هذه نصيحتي إليكم

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

هذ نصيحتي إليكم

ألقيت هذه الخطبة في نيويورك في 6 تموز 1912

هو الله

لقد طوى الإنسان في عالم الوجود مراتب حتّى وصل إلى العالم الإنسانيّ وفي كلّ مرتبة نال استعدادًا للصّعود إلى المرتبة الّتي فوقها.

فقد كان في عالم الجماد ونال الاستعداد للارتقاء إلى مرتبة النّبات. ولهذا جاء إلى عالم النّبات. وفي عالم النّبات حصل الاستعداد للارتقاء إلى عالم الحيوان ولهذا انتقل إلى عالم الحيوان. ومن عالم الحيوان انتقل إلى عالم الإنسان.

والإنسان في بدء حياته كان في عالم الرّحم وفي عالم الرّحم حصل على الاستعداد والقابليّة للارتقاء إلى هذا العالم. أي أنّه حصل في ذلك العالم على القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. ففي ذلك العالم حصل على العين الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم حصل على الأذن الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم حصل على جميع القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم تهيّأ لهذا العالم فلما جاء إلى هذا العالم رأى أنّ جميع القوى الّتي يحتاج إليها مهيّأة له ورأى أنّ جميع الأعضاء والأجزاء الّتي يحتاج إليها للحياة في هذا العالم قد حصّلها في ذلك العالم. إذًا فكذلك يجب عليه أن يهيّئ لنفسه في هذا العالم ما يحتاج إليه في العالم الآخر. وكلّ ما يحتاج إليه في عالم الملكوت يجب أن يهيّئه في هذا العالم. فكما أنّه حصل في عالم الرّحم على القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم فكذلك يجب عليه أن يحصل في هذا العالم على كلّ ما يحتاجه إليه في عالم الملكوت أي جميع القوى الملكوتيّة.

ففي عالم الملكوت بعد الارتقاء من هذا العالم إلى العالم الآخر ترى إلى أيّ شيء يحتاج وإلى أيّ قوى يفتقر؟ إنّ ذلك العالم هو عالم التّقديس وعالم النّورانيّة ولهذا يجب أن نحصل على التّقديس والنّورانيّة في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الرّوحانيّة وتلك الرّوحانيّة يجب أن نحصل عليها في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الإيمان والإيقان ومعرفة الله ومحبّة الله ويجب أن نحصل عليها جميعًا في هذا العالم حتّى يرى الإنسان في ذلك العالم الباقي أنّه حصل على جميع ما يحتاج إليه في تلك الحياة الأبديّة. وواضح أنّ ذلك العالم عالم الأنوار ولهذا فالمطلوب هو النّورانيّة. وذلك العالم هو عالم محبّة الله فالمطلوب هو محبّة الله وذلك العالم هو عالم الكمالات فالواجب تحصيله هو الكمالات في هذا العالم. وذلك العالم هو عالم نفثات الرّوح القدس ويجب في هذا العالم إدراك نفثات الرّوح القدس. وذلك العالم هو عالم الحياة الأبديّة ويجب في هذا العالم الحصول على الحياة الأبديّة. ويجب على الإنسان أن يبذل كلّ الجهود للحصول على هذه المواهب. ويجب عليه أن يكتسب هذه القوى الرّحمانيّة بأعلى درجاتها من الكمال وهي:-

أوّلاً: معرفة الله وثانيًا محبّة الله وثالثًا الإيمان ورابعًا الأعمال الخيرية وخامسًا التّضحية وسادسًا الانقطاع وسابعًا العفّة والتّقديس وما لم يحصل على هذه القوى وهذه الأمور فلا شكّ أنّه سيحرم من الحياة الأبديّة أمّا إذا وفّق إلى معرفة الله واشتعل بنار محبّة الله وشاهد الآيات الكبرى وأوجد المحبّة بين البشر وكان في غاية العفّة والتّقديس فلا شكّ أنّه يولد ولادة ثانية ويتعمّد بالرّوح القدس ويشاهد الحياة الأبديّة.

سبحان الله! إنّ الأمر الغريب هو أنّ الله خلق جميع البشر من أجل معرفته ومن أجل محبّته ومن أجل كمالات العالم الإنسانيّ ومن أجل الحياة الأبديّة ومن أجل الرّوحانيّة الإلهيّة ومن أجل النّورانيّة السّماويّة ومع هذا فإنّ هؤلاء البشر غفلوا عن كلّ شيء وقد تحرّوا في جميع الأشياء ما عدا معرفة الله ويريدون أن يفهموا ماذا يوجد في أسفل طبقات الأرض وغاية آمالهم أن يبذلوا الجهود ليلاً ونهارًا لفهم ما يحتويه جوف الأرض وما يوجد تحت هذه الصّخرة وما يوجد تحت التّراب ويبذلوا جميع قواهم ويسعوا بكلّ تعب ومشقّة لكشف سرّ من أسرار التّراب. ولكنّهم لا يفكّرون أبدًا في الاطّلاع على أسرار الملكوت أو السّير في عالم الملكوت ليطّلعوا على حقائق الملكوت وليكشفوا الأسرار الإلهيّة وليصلوا إلى معرفة الله وليشاهدوا أنوار الحقيقة وليتوصّلوا إلى الحقائق الملكوتيّة وهم لا يفكّرون أبدًا في هذه الأمور. وما أشدّ انجذابهم إلى أسرار النّاسوت ولكن لا علم لهم أبدًا بأسرار الملكوت بل إنّهم يتحاشون البحث في أسرار الملكوت فما أعظم هذا الجهل وما أشدّ هذه البلاهة وما أدعاها للذّلّة. ومثلهم كمثل إنسان له أب حنون يهيّئ من أجله الكتب النّفيسة ليطَّلع على أسرار الكون ويهيّئ له كلّ وسائل الرّاحة والرّفاه ولكنّ الطّفل بمقتضى طفولته وقلة إدراكه يغضّ الطّرف عنه جميعًا وينصرف إلى ساحل البحر ليلعب بالحصى وليقضي وقته باللّهو هناك ويبتعد عن جميع هذه المواهب الّتي هيّأها له والده. فما أشدّ جهل هذا الطّفل وما أشدّ بلاهته. فالأب يريد له العزّة الأبديّة وهو راضٍ بالذّلّة الكبرى والأب يريد له قصرًا ملكوتيًّا ولكنّه مشغول باللّعب بالتّراب والأب قد خاط له بدلة من الحرير وهو يمشي عاريًا والأب قد هيّأ له أعظم الموائد وألذّ النّعم ولكنّه يركض وراء الأعشاب الضّارّة.

وخلاصة القول: إنّكم ولله الحمد قد سمعتم نداء الملكوت وفتحتم أعينكم وتوجّهتم إلى الله فمقصودكم رضاء الله وآمالكم معرفة الله ومرادكم الاطّلاع على أسرار الملكوت وأفكاركم محصورة في كشف حقائق الحكمة الإلهيّة ففكّروا ليلاً ونهارًا واجتهدوا وتحرّوا حتّى توفّقوا إلى معرفة أسرار الخلقة الإلهيّة وتطّلعوا على دلائل الألوهيّة وتتيقّنوا أنّ لهذا العالم موجد وله خالق وله محيي وله رازق وله مدبّر ولكن يجب أن يكون ذلك عن طريق الدّلائل والبراهين لا عن طريق العواطف. أي أن تتوفّقوا إلى معرفة ذلك عن طريق البراهين القاطعة والدّلائل الواضحة والكشف الحقيقيّ أي بالمشاهدة الحقيقيّة فكما تشاهددون الشّمس فكذلك يجب أن تشاهدوا الآيات الإلهيّة مشاهدة عيانيّة وتتوصّلوا كذلك إلى معرفة المظاهر المقدّسة الإلهيّة بالدّلائل والبراهين. وكذلك يجب عليكم الاطّلاع على تعاليم المظاهر المقدّسة الإلهيّة ويجب أن تطّلعوا على أسرار الملكوت الإلهيّ ويجب أن تكشفوا حقائق الأشياء حتّى تصبحوا مظهر الألطاف الإلهيّة وتكونوا مؤمنين حقيقيّين وثابتين وراسخين في أمر الله.

الحمد لله فقد فتح حضرة بهاء الله أبواب معرفة الله ووضع لكم جميعًا أساسًا لتطّلعوا على جميع أسرار الملك والملكوت وقد أمدّنا بأقصى التّأييدات فهو معلّمنا وهو ناصحنا وهو قائدنا وهو راعينا وقد هيّأ لنا جميع ألطافه وبذل لنا عنايته وقدّم لنا كلّ نصيحة وبيّن كلّ تعليم وهيّأ لنا أسباب العزّة الأبديّة وأعدّ لنا نفثات الرّوح القدس وفتح على وجوهنا أبواب المحبّة الإلهيّة وأشرق علينا بأنوار شمس الحقيقة وأمطرنا سحاب رحمته ووهبنا أمواج بحر ألطافه فجاء الرّبيع الرّوحانيّ وظهرت الفيوضات الّتي لا منتهى لها. فأيّة هبة أعظم من هذه الموهبة وأيّة ألطاف أعظم من هذه الألطاف. فيجب أن نعرف قدرها وأن نعمل وفق تعاليم حضرته حتّى يحصل لنا كلّ خير ونكون أعزّاء في الدّارين وننال النّعمة الأبديّة ونتذوّق لذّة محبّة الله وندرك أسرار معرفة الله ونرى الموهبة السّماويّة ونشاهد قوّة الرّوح القدس. هذه نصيحتي إليكم ... هذه نصيحتي إليكم.

المصادر
المحتوى
OV