لا نهاية للفضل الإلهيّ
الخطبة المباركة في مجلس التّياصفة في باريس ليلة شباط 1913
هو الله
لو نظرنا إلى الكائنات جميعها بنظر الحقيقة لرأينا أنّ لكلّ كائن في الواقع حياة وكان الفلاسفة يقولون في سالف الأيّام إنّ الجماد ليست له حياة. ولكن اتّضح أخيرًا من التّحقيقات العميقة أنّ الجماد له أيضًا حياة وقد أقيمت الأدلّة العلميّة على ذلك في الفلسفة الجديدة.
ونحن نقول على سبيل الاختصار إنّ للكائنات حياة لكنّ حياة كلّ كائن على قدر استعداده. فمثلاً هناك في عالم الجماد حياة لكنّها ضعيفة جدًّا كالنّطفة في رحم الأمّ فهي لها حياة ولكنّها حياة ضعيفة. وإذا نظرتم إلى عالم النّبات لرأيتم أنّ له روحًا أيضًا. ولكنّها روح أقوى من روح عالم الجماد وكذلك تظهر الرّوح بمظهر أوضح في عالم الحيوان إذا ما قيست بظهورها في عالم النّبات. وإذا نظرنا إلى عالم الإنسان رأينا أنّ حياة الإنسان في منتهى القوّة.
ولهذا فكلّما بذل الإنسان جهدًا ظهرت فيه قوّة الرّوح ظهورًا أوضح.. فالمولود الجديد مهما كان ضعيف الرّوح وضعيف الإدراك ولكنّه حينما يصل مرحلة البلوغ تظهر الرّوح فيه في منتهى القوّة وتتجلّى قوّة الإنسان المعنويّة فيه كمال التّجلّي وليس هناك في العالم الحيواني مثل هذه الحياة والقوّة لأنّ الرّوح الإنسانيّة كاشفة لحقائق الأشياء. إنّها تخترع هذه المخترعات وتكتشف كلّ هذه العلوم وتميط اللّثام عن أسرار الطّبيعة وتسير الأمور في الغرب وهي في مكانها في الشّرق وتكتشفها في السّماء وهي في مكانها على الأرض. ولهذا فإنّها على قسط عظيم من القوّة خاصّة إذا ارتبطت بالله واستفاضت من النّور الأبديّ فإنّها تصبح تجلّيًا من تجلّيات شمس الحقيقة وتصل إلى أعظم المقامات في العالم الإنسانيّ وتصبح الرّوح الإنسانيّة في هذا المقام كمرآة تتجلّى فيها شمس الحقيقة. فمثل هذه الرّوح ولا شكّ أبديّة وباقية وثابتة ليس لها فناء وجامعة لجميع كمالات بل إنّها فيض من الفيوضات الإلهيّة ونور من الأنوار غير المتناهية وهذا المقام مقام النّفوس الّتي تستفيض من الفياض الحقيقيّ والّتي تظهر فيه الكمالات غير المتناهية وهذه الرّتبة هي أعلى رتبة في الوجود.
وإذا ألقينا نظرة أخرى على الكائنات رأينا أنّ ذرات فرديّة تركّبت وجاء إلى الوجود من كلّ تركيب كائن من الكائنات وعندما يتحلّل ذلك التّركيب ينعدم ذلك الكائن ويفنى. إذن فوجود الكائنات وانعدامها إنّما هو عبارة عن تركيبها وتحليلها. وعندما تنحلّ العناصر الفرديّة في جسم ما تمتزج كلّ ذرّة من ذرّاته مع العناصر الأخرى ويظهر إلى الوجود كائن آخر ولهذا فإنّ كلّ ذرّة من هذه الذّرّات لها سير في جميع المراتب وهذا بديهيّ ومحسوس وليس مجرّد عقيدة من العقائد.
فيثبت من هذا أنّ كلّ ذرّة لها سيرها في جميع الكائنات فمثلاً الذّرّات الفرديّة الموجودة الآن في الإنسان كانت ذات يوم موجودة في الجماد وسارت في مراتب الجماد في صور غير متناهية وكان لها في كلّ صورة كمال.
وكذلك الأمر في الصّور غير المتناهية لعالم الحيوان ولعالم الإنسان وحيث إنّ صور الكائنات غير متناهية لهذا فإنّ كلّ ذرة فرديّة تنتقل في صور غير متناهية وتحصل في كلّ صورة على كمال.
إذن فجميع الكائنات سارت في جميع الكائنات، فلاحظوا أيّة وحدة هي هذه الوحدة! بحيث إنّ كلّ ذرة من الكائنات هي بمثابة الكلّ وهذا ثابت علميًّا. فأيّة وحدة هذه الوحدة الموجودة في عالم الوجود وأيّة انتقالات وأيّة كمالات! ولا يمكن أن تكون هناك انتقالات وكمالات أعظم من هذه الانتقالات والكمالات. أي أنّ كلّ كائن فيض من الفيوضات الإلهيّة.
إذن فقد اتّضح أنّ الفيوضات الإلهيّة لا نهاية لها وليس لها حدّ وحصر. لاحظوا هذا الفضاء الوسيع الّذي لا يتناهى كم فيه من أجسام عظيمة نورانيّة! وهذه الأجسام لا منتهى لها أيضًا لأنّ وراء هذه النّجوم نجوم أخرى ووراء تلك النّجوم أيضًا نجوم أخرى.
وخلاصة القول إنّه ثبت علميًّا أنّ العوالم لا نهاية لها. لاحظوا أنّ الفيض الإلهيّ غير محدود مع أنّ هذا الفيض فيض جسمانيّ فانظروا كيف يكون الأمر في الفيض الرّوحانيّ. ففي الوقت الّذي يكون فيه الفيض الجسمانيّ غير محدود كيف يصحّ أن يكون الفيض الرّوحانيّ محدودًا؟ مع أنّه هو الأصل والأساس لأنّ ذلك الفيض هو أعظم من الفيض الجسمانيّ.
ولا مجال للمقارنة بين هذا الفيض الجسمانيّ وذاك الفيض الرّوحانيّ. فالجسم الإنسانيّ له آثار إلى درجة محدودة، أمّا الرّوح الإنسانيّة فآثارها غير متناهية وحتّى إنّ لها وهي على الأرض اكتشافات فلكيّة ولها إحساسات سماويّة. لاحظوا كيف أنّ القوّة الرّوحانيّة في الإنسان أعظم من جسده مع أنّ الفيض الجسمانيّ والرّوحانيّ إلهيّان وغير محدودين. وبعض الأغبياء يزعم أنّ هذا الفيض محدود ويقول إنّ هذا العالم عمره عشرة آلاف سنة وإنّ بداية الفيض الإلهيّ معلومة ومحدودة في حين أنّ الفيض الإلهيّ قديم وغير محدود وكان ولا يزال موجودًا وسيبقى كذلك لا بداية له ولن تكون له نهاية. لأنّ عالم الوجود محلّ الكمالات الإلهيّة، فهل نستطيع أن نحدّد الله تعالى؟ وكما أنّ الحقيقة الإلهيّة غير محدودة فكذلك الفيوضات الإلهيّة غير محدودة ولا نهاية لها.
ومن جملة الفيوضات الإلهيّة هي المظاهر المقدّسة، فكيف يكون ظهورها محدودًا مع أنّها أعظم الفيوضات الإلهيّة؟ وبعد أن ثبت أنّ الفيض الجسمانيّ غير محدود كيف يكون الفيض الرّوحانيّ محدودًا؟ وبعد أن ثبت أنّ القطرة غير محدودة كيف يمكن أن يكون البحر محدودًا وبعد أن ثبت أن الذّرّة غير محدودة كيف يمكن أن تكون الشّمس محدودة؟ وبعد أن ثبت أنّ العالم الجسمانيّ غير متناهٍ كيف يمكن أن يكون العالم الرّوحانيّ محدودًا ومتناهيًا؟
ولهذا فالمظاهر المقدّسة الّتي هي أعظم الفيوضات الإلهيّة كانت موجودة في الماضي وستكون إلى الأبد. فكيف نستطيع إذًا أن نحدّد الفيض الإلهيّ؟ فإن استطعنا أن نحدّد الله استطعنا أن نحدّد فيضه.
وخلاصة القول بالرّغم من أنّ كلّ ملّة لها موعود وكلّ أمة كانت لها ذات مقدّسة تنتظرها فوا أسفًا عندما كان يظهر ذلك الموعود كانوا يحتجبون عنه وكانوا ينتظرون طلوع شمس الحقيقة وعندما كانت تطلع كانوا يقتنعون بالظّلمة بدلاً عنها.
مثال ذلك الملّة الموسوية الّتي كانت تنتظر ظهور المسيح وتتضرّع ليلاً ونهارًا قائلة: "يا إلهنا أظهر لنا المسيح!" ولكن عندما ظهر السّيّد المسيح احتجبوا عنه وما عرفوه لأنّ حجاب التّقليد غطّى بصائرهم فما شاهدوه وما سمعوا النّداء الإلهيّ ومنذ حوالي ألفي سنة وحتّى الآن وهم لا يزالون منتظرين.
إذن يجب أن تكون أعيننا مفتوحة وعقولنا طليقة متحرّرة كي لا تحتجب في وقت الظّهور الإلهيّ وكي نسمع النّداء الإلهيّ عندما يرتفع. وكي لا تكون مشامّنا مزكومة عندما تنتشر نفحات الجنّة الإلهيّة فنستنشق نفحة القدس تلك ونشاهد تلك الأنوار الإلهيّة ونتعرّف إلى ذلك اللّحن ونحصل على تلك الرّوح فنجدّد حياتنا ونحيا من نفحات الرّوح القدس حتّى نتوصّل إلى أسرار الكائنات ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ وننال جميعًا نصيبًا من الفيض الإلهيّ ويصبح كلّ فرد منّا كالموج وعندما ننظر إلى بحر الوجود نشاهد بحرًا من الصّنع الإلهيّ وعندما ننظر إلى بحر الأمواج نراها كلّها صادرة من ذلك البحر ومهما كانت الأمواج مختلفة ولكنّ البحر بحر واحد وهناك شمس واحدة تسطع على جميع الكائنات ونورها نور واحد ولكنّ الكائنات مختلفة.
وخلاصة القول إنّ هذا القرن قرن الوحدة، قرن المحبّة، قرن الصّلح العموميّ، قرن طلوع شمس الحقيقة، قرن ظهور ملكوت الله لذا يجب أن نتشبّث بجميع الوسائل كي ننال من هذه الفيوضات غير المتناهية نصيبًا وافرًا.
وها إنّنا نرى اليوم وسائل وحدة العالم الإنسانيّ مهيّأة من كلّ الجهات وهذا دليل على التّأييدات الإلهيّة. ومن بين التّأييدات الإلهيّة في هذا القرن اللّغة العموميّة الّتي نراها تنتشر. ولا شكّ أنّ اللّغة العموميّة سبب لزوال سوء التّفاهم لأنّ بواسطتها يطّلع كلّ فرد على أفكار سائر البشر وهذا سبب من أسباب وحدة العالم الإنسانيّ. لهذا يجب أن نبذل الجهد في ترويجها، ومع أنّ صحّتي لم تكن جيّدة هذه اللّيلة فقد جئت إليكم وتحدّثنا على قدر الإمكان.