التّطور والتّجدّد
الخطبة المباركة ألقيت في مؤتمر الموحّدين بمعبد ترامونت
في بوسطن – أمريكا في 22 أيّار سنة 1912
هو الله
وصلت من السّفر توًّا في هذه اللّيلة وأنا متعب ومع هذا فسوف أتكلّم قليلاً لأنّني أرى جمعًا محترمًا قد حضر إلى هذا المكان وأرى لزامًا عليّ أن أتكلّم.
لاحظوا أنّ جميع الكائنات في حركة لأنّ الحركة دليل على الوجود والسّكون دليل على الموت وكلّ كائن ترونه متحرّكًا فهو حيّ وكلّ كائن ترونه غيرمتحرّك فهو ميّت.
إنذ جميع الكائنات في تطوّر ونموّ وليس لها سكون أبدًا ومن بين الكائنات المعقولة الدّين. فيجب إذًا أن يكون الدّين متحرّكًا، وأن ينمو يومًا فيومًا وإنّه لم يتحرك بقي خامدًا وصار ذابلاً لأنّ الفيوضات الإلهيّة مستمرّة.
وما دامت الفيوضات الإلهيّة مستمرّة فالدّين إذًا يجب أن ينمو ويترعرع.
وإذا دقّقتم النّظر ترون أنّ جميع الأمور قد تجدّدت لأنّ هذا القرن النّورانيّ هو قرن تجديد جميع الأشياء، فقد تجدّدت العلوم والفنون وتجدّدت المخترعات والمكتشفات وتجدّدت الأنظمة والقوانين وتجدّدت التّقاليد والعادات وتجدّدت الأفكار ولم يعد لعلوم القرون الماضية وقوانينها وعاداتها فائدة لأنّ هذا القرن قرن المعجزات وقرن ظهور الحقيقة وهو كالشّمس السّاطعة بين القرون الماضية.
تأمّلوا قليلاً في العلوم فهل هناك فائدة من علوم القرون الماضية؟ أو هل هناك فائدة للقوانين الطّبية القديمة؟ أو هل للنّظم الاستبدادية القديمة من فائدة؟ فواضح أنّ كلّ واحد منها لا فائدة منه فكيف تكون هناك فائدة اليوم من تقاليد الأديان الماضية؟ تلك التّقاليد الّتي نشأت من الأوهام لا من أساس رسالات أنبياء الله. وهل يمكن اليوم أن تنتج فائدة وخاصّة لدى أولي العقل والعلم؟
فهؤلاء يرون أنّ هذه التّقاليد ليست مطابقة للحقيقة والعلم بل هي مجرّد أوهام لهذا فقد تمسّك المادّيّون اليوم بهذه الذّريعة وصاروا يقاومون الأديان.
ولكنّ أنبياء الله أسّسوا الدّين الحقيقيّ وهم براء من هذه التّقاليد. فهم نشروا معرفة الله وأظهروا الأدلّة العقليّة وشيّدوا صرح الأخلاق الإنسانيّة وروَّجوا فضائل العالم الإنسانيّ. وقد كانت هذه الأسس الّتي وضعها الأنبياء سبب حياة البشر وسبب نورانيّة العالم الإنسانيّ.
ولكن وللأسف تبدّلت تلك الحقائق الّتي نشرها الأنبياء تبدّلاً كلّيًّا. ومحت تعاليمهم الّتي تحمّلوا البلايا والمحن العظيمة من أجل تنفيذها نتيجة تفشّي التّقاليد. فقد تحمّل وكابد كلّ واحد من الأنبياء محنًا وعذابًا يفوق طاقة البشر ونفي بعضهم حتّى أسّسوا الأساس الإلهيّ ولكن لم تمضِ مدّة حتّى ذهب أساس الحقيقة وحلَّت محلّه التّقاليد. وحيث إنّ التّقاليد كانت مختلفة لذا فقد صارت سبب الاختلاف والنّزاع بين البشر فانتشرت الحروب في ما بينهم.
ولكنّ الأنبياء لا يعلمون شيئًا عن هذه التّقاليد بل هم براء منها لأنّهم واضعو أسس الحقيقة. فإذا تركت أمم العالم هذه التّقاليد اليوم وتحرّت الحقيقة فإنّها لا شكّ تتّحد وتتّفق.
والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد. والحقيقة هي نور التّوحيد وأساس وحدة العالم الإنسانيّ أمّا التّقاليد فإنّها سبب فرقة البشر ومنشأ الحرب والجدال.
إنّ جميع الأديان الّتي تعرفونها اليوم ناشئة عن تقليد الآباء والأجداد. فالشّخص اليهوديّ أبوه يهوديّ ولذلك فهو يهوديّ أيضًا ولو كان أبوه مسيحيًّا لكان هو مسيحيًّا أيضًا. وذاك أبوه بوذيّ فأصبح هو بوذيًّا أيضًا ولو كان والده زرادشتيًّا لكان هو زرادشتيًّا أيضًا فهؤلاء الأولاد كلّهم يقلّدون آباءهم ولا يتحرّون الحقيقة أبدًا وقد بقوا تحت وطأة التّقاليد وصارت هذه التّقاليد سبب اضطراب العالم الإنسانيّ وما لم تمحَ هذه التّقاليد لا يحصل اتّحاد واتّفاق وما لم تزل هذه التّقاليد فلن تكون راحة وطمأنينة في العالم الإنسانيّ.
إذن يجب أن تتجدّد حقيقة الأديان الإلهيّة مرّة أخرى لأنّ كلّ دين هو بمثابة حبّة نبتت ونشأت منها أغصان وأزهار وظهرت ثمارها لكنّ هذه الشّجرة أصبحت اليوم قديمة وتساقطت أوراقها وتوقّف إثمارها بل اهترأت فما الفائدة بعد هذا من التّشبّث بها. إذن يجب أن نزرع البذرة من جديد.
وبالنّظر إلى أنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد فإذا ترك البشر التّقاليد جانبًا اتّحدت جميع الأمم والأديان وأصبح الجميع رحماء ولم يبقَ نزاع في ما بينهم قطّ لأنّ الكلّ عبيد إله واحد والله رؤوف بالكلّ ورازق للكلّ ومحيي للكلّ ومعطي للكلّ كما يتفضّل حضرة المسيح: "إنّ الشّمس الإلهيّة تشرق على العاصي والمطيع" وهذا يعني أنّ رحمة الله عامّة وأنّ كلّ البشر في ظلّ عناية الحقّ غارقون في بحر النّعمة الإلهيّة وأنّ الفيض والموهبة الإلهيّة شاملة للكلّ.
وقد تهيّأ للجميع طريق التّرقي اليوم. والتّرقي قسمان: جسمانيّ وروحانيّ. فالتّرقي الجسمانيّ سبب الرّاحة في الحياة الدّنيا أمّا التّرقي الرّوحانيّ فسبب عزّة العالم الإنسانيّ لأنّه يخدم العالم الإنسانيّ وعالم الأخلاق. وهكذا فالمدنيّة الجسمانيّة سبب السّعادة الدّنيويّة أمّا المدنيّة الإلهيّة فسبب العزّة الأبديّة لعموم البشر.
وقد أسّس أنبياء الله المدنيّة الرّوحانيّة وخدموا عالم الأخلاق وبنوا الأخوّة الرّوحانيّة، والأخوّة على أنواع فهناك أخوّة عائليّة وأخوّة وطنيّة وأخوّة جنسيّة وأخوّة أدبيّة وأخوّة لغويّة ولكنّ هذه الأنواع من الأخوّة لا تؤدّي إلى إزالة التّنازع والتّقاتل بين البشر. أمّا الأخوّة الرّوحانيّة المنبعثة من الرّوح القدس فإنّها تؤدّي إلى حصول الارتباط التّام بين البشر وتقتلع جذور الحرب اقتلاعًا تامًّا وتجعل الأمم المختلفة أمّة واحدة والأوطان المتعدّدة وطنًا واحدًا لأنّها تؤسّس الوحدة وتخدم الصّلح العموميّ.
لهذا يجب أن نعرف أساس الأديان الإلهيّة وأن ننسى هذه التّقاليد وأن ننشر حقيقة التّعاليم الإلهيّة ونعمل بموجبها حتّى تنتشر الأخوّة الرّوحانيّة العموميّة بين البشر. وإنّ هذا لن يتحقّق بغير قوّة الرّوح القدس، فالسّعادة النّاسوتيّة تتحقّق بها، والعزّة اللاّهوتيّة تتحقّق بها، والاستفاضة من الفيض الأبديّ في جميع المراتب تتحقّق بها، وإعلان الصّلح العموميّ يتحقّق بها، ووحدة العالم الإنسانيّ تتحقّق بها، وبقوّة الرّوح القدس هذه يصبح هذا القرن نورانيًّا ويتحقّق النّجاح والفلاح ويتّحد عموم البشر وتصبح جميع الأوطان وطنًا واحدًا وجميع الملل ملّة واحدة وليست هناك منقبة أرفع من هذه في العالم الإنسانيّ.
ولله الحمد لقد ترقّت العلوم والفنون في هذا القرن وفاز النّاس بحرّيّة أكثر من ذي قبل وارتقت العدالة وأصبح هذا القرن جديرًا بالعنايات الرّبّانيّة. لقد حلّ قرن تأسيس الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ.