لماذا ينكر النّاس المظاهر المقدّسة

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

لماذا ينكر النّاس المظاهر المقدّسة

ألقيت هذ الخطبة في البيت المبارك في نيويورك في 11 تموز 1912

هو الله

أريد في هذه اللّيلة أن أبيّن لحضراتكم سبب احتجاب النّاس عن المظاهر المقدّسة الإلهيّة.

من البديهيّ أنّ النّاس كانوا في جميع العهود ينتظرون موعودًا. فاليهود مثلاً في زمان المسيح كانوا ينتظرون ظهور المسيح وكانوا في معابدهم يتضرّعون ليل نهار قائلين: "يا إلهنا قرِّب ظهور المسيح حتّى نستفيض من أنواره وننال كلّ ما فيه سعادتنا الأبديّة". وكم من ليالٍ بكوا في قدس الأقداس وناحوا وندبوا حتّى الصباح قائلين: "يا إلهنا أرسل لنا المسيح!" ولكنّهم حين ظهر المسيح أعرضوا كلّهم عنه وأنكروه جميعًا. بل كفّروه وأخيرًا صلبوه. فماذا كان السّبب في ذلك؟

لقد كانت الأسباب كثيرة ولكنّ أهمّ الأسباب سببان وهذان السّببان هما دائمًا سبب احتجاب النّاس عن المظاهر المقدّسة وسبب حرمانهم جميعًا منها:

السّبب الأوّل: هو أنّ الشّخص الموعود قد اشترط ظهوره في الكتاب المقدّس بشروط هي كلمات مرموزة ولم يكن المقصود منها مجرّد مفهومها اللّفظي.. وعندما أخذ النّاس بمفهومها اللّفظي أعرضوا واستكبروا وقالوا إنّ هذا الموعود ليس ذلك الموعود كما تمسّك اليهود حين ظهور حضرة المسيح بالألفاظ فقال علماؤهم إنّ هذا المسيح ليس بذلك المسيح وإنّ هذا ليس ذلك الموعود. بل نسبوا نسبة أخرى لحضرته يخجل اللّسان عن ذكرها وتمسّكوا بشروط ظهور المسيح المدوّنة في كتاب التّوراة المقدّس وهي:

الشّرط الأوّل: أنّه قد نص في الكتاب المقدّس على أنّ المسيح يأتي من مكان غير معلوم وهذا الشّخص جاء من النّاصرة ونحن نعرفه.

الشّرط الثّاني: أنّ عصاه من حديد أي أنّه يرعى بالسّيف وهذا المسيح ليست لديه عصا من خشب ناهيك عن السّيف.

الشّرط الثّالث: أنّه وفقًا للكتاب المقدّس يجب أن يجلس الموعود على سرير داود ويؤسّس سلطنة وهذا المسيح لا سلطنة له ولا جيش ولا مملكة ولا وزراء ولا وكلاء بل هو فريد وحيد لهذا فإنّ هذا المسيح ليس بذلك المسيح الموعود.

الشّرط الرّابع: أنّ المسيح يروّج شريعة التّوراة وهذا المسيح كسر السّبت ونسخ شريعة التّوراة فكيف يكون هذا المسيح ذاك المسيح الموعود؟

الشّرط الخامس: أنّه يجب أن يفتح الشّرق والغرب وهذا المسيح لا ملجأ له ولا مأوى فكيف يكون هذا هو المسيح الموعود؟

الشّرط السّادس: في زمان المسيح الموعود حتّى الحيوانات يجب أن تعيش في منتهى الرّاحة ويجب أن تصل العدالة درجة لا يستطيع معها حيوان أن يعتدي على حيوان. ويشرب الذّئب والحمل من عين واحدة ويعيش النّسر والحجل في عشّ واحد ويرعى الأسد والظّبي في مرعى واحد لكنّ الظّلم في زمان هذا المسيح استفحل إلى درجة أنّ حكومة الرّومان سيطرت على فلسطين وهي تذبح اليهود وتضربهم وتنفيهم وتسجنهم ووصل الظّلم والعدوان إلى ما لا نهاية له حتّى إنّهم صلبوا المسيح نفسه بفتوى علماء اليهود فكيف يكون هذا المسيح هو المسيح الموعود؟

وهكذا أصبحت هذه الشّروط سبب احتجاب ملّة اليهود عن الإيمان بالمسيح في حين أنّ جميع هذه الشّروط قد ظهرت وجميع هذه الآثار قد بهرت لكنّها كانت كلمات رمزيّة لم يفهمها علماء اليهود وظنّوا أنّها شروط لفظيّة في ظاهرها ومفهومها في حين أنّها كانت جميعها رموزًا.

فأوّلاً: أمّا أنّه يأتي من مقام غير معلوم فإنّ روح المسيح جاءت من مقام غير معلوم لا جسمه. ومع أنّ جسمه كان من النّاصرة إلاّ أنّ روحه لم تأتِ من النّاصرة ولا من حيفا ولا من الشّرق ولا من الغرب بل جاءت روح المسيح من عالم إلهيّ ومن مقام غير معلوم. لكنّ علماء اليهود لم يفهموا ذلك.

وثانيًا: أمّا أنّ عصاه من حديد فالعصا أداة الرّعي وكانت أداة رعي حضرة المسيح لسانه المبارك وقد كان لسانه المبارك سيفًا قاطعًا يفصل بين الحقّ والباطل.

ثالثًا: أمّا أنّه يجلس على عرش داود ويكون سلطانًا فالحقيقة هي أنّ سلطة حضرة المسيح كانت سلطة أبديّة وليست كسلطة نابليون ولا كسلطة جنكيز خان ولا كسلطة هانيبال. فلقد كانت سلطة المسيح سلطة روحانيّة وكانت سلطة أبديّة وكانت سلطة وجدانيّة وكانت ممالكه القلوب وكان سلطانه على القلوب وليس على التّراب وسلطته باقية إلى الأبد ولا نهاية لها.

ورابعًا: أمّا أنّه يروّج التّوراة فإنّ هذا يعني أنّه يخلّص الأساس الّذي وضعه حضرة موسى من ربقة التّقاليد ويروّج تلك الحقيقة. ولا شكّ في أنّ المسيح روّج الأساس الّذي وضعه حضرة موسى فقد روّج الوصايا العشر وروّج حقيقة شريعة موسى أمّا بعض الأمور الّتي كانت تتّفق مع عصر موسى ولا تتّفق مع عصر المسيح وكانت زائدة أو كانت تقاليد تلمودية فإنّه نسخها ولكنّه نفّذ الأساس الأصلي وروّجه.

خامسًا: أمّا أنّه يفتح الشّرق والغرب فحيث إنّ حضرة المسيح كان كلمة الله فقد فتح الشّرق والغرب بالقوّة الإلهيّة وفتوحاته باقية حتّى الآن ثابتة لا نهاية لها.

وسادسًا: أمّا أنّه في أيّام ظهوره يشرب الذّئب والحمل من معينٍ واحد فالمقصود بذلك هو أنّ النّفوس الّتي تشبه الذّئب والحمل تؤمن بحضرة المسيح وتشرب جميعها من عين الإنجيل. ومثال ذلك رجل شرقيّ وآخر غربيّ ليست بينهما علاقة ولا مؤانسة بل هما مختلفان من جميع الوجوه وكانا بمثابة الذّئب والحمل وما كان اجتماعهما ممكنًا فلمّا آمنا بحضرة المسيح اجتمعا على عين واحدة.

إنّ هذه الكلمات كلمات رمزيّة لكن بما أنّ علماء اليهود لم يفهمومها ولم يتوصّلوا إلى حقيقة معانيها ونظروا إلى ظاهرها فلم يروها منطبقة لهذا أنكروا واعترضوا.

والسّبب الثّاني: لاحتجاب النّاس هو أنّ للمظاهر المقدّسة الإلهيّة مقامين أحدهما المقام البشريّ والآخر المقام الرّحمانيّ النّورانيّ المستور وهو مقام الظّهور والتّجلّي الرّبّاني.

فالمقام البشريّ ظاهر لكنّ الخلق عاجزون عن رؤية الحقيقة المقدّسة الظّاهرة في الهيكل ولا يرون قوّة الرّوح القدس بل ينظرون إلى النّاحية البشريّة فيه.

وعندما يرون مقام البشريّة مشتركًا مع سائر البشر يأكلون مثل سائر البشر وينامون ويمرضون ويضعفون لهذا يقيسونهم بمقياس أنفسهم ويقولون إنّ هؤلاء مثلنا ولا امتياز لهم عنّا فلماذا يكونون مظاهر مقدّسة ولا نكون نحن كذلك؟ ولماذا هم ممتازون عنّا؟ ولماذا هم سماويّون ونحن أرضيّون؟ ولماذا هم نورانيّون ونحن ظلمانيّون؟ مع أنّنا مثلهم في جميع الشّؤون البشريّة ولا فرق أبدًا بيننا وبينهم وليس لهم امتياز خاصّ عنا فنحن لا نرى فرقًا في ما بيننا وبينهم وهم مثلنا. ولهذا ينكرون ويستكبرون.

ومثلهم كمثل إبليس لمّا نظر إلى جسم آدم قال إنّني أشرف من آدم ولكنّه لم ينظر إلى روح آدم ولم يشاهد روح آدم. ولمّا كان جسم آدم من التّراب فإنّه شاهد ذلك ولم يرَ روحه فاستكبر. ولولا ذلك لسجد له.

وكذلك الأمر يوم ظهور المظاهر الإلهيّة. فبما أنّ النّاس ينظرون إلى الجانب البشريّ فيهم ويرونهم مثل أنفسهم لهذا فإنّهم يستكبرون عليهم ويعترضون عليهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم ويخالفونهم ويحاولون قتلهم.

إذن يجب عليكم أن لا تنظروا إلى الجانب البشريّ في المظاهر المقدّسة الإلهيّة بل يجب أن تنظروا إلى حقيقتهم فتلك الحقيقة السّاطعة الّتي تنير الآفاق وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي تنير العالم البشريّ وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي تخلّص النّفوس من النّقائص وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي توصل الجامعة البشريّة إلى أعلى درجات الكمال هي فوق التصوّر البشريّ.

إذًا يجب أن لا ننظر إلى الزّجاج لأنّنا إذا نظرنا إلى الزّجاج هو مادّة من البلّور نحرم من الأنوار وعلينا أن ننظر إلى السّراج أي إلى النّور الّذي يشرق من هذا الزّجاج وهو فيض حضرة الألوهيّة وتجلّيها الظّاهر في الزّجاج البشريّ فإذا نظرنا بهذه النّظرة فإنّنا لا نحتجب.

المصادر
المحتوى
OV