وحدانيّة الله
ألقيت في كنيسة الموحّدين في مونتكلر بتاريخ 12 أيّار 1912
هو الله
أريد في هذا المجمع المحترم أن أتكلّم عن الألوهيّة.
من الواضح أنّ الحقيقة الحادثة لا تستطيع إدراك الحقيقة القديمة. حينما نمعن النّظر في الكائنات نرى أنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون إدراك المقامات.
مثال ذلك عالم الجماد مهما ارتقى فإنّه لن يطّلع على عالم النّبات وعالم النّبات مهما نشأ ونما فإنّه لن يعلم شيئًا عن عالم الحيوان. وعالم الحيوان مهما ارتقى فإنّه لا يستطيع إدراك السّمع والبصر لأنّ هذا خارج عن نطاق إدراكه ومع أنّه في حيّز الوجود ولكنّه لا علم له عن عالم الإنسان لأنّ عالم الإنسان فوق مقامه ولهذا فإنّه مهما يرتقِ فلن يستطيع إدراك الحقيقة الإنسانيّة.
إنّ تفاوت المراتب مانع عن الإدراك إذن فإنّ كلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها مع أنّ الجميع كلّهم في حيّز الخلقة سواء أكان منها الجماد أم النّبات أم الحيوان أم الإنسان مع هذا فإنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون هذا الإدراك.
ومثلاً هذا النّبات موجود ونحن على اطّلاع من ذلك فما السّبب في اطلاعنا هذا؟ السّبب هو أننا في مقام فوق مقامه لكنّ هذا النّبات لا علم له حولنا ومهما يرتقِ فإنّه لن يحيط بالسّمع والبصر وما دام تفاوت المراتب يحول في عالم الحدوث دون الإدراك إذن فكيف تستطيع الحقيقة الإنسانيّة المخلوقة والحادثة أن تدرك حقيقة الألوهيّة؟
إنّ هذا غير ممكن، لماذا؟ لأن حقيقة الألوهيّة مقدّسة عن الإدراك. وفضلاً عن هذا إنّ كلّ ما يتصوّره الإنسان إنّما هو محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة. فهل يمكن أن يدرك المحاط المحيط؟ فمن المستحيل أن تصبح الحقيقة الإنسانيّة محيطة وتصبح حقيقة الألوهيّة محاطة في حين أنّ الإنسان محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة.
إذن فما يتصوّره الإنسان عن الألوهيّة ليس من الألوهيّة في شيء لأنّ حقيقة الألوهيّة لا يمكن تصوّرها لهذا تبعث الرّحمة الكلّيّة الإلهيّة مظاهر مقدّسة وتشرق على تلك المظاهر الإلهيّة بتجلّيات غير متناهية وتجعل تلك المظاهر واسطة للفيض.
والمظاهر المقدّسة الّتي هي الأنبياء إنّما هي بمثابة المرآة وحقيقة الألوهيّة بمثابة الشّمس تسطع في تلك المرايا بأشدّ إشراق وتستفيض المرايا من تلك الشّمس –شمس الحقيقة- لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّها ولم تدخل في المرايا وغاية ما في الأمر أنّ المرايا في منتهى الصّفاء والقابليّة والاستعداد، والمرايا من العالم الأرضيّ، وحقيقة الألوهيّة من أفق التّقديس، ومهما أشرقت حرارة الشّمس واستفاضت منها المرايا وصارت ممثّلة لها ومتفرّعة عنها لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّ تقديسها ولم تحلّ فيها.
هذا وإنّ شمس الحقيقة تشرق على مرايا متعدّدة ومهما تعدّدت المرايا لكنّ الشّمس شمس واحدة والفيوضات الإلهيّة واحدة والحقيقة واحدة والنّور واحد مشرق على جميع المرايا فبعض النّاس عاشق للشّمس يرى تجلّياتها في كلّ مرآة ولا يتقيّد بالمرايا بل هو متقيد بالشّمس وهو يعبد الشّمس في أيّة مرآة كانت.
أمّا الّذين ينظرون إلى المرآة وحدها فإنّهم يحرمون من مشاهدة الشّمس في مرآة أخرى فمثلاً أولئك الّذين رأوا المرآة الموسوية وآمنوا بها قد تقيّدوا بالمرآة الموسوية حين أشرقت الشّمس في المرآة المسيحيّة، لذا حرموا وخسروا في حين أنّ شمس الحقيقة كانت على أشدّ إشراقها في المرآة العيسويّة وكانت أنوارها أظهر وأبين واليهود لا يزالون حتّى الآن متمسّكين بالمرآة الموسويّة ومحرومين من مشاهدة شمس الحقيقة.
وخلاصة القول إنّ الشّمس شمس واحدة والنّور نور واحد وهي تشرق على جميع الكائنات على السّواء ولكلّ كائن نصيب منها. إذن فعلينا نحن أن نعبد الأنوار من أيّة مرآة كانت وأن لا نكون متعصّبين لأن التّعصّب يحول دون الوصول إلى الحقيقة. وحيث إنّ الإشراق واحد لذا يجب أن تستفيض الحقائق الإنسانيّة من نور واحد وذلك الإشراق الواحد هو قوّة جامعة تجمع الجميع.
لقد أنارت في هذا القرن النّورانيّ شمس الحقيقة جميع البشر فجعلت العيون بصيرة وجعلت الآذان سميعة وأحيت النّفوس ونحن كذلك يجب أن نكون على جانب عظيم من الألفة لأنّ الكلّ مستفيضون من شمس واحدة وأشرقت أنوار شمس واحدة على الجميع لعلّ يزول هذا النّزاع الّذي دام ستة آلاف سنة لعلّ تزول هذه المذابح ولعلّ تزول هذه التّعديات والعداوات من بيننا فيشرق نور محبّة الله ويرتبط بعضنا ببعض ليستريح كلّنا في ظلّ وحدة العالم الإنسانيّ ونأوي إلى ظلّ راية الصّلح الأكبر ونكون رحماء رؤوفين بجميع البشر.
يا إلهنا الرّؤوف الكريم الرّحيم إنّا عبيد عتبتك وكلّنا في ظلّ وحدانيّتك وإنّ شمس رحمتك مشرقة على الكلّ وسحاب عنايتك يمطر على الكلّ وألطافك شاملة للكلّ وفضلك رازق لكلّ وإنّك حافظ للكلّ وناظر إلى الكلّ بنظرة المكرمة يا ربّنا اشملنا ألطافك الّتي لا تتناهى وأشعل نور الهداية وأنر العيون وامنح القلوب سرورًا أبديًّا وهبها روحًا جديدًا وحياةً أبديّةً وافتح أبواب العرفان وليسطع نور الإيمان ووحّد الكلّ في ظلّ عنايتك واجعل الجميع متّفقين ليكونوا أنوارًا لشمس واحدة وأمواجًا لبحر واحد وأثمارًا لشجرة واحدة يشربون من عين واحدة ويهتزّون بنسيم واحد ويقتبسون أنوار واحدة إنّك أنت المعطي المقتدر الوهّاب.