لوح السلطان
ناصر الدِّين شاه القاجاري
(معرّب عن الفارسية)
هُوَ اللهُ تَعَالَى شَأْنُهُ العَظَمَةُ وَالإِقْتِدَارُ
يَا مَلِكَ الأَرْضِ اسْمَعْ نِداءَ هذَا المَمْلُوكِ إِنِّي عَبْدٌ آمَنْتُ بِاللهِ وَآياتِهِ وَفَدَيْتُ نَفْسِي فِي سَبِيلِهِ وَيَشْهَدُ بِذلِكَ ما أَنَا فيهِ مِنَ البَلايا الّتي ما حَمَلَها أَحَدٌ مِنَ العِبادِ وَكانَ رَبِّي العَلِيمُ عَلَى ما أَقُولُ شَهِيداً، مَا دَعَوْتُ النَّاسَ إِلاّ إِلى اللهِ رَبِّكَ وَرَبِّ العَالَمِينَ وَوَرَدَ عَلَيَّ فِي حُبِّهِ مَا لا رَأَتْ عَيْنُ الإِبْداعِ شِبْهَها، يُصَدِّقُنِي فِي ذلِكَ العِبادُ الّذِينَ مَا مَنَعَتْهُمْ سُبُحاتُ البَشَرِ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلى المَنْظَرِ الأَكبَرِ وَعَنْ وَرَائِهِمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ كلِّ شَيْءٍ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ، كُلَّمَا أَمْطَرَتْ سَحَابُ القَضَاءِ سِهامَ البَلاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَالِكِ الأَسْمآءِ أَقْبَلْتُ إِلَيْها وَيَشْهَدُ بِذلِكَ كلُّ مُنْصِفٍ خَبِيرٍ، كمْ مِنْ لَيالٍ فِيهَا اسْتَراحَتِ الوُحُوشُ فِي كنَائِسِها وَالطُّيُورُ فِي أَوْكارِهَا وَكانَ الغُلامُ فِي السَّلاسِلِ وَالأَغْلالِ وَلَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ نَاصِرَاً وَلا مُعِيناً، أَنِ اذْكرْ فَضْلَ اللهِ عَلَيْكَ إِذْ كنْتَ فِي السِّجْنِ مَعَ أَنْفُسٍ مَعْدُودَاتٍ وَأَخْرَجَكَ مِنْهُ وَنَصَرَكَ بِجُنُودِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِلَى أَنْ أَرْسَلَكَ السُّلْطانُ إِلَى العِرَاقِ بَعْدَ الَّذِي كَشَفْنَا لَهُ بِأَنَّكَ مَا كنْتَ مِنَ المُفْسِدينَ، إِنَّ الّذِينَ اتَّبَعُوا الهَوَى وَأَعْرَضُوا عَنِ التَّقْوى أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَالَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ نَحْنُ بَرِاءٌ مِنْهُمْ وَنَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ لا يَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لا فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرةِ إِلاّ بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ، إِنَّ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ يَنْبَغِي لَهُ بِأَنْ يَكونَ مُمْتازاً فِي كلِّ الأَعْمالِ عَمَّا سِواهُ وَيَتَّبِعَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي الكِتَابِ كذلِكَ قُضِيَ الأَمْرُ فِي كتابٍ مُبِينٍ، وَالَّذِينَ نَبَذُوا أَمْرَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أُولئِكَ فِي خَطأٍ عَظِيمٍ.
يا سُلْطَانُ أُقْسِمُكَ بِرَبِّكَ الرَّحْمنِ بِأَنْ تَنْظُرَ إِلَى العِبادِ بِلَحَظاتِ أَعْيُنِ رَأْفَتِكَ وَتَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ لِيَحْكُمَ اللهُ لَكَ بِالفَضْلِ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الحَاكِمُ عَلَى مَا يُريدُ، سَتَفْنَى الدُّنْيا وَمَا فِيها مِنَ العِزَّةِ وَالذِّلَّةِ وَيَبْقَى المُلْكُ للهِ المَلِكِ العَلِيِّ العَلِيمِ، قُلْ إِنَّهُ أَوْقَدَ سِرَاجَ البَيانِ وَيُمِدُّهُ بِدُهْنِ المَعَانِي وَالتِّبْيانِ تَعَالَى رَبُّكَ الرَّحْمنُ مِنْ أَنْ يَقُومَ مَعَ أَمْرِهِ خَلْقُ الأَكْوانِ إِنَّهُ يُظْهِرُ مَا يَشاءُ بِسُلْطانِهِ وَيَحْفَظُهُ بِقَبِيلٍ مِنَ المَلائِكةِ المُقَرَّبِينَ، هُوَ القَاهِرُ فَوْقَ خَلْقِهِ وَالغَالِبُ عَلَى بَرِيَّتِهِ إِنَّهُ لَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ.
يَا سُلْطانُ إِنِّي كُنْتُ كَأَحَدٍ مِنَ العِبادِ وَرَاقِدَاً عَلَى المِهَادِ مَرَّتْ عَلَيَّ نَسَائِمُ السُّبْحانِ وَعَلَّمَنِي عِلْمَ مَا كَانَ لَيْسَ هذا مِنْ عِنْدِي بَلْ مِنْ لَدُنْ عَزِيزٍ عَلِيمٍ، وَأَمَرَنِي بِالنِّدَاءِ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمآءِ وَبِذلِكَ وَرَدَ عَلَيَّ مَا تَذَرَّفَتْ بِهِ عُيونُ العَارِفِينَ، مَا قَرَأْتُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ العُلُومِ وَمَا دَخَلْتُ المَدَارِسَ فَاسْئَلِ المَدِينَةَ الَّتِي كُنْتُ فِيها لِتُوقِنَ بِأَنِّي لَسْتُ مِنَ الكَاذِبِينَ، هذا وَرَقَةٌ حَرَّكَتْها أَرْياحُ مَشِيَّةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الحَمِيدِ هَلْ لَهَا اسْتِقْرارٌ عِنْدَ هُبوبِ أَرْياحٍ عَاصِفاتٍ؟ لا وَمَالِكِ الأَسْمآءِ وَالصِّفَاتِ بَلْ تُحَرِّكُهَا كَيْفَ تُريدُ، لَيْسَ لِلْعَدَمِ وُجُودٌ تِلْقَاءَ القِدَمِ قَدْ جَاءَ أَمْرُهُ المُبْرَمُ وَأَنْطَقَنِي بِذِكْرِهِ بَيْنَ العَالَمِينَ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ إِلاَّ كَالمَيِّتِ تِلْقَاءَ أَمْرِهِ قَلَّبَتْنِي يَدُ إِرَادَةِ رَبِّكَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِما يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَيْهِ العِبَادُ مِنْ كُلِّ وَضِيعٍ وَشَرِيفٍ؟ لا فَوَالَّذِي عَلَّمَ القَلَمَ أَسْرَارَ القِدَمِ إِلاّ مَنْ كانَ مُؤَيَّداً مِنْ لَدُنْ مُقْتَدِرٍ قَدِيرٍ، يُخَاطِبُنِي القَلَمُ الأَعْلَى وَيقُولُ لا تَخَفْ أَنِ اقْصُصْ لِحَضْرةِ السُّلْطَانِ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ إِنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ اصْبَعَيْ رَبِّكَ الرَّحْمنِ لَعَلَّ يَسْتَشْرِقُ مِنْ أُفُقِ قَلْبِهِ شَمْسُ العَدْلِ وَالإِحْسانِ كَذلِكَ كانَ الحُكْمُ مِنْ لَدَى الحَكِيمِ مَنْزُولاً.
قُلْ يا سُلْطانُ فَانْظُرْ بِطَرْفِ العَدْلِ إِلَى الغُلامِ ثُمَّ احْكُمْ بِالحَقِّ فِيما وَرَدَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَكَ ظِلَّهُ بَيْنَ العِبادِ وَآيَةَ قُدْرَتِهِ لِمَنْ فِي البِلادِ أَنِ احْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الَّذِينَ ظَلَمُونا مِنْ دونِ بَيِّنَةٍ وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ، إِنَّ الَّذِينَ فِي حَوْلِكَ يُحِبُّونَكَ لأَنْفُسِهِم وَالغُلامُ يُحِبُّكَ لِنَفْسِكَ وَما أَرَادَ إِلاَّ أَنْ يُقَرِّبَكَ إِلَى مَقَرِّ الفَضْلِ وَيُقَلِّبَكَ إِلَى يَمِينِ العَدْلِ وَكَانَ رَبُّكَ عَلَى ما أَقُولُ شَهِيداً.
أَنْ يا سُلْطانُ لَوْ تَسْمَعُ صَرِيرَ القَلَمِ الأَعْلَى وَهَدِيرَ وَرْقَاءِ البَقاءِ عَلَى أَفْنانِ سِدْرَةِ المُنْتَهى فِي ذِكْرِ اللهِ مُوجِدِ الأَسْمآءِ وَخالِقِ الأَرْضِ وَالسَّمآءِ لَيُبَلِّغَكَ إِلى مَقامٍ لا تَرَى فِي الوُجُودِ إِلاّ تَجَلِّي حَضْرَةِ المَعْبُودِ وَتَرى المُلْكَ أَحْقَرَ شَيْءٍ عِنْدَكَ تَضَعُهُ لِمَنْ أَرَادَ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى أُفُقٍ كَانَ بِأَنْوارِ الوَجْهِ مُضِيئاً، وَلا تَحْمِلُ ثِقَلَ المُلْكِ أَبَداً إِلاّ لِنُصْرَةِ رَبِّكَ العَلِيِّ الأَعْلَى إِذاً يُصَلِّيُنَ عَلَيْكَ المَلأُ الأَعْلَى، حَبَّذَا لِهذا المَقَامِ الأَسْنَى لَوْ تَرْتَقِي إِلَيْهِ بِسُلْطانٍ كَانَ بِاسْمِ اللهِ مَعْرُوفاً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ الغُلامَ مَا أَرادَ إِلاّ إِبْقَاءَ اسْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَرَادَ الدُّنْيا لِنَفْسِهِ بَعْدَ الَّذِي مَا وَجَدْتُ فِي أَيَّامِي مَقَرَّ الأَمْنِ عَلَى قَدْرٍ أَضَعُ رِجْلِي عَلَيْهِ، كُنْتُ فِي كُلِّ الأَحْيانِ فِي غَمَرَاتِ البَلايَا الَّتِي مَا اطَّلَعَ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى مَا أَقُولُ عَلِيماً، كَمْ مِنْ أَيَّامٍ اضْطَرَبَتْ فِيهَا أَحِبَّتِي لِضُرِّي وَكَمْ مِنْ لَيالٍ ارْتَفَعَ فِيها نَحِيبُ البُكَاءِ مِنْ أَهْلِي خَوْفاً لِنَفْسِي وَلا يُنْكِرُ ذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَانَ عَنِ الصِّدْقِ مَحْرُوماً، وَالَّذِي لا يَرَى لِنَفْسِهِ الحَيوةَ فِي أَقَلَّ مِنْ آنٍ هَلْ يُرِيدُ الدُّنْيا؟ فَيا عَجَباً مِنَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَهْوائِهِمْ وَهامُوا فِي بَرِّيَّةِ النَّفْسِ وَالهَوى سَوْفَ يُسْئَلُونَ عَمَّا قَالُوا يَوْمَئِذٍ لا يَجِدُونَ لأَنْفُسِهِم حَمِيماً وَلا نَصِيراً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَفَرَ بِاللهِ بَعْدَ الَّذِي يَشْهَدُ كُلُّ جَوَارِحِي بِأَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالَّذِينَ بَعَثَهُمْ بِالحَقِّ وَأَرْسَلَهُمْ بِالهُدَى أُولئِكَ مَظاهِرُ أَسْمآئِهِ الحُسْنَى وَمَطالِعُ صِفاتِهِ العُلْيا وَمَهابِطُ وَحْيِهِ فِي مَلَكُوتِ الإِنْشاءِ، وَبِهِمْ تَمَّتْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ما سِواهُ وَنُصِبَتْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ وَظَهَرَتْ آيةُ التَّجْرِيدِ وَبِهِمِ اتَّخَذَ كُلُّ نَفْسٍ إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً، نَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ يَزَلْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ شَيْءٍ وَلا يَزَالُ يَكُونُ بِمِثْلِ ما قَدْ كَانَ، تَعَالى الرَّحْمنُ مِنْ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَى إِدْراكِ كُنْهِهِ أَفْئِدَةُ أَهْلِ العِرْفَانِ أَوْ يَصْعَدَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ إِدْراكُ مَنْ فِي الأَكْوانِ، هُوَ المُقَدَّسُ عَنْ عِرْفَانِ دُونِهِ وَالمُنَزَّهُ عَنْ إِدْراكِ ما سِواهُ إِنَّهُ كَانَ فِي أَزَلِ الآزالِ عَنِ العَالَمِينَ غَنِيَّاً، وَاذْكُرِ الأَيَّامَ الَّتِي فِيها أَشْرَقَتْ شَمْسُ البَطْحَاءِ عَنْ أُفُقِ مَشِيَّةِ رَبِّكَ العَلِيِّ الأَعْلَى أَعْرَضَ عَنْهُ العُلَماءُ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الأُدَبَاءُ لِتَطَّلِعَ بِمَا كَانَ اليَوْمَ فِي حِجَابِ النُّورِ مَسْتُورَاً، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الأُمُورُ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ إِلَى أَنْ تَفَرَّقَ مَنْ فِي حَوْلِهِ بِأَمْرِهِ كَذلِكَ كَانَ الأَمْرُ مِنْ سَمآءِ العِزِّ مَنْزُولاً، ثُمَّ اذْكُرْ إِذْ دَخَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَتَلا عَلَيْهِ سُورَةً مِنَ القُرْانِ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ إِنَّها نُزِّلَتْ مِنْ لَدُنْ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، مَنْ صَدَّقَ بِالحُسْنَى وَآمَنَ بِمَا أَتَى بِهِ عِيسَى لا يَسَعُهُ الإِعْرَاضُ عَمَّا قُرِئَ إِنَّا نَشْهَدُ لَهُ كَمَا نَشْهَدُ لِمَا عِنْدَنا مِنْ كُتُبِ اللهِ المُهَيْمِنِ القَيُّومِ.
تاللهِ يا مَلِكُ لَوْ تَسْمَعُ نَغَماتِ الوَرْقاءِ الَّتِي تَغَنُّ عَلَى الأَفْنانِ بِفُنُونِ الأَلْحَانِ بِأَمْرِ رَبِّكَ الرَّحْمنِ لَتَدَعُ المُلْكَ عَنْ وَرَائِكَ وَتَتَوجَّهُ إِلَى الْمَنْظَرِ الأَكْبَرِ المَقَامِ الَّذِي كَانَ كِتَابُ الفَجْرِ عَنْ أُفُقِهِ مَشْهُوداً، وَتُنْفِقُ مَا عِنْدَك ابْتِغَاءً لِمَا عِنْدَ اللهِ إِذاً تَجِدُ نَفْسَكَ فِي عُلُوِّ العِزَّةِ وَالاسْتِعْلاءِ وَسُمُوِّ العَظَمَةِ وَالاسْتِغْنَاءِ كَذلِكَ كَانَ الأَمْرُ فِي أُمِّ البَيانِ مِنْ قَلَمِ الرَّحْمنِ مَسْطُوراً، لا خَيْرَ فِيمَا مَلَكْتَهُ اليَوْمَ فَسَوْفَ يَمْلِكُهُ غَدَاً غَيْرُكَ أَنِ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما اخْتارَهُ اللهُ لأَصْفِيَائِهِ إِنَّهُ يُعْطِيكَ فِي مَلَكُوتِهِ مُلْكَاً كَبِيرَاً، نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يُؤَيِّدَ حَضْرَتَكَ عَلَى إِصْغَاءِ الكَلِمَةِ الَّتِي مِنْها اسْتَضَاءَ العَالَمُ وَيَحْفَظَكَ عَنِ الَّذِينَ كَانُوا عَنْ شَطْرِ القُرْبِ بَعِيداً.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يَا إِلهي كَمْ مِنْ رُؤُوسٍ نُصِبَتْ عَلَى القَنَاةِ فِي سَبِيلِكَ وَكَمْ مِنْ صُدُورٍ اسْتَقْبَلَتِ السِّهامَ فِي رِضَائِكَ وَكَمْ مِنْ قُلُوبٍ تَشَبَّكتْ لارْتِفَاعِ كَلِمَتِكَ وَانْتِشَارِ أَمْرِكَ وَكَمْ مِنْ عُيونٍ تَذَرَّفَتْ فِي حُبِّكَ، أَسْئَلُكَ يَا مَالِكَ المُلُوكِ وَرَاحِمَ المَمْلُوكِ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الَّذِي جَعَلْتَهُ مَطْلِعَ أَسْمائِكَ الحُسْنَى وَمَظْهَرَ صِفَاتِكَ العُلْيا بِأَنْ تَرْفَعَ السُّبُحَاتِ الَّتِي حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِكَ وَمَنَعَتْهُمْ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلى أُفُقِ وَحْيِكَ، ثُمَّ اجْتَذِبْهُمْ يَا إِلهِي بِكَلِمَتِكَ العُلْيَا عَنْ شِمَالِ الوَهْمِ وَالنِّسْيَانِ إِلى يَمِينِ اليَقِينِ وَالعِرْفَانِ لِيَعْرِفُوا مَا أَرَدْتَ لَهُمْ بِجُودِكَ وَفَضْلِكَ وَيتَوَجَّهُوا إِلَى مَظْهَرِ أَمْرِكَ وَمَطْلِعِ آياتِكَ، يا إِلهِي أَنْتَ الكَرِيمُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ لا تَمْنَعُ عِبَادَكَ عَنِ البَحْرِ الأَعْظَمِ الَّذِي جَعَلْتَهُ حَامِلاً لِلَئَآلِي عِلْمِكَ وَحِكْمَتِكَ وَلا تَطْرُدُهُمْ عَنْ باَبِكَ الَّذِي فَتَحْتَهُ عَلَى مَنْ فِي سَمَائِكَ وَأَرْضِكَ، أَيْ رَبِّ لا تَدَعْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لأَنَّهُمْ لا يَعْرِفُونَ وَيَهْرُبُونَ عَمَّا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا خُلِقَ فِي أَرْضِكَ، فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ يا إِلهِي بِلَحَظاتِ أَعْيُنِ أَلْطَافِكَ وَمَواهِبِكَ وَخَلِّصْهُمْ عَنِ النَّفْسِ وَالهَوَى لِيَتَقَرَّبُوا إِلَى أُفُقِكَ الأَعْلَى وَيَجِدُوا حَلاوَةَ ذِكْرِكَ وَلَذَّةَ المَائِدَةِ الَّتِي نُزِّلَتْ مِنْ سَمآء مَشِيَّتِكَ وَهَواءِ فَضْلِكَ، لَمْ يَزَلْ أَحَاطَ كَرَمُكَ المُمْكِنَاتِ وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ الكَائِنَاتِ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
سُبْحَانَكَ يا إِلهِي أَنْتَ تَعْلَمُ بِأَنَّ قَلْبِي ذَابَ فِي أَمْرِكَ وَيَغْلِي دَمِي فِي كُلِّ عِرْقِي مِنْ نَارِ حُبِّكَ وَكُلُّ قَطْرَةٍ مِنْهُ يُنَادِيكَ بِلِسانِ الحَالِ يَا رَبِّيَ المُتَعَالِ فَاسْفِكْنِي عَلَى الأَرْضِ فِي سَبِيلِكَ لِيَنْبُتَ مِنْهَا مَا أَرَدْتَهُ فِي أَلْواحِكَ وَسَتَرْتَهُ عَنْ أَنْظُرِ عِبَادِكَ إِلاَّ الَّذِينَ شَرِبُوا كَوْثَرَ العِلْمِ مِنْ أَيادِي فَضْلِكَ وَسَلْسَبِيلَ العِرْفَانِ مِنْ كَأْسِ عَطَائِكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ يَا إِلهِي بِأَنِّي مَا أَرَدْتُ فِي أَمْرٍ إِلاَّ أَمْرَكَ وَمَا قَصَدْتُ فِي ذِكْرٍ إِلاَّ ذِكْرَكَ وَمَا تَحَرَّكَ قَلَمِي إِلاَّ وَقَدْ أَرَدْتُ بِهِ رِضَاءَكَ وَإِظْهارَ ما أَمَرْتَنِي بِهِ بِسُلْطَانِكَ، تَرَانِي يَا إِلهِي مُتَحَيِّرَاً فِي أَرْضِكَ إِنْ أَذْكُرْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ يَعْتَرِضُ عَلَيَّ خَلْقُكَ وَإِنْ أَتْرُكْ مَا أُمِرْتُ بِهِ مِنْ عَنْدِكَ أَكُونُ مُسْتَحِقَّاً لِسِياطِ قَهْرِكَ وَبَعِيداً عَنْ رِيَاضِ قُرْبِكَ، لا فَوَعِزَّتِكَ أَقْبَلْتُ إِلَى رِضَائِكَ وَأَعْرَضْتُ عَمَّا تَهْوَى بِهِ أَنْفُسُ عِبَادِكَ وَقَبِلْتُ مَا عِنْدَكَ وَتَرَكْتُ مَا يُبْعِدُنِي عَنْ مَكَامِنِ قُرْبِك وَمَعارِجِ عِزِّكَ، فَوَعِزَّتِكَ بِحُبِّكَ لا أَجْزَعُ عَنْ شَيْءٍ وَفِي رِضَائِكَ لا أَفْزَعُ مِنْ بَلايَا الأَرْضِ كُلِّها لَيْسَ هذا إِلاَّ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَفَضْلِكَ وَعِنايَتِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِي بِذلِكَ، فَيَا إِلهِي هذا كِتَابٌ أُرِيدُ أَنْ أُرْسِلَهُ إِلَى السُّلْطانِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ بِأَنِّي مَا أَرَدْتُ مِنْهُ إِلاَّ ظُهُورَ عَدْلِهِ لِخَلْقِكَ وَبُرُوزَ أَلْطافِهِ لأَهْلِ مَمْلَكَتِكَ، وَإِنِّي لِنَفْسِي مَا أَرَدْتُ إِلاَّ ما أَرَدْتَهُ وَلا أُرِيدُ بِحَوْلِكَ إِلاَّ مَا تُرِيدُ، عَدِمَتْ كَيْنُونَةٌ تُرِيدُ مِنْكَ دُونَكَ فَوَعِزَّتِكَ رِضَاؤُكَ مُنْتَهَى أَمَلِي وَمَشِيَّتُكَ غَايَةُ رَجَائِي، فَارْحَمْ يا إِلهِي هذا الفَقِيرَ الَّذِي تَشَبَّثَ بِذَيْلِ غَنَائِكَ وَهذا الذَّلِيلَ الَّذِي يَدْعُوكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ العَظِيمُ، أَيِّدْ يَا إِلهِي حَضْرَةَ السُّلْطَانِ عَلَى إِجْرَاءِ حُدُودِكَ بَيْنَ عِبَادِكَ وَإِظْهارِ عَدْلِكَ بَيْنَ خَلْقِكَ لِيَحْكُمَ عَلَى هذِهِ الفِئَةِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى مَا دُونِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
سافر هذا العبد من كرسيّ المملكة الفارسيّة إلى العراق العربيّ بناء على إذن سلطان الزّمان وإجازته وأقام في ذلك البلد اثني عشر عاماً لم يرفع في غضونها إلى الجناب السّلطانيّ عن الحادثات شيئاً وكذلك لم تحط الدّول الأخرى علماً بما حدث ولبثنا في تلك البلاد متوكّلين على الله حتّى قدم العراق أحد المأمورين وبعد مجيئه قصد إيذاء ثلّة من الفقراء وكلّ يوم كان يغويه رهط من العلماء القشريّين وغيرهم للاعتراض على هؤلاء العباد مع إنّه لم يبد منهم ما يخالف الدّولة والمّلة ولا ما يباين أصول وآداب أهل المملكة وقد خشي هذا العبد أن تكون عاقبة أفعال المعتدين أمراً ينافي رغبات السّلطان، فوجّه خطاباً مجملاً إلى وزير الخارجيّة ميرزا سعيد خان لعرضه على جلالة الملك ثمّ العمل طبق ما يأمر به، وتوالت الأيّام ولم يصد حكم في هذا الشّأن حتّى أشرف الأمر على خطر وخيف أنّ يعمّ الفساد بغتة فتسفك دماء كثير من النّاس، ولا محالة وحفظاً لعباد الله ارتأى عدد يسير مراجعة والي العراق، فلو نظرتَ بعين الإنصاف في ما جرى لتجلَّى في مرآة قلبك المنير أن الأمر لم يأخذ مجرى إلاّ اقتضاء للمصلحة. ولم يكن ثمة علاج آخر حسب الظّاهر. والملك ذاته شاهِدٌ ومطّلع بأنّه كلّما حلّت فئة من هذه الطّائفة بمكان ما اشتعلت فيه نار الحرب والجدال بسبب تعدّي بعض الحكّام، ولكن هذا العبد الفاني بعد أن وصل العراق منع الجميع من الفَساد والنّزاع، وأفعاله تشهد على ذلك لأنّ الجميع مطّلعون وشاهدون بأنّ عدد هذه الطّائفة في العراق أكثر من عددهم في جميع البلدان ومع هذا لم يتجاوز أحد منهم حدّه ولم يعترض نفساً ومضى ما يناهز خمسة عشر عاماً والكلّ ناظرون إلى الله متوكّلون عليه صابرون على ما ورد عليهم مفوّضون الأمر إلى الله، وبعد قدوم هذا العبد إلى هذا البلد المسمّى بأدرنة استفسره البعض من أهل العراق وغيرهم عن معنى النّصرة الواردة في الكتب الإلهيّة فأجيبت أسئلتهم بردود شتّى نأتي على أحدها في هذه الورقة، حتّى يتبيّن لحضرتك بأنّ هذا العبد لا يريد إلاّ الصّلاح والإصلاح. وممّا هو معلوم وواضح أنّ العناية السّابقة والرّحمة الواسعة الإلهيّة – وإن لم يكن جليَّاً وواضحاً ما منحه الله له بفضله من غير استحقاق – لم تحرم هذا القلب من طراز العقل وها هي صورة الكلمات الّتي قيلت في معنى النّصرة:
هُوَ اللهُ تَعالَى
من الجليّ أنّ الحقّ جلّ ذكره كان مقدّساً عن الدّنيا وما فيها، وليس القصد من النّصرة محاربة نفس نفساً أو مجادلتها، إنّ سلطان يفعلُ ما يشاء وضَعَ ملكوت الإنشاء برّاً وبحراً في يد الملوك، فهم مظاهر القدرة الإلهيّة على قدر مراتبهم فإن آووا إلى ظلّ الحقّ فهم محسوبون من أهله وإلاّ إنّ ربّك لعليم وخبير، وما أراده الحقّ جلّ ذكره لنفسه هو قلوب عباده الّتي هي كنائز الذّكر والمحبّة الرّبّانيّة وخزائن العلم والحكمة الإلهيّة، شاء السّلطان الأزليّ وما يزال أن يطهّر قلوب العباد من إشارات الدّنيا وما فيها حتّى تصبح قابلة لأنوار تجلّيات مليك الأسماء والصّفات، إذاً يجب أن لا يجد الغريب سبيلاً إلى مدينة القلب ليستقرّ الحبيب وحده في مقرّه وهذا لا يعني حلول ذاته تعالى بل تجلّي أسمائه وصفاته لأنّ ذلك السّلطان المنزّه عن المثال كان ولا يزال مقدّساً عن الصّعود والنّزول إذاً فليس معنى النّصرة اليوم الاعتراض على أحد أو المجادلة مع نفس بل المرغوب هو فتح مدائن القلوب الّتي هي تحت سلطة جنود النّفس والهوى بسيف البيان والحكمة والتّبيان، لذا فكلّ فرد أراد النّصرة وجب عليه أوّلاً أن يملك مدينة قلبه بسيف المعاني والبيان ويصونه عن ذكر ما سوى الله ثمّ يتّجه نحو مدائن القلوب الأخرى، هذا هو المقصود من النّصرة، ولا يزال الفساد غير مقبول لدى الحقّ، وما ارتكبه بعض الجهّال فيما مضى ليس مرضيّاً فقط، إِنْ تُقْتَلُوا فِي رِضِاهُ لَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَقْتُلُوا، يجب اليوم على الأحبّاء أن يُظهروا أعمالاً بحيث تكون سبباً لهداية الجميع إلى رضوان الله ذي الجلال، قسماً بشمس أفق التّقديس إنّ أحبّاء الله ما داموا غير مكترثين للأرض وأموالها الفانية قطّ، إنّ الله لم يزل ينظر إلى قلوب عباده وهذا من عنايته الكبرى، عسى أن تتنزّه النّفوس الفانية عن الشّؤون التّرابيّة وتدخل المقامات الباقية، ناهيك أنّ ذلك السّلطان الحقيقيّ مستغن عن الكلّ بنفسه لنفسه، فلا يعود من حبّ الممكنات إليه نفع ولا يناله من بغضهم ضرّ، كلّهم ظهروا من الأمكنة التّرابيّة ويرجعون إليها والله بفردانيّته ووحدانيّته كان مستقرّاً في مقرّه الّذي تقدّس عن المكان والزّمان والذّكر والبيان والإشارة والوصف والتّعريف والعلوّ والدنوّ، ولا يَعْلَمُ ذلِكَ إِلاّ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ العَزِيزُ الوَهَّابُ انتهى.
ولكن حُسن سير الأعمال منوط بأن ينظر الملك بنفسه في الأمور بعين العدل والاهتمام ولا يكتفي بالتّقارير الّتي تقدّم إليه من بعض النّاس وهي مجرّدة عن البيّنة والبرهان. نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يُؤَيِّدَ السُّلْطانَ عَلَى مَا أَرَادَ وَمَا أَرَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادَ العَالَمِينَ.
ثمّ أمروا بإحضار هذا العبد إلى اسطنبول فدخلنا تلك المدينة برفقة زمرة من الفقراء وبعد الوصول لم نقابل أحداً، حيث لم يكن لَنَا مطلب أو هدف سوى أن نبرهِنَ للكلّ بأنّ هذا العبد ليست لديه أيّة خطّة للفساد ولا صلة له مطلقاً بالمفسدين فَوَالَّذِي أَنْطَقَ لَسَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِثَنَاءِ نَفْسِهِ إنّ ما كان علينا صعباً عمله هو التّوجّه إلى جهة ما، وذلك مراعاة لبعض المراتب، لكن ما حَدَثَ إنّما كان من أجل صيانة النّفوس إِنَّ رَبِّي يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَإِنَّهُ عَلَى مَا أَقُولُ شَهِيدٌ.
إنّ الملك العادل هو ظلّ الله في الأرض يجب أن يأوى الجميع في ظلّ عدله ويستريحوا تحت جناح فضله ليس هذا المقام مقام التّخصيص والتّحديد ليكون مخصوصاً لبعْضٍ دون البعض الآخر لأنّ الظّلّ دليل على المُظِلّ والحقّ جلّ ذكره دعا نفسه ربّ العالمين لأنّه لم يزل ولا يزال يربّي الجميع فَتَعالَى فَضْلُهُ الَّذِي سَبَقَ المُمْكِنَاتِ وَرَحْمَتُهُ الَّتِي سَبَقَتِ العالَمِينَ، ومن الواضح جدّاً أنّ الأمر الذي اشتهرت هذه الطّائفة باسمه سواء أكانت على صواب أم على خطأ، كما يزعم القوم، اعتبرته حقّاً فاعتنقته، لذا ضحّوا بما عِنْدَهُمْ ابْتِغَاءً لِمَا عِنْدِ اللهِ فتضحيتهم هذه بأرواحهم في سبيل محبّة الرّحمن دليل صادق وشاهد ناطق عَلَى ما هُمْ يَدَّعُونَ أفهل شوهد أنّ العاقل يضحّي بنفسه بلا دليل أو برهان، وما أغرب أن يقال أنّ هذا القوم قوم مجنون لأنّهم لا ينحصرون في نفس أو نفسين بل جمع غفير من كلّ قبيل ثَمُلَ من كوثر المعارف الإلهيّة فهرولَ إلى مشهد الفداء في سبيل مرضاة المحبوب عن طيب قلب وطوع خاطر، فإن يُكَذَّب هؤلاء النّاس الّذين نبذوا لله ما سواه وأنفقوا أموالهم وأرواحهم في سبيله فبأيّ حجّة وبرهان يثبت لدى السّلطان صدق قول الآخرين على ما هم عليه، فالمرحوم الحاج سيّد محمّد أَعْلَى اللهُ مَقَامَهُ وَأَغْمَسَهُ فِي لُجَّةِ بَحْرِ رَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ مع أنّه كان من أعلم علماء عصره وأتقى وأزهد أهل زمانه وجلالة قَدْرِهِ كان بدرجة أن ألسُن الجميع تلهج بذكره وثنائه والكلّ موقن بزهده وورعه بالرّغم من أنّه أفتى بنفسه بالجهاد مع الرّوس وخرج من وطنه لنصرة الدّين رافعاً العَلَم المبين، مع ذلك تنازل عن خير كثير مقابل بطش يسير يا لَيْتَ كُشِفَ الغِطَاءُ وَظَهَرَ مَا سُتِرَ عَنِ الأَبْصَارِ، فمنذ أكثر من عشرين سنة هذه الطّائفة مضطهدة بسطوَةِ الغضب الخاقاني ليلاً ونهاراً وشُرِّد كلّ واحد منها إلى ديار بما هبَّت عليهم عواصف القهر السّلطاني، وما أكثر الأطفال الّذين فَقَدوا آباءَهم والآباء الّذين أمسوا بلا أبناء، وكم من الأمّهات اللّواتي لم يتجرَّان على البكاء على أولادهنّ المقتولين خوفاً وهلعاً، وما أكثر العباد الّذين كانوا في العشيّ أصحاب ثروة وغناء ثمّ أصبحوا في الإشراق بمنتهى الفقر والذّلّ، مَا مِنْ أَرْضٍ إِلاّ وَقَدْ صُبِغَتْ مِنْ دِمائِهِمْ وَمَا مِنْ هَوَاءٍ إِلاَّ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ زَفَرَاتُهُمْ، ولقد هطل عليهم في هذه الأعوام المعدودة سهام البلاء من سحاب القضاء دون انقطاع ومع كلّ هذه البلايا والقضايا لم تزل نار الحبّ الإلهيّ مشتعلة في قلوبهم بحيث لو قُطِّعَ الكلّ إرباً إرباً لما تنازلوا عن محبّة محبوب العالمين بل تمنّوا من صميم قلوبهم وبكلّ شوق ما يرد عليهم في سبيل الله.
يا أيّها السّلطان إنّ نسمات رحمة الرّحمن قلّبت هؤلاء العباد وساقتهم إلى شطر الأحديّة و"برهان العاشق الصّادق في رُدْنِهِ" ولكن بعض العلماء القِشريّين كَدَّروا قلب مليك الزّمان المنير بالنّسبة إلى مُحرمي حرم الرّحمن وقاصدي كعبَة العرفان، يا ليت رأي الملك السّديد يقرُّ على اجتماع علماء العصر بهذا العبد حتّى يأتي في محضره بالحجّة والبرهان، فهذا العبد مستعدّ ويسأل الله متمنّياً عقد مثل هذا المجلس حتّى تتّضح وتلوح في سُدّة حضرة السّلطان حقيقة الأمر وبعد ذلك الأمر بيدك وأنا حاضر تلقاء سرير سلطنتك فاحكم لي أو عليّ، يقول الله الرّحمن في الفرقان وهو الحجّة الباقية بين ملأ الأكوان "فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" وجعل تمنّي الموت برهاناً للصّدق، ومعلوم لدى مرآة ضميرك المنير ما هو الحزب الّذي ضَحَّى اليوم معتنقوه بأرواحهم في سبيل معبود العالَمين، ولو كتبت الكتب الاستدلاليّة لهذا القوم بالدّماء المسفوكة في سبيله تعالى في إثبات ما هم عليه، لوُجِدَتْ عياناً كتبٌ لا تُحصى بين البريّة، فكيف الآن يمكن أن نُكَذِّبَ هؤلاء الّذين تطابق أعمالُهم أقوالَهم ونصدِّق نفوساً لم يرضوا بالتنازل عن ذرّة واحدة مِن مراتبهم في سبيل الله المختار وما يزالون على هذه الشّاكلة، فبعض العلماء الّذين حكموا على هذا العبد بالكفر لم يروني قطّ ولم يقابلوني ولم يكونوا مطّلعين على مقصدي ومع ذلك ما أَرادُوا ويَفعَلُونَ ما يُريدُونَ، فلا بدّ لكلّ دعوى من برهان فالادّعاء المحض وما يدلّ على الزّهد الظّاهر لا يكفيان، وحتّى ينكشف لدى حضرة السّلطان بعض الأمور المستورة نأتي بفقرات باللّغة الفارسيّة من الصّحيفة المكنونة الفاطميّة صلوات الله عليها لمناسبتها في هذا المقام ومخاطبو هذه البيانات في الصّحيفة المذكورة المعروفة اليوم بالكلمات المكنونة هم قوم يدلّ ظاهرهم على العلم والتّقوى وباطنهم منطو على الرّضوخ للنّفس والهوى، يقول: "أيّها المجرّدون عَن الوفاء لماذا تدّعون في الظّاهر بأنّكم رعاة ثمّ غدوتم في الباطن ذئاب أغنامي إنّما مثلكم كمثل نجم ما قبل الصّبح فهو درّيّ منير في الظّاهر إلاّ أنّه في الباطن سبب إضلال قوافل مدينتي ودياري وهلاكها" وكذلك يقول "يا من تزيّن ظاهره وخبث باطنه إنّما مثلك كمثل ماء مرير صاف يرى فيه الرّائي كمال اللّطف والصّفاء في الظّاهر فإذا اختبره مذاق الأحديّة لم يقبل منه قطرة واحدة، إنّ تجلّي الشّمس في التّراب والمرآة سواء ولكن اعلم أنّ الفرق بينهما كالفرق بين الفرقدين والأرض بل الفرق بينهما شاسع لا نهاية له" وأيضا "يا ابن الدّنيا كم من أسحار أقبل فيها تجلّي عنايتي من مشرق اللاّمكان إلى مكانك ووجدك على فراش الرّاحة منصرفاً إلى غيري ورجع كالبرق الرّوحانيّ إلى مقرّ العزّ النّورانيّ وما أفشيت سرّك في مكامن القرب عند جنود القدس وما آثرت خجلتك" وأيضا "يا ابن من يدّعي حبّي، في الأسحار مرّ بك نسيم عنايتي ووجدك على فراش الغفلة نائماً فبكى حالك وعاد" انتهى.
لذلك لا ينبغي لدى العدالة السّلطانيّة الاكتفاء بمجرّد قول المدّعي وفي الفرقان الّذي هو الفارق بين الحقّ والباطل يقول: "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوُا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ" وجاء في الحديث الشّريف "لا تُصَدِّقوُا النَّمامَ" فالأمر قد اشتبه على بعض العلماء، وهم لم يروا هذا العبد، أمّا الّذين لاقوني فإنّهم يشهدون بأنّ هذا العبد لم يتكلّم إلاّ بما حكم الله في الكتاب وأنّه ذاكر قوله تعالى في هذه الآية " هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ".
يا ملك الزّمان إنّ عيون هؤلاء المشرّدين متوجّهة وناظرة إلى شطر رحمة الرّحمن ولا ريب أنّ بعد هذه البلايا رحمة كبرى ويلي هذه الشّدائد العظمى رخاء عظيم ولكن من المأمول أن يهتمّ حضرة السّلطان بنفسه الأمور حتّى يكون ذلك سبباً لرجاء القلوب وفيما عرضتُ الخير المحض وَكَفى باللهِ شَهِيداً.
سُبحانَك اللّهُمَّ يا إِلهِي أَشهَدُ بِأَنَّ قلبَ السُّلطانِ قَدْ كانَ بَيْنَ اصْبَعَي قُدْرَتِكَ لَوْ تُرِيدُ قَلِّبْهُ يا إِلهِي إِلَى شَطْرِ الرَّحْمَةِ وَالإِحْسانِ وَإِنَّكَ أَنْتَ المُتَعَالِي المُقْتَدِرُ المَنَّانُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ العَزِيزُ المُسْتَعانُ. وقيل في مؤهّلات العلماء "وَأَمَّا مَنْ كانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صائِنَاً لِنَفْسِهِ حافِظاً لِدِينِهِ مُخالِفاً لِهَواهُ مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاهُ فَلِلْعَوامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ" إلى آخره، وإن تفرّس مليك الزّمان في هذا البيان الّذي جرى من لسان مظهر وحي الرّحمن، لاحظ أنّ المتّصفين بالصّفات الواردة في هذا الحديث الشّريف هم أندر من الكبريت الأحمر، لذا كلّ من ادّعى العلم فليس قوله مسموعاً قط، وكذلك يقول في وصف فقهاء آخر الزّمان: " فُقَهاءُ ذلِكَ الزَّمَانِ أَشَرُّ فُقَهاءَ تَحْتَ ظِلِّ السَّمآءِ مِنْهُمْ خَرَجَتِ الفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَعُودُ" وأيضا يقول: "إِذا ظَهَرَتْ رايَةُ الحَقِّ لَعَنَها أَهْلُ الشَّرْقِ وَالغَرْبِ"، فإن كذّب أحد هذه الأحاديث فعلى هذا العبد إثباتها وإيجازاً للكلام لم نذكر تفاصيل رواتها. إنّ العلماء الّذين هم حقّاً شربوا من كأس الانقطاع لم يعترضوا على هذا العبد، مثال ذلك المرحوم الشّيخ مرتضى أَعْلَى اللهُ مَقامَهُ وَأَسْكَنَهُ فِي ظِلِّ قِبَابِ عِنَايَتِهِ الّذي كان يُعرِبُ عن محبّته أيّام التّوقّف في العراق ولم ينطق في هذا الأمر بغير ما أذن الله، نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يُوَفِّقَ الكُلَّ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، والآن لقد غضّ النّاس جميعاً الطّرف عن كافّة الأمور وانصرفوا إلى إيذاء هذه الطّائفة، وإن سألت بعض الّذين هم مستريحون في ظلّ عطوفة السّلطان بعد شمولهم فضل الله الباري وتنعّمهم بنعم لا تحصى، إن سألتهم أيّة خدمة قدّمتموها مقابل النّعمة السّلطانيّة؟ أأضفتم ملكاً إلى الممالك بحسن تدبيركم أو باشرتم أمراً يكون سبباً لرخاء الرّعيّة وإعمار المملكة وبقاءِ عاطر الذّكر للدّولة، ليس لديهم من جواب سوى أن يعرضوا للسّلطان عن انتساب جمع من النّاس إلى البابيّة سواء أكان ذلك صدقاً أم كذباً ثمّ يشتغلون بالقتل والنّهب وها هم في تبريز (إيران) وفي المنصوريّة (مصر) باعوا بعضاً من النّاس مقابل مال كبير ولم يذكر شيء بتاتاً عن هذه الأمور لدى حضرة السّلطان ولم تقع كلّ هذه الأمور إلاّ لأنّهم وجدوا هؤلاء الفقراء دون نصير، غضّوا الطّرف عن أمور خطيرة وانصرفوا إلى هؤلاء الفقراء، إنّ ثمّة طوائف متعدّدة وملل مختلفة مستريحة في ظلّ السّلطان، فلتكن هذه الطّائفة إحداها، بل ما يقتضي علوّ همّة ملازمي السّلطان وسموّ فطرتهم هو أن تستظلّ كافّة الأديان تحت ظلّ السّلطان بحسن تدبيرهم ويحكموا فيما بينهم بالعدل، إنّ إجراء حدود الله عدل محض والكلّ راضون بذلك بل الحدود الإلهيّة كانت وما تزال سبباً وعلّة لحفظ البريّة بقوله تعالى " ولَكُمْ فِي القِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الأَلْبابِ". وممّا هو بعيد عن عدل حضرة السّلطان تعرّض جمع من النّاس لسياط الغضب من أجل خطأ نفس واحدة ويقول الله تعالى جلّ ذكره " لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" ومن الواضح جدّاً أنّ كلّ طائفة تضمّ العالم والجاهل والعاقل والغافل والفاسق والمتّقي وأمّا ارتكاب الأمور الشّنيعة بعيد عن العاقل ومردّ ذلك أنّ العاقل إمّا راغب في الدّنيا وإمّا زاهد عنها، فإن كان زاهداً عنها لا شكّ أنّه يتوجّه إلى الحقّ ناهيك أنّ خشية الله تمنعه عن ارتكاب المناهي والمساوئ، وإذا كان طالباً للدّنيا فهو لا يتوخّى ارتكاب أمور تكون سبباً في إعراض العباد عنه وعلّة لاستيحاش من في البلاد منه فيقوم بأعمال تكون سبباً في إقبال النّاس إليه، إذاً فقد ثبت أنّ الأعمال المردودة كانت وما تزال من صنع نفوس جاهلة، نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يَحْفَظَ عِبادَهُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
سُبْحانَكَ اللّهُمَّ يا إِلهِي تَسْمَعُ حَنِينِي وَتَرى حَالِي وَضُرِّي وَابْتِلائِي وَتَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، إِنْ كانَ نِدائِي خالِصاً لِوَجْهِكَ فَاجْذُبْ بِهِ قُلُوبَ بَرِيَّتِكَ إِلَى أُفُقِ سَمآءِ عِرْفانِكَ وَقَلْبَ السُّلْطانِ إِلَى يَمِينِ عَرْشِ اسْمِكَ الرَّحْمنِ، ثُمَّ ارْزُقْهُ يا إِلهِي النِّعْمَةَ الَّتِي نُزِّلَتْ مِنْ سَمآءِ كَرَمِكَ وَسَحابِ رَحْمَتِكَ لِينْقَطِعَ عَمَّا عِنْدَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَى شَطْرِ أَلْطافِكَ، أيْ رَبِّ أَيِّدْهُ عَلَى نُصْرَةِ أَمْرِكَ وَإِعْلاءِ كَلِمَتِكَ بَيْنَ خَلْقِكَ، ثُمَّ انْصُرْهُ بِجُنُودِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لِيُسَخِّرَ المَدائِنَ بِاسْمِكَ وَيَحْكمَ عَلَى مَنْ عَلَى الأَرْضِ كُلِّها بِقُدْرَتِكَ وَسُلْطانِكَ، يا مَنْ بِيَدِكَ مَلَكُوتُ الإِيجادِ وَإِنَّكَ أَنْتَ الحَاكِمُ فِي المَبْدَءِ وَالمَعادِ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ المُقْتَدِرُ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
ولقد همّ القوم للبس حقيقة هذا الأمر لدى حضرة السّلطان بحيث أنّ كلّ قبيح صدر من فرد من أفراد هذه الطّائفة اعتبروه من مذهب هؤلاء العباد، فوالّذي لا إله إلاّ هو إنّ هذا العبد لم يسمح بارتكاب المكاره فكيف بالأمور الّتي صرّحت الكتب الإلهيّة بنهيها، إنّ اللهَ نهى النّاس عن شرب الخمر ونزل وثبت هذا التّحريم في الكتاب الإلهيّ وحذّر علماء العصر جميعاً كثَّر اللهُ أمثالهم النّاس من هذا العمل الشّنيع، فبالرّغم من ذلك كلّه ترى بعضهم يتعاطونه، إذاً تعود تبعة هذا العمل إلى النّفوس الغافلة، وأمّا أولئك الّذين هم مظاهر العزّ والتّقديس فساحتهم مقدّسة ومنزّهة وَيَشْهَدُ بِتَقْدِيسِهِمْ كُلُّ الوُجُودِ مِنَ الغَيْبِ وَالشُّهُودِ.
أجل إنّ هؤلاء العباد يعتقدون بأنّ الله الحقّ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وَيَحْكُمُ ما يُرِيدُ ولا يقولون باستحالة ظهور المظاهر الأحديّة في العوالم المكليّة، وإن قال قائل باستحالته فما الفرق بينه وبين قوم قالوا "يدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ"، أمّا إذا كانوا يعتقدون أنّ الحقّ جلّ ذكره هو المختار يجب عليهم أن يقبلوا كلّ أمر يصدر من مصدر حكم ذلك السّلطان القديم لا مَفَرَّ وَلا مَهْرَبَ لأَحَدٍ إِلاّ إِلَى اللهِ لا عاصِمَ وَلا مَلْجَأَ إِلاَّ إِلَيْهِ، والمفروض على من يدّعي اتيان الدّليل والبرهان على ما يقول ويدّعي، وما عدا ذلك لا يناط في أمره قطّ إعراض النّاس من عالم وجاهل، إنّ الأنبياء الّذين هم لآلئ بحر الأحديّة ومهابط الوحي الإلهيّ قد وقعوا فريسة إعراض النّاس واعتراضهم كما يقول الله "وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسوُلِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوْا بِهِ الحَقَّ" وكذلك يقول "مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ" تأمّلوا في ظهور خاتم الأنبياء وسلطان الأصفياء روح العالمين له فداء وما أفظع الظّلم الوارد على ذلك الشّخص الّذي هو مظهر عزّ الله ذي الجلال من أهل الضّلال بعدما أشرقت شمس الحقيقة من أفق الحجاز، وكان العباد في غفلة عن أمره بحيث كانوا يظنّون أنّ إيذاءه من أعظم الأعمال وسبب الوصول إلى الحقّ المتعال، لأنّ علماء ذلك العصر من اليهود والنّصارى أعرضوا عن تلك الشّمس المضيئة من الأفق الأعلى في السّنين الأولى من ظهوره وبإعراض هؤلاء شدّ جميع النّاس من وضيعهم وشريفهم أزر الهمّة لإطفاء نور ذلك النّيّر السّاطع من أفق المعاني، وأسماء كلّ هؤلاء مذكورة في الكتب، ومن جملتهم وهب بن راهب وكعب بن أشرف وعبدالله أُبَيّ وأمثالهم ووصل أمر إعراضهم إلى مقام عقدوا مجلساً للمشورة في إيجاد سبيل لسفك دمه الطّاهر كما أنبأ عنه الحقّ جلّ ذكره "وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوُا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوُك أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرينَ"، وكذلك قال "وإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتِغَيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمآءِ فَتَأْتِيهِمْ بِآيةٍ وَلَوْ شآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونُنَّ مِنَ الْجَاهِلينَ".
تالله إنّ أفئدة المقرّبين لتحترق من مضمون هاتين الآيتين وأمثال هذه الأمور المحقَّقة الواردة باتت منسيَّة ولا يتفكّر أحد قط في أسباب إعراض العباد عند ظهور مطالع الأنوار الإلهيّة، وكذلك تأمّلوا في عهد عيسى ابن مريم قبل خاتم الأنبياء بعد أن ظهر ذلك المظهر الرّحمانيّ أتّهم جميع العلماء ساذج الإيمان هذا بالكفر والطّغيان وأخيراً بإذن من أعظم علماء ذلك العصر حنّاس وكذلك قيافا الّذي كان أقضى القضاة أوقعوا عليه ما يخجل القلم من ذكره ويعجز عن وصفه، ضاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ بِوُسْعَتِها إِلى أَنْ عَرَّجَهُ اللهُ إِلَى السَّمآءِ، ولولا خشية الله لعرضنا تفاصيل أمور جميع الأنبياء وخاصّة علماء التّوراة الّذين أجمعوا على أنّه لن يأتي بعد موسى نبيٌّ مستقلّ صاحب شريعة وأنّه سيظهر من ذرّيّة داود من يروّج شريعة التّوراة وذلك كي يجري أحكام التّوراة وترسخ بين أهل الشّرق والغرب، وكذلك أهل الإنجيل قالوا بأنّه من المحال طلوع صاحب أمر جديد من مشرق المشيئة الإلهيّة بعد عيسى ابن مريم واستدلّوا بالآية الواردة في الإنجيل وهي "إِنَّ السَّماءَ وَالأَرْضَ تَزُولانِ وَلكِنَّ كَلامَ ابْنِ الإِنْسانِ لَنْ يَزُولَ أَبَداً" وهم متّفقون بأنّ أقوال عيسى ابن مريم وأوامره لن تتغيّر وفي مقام من الإنجيل يقول " إِنِّي ذاهِبٌ وَآتٍ" وكذلك يبشّر في إنجيل يوحنّا "بالرّوح المُعزِّي الآتي من بعدي" وأيضاً هناك علامات مذكورة في إنجيل لوقا، غير أنّ بعض العلماء في تلك الملّة فسّروا كلّ بيان حسب أهواء أنفسهم لذلك احتجبوا عن المقصود، فَيا لَيْتَ أَذِنْتَ لِي يا سُلْطانُ لِنُرسِلَ إِلى حَضْرَتِكَ ما تَقَرُّ بِهِ العُيونُ وَتَطْمَئِنُّ بِهِ النُّفُوسُ وَيُوقِنُ كُلُّ مُنْصِفٍ بِأَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ الكِتابِ. وعندما يعجز بعض النّاس كُلُّ مُنْصِفٍ بِأَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ الكِتابِ، وبعضى از ناس چون از جواب خصم عاجزند بحبل تحريف كتب متمسّكند، وحال آنكه ذكر تحريف در مواضع مخصوصه بوده، لَوْلا إِعْراضُ الجُهَلاءِ وَإِغْماضُ العُلَماءِ لَقُلْتُ مَقالاً تَفْرَحُ بِهِ القُلُوبُ وَتَطِيرُ إِلَى الهَواءِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ هَزِيزِ أَرْيَاحِهِ إِنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَلكِنِ الآنَ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الزَّمَانِ مَنَعْتُ اللِّسانَ عَنِ البَيانِ وَخُتِمَ إِناءُ التِّبْيانِ إِلى أَنْ يَفْتَحَ اللهُ بقُدْرَتِهِ إِنَّهُ لَهُوَ المُقْتَدِرُ القَدِيرُ.
سُبْحانَكَ اللّهُمَّ يا إِلهي أَسْئَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي بِهِ سَخَّرْتَ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ بِأَنْ تَحْفَظَ سِرَاجَ أَمْرِكَ بِزُجاجَةِ قُدْرَتِكَ وَأَلْطافِكَ لِئَلاَّ تَمُرَّ عَلَيْهِ أَرْياحُ الإِنْكارِ مِنْ شَطْرِ الَّذِينَ غَفَلُوا مِنْ أَسْرارِ اسْمِكَ المُخْتارِ، ثُمَّ زِدْ نُورَهُ بِدُهْنِ حِكْمَتِك إِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ عَلَى مَنْ فِي أَرْضِكَ وَسَمائِكَ، أَيْ رَبِّ أَسْئَلُكَ بِالكَلِمَةِ العُلْيا الَّتِي بِها فَزَعَ مَنْ فِي الأَرْضِ وَالسَّمآءِ إِلاّ مَنْ تَمَسَّكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى بِأَنْ لا تَدَعَنِي بَيْنَ خَلْقِكَ فَارْفَعْنِي إِلَيْكَ وَأَدْخِلْنِي فِي ظِلالِ رَحْمَتِكَ وَأَشْرِبْنِي زُلالَ خَمْرِ عِنايَتِكَ لأَسْكُنَ فِي خِباءِ مَجْدِكَ وَقِبابِ أَلْطافِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ عَلَى ما تَشاءُ وَإِنَّكَ أَنْتَ المُهَيْمِنُ القَيُّومُ
يا سُلْطانُ قَدْ خَبَتْ مَصابِيحُ الإِنْصافِ وَاشْتَعَلَتْ نَارُ الاعْتِسافِ فِي كُلِّ الأَطْرافِ إِلَى أَنْ جَعَلُوا أَهْلِي أُسَارَى مِنَ الزَّوْرآءِ إِلَى المَوْصِلِ الحَدْباءَ، لَيْسَ هذا أَوَّلَ حُرْمَةٍ هُتِكَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَنْبَغِي لِكُلِّ نَفْسٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَذْكُرَ فِيما وَرَدَ عَلَى آلِ الرَّسُولِ إِذْ جَعَلَهُمُ القَوْمُ أُسَارَى وَأَدْخَلُوهُمْ فِي دِمَشْقَ الفَيْحَآءِ، وَكانَ بَيْنَهُمْ سَيِّدُ السَّاجِدِينَ وَسَنَدُ المُقَرَّبِينَ وَكَعْبَةُ المُشْتَاقِينَ رُوحُ ما سِواهُ فِداهُ، قِيلَ لَهُمْ أَأَنْتُم الخَوارجُ؟ قَالَ لا وَاللهِ نَحْنُ عِبادٌ آمَنَّا بِاللهِ وَآياتِهِ وَبِنَا افْتَرَّ ثَغْرُ الإِيمانِ وَلاحَتْ آيَةُ الرَّحْمنِ وَبِذِكْرِنا سَالَتِ البَطْحاءُ وَماطَتِ الظُّلْمَةُ الَّتِي حالَتْ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّماءِ، قِيلَ أَحَرَّمْتُمْ ما أَحَلَّهُ اللهُ أَوْ حَلَّلْتُمْ ما حَرَّمَهُ اللهُ؟ قالَ نَحْنُ مَنِ اتَّبَعَ أَوَامِرَ اللهِ وَنَحْنُ أَصْلُ الأَمْرِ وَمَبْدَؤُهُ وَأَوَّلُ كُلِّ خَيْرٍ وَمُنْتَهاهُ نَحْنُ آيةُ القِدَمِ وَذِكْرُهُ بَيْنَ الأُمَمِ، قِيلَ أَتَرَكْتُمُ القُرْآنَ؟ قالَ فِينا أَنْزَلَهُ الرَّحْمنُ وَنَحْنُ نَسائِمُ السُّبْحَانِ بَيْنَ الأَكْوانِ وَنَحْنُ الشَّوارِعُ الَّتِي انْشَعَبَتْ مِنَ البَحْرِ الأَعْظَمِ الَّذِي أَحْيَى اللهُ بِهِ الأَرْضَ وَيُحْيِيها بِهِ بَعْدَ مَوْتِها، وَمِنَّا انْتَشَرَتْ آياتُهُ وَظَهَرَتْ بَيِّنَاتُهُ وَبَرَزَتْ آثارُهُ وَعِنْدَنا مَعانِيهِ وَأَسْرارُهُ، قِيلَ لأَيِّ جُرْمٍ مُليتُمْ قال لِحُبِّ اللهِ وَانْقِطاعِنَا عَمّا سِواهُ، إِنَّا ما ذَكَرْنا عِبَارَتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ رَشَحْنا رَشْحاً مِنَ البَحْرِ الحَيَوانِ الَّذِي كانَ مُودَعاً فِي كَلِمَاتِهِ لَيَحْيَى بِهِ المُقْبِلُونَ وَيَطَّلِعُوا بِمَا وَرَدَ عَلَى أُمَنَاءِ اللهِ مِنْ قَوْمِ سَوْءٍ أَخْسَرِينَ، وَنَرَى اليَوْمَ يَعْتَرِضُونُ القَوْمُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ قبلُ وَهُمْ يَظْلِمُونَ أَشَدَّ مِمَّا ظَلَمُوا وَلا يَعْرِفُونَ، تَاللهِ إِنِّي ما أَرَدْتُ الفَسَادَ بَلْ تَطْهِيرَ العِبَادِ عنْ كُلِّ ما مَنَعَهُمْ عَنِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ مَالكِ يَوْمِ التَّنادِ، كُنْتُ نائِماً عَلَى مَضْجَعِي مَرَّتْ عَلَيَّ نَفَحاتُ رَبِّيَ الرَّحْمنِ وَأَيْقَظَتْنِي مِنَ النَّوْمِ وَأَمَرَنِي بِالنِّداءِ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّماءِ، مَا كانَ هذا مِنْ عِنْدِي بَلْ مِنْ عِنْدِهِ وَيَشْهَدُ بِذلِكَ سُكَّانُ جَبَرُوتِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَأَهْلُ مَدائِنِ عِزِّهِ، فَوَنَفْسِهِ الحَقِّ لا أَجْزَعُ مِنَ البَلايا فِي سَبِيلِه وَلا عَنِ الرَّزَايا فِي حُبِّهِ وَرِضائِهِ، قَدْ جَعَلَ اللهُ البَلاءَ غَادِيَةً لِهذِهِ الدَّسْكَرَةِ الخَضْراءِ وَذُبالَةً لِمِصْباحِهِ الَّذِي بِهِ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ وَالسَّماءُ، هَلْ يَبْقَى لأَحَدٍ ما عِنْدَهُ مِنْ ثَرْوَتِهِ أَوْ يُغْنِيهِ غَداً عنْ مَالِكِ ناصِيَتِهِ، لَوْ يَنْظُرُ أَحَدٌ فِي الَّذِينَ نامُوا تَحْتَ الرِّضامِ وَجاوَرُوا الرَّغامَ هَلْ يَقْدِرُ أَنْ يُمَيِّزَ رِمَمَ جَمَاجِمِ المالِكِ عَنْ بَراجِمِ المَمْلُوكِ؟ لا فَوَمالِكِ المُلُوكِ، وَهَلْ يَعْرِفُ الوُلاةَ مِنَ الرُّعاةِ وَهَلْ يُمَيِّزُ أُولِي الثَّرْوَةِ وَالغَنَاءِ مِنَ الَّذي كَانَ بِلا حِذاءٍ وَوِطاءٍ؟ تَاللهِ قدْ رُفِعَ الفَرْقُ إِلاَّ لِمَنْ قَضَى الحَقَّ وَقُضِيَ بِالحَقِّ، أَيْنَ العُلَماءُ وَالفُضَلاءُ وَالأُمَراءُ أَينَ دِقَّةُ أَنْظارِهِمْ وَحِدَّةُ أَبْصارِهِمْ وَرِقَّةُ أَفْكارِهِمْ وَسَلامَةُ أَذْكارِهِمْ وَأَيْنَ خَزائِنُهُمُ المَسْتُورَةُ وَزَخارِفُهُمُ المَشْهُودَةُ وَسُرُرُهُمُ المَوْضُونَةُ وَفُرُشُهُمُ المَوْضُوعَةُ، هَيْهَاتَ قَدْ صَارَ الكُلُّ بُوراً وَجَعَلَهُمْ قَضَاءُ اللهِ هَباءً مَنْثُوراً، قَدْ نَثَلَ ما كنَزُوا وَتَشَتَّتَ ما جَمَعُوا وَتَبَدَّدَ ما كَتَمُوا، أَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ أَماكِنُهُمُ الخالِيَةُ وَسُقُوفُهُمُ الْخاوِيَةُ وَجُذُوعُهُمُ المُنْقَعِرةُ وَقَشيبُهُمُ الباليَةُ، إِنَّ البَصيرَ لا يَشْغَلُهُ المالُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى المآلِ وَالخَبِيرَ لا تُمْسِكُهُ الأَمْوالُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الغَنِيِّ المُتَعالِ، أَيْنَ مَنْ حَكَمَ عَلَى ما طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْها وَأَسْرَفَ وَاسْتَطْرَفَ فِي الدُّنْيا وَما خُلِقَ فِيها، أَيْنَ صاحِبُ الكَتِيبَةِ السَّمْراءِ وَالرَّايَةِ الصَّفْراءِ، أَيْنَ مَنْ حَكَمَ فِي الزَّوْرَاءِ وَأَيْنَ مَنْ ظَلَمَ فِي الفَيْحَاءِ وَأَيْنَ الَّذِينَ ارْتَعَدَ الكُنُوزُ مِنْ كَرَمِهِمْ وَقُبِضَ البَحْرُ عِنْدَ بَسْطِ أَكُفِّهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَأَيْنَ مَنْ طالَ ذِرَاعُهُ فِي العِصْيانِ وَمالَ ذَرْعُهُ عَنِ الرَّحْمنِ، أَيْنَ الَّذِي كَانَ أَنْ يَجْتَبِيَ اللَّذَّاتِ وَيَجْتَنِيَ أَثْمارَ الشَّهَواتِ، أَيْنَ رَبَّاتُ الكَمالِ وَذَواتُ الجَمالِ، أَيْنَ أَغْصانُهُمُ المُتَمايِلَةُ وَأَفْنانُهُمُ المُتَطاوِلَةُ وَقُصُورُهُمُ العالِيَةُ وَبَساتِينُهُمُ المَعْرُوشَةُ، وَأَيْنَ دِقَّةُ أَدِيمِهَا وَرِقَّةُ نَسِيمِها وَخَرِيرُ مَائِهَا وَهَزِيزُ أَرْياحِها وَهَدِيرُ وَرْقائِها وَحَفِيفُ أَشْجارِها، وَأَيْنَ سُحُورُهُمُ المُفْتَرَّةُ وَثُغُورُهُمُ المُبْتَسِمَةُ، فَواهاً لَهُمْ قَدْ هَبَطُوا الحَضِيضَ وَجاوَرُوا الْقَضِيضَ لا يُسْمَعُ اليَوْمَ مِنْهُمْ ذِكْرٌ وَلا رِكْزٌ وَلا يُعْرَفُ مِنْهُمْ أَمْرٌ وَلا رَمْزٌ، أَيُمَارُونَ القَوْمُ وَهُمْ يَشْهَدُونَ؟ أيُنْكِرُونَ وَهُمْ يَعْلَموْنَ؟ لَمْ أَدْرِ بِأَيِّ وادٍ يَهِيمُونَ، أَمَا يَرَوْنَ يَذْهَبُونَ وَلا يَرْجِعُونَ؟ إِلَى مَتَى يُغِيرُونَ وَيُنْجِدُون يَهْبِطُونَ وَيَصْعَدُونَ؟ "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ"، طُوبَى لِمَنْ قَالَ أَو يَقُولُ بَلَى يا رَبِّ آنَ وَحانَ وَيَنْقَطِعُ عَمَّا كَانَ إِلَى مالِكِ الأَكْوانِ وَمَلِيكِ الإِمْكانِ، هَيْهاتَ لا يُحْصَدُ إِلاّ ما زُرِعَ وَلا يُؤْخَذُ إِلاّ ما وُضِعَ إِلاّ بِفَضْلِ اللهِ وَكَرَمِهِ، هَلْ حَمَلَتِ الأَرْضُ بِالَّذِي لا تَمْنَعُهُ سُبُحاتُ الجَلالِ عَنِ الصُّعُودِ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّهِ العَزِيزِ المُتُعالِ؟ وَهَلْ لَنا مِنَ العَمَلِ ما يَزُولُ بِهِ العِلَلُ وَيُقَرِّبُنا إِلَى مالِكِ العِلَلِ؟ نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يُعامِلَنا بِفَضْلِهِ لا بِعَدْلِهِ وَيَجْعَلَنا مِمَّن تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَانْقَطَعَ عَمَّا سِواهُ.
يا مَلِكُ قَدْ رَأَيْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ ما لا رَأَتْ عَيْنٌ وَلا سَمِعَتْ أُذُنٌ، قَدْ أَنْكَرَنِي المَعارِفُ وَضاقَ عَلَيَّ المَخارِفُ قَدْ نَضَبَ ضَحْضاحُ السّلامَةِ وَاصْفَرَّ ضَحْضاحُ الرَّاحَةِ، كَمْ مِنَ البَلايا نَزَلَتْ وَكَمْ مِنْها سَوْفَ تَنْزِلُ، أَمْشِي مُقْبِلاً إِلى العَزِيزِ الوَهَّابِ وَعَنْ وَرائِي تَنْسابُ الحُبابُ، قَدْ اسْتَهَلَّ مَدْمَعِي إِلَى أَنْ بُلَّ مَضْجَعِي وَلَيْسَ حُزْنِي لِنَفْسِي تَاللهِ رَأْسِي يَشْتاقُ الرِّماحَ فِي حُبِّ مَوْلاهُ، وَما مَرَرْتُ عَلَى شَجَرٍ إِلاَّ وَقَدْ خاطَبَهُ فُؤادِي يا لَيْتَ قُطِعْتَ لاسْمِي وَصُلِبَ عَلَيْكَ جَسَدِي فِي سَبِيلِ رَبِّي بَلْ بِما أَرَى النَّاسَ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلا يَعْرِفُونَ، رَفَعُوا أَهْواءَهُمْ وَوَضَعُوا إِلهَهُمْ كَأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَمْرَ اللهِ هُزُواً وَلَهْواً وَلَعِباً، وَيَحْسَبُون أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ وَفِي حِصْنِ الأَمانِ هُمْ مُحْصَنُونَ، لَيْسَ الأَمْرُ كَما يَظُنُّونَ، غَداً يَرَوْنَ ما يُنْكِرُونَ، فَسَوْفَ يُخْرِجُونَنا أُولُو الحُكْمِ وَالغَنَاءِ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِأَدِرْنَةَ إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا، وَمِمَّا يَحْكُونَ إِنَّها أَخْرَبُ مُدُنِ الدُّنْيا وَأَقْبَحُها صُورَةً وَأَرْدَؤُها هَواءً وَأَنْتَنُها ماءً كَأَنَّها دارُ حُكُومَةِ الصَّدَى لا يُسْمَعُ مِنْ أَرْجائِها إِلاّ صَوْتُ تَرْجِيعِهِ، وَأَرادُوا أَنْ يَحْبِسُوا الغُلامَ فِيها وَيَسُدُّوا عَلَى وُجُوهِنا أَبْوابَ الرَّخاءِ ويَصُدُّوا عَنَّا عَرْضَ الحَيوةِ الدُّنْيا فِيما غَبَرَ مِنْ أَيَّامِنا، تَاللهِ لَوْ يَنْهَكُنِي اللَّغَبُ وَيُهْلِكُنِي السَّغَبُ وَيُجْعَلُ فِراشِي مِنَ الصَّخْرةِ الصَّمَّاءِ وَمُؤانِسِي وُحُوشَ العَراءِ لا أَجْزَعُ وَأَصْبِرُ كَما صَبَرَ أُولُو الحَزْمِ وَأَصْحابُ العَزْمِ بِحَوْلِ اللهِ مالِكِ القِدَمِ وَخالِقِ الأُمَمِ، وَأَشْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ الأَحْوالِ وَنَرْجُو مِنْ كَرَمِهِ تَعالَى بِهذا الحَبْسِ يُعْتِقُ الرِّقابَ مِنَ السَّلاسِلِ وَالأَطْنابِ وَيَجْعَلُ الوُجُوهَ خالِصَةً لِوَجْهِهِ العزِيزِ الوَهَّابِ، إِنَّهُ مُجِيبٌ لِمَنْ دَعاهُ وَقَرِيبٌ لِمَنْ ناجاهُ، وَنَسْأَلُهُ بِأَنْ يَجْعَلَ هذَا البَلاءَ الأَدْهَمَ دِرْعاً لِهَيْكَلِ أَمْرِه وَبِهِ يَحْفَظُهُ مِنْ سُيُوفٍ شاحِذَةٍ وَقُضُبٍ نافِذَةٍ، لَمْ يَزَلْ بِالبَلاءِ عَلا أَمْرُهُ وَسَنا ذِكْرُهُ هذا مِنْ سُنَّتِهِ قَدْ خَلَتْ فِي القُرُونِ الخالِيَةِ وَالأَعْصارِ الماضِيَةِ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ القَوْمُ ما لا يَفْقَهُونَهُ اليَوْمَ إِذا عَثَرَ جَوادُهُمْ وَطُوِيَ مِهادُهُمْ وَكَلَّتْ أَسْيافُهُم وَزَلَّتْ أَقْدامُهُمْ، لَمْ أَدْرِ إِلَى مَتَى يَرْكَبُونَ مَطِيَّةَ الهَوى وَيَهِيمُونَ فِي هَيْماءِ الغَفْلَةِ وَالغَوَى، أَيَبْقَى عِزَّةُ مَنْ عَزَّ وَذِلَّةُ مَنْ ذَلَّ؟ أَمْ يَبْقَى مَنِ اتَّكَأَ عَلَى الوِسادَةِ العُلْيا وَبَلَغَ فِي العِزَّةِ إِلَى الغايَةِ القُصْوَى؟ لا وَرَبِّيَ الرَّحْمنِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّيَ العَزِيزِ المَنَّانِ، أَيُّ دِرْعٍ ما أَصابَها سَهْمُ الرَّدَى وَأَيُّ فَوْدٍ ما عَرَّتْهُ يَدُ القَضا، وَأَيُّ حِصْنٍ مُنِعَ عَنْهُ رَسُولُ المَوْتِ إِذا أَتَى؟ وَأَيُّ سَرِيرٍ ما كُسِرَ؟ وَأَيُّ سَدِيرٍ ما قَفِرَ؟ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ ما وَرَاءَ الخِتامِ مِنْ رَحِيقِ رَحْمَةِ رَبِّهِمُ العَزِيزِ العَلاَّمِ لَنَبَذُوا المَلامَ وَاسْتَرْضَوْا عَنِ الغُلامِ، وَأَمَّا الآنَ حَجَّبُونِي بِحِجابِ الظَّلامِ الَّذِي نَسَجُوهُ بِأَيْدِيِ الظُّنُونِ وَالأَوْهامِ، سَوْفَ تَشُقُّ يَدُ البَيْضاءِ جَيْباً لِهذِهِ اللَّيْلَةِ الدَّلْماءِ وَيَفْتَحُ اللهُ لِمَدِينَتِهِ باباً رِتاجاً، يَوْمَئِذٍ يَدْخُلُون فِيها النَّاسُ أَفْواجاً وَيَقُولونَ ما قالَتْهُ اللاَّئِماتُ مِنْ قَبْلُ ليَظْهَرَ فِي الغَاياتِ ما بَدا فِي البِداياتِ، أيُرِيدُونَ الإِقامَةَ وَرِجْلُهُمْ فِي الرِّكَابِ؟ وَهَلْ يَرَوْنَ لِذَهابِهِمْ مِنْ إِيابٍ؟ لا وَرَبِّ الأَرْبابِ إِلاَّ فِي المَآبِ، يَوْمَئِذٍ يَقُومُ النَّاسُ مِنَ الأَجْدَاثِ وَيُسْئَلُونَ عَنِ التُّرَاثِ، طُوبَى لِمَنْ لا تَسُومُهُ الأَثْقالُ فِي ذلِكَ اليَوْمِ الَّذِي فِيهِ تَمُرُّ الجِبالُ وَيَحْضُرُ الكُلُّ لِلسُّؤالِ فِي مَحْضَرِ اللهِ المُتَعالِ إِنَّهُ شَدِيدُ النِّكَالِ، نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يُقَدِّسَ قُلُوبَ بَعْضِ العُلَماءِ مِنَ الضَّغِينَةِ وَالبَغْضاءِ لِيَنْظُرُوا الأَشْياءَ بِعَيْنٍ لا يَغْلِبُها الإِغْضاءُ وَيُصْعِدَهُمْ إِلَى مَقامٍ لا تُقَلِّبُهُمُ الدُّنْيا وَرِياسَتُها عَنِ النَّظَرِ إِلَى الأُفُقِ الأَعْلَى وَلا يُشْغِلُهُمُ المَعاشُ وَأَسْبابُ الفِراشِ عَنِ اليَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُجْعَلُ الجِبالُ كَالفَراشِ، وَلَوْ أَنَّهُم يَفْرَحُونَ بِما وَرَدَ عَلَيْنا مِنَ البَلاءِ فَسَوْفَ يَأْتِي يَوْمٌ فِيهِ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ، فَوَرَبِّي لَوْ خُيِّرْتُ فِيما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ العِزَّةِ وَالغَنَاءِ وَالثَّرْوَةِ وَالعَلاءِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّخاءِ وَما أَنا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالبَلاءِ لاخْتَرْتُ ما أَنَا فِيهِ اليَوْمَ، وَالآنَ لا أُبَدِّلُ ذَرَّةً مِنْ هذِهِ البَلايا بِما خُلِقَ فِي مَلَكُوتِ الإِنْشاءِ، لَوْلا البَلاءُ فِي سَبِيلِ اللهِ ما لَذَّ لِي بَقَائِي وَما نَفَعَنِي حَياتِي، وَلا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ البَصَرِ وَالنَّاظِرِينَ إِلَى المَنْظَرِ الأَكْبَرِ بِأَنِّي فِي أَكْثَرِ أَيَّامِي كُنْتُ كَعَبْدٍ يَكُونُ جَالِساً تَحْتَ سَيْفٍ عُلِّقَ بِشَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يَدْرِ مَتَى يَنْزِلُ عَلَيْهِ أَيَنْزِلُ فِي الحِينِ أَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَفِي كُلِّ ذلِكَ نَشْكُرُ اللهَ رَبَّ العالَمِينَ وَنَحْمَدُهُ فِي كُلِّ الأَحْوالِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، نَسْأَلُ اللهَ بِأَنْ يَبْسُطَ ظِلَّهُ ليُسْرُعُنَّ إِلَيْهِ المُوَحِّدُونَ وَيَأْوِيُنَّ فِيهِ المُخْلِصُونَ وَيَرْزُقَ العِبادَ مِنْ رَوْضِ عِنايَتهِ زَهْراً وَمِنْ أُفُقِ أَلْطافِهِ زُهْراً وَيُؤَيِّدَهُ فِيما يُحِبُّ وَيَرْضَى وَيُوَفِّقَهُ عَلَى مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى مَطْلِعِ أَسْمائِهِ الحُسْنَى لِيَغُضَّ الطَّرْفَ مِمَّا يَرَى مِنَ الإِجْحافِ وَيَنْظُرَ إِلَى الرَّعِيَّةِ بِعَيْنِ الأَلْطافِ وَيَحْفَظَهُمْ مِنَ الاعْتِسافِ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى بِأَنْ يَجْمَعَ الكُلَّ عَلَى خَلِيجِ البَحْرِ الأَعْظَمِ الَّذِي كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْهُ تُنَادِي إِنَّهُ مُبَشِّرُ العالَمِينَ وَمُحْيِي العَالَمِينَ، وَالحَمْدُ للهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَنَسْأَلُهُ تَعالَى بِأَنْ يَجْعَلَكَ ناصِرَاً لأَمْرِهِ وَناظِرَاً إِلَى عَدْلِه لِتَحْكُمَ عَلَى العِبادِ كَما تَحْكُمُ عَلَى ذَوِي قَرابَتِكَ وَتَخْتارَ لَهُمْ ما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ، إِنَّهُ لَهُوَ المُقْتَدِرُ المُتَعالِي المُهَيْمِنُ القَيُّومُ.