أقوى قوّة هي المحبّة

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

أقوى قوّة هي المحبّة

الخطبة المباركة ألقيت قبيل الحرب العالميّة

الأولى في الأرض المقدّسة 1914

هو الله

عجيب أنّ جميع الخلق مضطربون.

قبل ما يقارب العشرة أو الخمسة عشر يومًا تحدّثنا إلى القنصل الألمانيّ حول الحرب وقد أصرّ هو على وجوب زيادة القوّة الحربيّة وإكمالها وكان يقول إنّ القوّة الحربيّة كلّما كانت أكمل فإنّها تكون سببًا للرّقيّ. وكان بعض الألمان وبعض الأشخاص حاضرين وصدّقوه في ما ذهب إليه واتّفقوا معه في هذه المسألة. فقلت لهم: "لو أنّ قوّة المحبّة تتغلّب فإنّ تأثيراتها تكون أعظم من القوّة الحربيّة وليس في عالم الوجود قوّة نافذة كنفوذ قوّة المحبّة فبالقوّة الحربيّة يسكت النّاس ويصمتون عن طريق الإكراه ولكنّهم بقوّة المحبّة يطيعون الأمر محض رغبتهم. فاليوم تجهد جميع الدّول جهدًا متواصلاً في تهيئة وسائل الحرب ولو أنّ الحرب غير موجودة على حسب الظّاهر ولكنّ الحرب الاقتصاديّة قائمة مستمرّة لأنّ هؤلاء الفقراء المساكين يجمعون بضع حبوب بكدّ اليمين وعرق الجبين ثمّ يصرف جميع ذلك على الحرب ولهذا فالحرب مستمرّة قائمة. والآن لو أنّ هذا الإصرار والحرص الّذي لدى الدّول في التّجهيزات الحربيّة وهذه الأفكار الّتي تصرفها لتوسيع العلوم الحربية وهذ السّعي والجهد والهمّة والفكر –لو بذل في سبيل المحبّة بين البشر وارتباط الدّول والملل وألفة الأقوام أفلا يكون ذلك أفضل وأحسن؟ وبدلاً عن استلال السّيوف وسفك بعضهم دماء البعض الآخر ألا يكون الأفضل أن يفكّروا براحة بعضهم بعضًا واطمئنانه ورقيّه؟".

لكنّ حضرات الحاضرين لم يقبلوا هذه الأقوال وكانوا يجادلون فيها فقلت لهم: "ترى ما ثمرة هذا السّفك للدّماء؟ وما نتيجة هذا الظّلم؟ وأيّة منفعة جنتها البشريّة من العدوان والهجوم من أوّل العالم حتّى الوقت الحاضر كما يخبرنا تاريخ البشريّة؟ بل لاحظوا على العكس أيّة أثمار لذيذة ظهرت بقوّة المحبّة وأيّة فتوحات معنويّة تجلّت وأيّة آثار روحانيّة ظهرت! فحريّ بعقلاء الأرض أن تنصرف أفكارهم إلى نشر قوّة المحبّة فهي سبب الألفة والوئام وسبب العزّة الأبديّة وسبب راحة العالم الإنسانيّ".

ولكن حضرات الحاضرين لم يرضوا أن يرضخوا لهذا الرّأي بل سكتوا ولم يعترفوا بل صمتوا.

واليوم نشاهد جميع الألمان في هذا البلد محزونين مهمومين لسماعهم خبر إعلان الحرب وهم على درجة من الحزن لا توصف لأنّهم يرون أنّهم في خطر لئلا ينكسر الألمان. ترى لماذا يرمون النّاس في الخطر؟ مع أنّ هؤلاء في الحقيقة أهل دين واحد وهو دين حضرة المسيح ومن جنس واحد هو الجنس الآريّ الّذي جاء في قديم الزّمان من آسيا إلى أوروبّا واستقرّ في بقاع مختلفة منها واتّخذ كلّ جمع بعد فترة من الزّمن لموطنه اسمًا مختلفًا مثل فرنسا، ألمانيا، إنكلترا وإيطاليا.

ثمّ حدثت أسباب الاختلاف بينها تدريجيًّا ولكنّها كانت كلّها في الأصل جنسًا واحدًا. ثمّ حلّت بينها أوهام واشتدّ الاختلاف يومًا فيومًا. وكذلك حينما نفكّر مليًّا نلاحظ أنّهم ساكنون في قطعة واحدة من الأرض هي القارّة الأوروبّيّة فإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب اختلاف الدّين فجميعهم أهل دين واحد وإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب الجنس فكلّهم جنس واحد وإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب الوطن فكلّهم يسكنون قطعة أرض واحدة.

وعلاوة على كلّ هذا فإنّ جميع هؤلاء من النّوع البشريّ ومن دوحة واحدة ونموا من شجرة واحدة.

وحينما كنت في أوروبّا كانت كلّ ملّة فيها تنادي: "الوطن! الوطن! الوطن!" فكنت أقول يا أعزّائي ما الخبر في كلّ هذا الضجيج؟ ومن أين كلّ هذا العجيج؟ فإنّ الوطن الّذي تصرخون من أجله وتنادون به هو سطح الأرض وهو وطن الإنسان وكلّ شخص سكن مكانًا كان ذلك المكان وطنه فإنّ الله تعالى لم يقسّم الأرض تقسيمًا. فالأرض كلّها كرة واحدة وهذه الحدود الّتي عينتموها وهميّة لا حقيقيّة كأنّنا نرسم في هذه الغرفة خطوط حدود وهميّة ونقول إنّ نصفها ألمانيا والنّصف الآخر إنكلترا وفرنسا. فالخطوط الوهميّة لا وجود لها أبدًا وهذه الحدود الوهميّة هي بمثابة الحدود بين الممالك لأنّ عددًا من السّكان يسكنون ميدانًا ولكنّهم قسّموا الميدان بينهم بخطوط وحدود وهميّة ولو أراد أحدهم التّجاوز عن حدوده هجم عليه الآخرون والحال أنّ هذه الخطوط ليس لها وجود حقيقيّ.

وفضلاً عن هذا نلاحظ أنّ هذا الوطن الّذي تتكلّمون عنه قائلين: "يا وطن! يا وطن!" ما هو؟ فإن كان أرضًا فإنّ الإنسان لا شكّ يعيش فوق هذه الأرض بضعة أيّام وبعد ذلك يستقرّ إلى الأبد تحت أطباقها وتكون قبرًا أبديًّا له. أفهل يليق بالإنسان أن يتحارب على هذه المقبرة الأبديّة فيسفك دم إخوانه ويهدم البناء الإلهيّ؟ فالإنسان بناء إلهيّ أيجدر به ذلك العمل؟

وخلاصة القول إنّ بحثي هذا كان في ذلك اليوم ثقيلاً على الألمان ولكنّني اليوم رأيتهم محزونين جدًّا ومضطربين ومرتبكين. ولكنّهم من النّاحية الأخرى ما أشدّهم حماسًا وغيرة! فقد ترك الشّبان أشغالهم وتحرّكوا مسافرين واستعدّ خمسون شخصًا من تلقاء أنفسهم للسّفر ويذهب من هذه القرية الصّغيرة حوالي مائة شخص من الشّبان بكمال السّرور ولا يشكون من شيء أبدًا ولكنّهم حزنوا جدًّا من أخبار اليوم المنبثّة باتّحاد الرّوس والفرنسيّين والإنكليز ضدّهم.

ما اشدّ هذا التّعسف الّذي فيه يمزّق الإنسان أخاه الإنسان قطعة قطعة لمجرد أنّك ألمانيّ وأنا فرنسيّ وذاك إنكليزيّ والحال أنّهم جميعًا بشر يعيشون في ظلّ إله واحد وتشمل الفيوضات والعنايات الإﻠﻬيّة جميعهم وكلّهم أغنام الله وهذا الرّاعي الحقيقيّ رؤوف بالجميع.

ثمّ إنّ هذا الهياج هياج الطّبيعة وهؤلاء البؤساء مثل الحيوانات أسرى الطّبيعة مغلوبون ومحكومون بها. فالحيوانات يتجاوز بعضها على البعض الآخر بحكم الطّبيعة ويجهد البعض في هلاك البعض الآخر وهذا مطابق لحكم الطّبيعة ومقتضاها. ففي عالم الطّبيعة الافتراس وفيه الظّلم وفيه التّنازع على البقاء. وكلّ هذه الشّؤون من لوازم الطّبيعة وكما أنّ الحيوانات أسيرة للطّبيعة فكذلك الإنسان ذليل للطّبيعة الّتي قهرته وأسير لها. فمثلاً يتغلّب الغضب على الإنسان ويستولي عليه الافتراس ويكون حينًا أسير شهواته النّفسانيّة فما هذه جميعها؟ إنّها جميعًا من مقتضيات عالم الطّبيعة إلاّ النّفوس المؤمنة حقًّا بالله والمؤمنة بآيات الله والمنجذبة إلى ملكوت الله والمتوجّهة حقًّا إلى الله فإنّها نجت من أسر مخالب الطّبيعة وبعد أن كانت محكومة من قبل الطّبيعة صارت حاكمة عليها وبعد أن كانت مغلوبة للطّبيعة أصبحت غالبة على الطّبيعة. فالطّبيعة تدعو الإنسان إلى الهوى والمجون في حين أنّ محبّة الله تجذبه إلى عوالم التّنزيه والتّقديس.

المصادر
المحتوى
OV