التّقرّب إلى الله
الخطبة المباركة ألقيت في كنيسة المعمدانيّين في
نيويورك – أمريكا مساء 26 أيّار سنة 1912
هو الله
لقد جاء هذه اللّيلة في أثناء النّشيد شيء من ذكر التّقرب إلى الله. إنّ التّقرب إلى الله هو أعظم موهبة في العالم الإنسانيّ، وكلّ شرف وكلّ فضيلة وكلّ موهبة يتيسّر حصولها للإنسان إنّما تتيسّر بالتّقرّب إلى الله.
إنّ جميع الأنبياء والرّسل كانوا يريدون التّقرّب إلى الله وكم من ليالٍ بكوا وكم من أيّام تضرّعوا وابتهلوا فيها طلبًا للتقرّب إلى الله ولكنّ الحصول عليه ليس بأمر يسير فقد كان جميع البشر طالبين التّقرّب إلى الله في اليوم الّذي ظهر فيه حضرة المسيح ولم يفز أحد بهذا المقام إلاّ الحواريّون فقد فازت تلك النّفوس المباركة بالتّقرّب إلى الله لأن التّقرّب إلى الله مشروط بشرط محبّة الله والتّقرب إلى الله مشروط باكتساب معرفة الله وبالانقطاع عمّا سوى الله.
ويتمّ التّقرب إلى الله بالتّضحية بالرّوح ويتمّ بالفداء بالنّفس وبالرّوح وبالمال وبجميع الشّؤون. ويتمّ التّقرب إلى الله بالتّعميد بالرّوح وبالنّار وبالماء لأنّه يتفضّل في الإنجيل بأنّ كلّ نفسٍ يجب أن تتعمّد بالماء والرّوح ويتفضّل في مكان آخر بأنّه يجب التّعميد بالنّار والرّوح، في حين يجب أن نعلم أنّ المقصود بالماء ماء الحياة والمقصود بالرّوح الرّوح القدس والمقصود بالنّار نار محبّة الله والمقصود من كلّ ذلك هو أنّ الإنسان يجب أن يتعمّد بماء الحياة وبالرّوح القدس وبنار محبّة الله حتّى يحصل على التّقرب إلى الله بعد حصوله على المقامات الثّلاثة.
هذا هو التّقرب إلى الله ولا يمكن الحصول عليه بالسّهولة ويتمّ الحصول عليه كما حصل عليه عشرون ألف بهائيّ بفدائهم أرواحهم. فالبهائيّون فدوا أموالهم وفدوا عزّتهم وفدوا راحتهم وفدوا أنفسهم العزيزة وتوجّهوا بمنتهى السّرور إلى مشهد الفداء فقطّعت أجسادهم إربًا إربًا وخرّبت بيوتهم ونهبت أموالهم وأسر أطفالهم وقد قبلوا جميع هذه البلايا بمنتهى السّرور والابتهاج بلى بمثل هذه التّضحيات يتحقّق التّقرب إلى الله.
ومن المعلوم أنّ التّقرب إلى الله لا يحدّد حدود الزّمان والمكان. فالتّقرب يتمّ بصفاء القلب ويتحقّق ببشارات الرّوح. لاحظوا المرآة تروها، حينما تكون صافية ومجرّدة من الصّدأ قريبة من الشّمس رغم وجود مسافة مائة ألف مليون ميل بينهما وبمجرّد الصّفاء واللّطافة تسطع الشّمس في تلك المرآة وكذا القلوب حينما تكون صافية لطيفة تقترب من الله وتسطع فيها شمس الحقيقة وتشتعل فيها نار محبّة الله وتنفتح عليها أبواب الفتوحات المعنويّة ويطّلع الإنسان على الرّموز والأسرار الإلهيّة ويقوم باكتشافات روحانيّة ويشاهد عالم الملكوت.
ولقد حصل جميع الأنبياء على التّقرّب إلى الله بهذه الواسطة إذن فنحن كذلك يجب أن نتّبع أثر تلك النّفوس المقدّسة ونترك أهواءنا وننجو من لوث العالم البشريّ حتّى تصبح القلوب مثل المرايا وتشرق منها أنوار الهداية الكبرى. ويتفضّل حضرة بهاء الله في الكلمات المكنونة بأنّ الله يخاطب البشر بواسطة أوليائه وأنبيائه ويقول: "فؤادك منزلي قدّسه لنزولي وروحك منظري طهرّها لظهوري".
إذن فقد فهمنا من هذا أنّ التّقرب إلى الله يتمّ بالتّوجّه إلى الله والتّقرّب إلى الله يتمّ بالدّخول في ملكوت الله والتّقرّب إلى الله يتمّ بخدمة العالم الإنسانيّ والتّقرّب إلى الله يتمّ بمحبّة البشر والتّقرب إلى الله يتحقّق بالعطف على جميع البشر والتّقرّب إلى الله يتحقّق باتّحاد واتّفاق جميع الأمم والأديان والتّقرّب إلى الله يتحقّق بتحرّي الحقيقة ويتحقّق بتحصيل العلوم والفضائل ويتحقّق بخدمة الصّلح العموميّ ويتحقّق بالتّنزيه والتّقديس ويتحقّق بإنفاق الرّوح والمال والعزّة والمنصب.
لاحظوا أنّ الشّمس تشرق على جميع الكائنات لكنّ أنوار الشّمس تسطع في الصّفحة الطّاهرة المقدّسة سطوعًا قويًّا أمّا الحجر الأسود فلا نصيب له منها. والأرض الجرداء لا تنال شعاعًا من ذلك الإشراق والشّجرة اليابسة لا تنمو من حرارتها والعين العمياء لا تشاهد الأنوار في حين أنّ النّفوس ذوات الأعين الطّاهرة تشاهد الشّمس وتنال الأشجار النّضرة نصيبًا من إشراقها. إذًا يجب على الإنسان أن يعدّ نفسه وأن تكون له قابليّة. وما لم يكن لدى الإنسان استعداد وقابليّة فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا تظهر فيه ولا تتجلّى.
ولو أمطرت سحب الرّحمة الإلهيّة ألف سنة على أرض سبخة فإنّها لا تنبت الورود والرّياحين. إذن يجب أن نجعل مزرعة القلب طيّبة طاهرة حتّى يمطر عليها مطر الرّحمة الإلهيّة وتنبت منها الورود والرّياحين ويجب أن نحصل على عيون مبصرة لكي نشاهد أنوار الشّمس ويجب أن نطهّر المشامّ حتّى نستنشق رائحة حديقة الأزهار ونعدّ المسامع حتّى نستمع نداء ملكوت الله.
أمّا إذا كانت الآذان صمّاء فإنّها لن تسمع أيّة نغمة تأتي من الملأ الأعلى ولن يبلغ سمعها نداء الملكوت. والمشامّ المزكوم لا يستشمّ الرّائحة العطرة. إذًا يجب اكتساب القابليّة والاستعداد وما لم تحصل القابليّة والاستعداد فلن تؤثّر الفيوضات الإلهيّة، ويتفضّل حضرة المسيح في الإنجيل بأنّ البيانات الّتي أقولها لكم إنّما هي كالبذور الّتي يبذره الزّارع فبعض تلك البذور يقع على الصّخر والبعض يقع على أرض بور والبعض يقع بين الحشائش والبعض الآخر يقع في أرض طيّبة مباركة، فالبذر الّذي وقع في الأرض السّبخة يفسد ولا ينبت بأيّ وجه من الوجوه والبذرة الّتي تقع على صخرة تنمو نموًّا قليلاً ولكنّها بسبب قصر جذورها تجفّ والبذرة الّتي تقع بين الحشائش تختنق ولا تنبت. أمّا تلك البذرة الّتي تقع على الأرض الطّيبة فإنها تنبت إنباتًا وتخضرّ اخضرارًا وتصبح سنبلاً ثمّ بيدرًا. كما أنّ ما اتّحدث بها فإنّها لا تؤثّر أبدًا في بعض القلوب وتؤثّر في البعض الآخر تأثيرًا قليلاً تنساه بعد قليل. والبعض الآخر يغرق وصاياي ونصائحي في بحر أوهامهم الكثيرة. أمّا النّفوس المباركة فحينما يسمعون الوصايا والنّصائح تنبت تلك البذرة الطّاهرة في قلوبهم وتخضرّ وتزدهر فيرتقون يومًا بعد يوم رقيًّا لا نهاية ويلمعون لمعان النّجوم في أفق الهداية فلاحظوا أنّه ما لم تحصل اللّياقة والاستعداد لن يصل نداء الملكوت إلى السّمع.
إذن يجب علينا أن نبذل الجهد حتّى نحصل على الاستعداد واللّياقة وحتّى نسمع نداء الملكوت الأبهى وحتّى نسمع البشارات الإلهيّة فنحيا بنفثات الرّوح القدس ونصير سببًا لاتّحاد جميع الملل والأمم ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ وننشر الأخوّة الرّوحانيّة بين البشر ونفوز بالرّضى الإلهيّ وبالحياة الأبديّة.
"يا إلهي الغفور إنّ هؤلاء العباد متوجّهون إلى ملكوتك ويطلبون الفيض والعناية. فيا إلهي اجعل القلوب طيّبة طاهرة حتّى تحصل على قابلية محبتك وطهّر الأرواح حتّى تتجلّى فيها أنوار شمس الحقيقة وطهّر العيون حتّى تشاهد أنوارك وطهّر الآذان وقدّسها حتّى تسمع نداء ملكوتك. يا إلهي نحن ضعفاء وأنت القدير ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن سائلون وأنت المقصود. إلهي ارحم واعفُ وأنعم علينا بالقابليّة والاستعداد حتّى نستحقّ ألطافك وننجذب إلى ملكوتك ونرتوي من ماء الحياة ونشتعل بنار محبّتك ونحيا بنفثات الرّوح القدس في هذا القرن النّورانيّ. إلهي إلهي تلطّف على هذا الجمع بنظرة عنايتك واحفظ الجميع وصنهم في حفظك وحمايتك وأنزل البركة السّماويّة لهؤلاء النّفوس واجعلهم مستغرقين في بحور رحمتك وأحيهم بنفثات الرّوح القدس. إلهي أيّد هذه الحكومة العادلة ووفّقها فهذا الإقليم هو في ظلّ حمايتك وهذه الملّة أرقّاؤك. إلهي فابذل عنايتك وامنحنا فضلك وموهبتك وعزّز هذه الملّة المحترمة واقبلها في ملكوتك. إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت القدير وإنّك أنت الرّحمن وإنّك أنت المنعم العطوف وإنّك أنت كثير الإحسان".