رقيّ العصر الحاضر
الخطبة المباركة في المنزل المبارك في نيويورك في 12 تموز 1912
هو الله
إنّ عالم الإمكان شبيه بالإنسان فللإنسان عهد نطفة وعهد رضاعة وزمان نموّ وزمان رشد وإدراك ووقت للبلوغ. وكذلك لعالم الإمكان درجات فالإنسان في سنّ الرّضاعة يكون حسّاسًا ويكون في سنّ المراهقة في بداية الإدراك والتّمييز ولكنّ إدراكاته ضعيفة فلمّا يبلغ سنّ الرّشد تظهر جميع قواه المعنويّة والصّورية بأقصى درجة من القوّة وتصل قوّة إدراكه إلى حدّ يكشف فيه حقائق الأشياء، ولكنّ هذا الأمر غير ممكن في سنّ الطّفولة والرّضاعة فهذه الكمالات تتجلّى في سنّ البلوغ لا في سنّ الطّفولة وكذلك كان عالم الإمكان في وقت من الأوقات رضيعًا ثمّ أصبح طفلاً ثمّ مراهقًا ثمّ نما ونشأ يومًا فيومًا والآن بلغ سنّ الرّشد.
إنّ هذا القرن سيّد القرون وإنّ هذا العصر مرآة جميع العصور، وصور جميع ما كان في القرون الأولى تتجلّى اليوم في هذه المرآة. وعلاوة على هذا فإنّ هذا القرن نفسه له كمالات خاصّة به فله اكتشافات عظيمة واختراعات بديعة ومؤسّسات عجيبة وعلوم غريبة ما زالت تتجلّى في نهاية الكمال، أي أنّ لهذا القرن فضائل القرون السّابقة وله صناعات القرون السّابقة والخصال الحميدة في القرون السّابقة واكتشافات القرون السّابقة. ومع وجود هذه الفضيلة فيه فإنّ له اختراعاته الخاصّة به واكتشافاته الخاصّة به والّتي لم تكن موجودة أبدًا في القرون السّابقة، فمثلاً الفنّ المعماريّ كان موجودًا في القرون السّابقة ووصل في هذا القرن إلى درجة البلوغ ولكنّ هذه القوّة الكهربائيّة المولّدة لم تكن وهذا البرق (التّلغراف) الّذي به تتمّ المخابرة مع الشّرق والغرب خلال دقيقة واحدة لم يكن وهذا الحاكي لم يكن وهذا التّلفون لم يكن إنّ هذه كلّها من خصائص هذا القرن. ففي هذا القرن فضائل القرون القديمة وفضائل القرون الجديدة ولهذا فإنّ هذا القرن جامع للقرون وممتاز على جميعها وسيّد القرون وشمس جميع العصور. وبما أنّنا موجودون في هذا القرن فعلينا في سبيل الشّكر لهذه المواهب أن نقوم بأعمال تليق بهذا القرن فمثلاً حينما يبلغ الإنسان سنّ البلوغ يجب أن يكون على أحوال وأطوار تليق بسنّ البلوغ وكذلك الأمر في عالم الإمكان، فبما أنّه قد ترقّى إلى هذه الدّرجة الّتي أصبح فيها قرن الأنوار وقرن ظهور الأسرار وقرن فضائل العالم الإنسانيّ وقرن يوم الله وقرن الملكوت الأبهى يجب علينا أن نسلك السّلوك الّذي يليق بهذا القرن لأنّ العالم وصل إلى درجة البلوغ إن لم يصل إلى درجة البلوغ فسوف يصلها عن قريب.
لاحظوا كم اتّسعت دائرة العقول والأفكار وكم زادت الاكتشافات الجديدة وكم من مؤسّسات عظيمة ظهرت وكم من مخترعات بديعة تجلّت وإلى أيّ مدى انتشرت العلوم النّافعة. فمع وجود هذه المواهب الإلهيّة هل يليق بالبشر أن يكونوا غرقى في بحر المادّيّات وأسرى عالم الطّبيعة؟ إنّ هذا القرن قرن تجلّت فيه قوى الإنسان المعنويّة وظهرت كمالات الإنسان الرّوحانيّة وبهرت نورانيّة العالم الإنسانيّ وتجلّت الفيوضات الإلهيّة غير المتناهية. وبما أنّ الكمالات الجسمانيّة قد بلغت أعلى درجة فكذلك الكمالات الرّوحانيّة ينبغي أن تصل إلى أعلى درجة لكي يتنوّر ظاهر الإنسان وباطنه وتتحقّق السّعادة الدّنيويّة والملكوتيّة كلتاهما وتظهر الفضائل الطّبيعية الإلهيّة كلّها.
وكما أنّ العقل البشريّ مرآة لحقائق الأشياء أعني أنّ في الإنسان قوّة تكشف الحقائق كذلك حقيقة الإنسان مرآة لأنوار الملكوت ولها استعداد لتتجلّى فيها الحقائق الملكوتيّة وتظهر فيها الأسرار الإلهيّة وتنطبع فيها صور الملأ الأعلى ولهذا فإذا ارتقى الجانبان- الجانب الجسمانيّ والجانب الرّوحانيّ- فعند ذلك تظهر الحقيقة الإنسانيّة في منتهى الجمال والكمال.
إنّ الله له الحمد قد فتح لنا في هذا القرن كلّ باب وأنار لنا كلّ شمع وأحاط غيث رحمته الجميع وهبّ نسيم عنايته وهيّأ لنا من كلّ جهة وسائل الكمال فلا يجوز لنا أن نهدر كلّ هذه المواهب الإلهيّة ونهدر هذه الفيوضات الرّوحانيّة ونهدر هذه الأنوار اللاّهوتية بل ينبغي لنا أن نسعى روحًا وقلبًا حتّى تظهر هذه المواهب الإلهيّة في الحقيقة الإنسانيّة بمنتهى درجة الكمال حتّى تكون البشريّة مرآة ملكوت الرّبّ الجليل ويصبح عالم النّاسوت مرآة الملكوت، وعند ذلك ينال البشر السّعادة الدّنيويّة والسّعادة الأخرويّة والمواهب الإلهيّة والرّوحانيّة العظيمة والنّورانيّة الملكوتيّة.
إذن فاجتهدوا لكي تفوا حق الشّكر لهذه الألطاف وتتلقّوا نفثات الرّوح القدس وتنالوا هذه النّورانيّة وتشكروا هذا الفضل والموهبة وإذا بذلتم مثل هذه الهمّة فسيتعانق الشّرق والغرب وينهدم بناء العداوة والبغضاء انهدامًا كلّيًّا وتنتشر المحبّة الملكوتيّة وتحصل الألفة الرّوحانيّة وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ ويتحقّق الصّلح الأكبر ويتعاشر البشر في ما بينهم بنهاية الألفة وتحصل السّعادة الأرضيّة والسّعادة الملكوتيّة كلتاهما وأرجو أن يفوز الكلّ بهذا المقام وهذه وصيّة منّي.