الكائنات وتستلزم الخلقة وتستلزم جميع الحقائق الكونيّة. نحن نسمّي الله خالقًا. حسن جدًّا. إنّ الخالقيّة تتوقّف على وجود المخلوق فإن لم يكن هناك مخلوق فكيف تتحقّق خالقيّة الله؟ ونقول إنّه رازق فإذا لم يعطِ رزقًا فكيف يكون رازقًا؟ ونقول إنّه ربّ فإن لم يكن هناك مربوب فكيف يكون ربًّا؟ وإذًا فالله خالق من القديم ورازق من القديم وربّ من القديم وكان له من القديم مخلوق ومن القديم مرزوق ومن القديم مربوب. إذًا فلا شبهة في أنّ السّلطنة الإلهيّة سلطنة قديمة.

والسّلطنة تريد الرّعيّة وتريد الجيش وتريد الخزائن والذّخائر وتريد وزراء وتريد منتدبين وهل يمكن تصوّر السّلطنة بدون مملكة وبدون رعيّة وبدون جيش وبدون وزراء؟ وأولئك الّذين يقولون إنّ هناك وقتًا لم يكن لله فيه خلق ولا كان له جيش ولا كان له رعيّة فإنّهم في الحقيقة يعزلون الله أي أنّه قد نصّب حديثًا وأنّه أسّس سرير سلطنته حديثًا. إنّ هذا كلام لا يقوله طفل رضيع ولهذا فإنّ الباري تعالى كان دائمًا خالقًا وكان رازقًا وكان محييًا وكان سميعًا وبصيرًا. وكما أنّ الذّات الإلهيّة قديمة فإنّ الفيض الإلهيّ قديم أيضًا وقد أحاطت فيوضاته من على الأرض إحاطة تامّة.

وحيث إنّ الله غير محدود من حيث الذّات فكذلك أسماؤه وصفاته غير محدودة وحيث إنّ حقيقة الألوهيّة غير محدودة فكذلك فيضه غير محدود. والألوهيّة قديمة لا نهاية لها وكمالاته قديمة لا نهاية لها وربوبيّته قديمة لا نهاية لها فكما أنّ نفثات الرّوح القدس وهبت عالم الوجود الفيض قديمًا فكذلك فيض الرّوح القدس مستمرّ لا انتهاء له ولا نستطيع أن نقول إنّ فيضه نفد وانتهى فلو نقول إنّ فيضه ينفد فإنّ ألوهيته تنتهي أيضًا وفيض الشّمس وحرارتها شيء أبديّ وسرمديّ ولو يأتي يوم ينقطع فيه فيض الشّمس وحرارتها فإنّ الشّمس لن تعود شمسًا بل تكون شيئًا مظلمًا لأنّ الشّمس بدون حرارة وضياء ليست بشمس بل ظلمة.

إذن فإن أردنا تحديد الفيوضات الإلهيّة فإنّنا نحدّد الله.

وخلاصة القول اطمئنّوا بفضل الحقّ وعنايته واستبشروا بالبشارات الإلهيّة. فالإله الّذي عامل الأمم السّابقة بفضله ورحمته، والإله الّذي وهب قديمًا الرّوح الإلهيّة، والإله الّذي أعطى فيضًا أبديًّا هو مقتدر في كلّ وقت وفي كلّ زمان أن يجعل العالم الإنسانيّ مهبط أنوار الملكوت.

لهذا فثقوا أنّ ذلك الإله الّذي أعطى قديمًا يستطيع الآن أن يعطي أيضًا وأن يظهر في هيكل الإنسان الّذي هو "صورته ومثاله".

وذلك الإله الّذي نفث نفحة الرّوح القدس يستطيع الآن أيضًا أن ينفثها وسوف ينفثها فليس لفضله انقطاع. فهذه الرّوح سارية دائمًا وهذا فيض إلهيّ ولا يجوز أن يكون للفيض الإلهيّ من انقطاع.

لاحظوا هل يمكن تحديد الذّرّات الجزئيّة؟ فلا يجوز في الحقيقة تحديد أيّ نوع من أنواع الكائنات وهل تستطيون أن تقولوا إنّ هذه الطّبقة الأرضيّة انتهت وليس بعدها طبقة أرضيّة أخرى وإنّ البحر قد انتهى بهذا البحر وليس هناك بعده بحر آخر؟ أو إنّ المطر انتهى بهذا المطر وليس بعد هذا مطر آخر؟ أو إنّ إشراق الشّمس انتهى وبعد هذا الإشراق لا يمكن أن تكون شمس؟ فهل يمكن هذا؟ أستغفر الله منه.

فحينما نرى الفيض الإلهيّ مستمرًّا في الكائنات الجماديّة كيف نستطيع أن نقول إنّ ذلك الفيض الرّباني وقوّة الرّوح القدس وتلك الفيوضات الأبديّة قد انقطعت؟

وواضح أنّ حقائق الفيوضات الإلهيّة أعظم من الجماد فبعد أن يكون جسد الإنسان مستمرًّا باستمرار النّوع الإنسانيّ فلا شكّ أن يكون روح الحقيقة مستمرًّا أيضًا لأنّه لا يمكن أبدًا أن يكون جسد النّوع مستمرًّا ولا تكون الحقيقة والرّوح مستمرّين.

وإني لأشكر الله لوجودي في وسط جمع محترم مثل هذا، لهم إحساسات روحانيّة ويتحرّون الحقيقة، وغاية أملهم الصّلح العمومي وهدفهم خدمة العالم الإنسانيّ.

وعندما ننظر إلى الكائنات نشاهد أنّ كلّ شيء من الأشياء له دورة في جميع المراتب فمثلاً المادّة الأثيريّة لها دورة في جميع الكائنات وفي كلّ مكان يحصل تموّج فإنّ البصر يتأثّر بذلك التّموّج ويرى نورًا وكذلك الأمر مع الفيوضات الإلهيّة فإنّ لها دورة في جميع الكائنات وهي دورة ليس لها أوّل ولا يكون لها آخر وفي كلّ زمان يحصل فيه استعداد بشريّ فإنّ ذلك الفيض الّذي لا يتناهى يظهر مرّة أخرى.

ولهذا نرجو بعون الله وعنايته أن تجري روح الحياة هذه في جميع الكائنات وتحيي جميع البشر حتّى يصبح العالم الإنسانيّ عالمًا إلهيًّا ويصبح عالم النّاسوت مرآة عالم اللاّهوت وتتجلّى فضائل العالم الإنسانيّ وخصائله ويكشف "مثال الله وصورته" النّقاب في هذا الهيكل.

وإنّي لأشكر حضرة الرّئيس منتهى الشّكر والرّضاء وأرجو إبلاغه عنّي احتراماتي الفائقة وأرجو أن يوفّق الكلّ إلى الرّضاء الإلهيّ وإنّي مسرور جدًّا من إحساساتكم وإحساسات النّفوس الحاضرة وإنّي أرجو دائمًا للكلّ التّأييد والتّوفيق.

المصادر
المحتوى
OV