تعاليم بهاء الله-فيلادلفيا – أمريكا صباح الأحد في 8 حزيران 1912

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة في كنيسة الموحّدين في مدينة

فيلادلفيا – أمريكا صباح الأحد في 8 حزيران 1912

هو الله

لقد جئت من الشّرق من مملكة بعيدة، من مملكة طلع فيها دائمًا نور السّماء وهي مملكة ظهرت منها المظاهر المقدّسة وكانت محلّ ظهور القدرة الإلهيّة.

ومرادي ومقصودي هو أن يحصل إن شاء الله ارتباط بين الشّرق والغرب وتحيط محبّة الله بكلا الطّرفين وتنير النّورانيّة الإلهيّة كلا الإقليمين وتحيي الجميع نفحات الرّوح القدس. لهذا أتضرّع إلى العتبة الإلهيّة أن يجعل الشّرق والغرب إقليمًا واحدًا ويجعل هذه الأديان دينًا واحدًا ويجعل هذه النّفوس نفسًا واحدة ويصبح الجميع بمثابة أنوار شمس واحدة وأمواج بحر واحد ويصبح الجميع أشجارًا في بستان واحد ويصبح الكلّ أوراقًا وأزهارًا في حديقة واحدة.

إنّ حقيقة الألوهيّة وحدانيّة محضة ومقدّسة ومنزّهة عن إدراك الكائنات، لأنّ إدراك الكائنات محدود وحقيقة الألوهيّة غير محدودة وكيف يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود؟ فنحن فقر محض وحقيقة الألوهيّة غنى صرف. وكيف يحيط الفقر البحت بالغنى المطلق؟ ونحن عجز صرف. وحقيقة الألوهيّة قدرة محضة وكيف يستطيع العجز الصّرف أن يدرك القدرة المحضة؟ إنّ الكائنات المركّبة من عناصر والّتي هي على الدّوام في انتقال وانقلاب كيف تستطيع أن تتصوّر الحقيقة الّتي هي الحيّ القيّوم القديم! فمن المؤكّد أنّها عاجزة عن ذلك. لأنّنا حينما ننظر إلى الكائنات نشاهد أنّ تفاوت المراتب مانع للإدراك وكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها. مثلاً الجماد مهما ارتقى فإنّه لن يدرك عالم النّبات. والنّبات مهما ارتقى فإنّه لن يدرك حقيقة الحيوان ولن يعرف عن السّمع والبصر شيئًا، كذلك مهما ارتقت الحقيقة الحيوانيّة لن تطّلع على حقيقة الإنسان ولا تدرك القوّة العاقلة له. إذن اتّضح أن تفاوت المراتب مانع للإدراك ولا تستطيع كلّ رتبة دانية إدراك ما فوقها.

لاحظوا بصورة دقيقة تروا أنّ هذه الزّهرة على ما هي عليه من الظّرافة واللّطف والعطر وهي في درجة الكمال في عالم النّبات إلا أنّها لا تدرك حقيقة الإنسان ولن تستطيع تصوّر السّمع والبصر في عالم الإنسان ولن يتحقّق لها عقل الإنسان وإدراكه وليس لها خبر عن عالم الإنسان. ومع أنّ كلاًّ من الزّهرة والإنسان حادث إلا أنّ تفاوت المراتب هو السّبب في عدم الإدراك لأنّ رتبة الإنسان عالية ورتبة النّبات دانية. إذن فكيف تستطيع الحقيقة البشريّة إدراك حقيقة الألوهيّة؟ وكيف يستطيع الإنسان المحدود إدراك الرّبّ غير المحدود؟ لا شكّ أنّه لن يستطيع ذلك ولن يصل ذلك إلى تصوّر الإنسان لأنّ كلّ ما يأتي ضمن تصوّر الإنسان إنّما هو محدود بينما حقيقة الألوهيّة غير محدودة.

ولكنّ تلك الحقيقة الإلهيّة قد أفاضت الوجود على جميع الكائنات ومواهبها ظاهرة في العالم الإنسانيّ وأنوارها منتشرة في عالم الوجود مثل انتشار أنوار الشّمس فعندما تلاحظون الشّمس ترون أنّ نورها وحرارتها ساطعة على الأشياء وكذلك تشرق أنوار شمس الحقيقة على الكلّ. فنورها واحد وحرارتها واحدة وفيضها واحد وهي ساطعة على جميع الكائنات. لكنّ مراتب الكائنات متعدّدة واستعدادها متفاوت وكلّ واحد يستفيض من الشّمس بقدر استعداده. فالحجر الأسود لديه شعاع من الشّمس والأشجار لها شعاع من الشّمس والحيوانات لديها شعاع من الشّمس وقد تربّت بحرارة الشّمس والشّمس واحدة والفيض واحد.

ولكنّ النّفوس الكاملة من البشر مثل المرآة الّتي تشرق الشّمس فيها بتمام قوّتها وتظهر فيها كمالات الشّمس وتتجلّى وتتّضح فيها حرارة الشّمس وضياؤها بتمامها وهي تحكي عن الشّمس. إنّ هذه المرايا هي المظاهر المقدّسة الّتي تمثل حقيقة الألوهيّة تمامًا كالشّمس الظّاهرة في المرآة. وفي المرايا تظهر صورة الشّمس السّماويّة ومثالها. وكذلك تظهر صورة الشّمس الحقيقة ومثالها وتتجلّى في مرآة الحقيقة الّتي هي المظهر المقدّس ولهذا يتفضّل حضرة المسيح: "الأب في الابن" والمراد هو أن تلك الشّمس –شمس الحقيقة- ظاهرة في هذه المرآة وليس المراد هو أنّ الشّمس تنزّلت عن مكانها وجاءت واستقرّت في هذه المرآة. لأنّه ليس لحقيقة الألوهيّة صعود ونزول وليس لها دخول وخروج. وهي مقدّسة ومنزّهة عن الزّمان والمكان وهي دومًا في مركز التّقديس لأنّه ليس هناك لحقيقة الألوهيّة تغيير وتبديل إذ إنّ التّغيير والتّبديل والانتقال من حال إلى حال من خصائص الحقيقة الحادثة.

وفي الوقت الّذي اشتدّ فيه الخلاف والنّزاع والخصام شدّة عظيمة في بلاد الشّرق وكانت المذاهب والملل يحارب بعضها بعضًا وكانت الأجناس المختلفة يخاصم بعضها بعضًا – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق وتفضّل بإعلان وحدة الفيوضات الإلهيّة ووحدة الإنسانيّة وأنّ جميع البشر عبيد إله واحد وجميعهم نالوا الوجود من فيض الخلق الإلهيّ. وأنّ الله رؤوف بالجميع وهو يربّي الجميع وهو رؤوف بكلّ جنس وبكلّ ملّة ويرزق الجميع ويربّيهم ويحفظهم ويشملهم جميعًا بالألطاف، وما دام الله رؤوفًا بالكلّ فلماذا نكون نحن غير رؤوفين؟ وما دام الله وفيًّا مع الكلّ فلماذا نكون نحن عديمي الوفاء؟ وما دام الله يعامل الكلّ بالرّحمة فلماذا نعامل بعضنا بعضًا بالعنف والغضب؟

وهذه هي السّياسة الإلهيّة ولا شكّ أنّها من السّياسة البشريّة لأنّ البشر مهما كانوا عاقلين ليس من الممكن أن تكون سياستهم أعظم من السّياسة الإلهيّة. إذن يجب علينا نحن أن نتابع السّياسة الإلهيّة وأن نحبّ جميع الملل والخلق وأن نكون رؤوفين بالجميع ونعتبر الجميع أوراقًا وبراعم وأثمارًا لشجرة واحدة لأنّ الجميع من سلالة عائلة واحدة ومن أولاد آدم واحد والكلّ أمواج بحر واحد وأعشاب حقل واحد ويعيشون في حماية إله واحد. وغاية ما في الأمر أنّ أحدهم عليل تجب معالجته وجاهل يجب تعليمه ونائم يجب إيقاظه وغافل يجب تنبيهه.

وقد أعلن حضرة بهاء الله وحدة العالم الإنسانيّ وكذلك وحدة الأديان. لأنّ جميع الأديان الإلهيّة أساسها الحقيقة والحقيقة لا تقبل التّعدّد والحقيقة واحدة وأساس جميع أنبياء الله واحد وهو الحقيقة ولو لم يكن الحقيقة لكان باطلاً. وحيث إنّ الأساس هو الحقيقة لهذا فإنّ بناء الأديان الإلهيّة واحد. وغاية ما في الأمر أنّ التّقاليد حلّت في وسطها وظهرت آداب وتقاليد زائدة وهذه التّقاليد ليست من الأنبياء إنّما هي حادثة وبدعة. وحيث إنّ هذه التّقاليد مختلفة لذلك صارت سبب اختلاف الأديان، أمّا إذا نبذنا هذه التّقاليد وتحرّينا حقيقة أساس الأديان الإلهيّة فلا شكّ أنّنا نتّحد.

وكذلك أعلن وحدة النّوع الإنسانيّ وأنّ النّساء والرّجال كلّهم متساوون في الحقوق وليس بينهم تمايز بأيّ وجه من الوجوه لأنّهم جميعًا بشر ويحتاجون فقط إلى التّربية فإذا تربّت النّساء مثل الرّجال فلا شكّ مطلقًا في أنّه سوف لا يبقى أيّ امتياز لأنّ العالم الإنسانيّ كالطّير يحتاج إلى جناحين أحدهما الإناث والآخر الذّكور ولا يستطيع الطّير أن يطير بجناح واحد وأيّ نقص في أحد الجناحين يكون وبالاً على الجناح الآخر. وعالم البشريّة مثل يدين فإذا بقيت يد ناقصة تتعطّل اليد الأخرى الكاملة عن أداء وظيفتها. وقد خلق الله جميع البشر ووهب الجميع عقلاً ودراية ووهب الجميع عينين وأذنين ويدين ورجلين ولم يميّز بعضًا عن بعض. فلماذا تكون النّساء أحطّ من الرّجال؟ إنّ العدالة الإلهيّة لا تقبل بهذا. والعدل الإلهيّ خلق الجميع متساوين، وليس لدى الله ذكور وإناث وكلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن فهو مقبول أكثر لدى الله سواء كان امرأة أم رجلاً. وكم من نساء ظهرن وكنّ فخر الرّجال مثل حضرة مريم الّتي كانت فخر الرّجال ومريم المجدليّة الّتي كان الرّجال يغبطونها ومريم أمّ يعقوب الّتي صارت قدوة للرّجال وآسيا بنت فرعون وسارة زوجة إبراهيم اللّتين كانتا فخر الرّجال وأمثالهنّ كثيرات. فقد كانت حضرة فاطمة سراج جميع النّساء وكانت حضرة قرّة العين كوكبًا نورانيًّا ساطعًا وفي هذا العصر توجد في إيران نساء هنّ فخر الرّجال عالمات شاعرات مثقّفات في منتهى الشّجاعة. ثمّ إنّ تربية النّساء أعظم من تربية الرّجال بل وأهم لأنّ هؤلاء البنات سيصبحن ذات يوم أمّهات والأمّ هي الّتي تربّي الأطفال، والأمّهات هنّ المعلّمات للأطفال لهذا يجب أن يكنّ في منتهى الكمال والعلم والفضل حتّى يستطعن تربية الأولاد وإن كانت الأمّهات ناقصات ظلّ الأطفال جهلاء بلهاء.

كذلك دعا حضرة بهاء الله لوحدة التّربية وأعلن أنّها لازمة من أجل اتّحاد العالم الإنسانيّ كي ينال جميع البشر رجالاً ونساء وبنات وأولادًا تربية واحدة. وحينما تصبح التّربية على نمط واحد في جميع المدارس يحصل بين البشر ارتباط تام، وعندما ينال جميع الجنس البشريّ نوعًا واحدًا من التّعليم تتمّ وحدة الرّجال والنّساء وينهدم بنيان الحروب ولا يمكن أن تنتهي الحروب إلاّ بعد تحقّق هذه المسائل ذلك لأنّ اختلاف التّربية يورث الحروب بينما المساواة في الحقوق بين الذّكور والإناث تمنع الحروب. فالنّساء لا يرضين بالحروب. فهؤلاء الشّبّان أعزّاء جدًّا عند أمّهاتهم ولا ترضى الأمّهات أبدًا بإرسال أبنائهنّ إلى ميدان القتال لتسفك دماؤهم، فالشّابّ الّذي أمضت أمّه عشرين سنة في تربيته بمنتهى المشقّة والصّعوبة هل ترضى أمّه أن يقطع إربًا إربًا في ميدان الحرب؟ ومهما حاولوا أن يدخلوا في عقولهنّ الأوهام باسم محبّة الوطن والوحدة السّياسيّة ووحدة الجنس ووحدة العرق ووحدة المملكة وقالوا لهنّ بأنّ هؤلاء الشّبّان يجب أن يذهبوا ويقتلوا من أجل هذه الأوهام فلا ترضى أيّة أمّ بذلك.

ولهذا فحينما تعلن المساواة بين المرأة والرّجل فلا شكّ أنّ الحرب سوف تزول ولا يعود يضحّى بأطفال البشريّة فداء للأوهام.

ومن جملة التّعاليم الّتي أعلنها حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون مطابقًا للعقل ومطابقًا للعلم وأنّ العلم يصدّق الدّين والدّين يصدّق العلم وكلاهما يرتبطان ببعضهما ارتباطًا تامًا. هذا هو أصل الحقيقة وإذا ما خالفت مسألة من المسائل الدّينيّة العقل وخالفت العلم فإنّها وهم محض. فكم تموّجت من أمثال هذ البحور الوهميّة في القرون الماضية! لاحظوا أوهام ملّة الرّومان واليونان الّتي كانت أساس دينهم ولاحظوا أوهام المصريّين الّتي كانت أساس دينهم أيضًا وجميع هذه الأوهام مخالفة للعقل ومخالفة للعلم واتّضح الآن وتجلّى أنّها كانت أوهامًا ولكنّها في زمانها كانت عقائد تمسّكوا بها أشد التّمسك. فالمصريّون القدماء مثلاً حينما كان يذكر أمامهم اسم صنم من أصنامهم كانوا يزعمون أنّ ذلك معجزة من معجزات ذلك الصّنم في حين أنّه في الحقيقة قطعة من الصّخر.

إذن يجب علينا نحن أن نتخلّى عن هذه الأوهام ونتحرّى الحقيقة. فكلّ ما نراه مطابقًا للحقيقة نقبله وكلّ ما لا يصدّقه العلم ولا يقبله العقل فهو ليس بحقيقة بل تقاليد وهذه التّقاليد يجب نبذها ويجب التّمسك بالحقيقة فلا نقبل الدّين الّذي لا يطابق العقل والعلم. وحينما يتمّ هذا لا يبقى اختلاف بين البشر إطلاقًا وتصبح جميعًا ملّة واحدة وجنسًا واحدًا ووطنًا واحدًا وسياسة واحدة وإحساسات واحدة وتربية واحدة.

يا إلهي الغفور أنت مأوى لهؤلاء العبيد وأنت مطّلع على الأسرار وأنت الخبير. كلّنا عاجزون وأنت المقتدر القدير وكلّنا خطاة وأنت غافر الذّنوب الرّحمن الرّحيم. يا إلهنا لا تنظر إلى تقصيرنا بل عاملنا بفضلك وموهبتك. ذنوبنا كثيرة ولكنّ بحر رحمتك لا منتهى له، ونحن في أشدّ العجز ولكنّ تأييدك وتوفيقك ظاهران، إذن أيّدنا ووفّقنا إلى ما يليق بعتبتك وأنر القلوب واجعل العيون تبصر والآذان تسمع وأحيي الموتى واشفِ المرضى وأغنِ الفقراء وهب للخائفين أمنًا واطمئنانًا واقبلنا في ملكوتك ونوّرنا بنور الهداية إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت الكريم الرّحمن وإنّك أنت الرّؤوف.

المصادر
المحتوى
OV