الدّين سبب المحبّة
الخطبة المباركة في كنيسة كينك زي هاوس- لندن
ليلة الإثنين 30 كانون الأوّل 1912
هو الله
أشكر الله على حضور هذا الجمع من النّاس المحترمين إلى هذا المكان بقلوب متّحدة ووجوه مستبشرة بالبشارات الإلهيّة وآثار المحبّة بادية على محيّاهم.
حينما ننظر إلى عالم الوجود لا نرى أمرًا أعظم من المحبّة. فالمحبّة سبب الحياة والمحبّة سبب النّجاة والمحبّة سبب ارتباط قلوب البشر والمحبّة سبب عزّة البشر ورقيّهم والمحبّة سبب الدّخول في ملكوت الله والمحبّة سبب الحياة الأبديّة. وكما يتفضّل حضرة المسيح أنّ الله هو المحبّة فأيّ شيء أعظم من الله. إذن فبموجب قول حضرة المسيح ليس في عالم الوجود شيء أعظم من المحبّة.
توجد في الدّنيا مجامع كثيرة ولكن لكلّ مجمع هدف ولكلّ محفل شأن وما يليق بالمجامع الدينيّة هو المحبّة. فالمجامع الدينيّة يجب أن تكون سبب المحبّة بين البشر وليس هناك استثناء في ذلك. ويتفضّل حضرة المسيح أنّ الشّمس الإلهيّة تسطع على الجميع وهذا يعني أنّ الله رؤوف بالجميع وأنّ جميع الخلق مستغرقون في بحور الرّحمة الإلهيّة فيجب أن تكون الأديان الإلهيّة سبب الألفة والمحبّة بين البشر لأنّ أساس الأديان الإلهيّة هو المحبّة.
طالعوا الكتب المقدّسة تروا أنّ أساس الدّين الإلهيّ هو المحبّة وقد تكون قوّة أخرى يمكن أن تكون سبب الألفة لكن لا شيء كالدّين يمكن أن يكون سبب الألفة.
لاحظوا مثلاً أنّ أساس الدّين الإلهيّ في زمن المسيح وبعده صار سبب الألفة فحينما ظهر حضرة المسيح كانت أمم الرّومان واليونان والكلدان والآشوريّين والمصريّين في منتهى العداوة والبغضاء بعضها مع البعض الآخر ومع ذلك فقد اتّحد الجميع واتّفقوا بسرعة وبلغوا منتهى الألفة والمحبّة في ما بينهم وصارت الأمم المختلفة أمّة واحدة. إذن يفهم من هذا أنّ الدّين الإلهيّ سبب المحبّة والألفة وليس سبب العداوة والبغضاء وعلى هذه الشّاكلة حصل منتهى الاتّحاد بين بني إسرائيل وقت ظهور حضرة موسى وهكذا ثبت أنّ الدّين ليس فقط سبب بالمحبّة بل إنّه أعظم قوّة يمكن تصوّرها في عالم الوجود لإيجاد الألفة والمحبّة.
فالقوّة السّياسيّة والقوى الأخرى لا تستطيع أن توجد هذا الاتّحاد أو تربط القلب. وكذلك العلم والمعارف لا تستطيع أن تؤسّس المحبّة بين القلوب كما يؤسّسها الدّين. فالقوّة الّتي تولّد المحبّة هي إذًا قوّة الدّين الّتي تهب الكرامة والعزّة. وقوّة الدّين هي الّتي تجعل العالم نورانيًّا وقوّة الدّين هي الّتي تهب الحياة الأبديّة وقوّة الدّين هي الّتي تقتلع جذور العداوة والبغضاء من بين البشر.
راجعوا التّاريخ ولاحظوا كيف أنّ الدّين كان سبب الألفة والمحبّة وهذا يعني أنّ أساس جميع الأديان هو المحبّة. أمّا التّقاليد فهي سبب العداوة والبغضاء. وعندما نتحرّى أساس الأديان الإلهيّة نراها خيرًا محضًا. وعندما ننظر إلى التّقاليد الموجودة نراها شرًّا لأنّ أساس الدّين الإلهيّ واحد ولهذا فهو سبب الألفة وأمّا التّقاليد لمّا كانت مختلفة فإنّها سبب البغضاء والعداوة. والآن لو توصّلت الأقوام المتحاربة في البلقان إلى أساس الدّين الإلهيّ فإنّها تتصالح في ما بينها فورًا لأنّ جميع الأديان الإلهيّة تهدي إلى الوحدة والمحبّة ولكن وا ألف أسف فقد نسوا أساس الدّين الإلهيّ وتمسّكوا بالتّقاليد الّتي هي مخالفة للدّين الإلهيّ ولهذا يسفك بعضهم دماء البعض الآخر ويخرّب بعضهم بيوت البعض الآخر.
وكم من مصائب قاساها أنبياء الله وكم من بلايا تحمّلوها. فقد سجن بعضهم ونفي البعض الآخر واستشهد بعضهم فضحّوا بأرواحهم. لاحظوا كم من البلايا تحمّل السّيّد المسيح بحيث إنّه رضي أخيرًا بالصّليب من أجل أن تحدث المحبّة والألفة بين البشر وترتبط القلوب ببعضها. ولكن وا أسفاه فقد نسي أهل الأديان وغفلوا عن أساس الأديان الإلهيّة وتمسّكوا بهذه التّقاليد البالية وبما أنّ هذه التّقاليد مختلفة لهذا فإنّهم يتحاربون في ما بينهم. فوا ألف أسف إنّ كلّ ما جعله الله سبب الحياة جعله الله هؤلاء سبب الممات. والأمر الّذي جعله الله سبب النّجاة جعلوه سبب الهلاك. والدّين الّذي هو سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ جعلوه سبب الظّلمة. فوا ألف أسف. يجب أن نبكي على الأديان وعلى أنّه كيف نسي هذا الأساس وحلّت الأوهام محلّه. وبما أنّ الأوهام مختلفة لهذا حلّ الجدال والقتال.
ومع أنّ هذا القرن قرن نورانيّ، قرن العلوم والفنون، قرن الاكتشافات، قرن كشف حقائق الأشياء، قرن العدل وقرن الحرّيّة – مع ذلك تلاحظون أنّ الحروب مستمرّة بين الأديان وبين الدّول وبين الأقاليم. وهذا مدعاة للأسف ومدعاة للنّوح والبكاء. عندما كانت الحرب قائمة في إيران ما بين الأديان والمذاهب وكانت العداوة مستمرّة في ما بينها وكانوا يتنفّرون ويتجنّسون من بعضهم البعض والحرب دائرة رحاها بين الأقوام وبين الأقاليم في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الظّلمة ظهر حضرة بهاء الله وأزال تلك الظّلمات وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ وأعلن الوحدة العموميّة وأعلن وحدة جميع الأديان وأعلن وحدة جميع الأقوام والّذين تقبّلوا نصائح حضرته هم الآن في منتهى الألفة في ما بينهم وقد زال من بينهم سوء التّفاهم الّذي كان بين الأديان وصارت الآن تتشكّل في إيران وسائر بلاد الشّرق مجامع من جميع الأديان في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينها. فمثلاً تلاحظون فيها أن المسيحيّين والمسلمين واليهود والزرادشتيّين والبوذيّين في منتهى الألفة يجتمعون في مجمع واحد وكلّهم متّحدون متّفقون لا نزاع ولا جدال ولا حرب ولا قتال بل إنّهم في منتهى الألفة في ما بينهم لأنّهم نسوا التّقاليد ونبذوا الأوهام جانبًا وتمسّكوا بأساس الأديان الإلهيّة وحيث إنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد وهو الحقيقة والحقيقة لا تقبل التّعدّد لهذا فهم في منتهى الارتباط في ما بينهم حتّى إنّ بعضهم قد يفدي روحه في سبيل غيره. أمّا الأحزاب الأخرى الّتي لم تقبل نصائح حضرة بهاء الله فإنّها ما زالت حتّى الآن تتنازع وتتحارب.
وخلاصة القول إنّ حضرة بهاء الله أتى بتعاليم أوّلها وحدة العالم الإنسانيّ وهو يتفضّل في خطاب وجّهه لجميع البشر: "كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد" أي أنّ كلّ واحد منكم بمثابة ورقة وثمرة وكلّكم من شجرة آدم وكلّكم عائلة واحدة وعبيد لله وجميعكم أغنام راعٍ واحد والرّاعي الحقيقيّ هو الله وهو رؤوف بالجميع وما دام الرّاعي الحقيقيّ رؤوفًا ويرعى جميع الأغنام فلماذا يكون النّزاع في ما بيننا ونسمّي ذلك دينًا ويقاتل ويحارب بعضنا بعضًا ونسمّي ذلك قوميّة ويحارب ويقاتل بعضنا بعضًا ونسمّي ذلك وطنيّة ونبدي البغضاء والعداوة لبعضنا في حين أنّ جميع الذّرائع أوهام. لأنّ الدّين سبب الألفة والمحبّة ثمّ إنّ جميع البشر جنس واحد وجميع وجه الأرض وطن واحد فهذه الاختلافات أوهام. ولم يوجد الله هذه الأديان مختلفة بل وضع أساسًا واحدًا لها، ولم يقسّم الله الأرض بل خلقها كلّها كرة واحدة، ولم يفرّق الله بين هذه الأقوام بل خلقها جميعًا جنسًا واحدًا. لماذا نوجد التّقسيمات الفرضيّة لماذا نوجد هذا التّحايز والتّفاوت فنسمّي قطعة من الأرض ألمانيا ونسمّي غيرها مملكة فرنسا في حين أنّها كلّها واحدة وقد خلقها الله جميعًا متساوية وهو رؤوف بالجميع؟ إذن يجب أن لا نجعل هذه الأوهام كلّها سببًا للنّزاع والجدال وبصورة خاصّة الدّين الّذي هو سبب المحبّة وسبب نورانيّة وسبب روحانيّة القلوب وسبب التّجلّي الملكوتي فنأتي ونجعل مثل هذا الشّيء العزيز سببًا للنّزاع والجدال. فأيّة ضلالة هذه. وأيّة غباوة هذه. وأيّة دناءة هذه!
ومن تعاليم حضرة بهاء الله كذلك أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإن صار سبب البغضاء والعداوة كان عدم التّديّن أولى. لأنّ الدّين علاج للأمراض البشريّة فإن أصبح العلاج سببًا للمرض فلا شكّ أنّ تركه أولى وأحسن وإذا صار الدّين سبب العداوة فهو الشّرّ بعينه ولهذا فعدمه أحسن من وجوده.
وكذلك من تعاليم حضرة بهاء الله أنّ التّعصّبات الدينيّة والتّعصّبات القومية والتّعصّبات الوطنيّة والتّعصّبات السّياسيّة كلّها هادمة للبنيان الإنسانيّ وما دامت هذه التّعصّبات موجودة فإنّ العالم الإنسانيّ لن يرتاح. إذًا يجب نسيان هذه التّعصّبات كي يرتاح العالم الإنسانيّ.
الحمد لله، كلّنا عبيد لإله واحد، وكلّنا مستغرقون في بحر رحمة الله وما دام لنا إله رؤوف مثل هذا الإله فلماذا ينازع بعضنا بعضًا ولماذا نكون قساة ونكون ظلمات فوقها ظلمات.
وخلاصة القول إنّ تعاليم حضرة بهاء الله كثيرة فإذا أردتم الاطّلاع عليها فارجعوا إلى الكتب والجرائد وعندها تعلمون أنّ هذا الدّين صار سبب الألفة والمحبّة بين البشر وأنّه أسّس الصّلح العموميّ.