تحقّق البشارات
ورسائل بهاء الله إلى الملوك
الخطبة المباركة في مدينة نيويورك بأمريكا
في الخامس من تموز سنة 1912
هو الله
أهلاً بكم ومرحبًا بقدومكم.
في جميع الكتب المقدّسة الإلهيّة بشارات تشير إلى أنّه سيأتي يوم يظهر فيه موعود جميع الكتب ويتأسّس قرن نورانيّ ويرتفع علم الصّلح والسّلام وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ ولا تبقى بين الأمم والأقوام عداوة وبغضاء وترتبط جميع القلوب ببعضها وهذا مذكور في التّوراة ومذكور في الإنجيل ومذكور في القرآن ومذكور في زند آفستا ومذكور في كتاب بوذا.
والخلاصة فقد ذكر في جميع هذه الكتب أنّه بعد أن تحيط الظّلمة العالم يطلع ذلك النّور كما أنّ ظلام اللّيل إذا اشتدّ كان ذلك دليلاً على ظهور النّهار. وهكذا فكلّما أحاطت ظلمة الضّلالة بالعالم وغفلت النّفوس البشريّة عن الله بصورة كلّيّة وغلبت المادّيّات على الرّوحانيّات وأصبحت جميع الملل كالحيوانات غرقى في عالم الطّبيعة ولا خبر لها عن عالم الحقّ ونسيت الله- ذلك فإنّ الحيوانات لا تعرف شيئًا غير المحسوسات ولا تعتقد بالقوى الرّوحانيّة ولا علم لها أبدًا بالله والأنبياء وتتبرّم من ذكرها وهي فلاسفة مادّيّون وطبيعيّون بالفعل وأمّا الإنسان فيجب أن يبذل الجهد سنين وأعوامًا ويحصّل العلوم في المدارس كي يصبح مادّيًّا وطبيعيًّا ولكنّ البقرة فهي دون أن تتحمّل هذه المشاق هي رئيسة الفلاسفة المادّيّين – ففي ظلمة كهذه تطلع تلك الشّمس ويظهر ذلك الصّبح النّورانيّ.
انظروا اليوم تروا أنّ المادّيّات قد تغلّبت بصورة تامّة على الرّوحانيّات ولم تبقَ بين البشر أبدًا إحساسات روحانيّة ولم تبقَ مدنيّة إلهيّة ولم تبقَ هداية الله ولم تبقَ معرفة الله وترى الجميع غرقى في بحر المادّة. وإذا ذهبت جماعة إلى الكنائس والمعابد للعبادة فإنّما تفعل ذلك تقليدًا للآباء والأجداد لا بحثًا وتحرّيًا عن الحقيقة لتعثر عليها وتعبدها فلقد ورث النّاس عن الآباء والأجداد ميراثًا من التّقاليد فهم يتشبّثون بتلك التّقاليد الّتي اعتادوا عليها فصاروا يذهبون أحيانًا إلى المعابد ويقومون بتلك التّقاليد. والبرهان على ذلك هو أنّ ابن كلّ يهوديّ يهوديّ وابن كلّ مسيحيّ مسيحيّ وابن كلّ مسلّم مسلّم وابن كلّ زرادشتيّ زرادشتيّ إذًا فهذا المذهب قد جاء ميراثًا له من الآباء والأجداد وهو يقلّد الآباء والأجداد ولأنّ والده كان يهوديًّا صار هو يهوديًّا لا لأنّه تحرّى الحقيقة وتوصّل نتيجة التّحقيق إلى أنّ الدّين اليهوديّ حقّ فتبعه ، بل إنّه رأى أنّ والده وآباءه وأجداده كانوا على ذلك المسلك وسار هو عليه أيضًا.
وأقصد بذلك أنّ ظلمة التّقاليد أحاطت بالعالم وضاع الطّريق الإلهيّ بمتابعة التّقاليد فاختفى نور الحقيقة. ولو تحرّت هذه الأمم المختلفة عن الحقيقة لتوصّلت إليها حتمًا وحينما يكشفون الحقيقة فإنّهم يصبحون ملّة واحدة لكنّهم ما داموا متمسّكين بالتّقاليد ومحرومين من الحقيقة وما دامت تقاليدهم مختلفة لذا فالنّزاع والجدال مستمرّان والعداوة والبغضاء بين الملل شديدتان أمّا إذا تحرّوا الحقيقة فإنّ العداوة تزول تمامًا ولا تبقى بغضاء ولا يبقى حرب وجدال ويحصل منتهى الوئام بين النّاس.
وحينما كانت ظلمة الضّلالة في الشّرق في أشدّ حلكتها وكان الشّرق غريق التّقاليد إلى درجة كانت معها الملل المختلفة متعطّش بعضها إلى دماء البعض الآخر ويعتبر بعضها البعض الآخر نجسًا فلا اتّفاق إطلاقًا في ما بينها – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في الشّرق وهدم بنيان التّقاليد فسطع نور الحقيقة واتّحدت الملل المختلفة الّتي اتّبعته لأنّهم كانوا يعشقون الحقيقة ويعبدونها لهذا فقد اتّحدوا واتفقوا.
إنّ جميع البشر عبيد لله وكلّهم من سلالة آدم وكلّهم من بيت واحد وجميعهم من أصل واحد وأساس واحد وحيث إنّ تعاليم الأنبياء هي الحقيقة لهذا فإنها واحدة والنّزاع والجدال بين الملل إنّما هما بسبب التّقاليد.
ولكنّ القلوب اليوم في إيران اتّحدت مع بعضها والتأمت الأرواح ببعضها وانقلبت العداوة والبغضاء الشّديدتين إلى المحبّة والمودّة وقام الجميع بمحبّة عظيمة فالمسيحيّون واليهود والزرادشتيّون والمسلمون والبوذيّون –كلّ هؤلاء وصلوا إلى الحقيقة عن طريق تعاليم بهاء الله وامتزجوا ببعضهم بمنتهى الألفة والمحبّة.
إنّ أنبياء الله يحبّ بعضهم بعضًا وكلّ سلفٍ منهم بشّر بخلفه وكلّ خلفٍ صدّق سلفه وهؤلاء الأنبياء في منتهى الاتّحاد في ما بينهم ولكنّ أممهم في منتهى الاختلاف فمثلاً أخبر موسى عن المسيح وبشّر بظهوره ثمّ ظهر المسيح فصدّق نبوّة موسى إذن فليس هناك اختلاف بين موسى والمسيح بل هناك منتهى الارتباط في ما بينهما في حين أنّنا نرى نزاعًا قائمًا بين اليهود والمسيحيّين ولكنّهم لو تحرّوا الحقيقة الّتي هي واحدة ولا تتعدّد لكانوا تآلفوا تمامًا في ما بينهم بمنتهى المحبّة والودّ وجميعهم يصدّقون جميع الأنبياء وجميع الكتب ولما بقي هذا النّزاع والجدال فكلّنا نتّحد ونعيش في ما بيننا في منتهى المحبّة والألفة ونصبح كلّنا كالأب وابنه ونصبح كلّنا إخوانًا وأخوات ويعاشر بعضنا البعض الآخر بمنتهى الألفة.
إنّ هذا القرن نورانيّ لا نسبة بينه وبين القرون السّالفة فقد كانت الظّلمة شديدة في تلك القرون والآن ارتقت العقول وازدادت الإدراكات وتحرّك العالم البشريّ وصار كلّ إنسان يتحرّى الحقيقة فلم يبقَ ذلك الزمان الّذي فيه ينازع بعضنا بعضًا ولم يبقَ ذلك الوقت الّذي فيه يكره بعضنا الآخر بل إنّنا في زمان يجب علينا فيه أن نكون في منتهى المحبّة والألفة.
ولقد أرسل حضرة بهاء الله رسائل إلى جميع أقاليم العالم وأرسل ألواحًا إلى جميع الملوك حتّى رئيس جمهورية أمريكا قبل خمسين سنة في وقت لم يكن فيه ذكر للسّلام العام، ودعا حضرته في تلك الرّسائل الجميع إلى السّلام العام ودعا الجميع إلى وحدة العالم الإنسانيّ ودعا الكلّ إلى المبادئ الإلهيّة.
واستكبر بعض ملوك أوروبّا ومنهم نابليون الثّالث فكتب له حضرة بهاء الله رسالة ثانية صدرت في سنة تسع وستين وطبعت وهذا مضمونها:- "إنّك يا نابليون صرت مغرورًا جدًّا وصرت متكبّرًا ونسيت الله. فهل تظنّ أنّ هذا العزّة ستبقى لك؟ وأنّ هذه العظمة تدوم لك؟ ولقد أرسلت إليك رسالة وكان عليك أن تتقبّلها بكمال المحبّة لكنّك استكبرت كلّ الاستكبار لهذا فسوف ينتقم منك ربّك انتقامًا شديدًا وسوف يطيح بسلطنتك وتذهب مملكتك من يدك وتقع في ذلّة لا متناهية لأنّك لم تقم بكلّ ما كلّفت به مع أن ما كلّفت به كان سبب الحياة للعالم فانتظر النّقمة الإلهيّة" وقد صدرت هذه الرّسالة سنة 1869 وبعد سنة واحدة من كتابة هذه الرّسالة زال بنيان سلطنته زوالاً كلّيًّا.
ومن جملة الرّسائل رسالة مفصّلة جدًّا كتبها حضرته إلى شاه إيران وهي الآن مطبوعة ومنتشرة في جميع ممالك العالم وهذه الرّسالة أرسلت كذلك في سنة 1869. وفي هذه الرّسالة ينصح بهاء الله شاه إيران ويأمره بالعدل وبأن يكون رؤوفًا بجميع الرّعية ولا يفرّق بين الأديان فيعامل المسيحيّ والمسلّم واليهوديّ والزرادشتيّ معاملة واحدة ويمحو هذه الاعتداءات القائمة في المملكة لأنّ جميع هؤلاء الخلق عباد الله ويجب أن يكونوا متساوين في نظر الحكومة ويجب أن تكون الحكومة رؤوفة بهم جميعًا ويخاطبه قائلاً: "وإذا لم تعدل ولم تمحُ هذه المظالم ولم تسر وفق رضى الله فإنّ بناء سلطنتك سوف يتزلزل". ويضيف: "بأنّه يجب عليك أن تجمع العلماء وتدعوني لأحضر وأقيم الحجّة والبرهان وأظهر حجّتي للجميع".
فلم يهتمّ السّلطان برسالة الجمال المبارك ولم يردّ عليها وبعد ذلك قوّض الله بنيان سلطنته واغتيل.
وممّن كتب إليهم حضرة بهاء الله السّلطان العثمانيّ عبد العزيز الّذي بعث إليه برسالة هدّده فيها قائلاً: "إنّك أرسلتني إلى هذا السّجن وسجنتني وتظنّ أنّ السّجن يضرّني أو أنّ السّجن ذلّة لي، بل إنّ هذا السّجن عزّة لي لأنّه في سبيل الله وإنّني لم أرتكب جرمًا حتّى استحقّ السّجن ولقد وردت هذه البلايا والرّزايا عليّ في سبيل الله ولهذا فإنّني في منتهى السّرور وفي منتهى الابتهاج ولكنّك أنت فانتظر الانتقام الإلهيّ وعن قريب سترى أنّ البلايا تهطل عليك هطول الأمطار وسوف تفنى" وقد حدث ذلك فعلاً.
وبمثل هذه العظمة أرسل حضرة بهاء الله رسائل شتّى إلى جميع سلاطين العالم ودعاهم جميعًا إلى المحبّة والألفة ودعاهم جميعًا إلى الصّلح العموميّ ودعا الجميع إلى وحدة العالم الإنسانيّ كما دعاهم إلى الاتّحاد والاتّفاق حتّى يتّحد الجميع ويتّفقوا فلا تبقى هذه الحروب والمشاحنات ولا يبقى هذه القتال والجدال وتنتهي العداوة والبغضاء حتّى نتّحد ونتّفق جميعًا ونقوم على عبودية الله تعالى ونضحّي في سبيله.
وخلاصة القول لقد قام سلطانان على مقاومة حضرة بهاء الله أحدهما ناصر الدّين شاه والآخر السّلطان عبد الحميد وحبسا حضرة بهاء الله في قلعة عكّاء، حتّى ينطفئ سراجه وينعدم أمره.
ولكنّ حضرة بهاء الله كتب من السّجن رسائل شديدة اللّهجة قال فيها: إنّ هذا السّجن سيكون سببًا في ارتفاع أمري وإنّ هذا سيكون سببًا في انتشار تعاليمي وسوف لن ينالني ضرر منه لأنّني ضحَّيت بروحي وضحَّيت بعزّتي وضحَّيت بأموالي وضحَّيت بجميع ما ملكته وليس في هذا السّجن ضرر عليَّ.
ولقد تحقّق ما قاله تمامًا فارتفع علمه في السّجن وانتشرت رسالته في الشّرق والغرب حتّى وصل أمره أمريكا.
والآن قد انتشر أمر حضرة بهاء الله في جميع أقطار العالم. فلو سافرتم إلى آسيا لوجدتم أمره ينتشر في كلّ مكان وينتشر في أفريقيا وينتشر في أوروبّا لكنّها البداية في أمريكا وقد انتشر في جميع الآفاق ولم يستطع هذان السّلطانان أبدًا أن يقاوماه.
ولكنّ الله سبحانه وتعالى محى هذين السّلطانين محوًا تامًّا فقتل ناصر الدّين شاه وسجن عبد الحميد وأنا عبد البهاء قضيت في السّجن أربعين عامًا وقد رفع الله السّلاسل من عنقي ووضعها في عنق عبد الحميد وهذا حدث فجأة حينما قامت جمعية الاتّحاد والتّرقي بإعلان الحرّيّة فأطلقوا سراحي ورفعوا السّلاسل من عنقي ووضعوها في عنق عبد الحميد وعملوا به نفس العمل الّذي عمله هو بي وهو الآن في السّجن في منتهى الذّلّة مثلما كنت أنا في السّجن ولكنّني كنت في نهاية الحبور والسّرور القلبيّ لأنني لم أكن مجرمًا ولقد رضيت بالسّجن في سبيل الله وكلّما كان يخطر بخاطري أنّني مسجون في سبيل الله كان يعتريني منتهى السّرور لكنّ عبد الحميد ابتلي بالنّكبات نتيجة أعماله وبسبب جرائمه وقع في السّجن وهو في كلّ ساعة يموت ويحيا وهو في منتهى الحزن واليأس أمّا أنا فقد كنت في منتهى الأمل وكنت في منتهى السّرور لأنّني ولله الحمد كنت مسجونًا في سبيل الله ولن تذهب حياتي هدرًا وكلّ من كان يراني لم يكن يظنّ بأنّني مسجون لأنّني كنت في منتهى السّرور وفي منتهى الشّكر وفي منتهى الصّحّة ولم أعتنِ أبدًا بذلك السّجن.