للإنسان حياتان
الخطبة المباركة في نيويورك مساء يوم الأحد 7 تموز 1912
هو الله
مرحبًا بقدومكم وأهلاً بكم. إنّ الإنسان له حياتان: إحداهما جسمانيّة والأخرى حياة روحانيّة. فالحياة الجسمانيّة للإنسان إنّما هي حياة حيوانيّة. لاحظوا الحياة الجسمانيّة للإنسان تروها عبارة عن الأكل والنّوم واللّبس والرّاحة والفسحة ومشاهدة الأشياء المحسوسة كالنّجوم والشّمس والقمر والجبال والوديان والبحار والعيون والغابات فهذا النّوع من الحياة حياة حيوانيّة.
ومن الواضح المشهود أنّ الحيوان يشترك مع الإنسان في المعيشة الجسمانيّة وهناك شيء آخر وهو أنّ الحيوان في معيشته الجسمانيّة مرتاح ولكنّ الإنسان في معيشته الجسمانيّة متعب. لاحظوا جميع الحيوانات الموجودة في هذه السّهول وفي الجبال وفي البحار إنّها تعيش بغاية السّهولة بمعيشتها الجسمانيّة وتحصل على قوتها بدون مشقّة أو عناء وهذه الطّيور في هذه السّهول ليست لها مهنة ولا صناعة ولا تجارة ولا فلاحة ولا تعاني بأيّ وجه من الوجوه أيّة مشقّة، فهي تستنشق هواء في منتهى النّقاء وتستقرّ في أوكارها على أعلى أغصان الأشجار الخضراء النّضرة وتتناول من هذا الحبّ المنثور في هذه السّهول وجميع هذه البيادر ثروتها وبمحض إحساسها بالجوع تجد الحبّ حاضرًا فتتناوله وبعد تناوله ترقى إلى أعلى الغصون في الأشجار في نهاية الرّاحة والاطمئنان وهي مستقرّة بدون مشقّة وعناء. وهذا ينطبق على سائر الحيوانات أمّا الإنسان فإنّه من أجل معيشته الجسمانيّة يجب أن يتحمّل المشاق العظيمة فلا يستقرّ ليلاً ولا نهارًا فهو إمّا أن يفلح أو يصنع أو يتاجر أو يقضي ليله ونهاره في المناجم أو يسافر إلى الأطراف بغاية المشقّة والعناء من جهة إلى أخرى ويشتغل تحت الأرض وفوق سطح الأرض لكي تتيسّر معيشته الجسمانيّة ولكنّ الحيوان لا يتحمّل هذه المشاق وهو مع ذلك يشارك الإنسان في معيشته الجسمانيّة ومع وجود هذه الرّاحة فليست هناك أيّة نتيجة من المعيشة الجسمانيّة ولو عاش مائة سنة فلن تحصل أيّة نتيجة من الحياة الجسمانيّة في النّهاية. فكّروا وانظروا هل هناك نتيجة في الحياة الجسمانيّة وكلّ هذه الملايين من البشر الّذين ذهبوا من هذا العالم ترى هل حصلوا على أيّة نتيجة من هذه الحياة الجسمانيّة؟ لقد ذهبت جميع حياتهم هدرًا وذهبت جميع مشقّاتهم هدرًا وذهبت جميع أتعابهم هدرًا وذهبت صناعتهم هدرًا وذهبت تجارتهم هدرًا وحين ذهابهم من هذا العالم لم يكن في أكفّهم شيء فلم يحصلوا على نتيجة.
أمّا الحياة الرّوحانيّة فإنّها حياة يستنير بها العالم الأعلى وهي حياة بها يمتاز الإنسان عن الحيوان وهي حياة أبديّة سرمديّة وهي شعاع من الفيض الإلهيّ.
إنّ حياة الإنسان الرّوحانيّة هي سبب حصوله على العزّة الأبديّة. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي السّبب في تقرّبه إلى الله. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي السّبب في دخوله إلى ملكوت الله. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي حصول الفضائل الكلّيّة. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي سبب النّور في العالم البشريّ.
لاحظوا النّفوس الّتي لها حياة روحانيّة كاملة ليس لها فناء ولا اضمحلال وقد كسبت من حياتها نتائج ونالت أثمارًا. فما هي تلك الثّمرة؟ إنّها التّقرب إلى الله وإنّها الحياة الأبديّة والنّورانيّة السّرمديّة وتلك الحياة هي البقاء وتلك الحياة هي الثّبات وتلك الحياة هي النّور وسائر الكمالات الإنسانيّة.
وكذلك لمّا ننظر إلى عالم التّراب نلاحظ نفوسًا كانت حياتها جسمانيّة ولم تنل نصيبًا من الحياة الرّوحانيّة وانمحت آثارها بالكلّيّة فلا ذكر لها ولا أثر ولا ثمر لها ولا صيت وحتّى في العالم التّرابي لا قبور لها ولا أثر وكلّ ما في الأمر أنّ قبورها كانت لمدّة قصيرة معمورة ثمّ أمست مطمورة وزالت، في حين أنّ النّفوس الّتي كانت لها حياة روحانيّة فإنّها في الملكوت الإلهيّ مشرقة كالنّجوم إلى الأبد ولها عزّة أبديّة وهي مستقرّة في محفل التّجلّي الإلهيّ وترزق من المائدة السّماويّة وهي مستفيضة من مشاهد الجمال الإلهيّ ولها العزّة الأبديّة في جميع المراتب الإلهيّة حتّى في عالم النّاسوت. لاحظوا تروا آثارها باقية وذكرها باقيًا وأخلاقها باقية. مثال ذلك أن نفوسًا كانت قبل ثلاثة آلاف سنة أو قبل ألفي سنة منسوبة إلى العتبة الإلهيّة وكانت مؤمنة ومستقيمة على أمر الله فبقيت آثارها إلى الآن وباسمها تجري خيرات ومبرّات إلى الآن وباسمها تتأسّس مدارس وتتأسّس معابد وباسمها تتأسّس مستشفيات إلى الآن.
مثال ذلك حواريّو حضرة المسيح. فقد كانت الحياة الجسمانيّة لبطرس حياة صيّاد أسماك ومعلوم بعد هذا كيف هي حياة صياد الأسماك. أمّا حياته الرّوحانيّة فقد كانت بنفثات المسيح في نهاية الإشراق بحيث إنّ آثاره باقية حتّى في عالم التّراب في حين أنّ إمبراطور روما "نيرون" بكلّ تلك العظمة لم يبقَ له أثر ولا ثمر ولا ذكر ولا ظهور ولا بروز.
إذن اتّضح أنّ أصل حياة الإنسان هو الحياة الرّوحانيّة، فهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة لها نتيجة وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة لها بقاء وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة أبديّة وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة عزّة سرمديّة.
الحمد لله قد تيسّرت لكم هذه الحياة الرّوحانيّة بعناية حضرة بهاء الله وتجلّت هذه الموهبة الكبرى وتوهّج هذا الشّمع المنير فجميع النّفوس الّتي تلاحظونها على سطح الكرة الأرضيّة من الملوك حتّى المملوك لا نتيجة لحياتها ولا ثمر ولا أثر وعن قريب سترون بأنّها زالت بالكلّيّة ومحيت وذهبت من هذا العالم. وغاية ما في الأمر أنّها تعيش خمسين سنة ولكنّ هذه الحياة الّتي تحياها لا أثر لها ولا ثمر ولا نتيجة تترتّب عليها أمّا أنتم فللّه الحمد بعناية حضرة بهاء الله وجدتم حياة روحانيّة وتنوّرتم بنورانيّة الملكوت وتستفيضون من الفيض الأبديّ لهذا فأنتم أبديّون سرمديّون باقون منيرون وستحصل من حياتكم نتائج عظيمة وحتّى في عالم التّراب لكم آثار باقية دائمة وسوف لا تنسون وأنتم مضيئون كالشّمس ونورانيّتكم واضحة مشهودة وأنتم حاضرون في محفل التّجلّي الإلهيّ إلى الأبد وسوف تستغرقون في أنوار الكمال والجمال فاشكروه.