بسم ربِّنا العليّ الأعلى

حضرة بهاء الله
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

بسم ربِّنا العليّ الأعلى

"الباب المذكور في بيان أنّ العباد لن يصلوا إلى شاطئ بحر العرفان إلّا بالانقطاع الصّرف عن كلّ من في السّموات والأرض. قدّسوا

أنفسكم يا أهل الأرض لعلّ تصلنّ إلى المقام الّذي

قدّر الله لكم وتدخلنّ في سرادق

جعله الله في سمآء البيان

مرفوعًا".

جوهر هذا الباب هو أنّه يجب على السّالكين سبيل الإيمان والطّالبين كؤوس الإيقان أن يطهّروا أنفسهم ويقدّسوها عن جميع الشؤونات العرضيّة - يعني ينزّهون السّمع عن استماع الأقوال، والقلب عن الظّنونات المتعلّقة بسبحات الجلال، والرّوح عن التّعلّق بالأسباب الدّنيويّة، والعين عن ملاحظة الكلمات الفانية، ويسلكون في هذا السّبيل متوكّلين على الله ومتوسّلين إليه، حتّى يصبحنّ قابلين لتجلّيات إشراقات شموس العلم والعرفان الإلهيّ، ومحلاًّ لظهورات فيوضات غيب لا يتناهى. لأنّ العبد لو أراد أن يجعل أقوال العباد من عالم وجاهل، وأعمالهم وأفعالهم ميزانًا لمعرفة الحقّ وأوليائه فإنّه لن يدخل أبدًا رضوان معرفة ربّ العزّة، ولن يفوز بعيون علم سلطان الأحديّة وحكمته، ولن يرد منزل البقاء، ولن يذوق كأس القرب والرّضا.

انظروا إلى الأيّام السّالفة، كم من العباد من شريف ووضيع، كانوا دائمًا ينتظرون ظهورات الأحديّة في الهياكل القدسيّة، على شأن كانوا في جميع الأوقات والأزمنة يترصّدون وينتظرون، يدعون ويتضرّعون، لعلّ يهبُّ نسيم الرّحمة الإلهيّة، ويطلع جمال الموعود من خلف سرادق الغيب إلى عرصة الظّهور. وعندما كانت تنفتح أبواب العناية، ويرتفع غمام المكرمة، وتظهر شمس الغيب عن أفق القدرة، يقوم الجميع على تكذيبها وإنكارها ويحترزون عن لقائها الّذي هو عين لقاء الله، كما هو مذكور ومسطور تفصيله في جميع الكتب السّماويّة.

تدبّروا الآن وتفكّروا قليلاً، لِمَ اعترض العباد من بعد طلبهم وانتظارهم؟! وكان اعتراضهم أيضًا بدرجة يعجز اللّسان والبيان عن وصفه، ويقصر التّقرير والتّحرير عن ذكره. فلم يظهر أحد من المظاهر القدسيّة والمطالع الأحديّة إلّا وابتلي باعتراض النّاس وإنكارهم واحتجاجهم كما قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾، وكما قال في موضع آخر ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ وكذلك كانت الكلمات النّازلة من غمام القدرة الصّمدانيّة، وسماء العزّة الرّبّانيّة تفوق حدّ الإحصاء وإحاطة العباد، وإنّ في سورة هود لكفاية لأولي الأفئدة وأصحاب البصر. فتأمّلوا قليلاً في هذه السّورة المباركة وتدبّروا فيها بالفطرة الأصليّة، حتّى تطّلعوا قليلاً على بدائع أمور الأنبياء وردّ كلمات النّفي لهم وتكذيبهم إيّاهم، لعلَّ تكوننّ سببًا لأن يطير النّاس من موطن الغفلة النّفسانيّة إلى أوكار الوحدة والمعرفة الإلهيّة، وتشربنَّ من زلال الحكمة الباقية، وترزقنَّ من أثمار شجرة علم ذي الجلال. هذا هو نصيب الأنفس المجرّدة من المائدة المنزّلة القدسيّة الباقية.

لو اطّلعتم على علّة إبتلاء الأنبياء، وسبب اعتراضات العباد على تلك الشّموس الهويّة، لوقفتم على كثير من أمورهم. كذلك كلّما لاحظتم وتفحّصتم كثيرًا في اعتراضات العباد على مشارق شموس صفات الأحديّة، ازددتم إحكامًا في دينكم، ورسوخًا في أمر الله. لذا نذكر في هذه الألواح بعضًا من قصص الأنبياء على سبيل الإجمال، حتّى يكون معلومًا ومثبوتًا أنّه قد ورد على مظاهر القدرة ومطالع العزّة في جميع الأعصار والقرون، ما يضطرب له القلم ويخجل من ذكره. لعلَّ تصير هذه الأذكار سببًا لعدم اضطراب بعض النّاس من إعراض العلماء واعتراض جُهّال العصر، بل ربّما يزيدهم هذا إيقانًا واطمئنانًا.

فمن جملة الأنبياء نوح عليه السّلام الّذي ناح تسعمائة وخمسين سنة، ودعا العباد إلى وادي الرّوح الأيمن، وما استجاب له أحد، وفي كلّ يومٍ كان يرد منهم على هذا الوجود المبارك من الأذيّة والإيذاء ما كانوا به يوقنون أنّه قد هلك. وكثيرًا ما ورد على حضرته من أنواع السّخرية والاستهزاء والتّعريض. كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وبعد حين من الزّمن وعد أصحابه وعدًا معيّنًا عدّة مرّات بإنزال النّصر عليهم، وفي كلّ مرّةٍ منها كان يحصل البَداء، فأعرض بسبب ظهور البَداء بعضٌ من أصحابه المعدودين، كما هو مثبوت تفصيله في أكثر الكتب المشهورة مِمّا لا بدّ أنّكم قد اطّلعتم عليه أو ستطّلعون. حتّى أنّه لم يبق مع حضرته إلّا أربعون نفسًا أو اثنان وسبعون، كما هو مذكور في الكتب والأخبار، إلى أن صرخ أخيرًا من أعماق قلبه بدعائه ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.

والآن يجب التّأمّل قليلاً. ماذا كان سبب اعتراض العباد واحترازهم إلى هذه الدّرجة في ذلك الزّمان، ولِمَ لم يخلعوا قميص النّفي، ويتحلّوا برداء الإثبات ويفوزوا به. وكذلك لماذا حصل البَداء في الوعود الإلهيّة ممّا كان سببًا في إدبار بعض المقبلين. لذا يجب التأمّل كثيرًا، حتّى تقف على أسرار الأمور الغيبيّة، وتستنشق رائحة الطّيب المعنويّ من الفردوس الحقيقيّ، وتوقن بأنّ الامتحانات الإلهيّة لم تزل كانت بين العباد، ولا تزال تكون بينهم، حتّى يتبيّن ويتميّز النّور من الظّلمة، والصّدق من الكذب، والحقّ من الباطل، والهداية من الضّلالة، والسّعادة من الشّقاوة، والشّوك من الورد، كما قال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.

ومن بعد نوح، أشرق جمال هود من مشرق الإبداع، ودعا النّاس إلى رضوان القرب من ذي الجلال نحوًا من سبعمائة سنة أو يزيد، على حسب اختلاف الأقوال. فكم من البلايا نزلت على حضرته كالغيث الهاطل، حتّى صارت كثرة الدّعوة سببًا لكثرة الإعراض، وشِدّة الاهتمام علّةً لشدّة الإغماض ﴿وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾.

ومن بعده طلع هيكل صالح من رضوان الغيب المعنويّ، ودعا العباد إلى شريعة القرب الباقية، وفي مائة سنة أو أزيد، أمرهم بالأوامر الإلهيّة ونهاهم عن المناهي الربّانيّة، فلم يأت ذلك بثمر، ولم يظهر منه أثر، فاختار الغيبة والعزلة عنهم مرّات عديدة، مع إنّ هذا الجمال الأزليّ، ما دعا النّاس إلّا إلى مدينة الأحديّة، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾. إلى قوله ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾، وما أتى ذلك بفائدة ما، إلى أن أخذتهم الصّيحة جميعًا، وكان مرجعهم إلى النّار.

ومن بعده كشف الخليل النِّقاب عن جماله، ورفع علم الهدى، ودعا أهل الأرض إلى نور التُّقى، وكلَّما بالغ في النّصيحة لهم، لم يثمر ذلك غير الحسد، ولم ينتج غير الغفلة، إلّا الّذين هم انقطعوا بكلّهم إلى الله، وعرجوا بجناحيّ الإيقان إلى مقام جعله الله عن الإدراك مرفوعًا.

وقصّة حضرته مشهورة، فكم من الأعداء أحاطوا به إلى أن اشتعلت نار الحسد والإعراض. ومن بعد حكاية النّار أخرجوا ذلك السّراج الإلهيّ من بلده، كما هو مذكور في الكتب والرّسائل.

ولما انقضى زمانه أتت دورة موسى، فظهر حضرته من سيناء النّور إلى عرصة الظّهور بعصا الأمر وبيضاء المعرفة. وأتى من فاران المحبّة الإلهيّة، ومعه ثعبان القدرة والشّوكة الصّمدانيّة. ودعا جميع من في الملك الى ملكوت البقاء، وأثمار شجرة الوفاء. ولقد سمعت ما ورد عليه من فرعون وملأه من الاعتراضات، وكم أُلقي على تلك الشّجرة الطّيّبة من أحجار الظّنونات من الأنفس المشركة، وبلغ الاعتداء عليه إلى حدّ أن همّ فرعون وملأه بإخماد نار تلك السّدرة الرّبّانيّة وإطفائها بماء الإعراض والتّكذيب. وغفلوا عن أنّ نار الحكمة الإلهيّة لا يخمدها الماء العنصريّ، وسراج القدرة الرّبّانيّة لا تطفئه الأرياح المخالفة. بلّ إنّ الماء في هذا المقام يصير سببًا للاشتعال، والرّيح علّةً للحفظ لو أنتم بالبصر الحديد تنظرون، وفي رضا الله تسلكون.

وما أحلى البيان الّذي فاه به مؤمن آل فرعون، كما أخبر ربّ العزّة حبيبه بحكايته قائلاً ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾.

وأخيرًا وصل الأمر الى حدّ أن قتلوا هذا المؤمن، واستشهد بنهاية العذاب أَلَا لعنةُ الله على القوم الظّالمين. فانظروا الآن وتأمّلوا قليلاً في هذه الأمور وماذا كان سبب أمثال هذه الاختلافات، إذْ كلّما ظهر ظهور حقّ في الإمكان من أفق اللاّمكان كان يظهر ويبدو في أطراف العالم أمثال هذا النّوع من الفساد والفتنة والظّلم والانقلاب، مع أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون النّاس في حين ظهورهم بالنّبيّ التّالي، ويذكرون لهم علامات الظّهور الآتي، كما هو مسطور في كلّ الكتب. ومع طلب النّاس وانتظارهم لظهور المظاهر القدسيَّة، وذكر العلامات في الكتب، لماذا تحدث هذه الأمور في العالم، ويرد على جميع الأنبياء والأصفياء في كلّ عهد وعصر أمثال هذا الظّلم والعسف و التعدِّي؟ كما قال تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ أي أنّه كلّما جاءكم رسول من قبل الله بما لا تهوى أنفسكم في أيّ عهد وزمان استكبرتم، وما أيقنتم، ففريقًا من هؤلاء الأنبياء كذّبتم وفريقًا كنتم تقتلون.

تأمَّلوا حينئذٍ ماذا كان سبب هذه الأفعال، ولم كانوا يسلكون بهذه الكيفيّة مع طلعات جمال ذي الجلال؟ إذ كلّ ما كان سبب إعراض العباد وإغماضهم في تلك الأزمنة، قد أصبح اليوم أيضًا بعينه سبب غفلة هؤلاء العباد. فإذا قلنا أنّ الحجج الإلهيّة لم تكن كاملة ولا تامّة، ولذا كانت سببًا لاعتراض العباد، فإنّ هذا يكون كفرًا صراحًا. لأنّه بعيد جدًّا عن فيض الفيّاض، وبعيد عن واسع رحمته، أن يجتبي نفسًا من بين جميع العباد لهداية خلقه، ولا يؤتيها الحجّة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذّب الخلق لعدم إقبالهم إليها. بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطًا على كلّ الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدّهر انقطع فيه فيضه، أو منع نزول أمطار الرّحمة من غمام عنايته. إذًا فليست هذه الأمور المحدثة إلّا من الأنفس ذات الإدراكات المحدودة، الّذين يهيمون في وادي الكبر والغرور، ويسيرون في بيداء البعد، ويتأسّون بظنوناتهم، وبما استمعوه من علمائهم. لهذا لم يكن عندهم أمور غير الإعراض، ولا بغية إلّا الإغماض، ومن المعلوم لدى كلّ ذي بصر، أنّه لو كان هؤلاء العباد في حين ظهور أيّ مظهر من مظاهر شمس الحقيقة، يقدّسون ويطّهرون السّمع والبصر والفؤاد من كلِّ ما سمعوه وأبصروه وأدركوه، لما حرموا البتَّة من الجمال الإلهيّ، ولا منعوا عن حرم القرب والوصال للمطالع القدسيّة.

ولما كانوا يزنون الحجّة في كلّ زمان بمعرفتهم الّتي تلقّوها عن علمائهم، وكانوا يجدونها غير متّفقة مع عقولهم الضّعيفة، لذا كان يظهر منهم في عالم الظّهور أمثال هذه الأمور غير المرضيّة.

إنَّ علماء العصر في كلِّ الأزمان كانوا سببًا لصدِّ العباد، ومنعهم عن شاطئ بحر الأحديّة، لأنَّ زِمام هؤلاء العباد كان في قبضة قدرتهم. فكان بعضهم يمنع النَّاس حبًّا للرّياسة، والبعض الاخر يمنعهم لعدم العلم و المعرفة. كما أنّه بإذن علماء العصر وفتاويهم قد شرب جميع الأنبياء سلسبيل الشّهادة، وطاروا إلى أعلى أفق العزَّة. فكم ورد على سلاطين الوجود، وجواهر المقصود، من ظلم رؤساء العهد، وعلماء العصر، الّذين قنعوا بهذه الأيّام المحدودة الفانية، ومنعوا أنفسهم عن الملك الّذي لا يفنى، كما حرموا عيونهم من مشاهدة أنوار جمال المحبوب، ومنعوا آذانهم عن استماع بدائع نغمات ورقاء المقصود. ولهذا ذكرت أحوال علماء كلّ عصر في جميع الكتب السّماويّة كما قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ وكما قال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وكما قال تعالى في مقامٍ آخر ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

ومن المعلوم أنّ أهل الكتاب الّذين صدّوا النّاس عن الصّراط المستقيم كانوا علماء ذلك العهد، كما هو مذكور اسم الجميع ورسمهم في الكتب، وكما هو مُستفاد من أكثر الآيات والأخبار، لو أنتم بطرف الله تنظرون.

إذًا تأمّلوا قليلاً بعين البصيرة الإلهيّة، في آفاق العلم الربّانيّ، وتعقَّلوا في أنفس الكلمات التّامّات الصمدانيّة، حتّى تنكشف لكم وتظهر جميع أسرار الحكمة الرّوحانيّة، من خلف سرادق الفضل والإفضال، مجرّدة عن سبحات الجلال، وتعرفوا أنّ أساس اعتراضات النّاس واحتجاجاتهم، لم يكن إلّا من عدم الإدراك والعرفان. فمثلاً إنّهم لما لم يفهموا البيانات التّي صدرت من طلعات جمال الحقّ، عن علامات الظّهور الآتي، ولم يصلوا إلى معرفة حقيقتها، لذا رفعوا علم الفساد، ونصبوا رايات الفتنة.

ومن المعلوم أنّ تأويل كلمات الحمامات الأزليّة لا يدركه إلّا الهياكل الأزليّة، وأنَّ نغمات الورقاء المعنويّة، لا يسمعها إلّا مسامع أهل البقاء. فليس لقبطيّ الظّلم نصيب أبدًا من شراب سبطيّ العدل، ولا لفرعون الكفر خبر عن بيضاء موسى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ومع ذلك طلبوا تفسير الكتاب وتأويله من أهل الحجاب، ولم يأخذوا العلم من منبعه.

فمثلاً لما انقضت أيّام موسى، وأحاطت العالم أنوار عيسى السّاطعة من فجر الرّوح، اعترض جميع اليهود بأنّ ذلك الموعود في التّوراة، يجب أن يروّج ويكمّل شرائع التّوراة. بينما هذا الشّاب النّاصريّ، الّذي يدعو نفسه بمسيح الله، قد نسخ حكميّ الطّلاق والسّبت، الّذين هما أعظم أحكام موسى، فضلاً عن أنّ علائم الظّهور لم تظهر بعد، ولهذا لا يزال اليهود إلى الآن منتظرين ذلك الظّهور المذكور في التّوراة. ولَكَم ظهر في عالم الإبداع من بعد موسى، من مظاهر القدس الأحديّة، ومطالع النّور الأزليّة، واليهود ما زالوا محتجبين بالحجبات النّفسيّة الشّيطانيّة، والظّنونات الإفكيّة النّفسانيّة، ولا يزالون ينتظرون ظهور ذلك الهيكل المجعول، بالعلامات المذكورة الّتي يتصوّرونها بإدراكاتهم، كذلكم أخذهم الله بذنبهم، وأخذ عنهم روح الإيمان، وعذّبهم بنارٍ كانت في هاوية الجحيم. ولم يكن هذا إلّا من عدم عرفان اليهود للعبارات المسطورة في التّوراة، والمذكورة في علائم الظّهور التّالي. ولما لم يقفوا على حقيقة هذه العلامات، ولم تظهر تلك الأمور بحسب الظّاهر، فقد حرموا عن الجمال العيسويّ، ولم يفوزوا بلقاء الله وكانوا من المنتظرين. وما زال جميع الأمم، ولا يزالون متمسِّكين بهذه الأفكار المجعولة غير اللّائقة، وقد حرموا أنفسهم من العيون اللّطيفة الصّافية الجارية.

ولقد ذكرنا بعضًا من عبارات الأنبياء، في كشف هذه الأسرار، في ألواح مسطورة من قبل، رقّمناها لأحد من الأحبّاء ببدائع النّغمات الحجازيّة.

والآن، إجابة لطلب جنابكم، نجدّد ذكرها في هذه الأوراق بمليح التّغنّيات العراقيّة، لعلّ يهتدي بها عطاش صحارى البعد الى بحر القرب، ويصل الضّالون في فيافي الهجر والفراق الى خيام القرب والوصال. حتّى ينقشع غمام الضّلالة وتطلع من أفق الرّوح شمس الهداية المضيئة على العالم، وعلى الله أتّكل، وبه أستعين، لعلَّ يجري من هذا القلم، ما يحيا به أفئدة النّاس ليقومنّ الكلّ عن مراقد غفلتهم، ويسمعنَّ أطوار ورقات الفردوس من شجر كان في الرَّوضة الأحديّة من أيدي القدرة بإذن الله مغروسًا.

من الواضح المعلوم لدى أهل العلم، أنّه لما أحرقت نار المحبّة العيسويّة حجبات حدود اليهود، ونفذ حكم حضرته نوعًا ما حسب الظّاهر، ذكر ذاك الجمال الغيبيّ في يومٍ من الأيّام لبعضٍ من أصحابه الرّوحانيّين أمر الفراق، وأشعل فيهم نار الاشتياق قائلاً لهم: ﴿إنّي ذاهب ثمّ أعود﴾. وقال في مقامٍ آخر: ﴿إنّي ذاهب ويأتي غيري حتّى يقول ما لم أقله ويتمِّم ما قلته﴾. وهاتان العبارتان هما في الحقيقة شيء واحد، لو أنتم في مظاهر التّوحيد بعين الله تشهدون.

ولو نظرنا بعين البصيرة المعنويّة، نشاهد في الحقيقة أنّ كتاب عيسى وأمره أيضًا قد ثبتا في عهد خاتم الأنبياء. فمن حيث الاسم قال حضرة محمّد (إنّي أنا عيسى) وقد صدّق أخباره وآثاره وكتابه أيضًا بقوله (إنّه من عند الله)، ففي هذا المقام لا يشاهد بينهما فرق ولا يرى في كتابيهما غيريّه، لأنّ كلاًّ منهما كان قائمًا بأمر الله، وناطقًا بذكر الله، وكتاب كلّ منهما مشعر بأوامر الله. فمن هذه الوجهة قال عيسى بنفسه إنّي ذاهب وراجع. مَثَلُ ذلك مثل الشّمس، فإذا قالت شمس اليوم إنّني أنا شمس الأمس فهي صادقة، ولو قالت إنّني غيرها نظرًا لاختلاف الأيّام فهي صادقة أيضًا. وكذلك لو نظرنا إلى الأيّام، وقلنا إنّها جميعها شيء واحد، فإنّ هذا القول يكون صحيحًا وصادقًا. وإذا قلنا إنّها غيرها من حيث تحديد الاسم والرّسم، فإنّ ذلك أيضًا يكون صحيحًا وصادقًا. إذ بينما نلاحظ أنّها شيء واحد، فإنّه مع ذلك يلاحظ أنّ كلاً منها له اسم خاصّ، وخواصّ أخرى، ورسم معيّن لا يُرى في غيرها. فأدرِك بهذا البيان وهذه القاعدة مقامات التّفصيل والفرق والاتّحاد بين المظاهر القدسيّة، حتّى تعرف وتقف على مرامي الإشارات، في كلمات مبدع الأسماء والصّفات في مقامات الجمع والفرق بينها. وتطَّلع تمامًا على جواب سؤالك في سرِّ اتّخاذ ذاك الجمال الأزليّ لنفسه في كلِّ مقام اسمًا خاصًا ورسمًا مخصوصًا. ومن بعد ذلك طلب أصحاب عيسى وتلاميذه من حضرته بيان علامات الرَّجعة والظُّهور، ومتى يكون وقتها واستفهموا من طلعته نادرة المثال عن هذا السّؤال في عدّة مواقع. وفي كلّ موقع منها ذكر حضرته علامة، كما هو مسطور في الأناجيل الأربعة.

وهذا المظلوم يذكر فقرة منها، ويمنح عباد الله النّعم المكنونة في السّدرة المخزونة، حبًّا لوجه الله حتّى لا تحرم الهياكل الفانية من الأثمار الباقية، عساهم يفوزون برشح من أنهار حضرة ذي الجلال، المقدَّسة عن الزّوال، والّتي جرت في دار السّلام ولا نطلب على ذلك جزاء ولا أجرًا ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ وهذا هو الطّعام الّذي به تحيا الأرواح والأفئدة المنيرة الحياة الباقية، وهو المائدة الّتي قيل في حقّها ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَاء﴾ وهذه المائدة لا انقطاع لها أبدًا عن أهلها ولا نفاذ لها، وفي كلّ حين تؤتي أكلها من شجرة الفضل، وتنزل من سماء الرّحمة والعدل كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾.

فيا حسرة على الإنسان من حرمان نفسه عن هذه العطيّة اللّطيفة، ومنعها عن هذه النّعمة الباقية، والحياة الدّائمة. فاعرف إذن قدر هذه المائدة المعنويّة، لعلَّ تحيا الأجساد الهامدة بحياةٍ جديدة من الألطاف البديعة من شمس الحقيقة، وتفوز الأرواح الخامدة بروحٍ غير محدود. فاجهد نفسك يا أخي، واغتنم الفرصة لتشرب من الأكواب الدّائمة الباقية ما دامت في الحياة بقيّة، لأنّ نسيم الرّوح الهابّ من مصر المحبوب، لا يستمرّ على الدّوامِ في هبوب. وأنهار التِّبيان، لا تظلّ إلى الأبد في جريان، وأبواب الرّضوان لا تبقى مفتّحة على الدّوام. سوف يأتي يوم فيه يطير عندليب الفردوس من روضة القدس الى الأوكار الإلهيّة. وحينئذٍ لا تعود تسمع نغمة البلبل ولا ترى جمال الورد. أمّا ما دامت الحمامة الأزليّة في وله وتغريد، والرّبيع الإلهيّ في جلوة وزينة، فيجب اغتنام الفرصة حتّى لا تحرم أذن قلبك من الاستماع لألحانها. هذه نصيحة هذا العبد لجنابك ولأحباء الله، فمن شاء فليقبل، ومن شاء فليعرض، إنّ الله كان غنيًّا عنه وعمّا يشاهد ويرى.

وهذه نغمات عيسى ابن مريم الّتي تغنّى بها في رضوان الإنجيل بلحن جليل، في وصف علائم الظّهور الآتي بعده، المذكور في السّفر الأوّل المنسوب الى متّى، عندما سألوه عن علامات الظّهور الآتي بعده، فأجاب بقوله ﴿وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشّمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السّماء، وقوّات الأرض ترتجّ، حينئذٍ يظهر علامات ابن الإنسان في السّماء، وينوح كلّ قبائل الأرض ويرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السّماء مع قوّاتٍ ومجدٍ كبير، ويرسل ملائكته مع صوت السّافور العظيم﴾. انتهى أي أنّه بعد أن يحيط الضّيق والبلاء بكلّ العباد، تظلم الشّمس أي تمنع عن الإفاضة، والقمر لا يعطي نوره، وكواكب السّماء تتساقط على الأرض، وتتزلزل أركان الأرض. ففي هذا الوقت تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء، يعني أنّ جمال الموعود وساذج الوجود من بعد ظهور هذه العلامات، يظهر من عرصة الغيب إلى عالم الشّهود. ثمّ يقول إنّه في ذلك الحين ينوح ويندب جميع القبائل السّاكنة على الأرض، ويرون محيّا جمال الأحديّة آتيًا من السّماء، راكبًا على السّحاب، بقوّةٍ وعظمةٍ ومجدٍ كبير، ويرسل ملائكته مع صوت السّافور العظيم. انتهى

وهذه العبارات مذكورة أيضًا في الأسفار الثّلاثة الأخرى المنسوبة إلى لوقا ومرقس ويوحنّا. ولمّا كانت هذه العبارات مذكورة في الألواح العربيّة بالتّفصيل، فإنّنا لا نتعرّض لذكرها على صفحات هذه الأوراق، ونكتفي بالإشارة إلى واحدة منها.

إنّ علماء الإنجيل، لمالم يعرفوا معاني هذه البيانات، ولا المقصود منها، المودع في تلك الكلمات، وتمسّكوا بظاهرها، لهذا صاروا ممنوعين من شريعة الفيض المحمّدي، وسحابة الفضل الأحمديّ. وجهّال تلك الطّائفة، الّذين تمسّكوا بعلمائهم أيضًا، ظلّوا محرومين من زيارة جمال سلطان الجلال، لأنّ في ظهور الشّمس الأحمديّة، لم تظهر هذه العلامات المذكورة.

وها قد انقضت القرون، ومضت الدّهور والأعصار، ورجع جوهر الرّوح ذاك إلى مقرّ بقاء سلطنته، ونفخت النّفخة الأخرى في الصّور الإلهيّ من النّفس الرّوحانيّ، وحشرت الأنفس الميتة من قبور الغفلة والضّلالة إلى أرض الهداية ومحلّ العناية. وهؤلاء الأقوام ما زالوا منتظرين إلى الآن ظهور هذه العلامات، وبروز ذاك الهيكل المعهود إلى حيّز الوجود، حتّى ينصروه، وينفقوا الأموال في سبيله، ويفدوا الأرواح في حبّه، كما ابتعدت الملل الأخرى بهذه الظّنون والأفكار عن كوثر معاني رحمة حضرة البارئ الّتي لا نهاية لها، وشغلوا عنها بتخيّلاتهم وأوهامهم.

وفضلاً عن هذه العبارة السّالفة، فإنّ هناك بيانًا آخر في الإنجيل يقول فيه ﴿السّماء والأرض تزولان ولكنّ كلامي لا يزول﴾ أي أنّه من الممكن أنّ السّماء والأرض تزولان وتنعدمان، أمّا كلامي فلا يزول أبدًا، وسيكون باقيًا وثابتًا على الدّوام بين النّاس.

ولذلك يقول أهل الإنجيل، إنّ حكمه لا يُنسخ أبدًا، حتّى أنّه في أيّ وقت وزمان يظهر فيه طلعة الموعود بكلّ العلامات، لا بدّ وأنّه يؤيّد ويثبّت الشّريعة المرتفعة في الإنجيل، بحيث لا يبقى دين في كلّ العالم إلّا هذا الدّين. وهذه الفقرة من المطالب المحقّقة المسلّم بها عندهم، والّتي يعتقدون فيها أنّه لو بعث شخص أيضًا بجميع العلامات الموعودة، ولكنّه يحكم بخلاف الحكم الظّاهر في الإنجيل، فإنّهم لا يذعنون إليه البتّة، ولا يقبلون منه حكمًا، بل يكفّرونه ويستهزؤن به، كما شوهد ذلك في ظهور الشّمس المحمّدية. أمّا لو كان جميع النّاس قد سألوا بتمام الخضوع ظهورات الأحديّة في أيّ ظهور، عن معاني تلك الكلمات المنزّلة في كلّ الكتب، والّتي بسبب عدم بلوغهم إلى معانيها قد حجبوا عن الغاية القصوى وسدرة المنتهى، فلا بدّ أنّهم كانوا يهتدون بأنوار شمس الهداية، ويقفون على أسرار العلم والحكمة.

والآن يذكر هذا العبد رشحًا من معاني هذه الكلمات، كي يقف أصحاب البصيرة والفطرة، بواسطة تفسيرها، على جميع تلويحات الكلمات الإلهيّة، وإشارات بيانات المظاهر القدسيّة، حتّى لا تمنعهم هيمنة الكلمات عن بحر الأسماء والصّفات، ولا تحجبهم عن مصباح الأحديّة، الّذي هو محلّ تجلّي الذّات.

فقوله ﴿من بعد ضيق تلك الأيّام﴾، إشارة إلى زمان تُبتلى فيه النّاس بالشّدّة والضّيق، وتزول فيه آثار شمس الحقيقة من بين النّاس، وتنعدم أثمار سدرة العلم والحكمة، ويصبح زمام النّاس بأيدي الجهّال، وتغلق أبواب التّوحيد والمعرفة، الّتي هي المقصد الأصليّ من خلق الإنسان، ويتبدّل العلم بالظّنّ، وتنقلب الهداية بالشّقاوة. كما نشاهد اليوم، أنّ زمام كلّ طائفة في يد جاهل، يحرّكهم كيفما أراد، ولم يبق بينهم من المعبود إلّا اسمه، ولا من المقصود إلّا لفظه، وغلبت عليهم أرياح النّفس والهوى، إلى درجة أطفئت معها سرج العقل والفؤاد من القلوب. مع أنّ أبواب العلم الإلهيّ قد فتحت بمفاتيح القدرة الرّبّانيّة، وجواهر وجود الممكنات قد تنوّرت بنور العلم، واهتدت بالفيوضات القدسيّة، على شأن فتح في كلّ شيء باب من العلم، وشوهد في كلّ ذرّة آثار من الشّمس. ومع كلّ هذه الظّهورات العلميّة الّتي أحاطت العالم، فإنّهم للآن يحسبون باب العلم مسدودًا، وأمطار الرّحمة مقطوعة، متمسّكين بالظّن، بعيدين عن عروة العلم الوثقى الّتي لا انفصام لها. وكلّ ما يعرف عنهم أنّ ليس لهم بالفطرة رغبة في العلم وبابه، وأنّ لا فكرة عندهم أيضًا عن ظهوره لأنّهم قد وجدوا في الظّنّ والزّعم أبواب المعاش، بينما لا يجدون في ظهور مظاهر العلم إلّا إنفاق الرّوح. لهذا حتمًا يهربون من هذا ويتمسّكون بذاك. ومع أنّهم يعتقدون أنّ حكم الله واحد، فإنّه يصدر منهم من كلّ ناحية حكم، ويظهر من كلّ محلّ أمر. فلا يشاهد بينهم نفسان متّفقان على حكم واحد. إذ لا يعرفون إلهًا غير الهوى، ولا يسلكون سبيلاً إلّا الخطأ. يعدّون الرّياسة نهاية الوصول إلى المطلوب، ويحسبون الكبر والغرور غاية البلوغ إلى المحبوب. جعلوا التّزويرات النّفسانيّة مقدّمة على التّقديرات الربّانيّة. تركوا التّسليم والرضا، واشتغلوا بالتّدبير والرّيا، يحافظون على هذه المراتب بتمام القوّة والقدرة، حتّى لا يجد النّقص سبيلاً إلى شوكتهم، ولا يتطرّق الخلل إلى عزّتهم، وإذا ما تنوّرت عين بكحل المعارف الإلهيّة، فإنّها تشاهد عدّة وحوش مرتمية على جيف أنفس العباد.

فالآن أيّ ضيق وشدّة أشدّ من هذه المراتب المذكورة، فإنّه إذا أراد شخص أن يطلب حقًّا، أو يلتمس معرفةً، فلا يدري إلى من يذهب، وممَّن يطلب، لأنَّ الآراء مختلفة للغاية، والسّبل متعدِّدة. وهذا الضّيق وتلك الشّدَّة من شرائط كلّ ظهور. وما لم يقع هذا ويحصل، فلا تظهر شمس الحقيقة، لأنّ صبح ظهور الهداية يطلع بعد ليل الضّلالة. ولهذا توجد الإشارة في الرّوايات والأحاديث إلى كلِّ هذه المضامين، بأنَّ الكفر يغشى العالم، وتحيط به الظّلمة وأمثالها ممّا قد سبقت الإشارة إليه، وبالنظر لشهرة هذه الأحاديث، ورغبة هذا العبد في الاختصار فإنّه لم يتعرّض لذكر عبارات تلك الأحاديث.

أمّا لو كان المقصود من هذا الضّيق، هو ما يدركونه من أنّ العالم يضيق فعلاً، أو تقع تلك الأمورات الأخرى الّتي يتوهّمونها بزعمهم، فإنّ ذلك لا يحصل أبدًا، وحتمًا يقولون بأنّ هذا الشرط لم يظهر، كما قالوا ويقولون. والحال أنَّ المقصود من الضّيق هو ضيق عن استيعاب المعارف الإلهيّة، وعجز عن إدراك الكلمات الربّانيّة حيث إنَّ العباد بعد غروب الشّمس، واختفاء مراياها عن الأبصار، يقعون في ضيق وشدّة، ولا يعرفون إلى من يتوجّهون كما قد ذُكر. كذلك نعلِّمك من تأويل الأحاديث، ونلقي عليك من أسرار الحكمة، لتطّلع بما هو المقصود، وتكون من الّذين هم شربوا كأس العلم والعرفان.

وقوله ﴿تظلم الشّمس والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السّماء﴾. فالمقصود من الشّمس والقمر المذكورين في كلمات الأنبياء، ليس منحصرًا في هذين الكوكبين المشهورين، بل إنّهم قد أرادوا من الشّمس والقمر معاني عديدة. وفي كلّ مقام منها يريدون معنىً خاصًّا بمناسبة ذلك المقام. فمثلاً: أحد معاني الشّمس يطلق على شموس الحقيقة، الّذين يطلعون من مشرق القدم، ويكونون واسطة إبلاغ الفيض إلى جميع الممكنات. وهؤلاء الشّموس هم المظاهر الإلهيّة الكلِّيّة، في عوالم صفاته وأسماءه. فكما أنَّ الشّمس الظّاهرة بتقدير من المعبود الحقيقيّ تربّي الأشياء الظّاهرة، من الأثمار والأشجار والألوان والمعادن وما دون ذلك، ممّا هو مشهود في عالم الملك، بتأثير حرارتها، كذلك تظهر أشجار التّوحيد وأثمار التّفريد، وأوراق التّجريد وأوراد العلم والإيقان، ورياحين الحكمة والبيان، من أثر تربية الشّموس المعنويّة وعنايتها. ولهذا يتجدَّد العالم في حين إشراق هذه الشّموس، وتجري أنهار الحيوان، وتتموّج بحور الإحسان ويرتفع سحاب الفضل، وتهبّ نسمات الجود على هيكل كلّ موجود، وتنبعث حرارة المحبّة الإلهيّة في أركان العالم من هذه الشّموس الإلهيّة ونيرانها المعنويّة، وتوهب روح الحياة الباقية إلى أجساد الأموات البالية، بعناية هذه الأرواح المجردة. وفي الحقيقة أنَّ هذه الشّمس الظّاهريّة إن هي إلّا آية من تجلّي تلك الشّمس المعنويّة، الّتي لا يشاهد لها نظيرٌ ولا شبيهٌ ولا ندٌّ، والكلّ قائم بوجودها، وظاهر من فيضها، وراجع إليها. منها ظهرت الأشياء، وإلى خزائن أمرها رجعت، ومنها بدئت الممكنات، وإلى كنائز حكمها عادت.

أمّا كون هذه الشّموس قد تخصّصت وتحدّدت ببعض من الأسماء والصّفات في مقام الذّكر والبيان كما سمعتم وتسمعون الآن، فلم يكن هذا إلّا لأجل إدراك العقول النّاقصة الضّعيفة، وإلاّ فهي لم تزل كانت ولا تزال تكون مقدّسة عن كلّ اسم، ومنزّهة عن كلّ وصف. ليس لجواهر الأسماء في ساحة قدسها طريق، ولا للطائف الصّفات في ملكوت عزِّها سبيل. فسبحان الله من أن يُعرف أصفياؤه بغير ذواتهم، أو يوصف أولياؤه بغير أنفسهم، فتعالى عمّا يذكر العباد في وصفهم، وتعالى عمّا هم يعرفون.

وأمّا إطلاق لفظة الشّموس على تلك الأنوار المجرّدة، في كلمات أهل العصمة فهو كثير. فمن جملة ذلك ما ورد في دعاء النّدبة، حيث يقول (أين الشّموس الطّالعة. أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزّاهرة). إذًا صار من المعلوم أنَّ المقصود من الشّمس والقمر والنّجوم في الرّتبة الأولى هم الأنبياء والأولياء وأصحابهم، الّذين من أنوار معارفهم قد أضاءت وتنوّرت عوالم الغيب والشّهود، وفي الرّتبة الثّانية يكون المقصود من الشّمس والقمر والنّجوم هم علماء الظّهور السّابق، الّذين يكونون موجودين في زمان الظّهور اللاّحق، وبيدهم زمام دين النّاس. فإذا ما استناروا بضياء شمس أخرى أثناء ظهورها، يكونون من المقبولين والمضيئين والمتلألئين، وإلّا يجري في حقِّهم حكم الظّلمة، ولو يكونون بحسب الظّاهر من الهادين. لأنّ جميع هذه المراتب من الكفر والإيمان، والهداية والضّلالة، والسّعادة والشّقاوة، والنّور والظّلمة، منوطة بتصديق تلك الشّموس المعنويّة الإلهيّة. فكلّ نفس من العلماء جرى عليها في يوم التّغابن والإحسان حكم الإيمان من مبدأ العرفان، يصدق في حقِّها العلم والرّضا، والنّور والإيمان. وإلاّ يجري في حقّها حكم الجهل والنّفي والكفر والظّلم.

ومن المشهود لدى كلّ ذي بصر، أنّه كما ينمحي نور النّجم عند إشراق الشّمس الظّاهرة، كذلك تنمحي وتظلم شمس العلم والحكمة والعرفان الظّاهريّ عند طلوع شمس الحقيقة وإشراق نيِّر المعاني.

وإطلاق لفظ الشّمس على أولئك العلماء، هو لمناسبة علوّهم وشهرتهم ومكانتهم، لأنهم علماء العصر المعترف بهم، المشهورون في البلاد، والمسلَّم بهم بين العباد. فإذا ما حكوا عن الشّمس الإلهيّة، فإنّهم يحسبون من الشّموس العالية، وإلا فيعتبرون من شموس سجّين، كما قال تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾. ولا بدَّ أنّك قد أطّلعت على معنى الشّمس والقمر المذكورين أيضًا في الآية فلا احتياج لذكره. وكذلك كلّ من كان من عنصر هذه الشّمس وذاك القمر، أعني أنّه مقبل إلى الباطل، ومعرض عن الحقّ، فلا بدّ وأنّه قد ظهر من الحسبان، وإلى الحسبان راجع. فعلينا إذًا أيُّها السّائل أن نتمسَّك بالعروة الوثقى، كي نخرج من ليل الضّلالة بنور الهداية، ونفرَّ من ظلّ النّفيّ، لندخل في ظلّ الإثبات، ونحرِّر أنفسنا من نار الحسبان، لنتنوّر بنور جمال حضرة المنّان والسّلام. كذلك نعطيكم من أثمار شجرة العلم لتكونُنّ في رضوان حكمة الله لمن المحبرين.

وفي مقام آخر يكون المقصود من إطلاقات الشّمس والقمر والنّجوم، هو العلوم والأحكام المرتفعة في كلّ شريعة، مثل أحكام الصّوم والصّلاة، الّتي صارت في شريعة الفرقان، بعد غيبة الجمال المحمّديّ أحكم وأعظم من كلّ الأحكام، كما تدلّ الأحاديث والأخبار على ذلك. وبالنّظر لشهرتها فلا داعي لذكرها، بل أنَّ حكم الصّلاة في كلّ عصر كان محكمًا ونافذًا كما هو المأثور عن الأنوار المشرقة من الشّمس المحمّديّة، من أنَّ حكم الصّلاة قد نزل على جميع الأنبياء في كلّ عصر. غاية ما هنالك أنّه قد أختصّ في كلّ وقت باقتضاء الزّمان برسوم وآداب جديدة. وحيث أنّه في كلّ ظهور لاحق، كانت تنسخ العادات والآداب والعلوم، الّتي كانت مرتفعةً ومحكمةً ومشرقةً وواضحةً وثابتةً في الظّهور السّابق، لهذا قد ذكرت تلويحًا باسم الشّمس والقمر ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.

وكذلك جاء في الحديث إطلاق الشّمس والقمر على الصّوم والصّلاة كما يقول (الصّوم ضياء والصّلاة نور) ولكن بينما كنت جالسًا ذات يوم في محلّ، ورد علينا شخص من العلماء المعروفين، وذكر هذا الحديث بمناسبةٍ، وقال لما كان الصّوم يحدث حرارة في المزاج، لهذا عُبِّر عنه بالضّياء الّذي هو الشّمس، ولما كانت الصّلاة في الليل تتطلب البرودة، لهذا عُبِّر عنها بالنّور الّذي هو القمر. فلاحظت أنَّ ذلك الفقير لم يوفّق إلى قطرة من بحر المعاني، ولم يفز بجذوة من نار سدرة الحكمة الرّبّانيّة. وبعد برهة قلت له بنهاية الأدب، إنَّ ما ذكرتَه جنابُك في معنى الحديث هو المتداول على الألسن، والمذكور في أفواه النّاس. ولكن ربّما يستفاد من الحديث أيضًا معنى آخر، فطلب منّا بيان ذلك. فذكرنا له بأنّ خاتم الأنبياء، وسيِّد الأصفياء، قد شبّه الدّين المرتفع في الفرقان بالسّماء، بسبب علوَّه، ورفعته، وعظمته، وإحاطته على جميع الأديان. ولمّا كان في السّماء الظّاهرة يوجد ركنان أعظمان أقومان، هما النّيران المسمّيان بالشّمس والقمر، كذلك قدّر في سماء الدّين أيضًا نيِّران هما الصّلاة والصّوم. الإسلام سماء والصّوم شمسها والصّلاة قمرها.

والخلاصة أنَّ هذا هو المقصود من تلويحات كلمات المظاهر الإلهيّة. إذًا قد ثبت وتحقّق بالآيات النّازلة والأخبار الواردة، إطلاق لفظ الشّمس والقمر في هذه المراتب، على هذه المقامات المذكورة في الآيات النّازلة والأخبار الواردة. وهذا هو المقصود من ذكر ظلمة الشّمس والقمر، وسقوط النّجوم، أي ضلالة العلماء، ونسخ الأحكام المرتفعة في الشّريعة، الّتي كان مظهر ذلك الظّهور يخبر عنها بهذه التّلويحات. ولم يكن لغير الأبرار نصيب من كأسها، ولا لغير الأخيار قسمة فيها ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾.

ومن المسلّم أنّه في كلّ ظهور تالٍ، تظلم شمس العلوم والأحكام والأوامر والنّواهي، الّتي كانت مرتفعة في الظّهور السّابق، والّتي أظلّت أهل ذلك العصر، واستناروا من شمس معارفها، و اهتدوا بقمر أوامرها. أي أنّه ينتهي حكمها وينعدم أثرها. فتأمّلوا الآن: لو كانت أُمَّة الإنجيل قد عرفت المقصود من الشّمس والقمر، أو استفسرت عنها من مظهر العلم الإلهيّ بدون اعتراض ولجاج، لكانت قد وضحت لها معانيها، ولما ابتُليت بهذا النّوع من ظلمه النّفس والهوى. نعم، أنّها لما لم تأخذ العلم من مبدئه، ولا من معدنه، لهذا قد انتهت إلى الهلاك في الوادي المهلك، وادي الكفر والضّلالة. وإلى الآن لم يشعروا بأنّ جميع العلامات قد ظهرت، وشمس الموعود قد أشرقت من أفق الظّهور. وشمس العلوم قد كوِّرت وأظلمت، وقمر الأحكام والمعارف السّابقة قد خسف وغرب. والآن ضع القدم على صراط حقّ اليقين، بعين علم اليقين، وجناحيّ عين اليقين ﴿قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ حتّى تُحسب من الأصحاب الّذين نزل فيهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾، وتشهد ببصرك جميع هذه الأسرار.

أي أخي: سر بقدم الرّوح، حتّى تطوى في آن واحد بوادي البعد والهجر النّائية، وتدخل في رضوان القرب والوصال، وتفوز في نَفَسٍ بالأنفس الإلهيّة، لأنّ هذه المراحل لا تطوى أبدًا بقدم الجسد، ولا يوصل بها إلى المقصود. والسّلام على من أتّبع الحقّ بالحقّ، وكان على صراط الأمر، في شاطئ العرفان، باسم الله موقوفًا.

هذا هو معنى الآية المباركة ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾، وذلك لأنّ لكلّ شمس من هذه الشّموس المذكورة محلّ شروق ومحلّ غروب. وحيث أنّ علماء التّفسير ما اطّلعوا على حقيقة هذه الشّموس المذكورة، لهذا تحيّروا في تفسير هذه الآية المباركة. فالبعض ذكر فيها "أنّه لما كانت الشّمس في كلّ يوم تطلع من نقطة غير النّقطة الّتي طلعت منها في يوم أمس، فقد ذكرت بلفظ الجمع"، والبعض ذكروا بأنّ المقصود من ذلك هو الفصول الأربعة، الّتي في كلّ فصل منها تطلع الشّمس من محلّ، وتغرب في محلّ آخر، لهذا قد ذكرت بلفظ المشارق والمغارب، هذه مراتب علم العباد. ومع ذلك فكم ينسبون من الجهل والعيوب إلى الّذين هم جواهر العلم ولطائف الحكمة.

كذلك فأَدْرِك واعْرِف من هذه البيانات الواضحة المحكمة المتقنة غير المتشابهة، معنى انفطار السّماء، الّذي هو من علامات السّاعة والقيامة. ولهذا قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾، إذ المقصود هنا سماء الأديان، الّتي ترتفع في كلّ ظهور، ثمَّ تنشقّ وتنفطر في الظّهور الّذي يأتي بعده، أي أنّها تصير باطلة ومنسوخة. قسمًا بالله لو تلاحظ ملاحظةً صحيحة لترى أنّ تفطّر هذه السّماء أعظم من تفطّر السّماء الظّاهرة. تأمّل قليلاً، كيف أنّ الدّين الّذي ارتفع سنينًا، ونشأ ونما في ظلِّه الجميع، وتربّوا بأحكامه المشرقة في تلك الأزمنة، ولم يسمعوا من آبائهم وأجدادهم إلّا ذكره، بدرجة لم تدرك العيون أمرًا غير نفوذ أمره، ولم تسمع الآذان إلّا أحكامه، ثمَّ تظهر بعد ذلك نفسٌ تفرِّق وتمزِّق كلّ هذا بقوَّة وقدرة إلهيّة، بل قد تنفيه كلّه وتنسخه. فكِّر بربِّك أيُّهما أعظم؟ أهذا أم ذاك الّذي تصوِّره هؤلاء الهمج الرّعاع من تفطُّر السّماء؟ وأيضًا تفكَّر في مصاعب ومشقّات أولئك الطّلعات، الّذين أقاموا حدود الله أمام جميع أهل الأرض من غير ناصر ولا معين في الظّاهر، ومع ما ورد على أولئك الوجودات المباركة اللّطيفة الرّقيقة من كلّ أذى، فإنّهم صبروا بكمال القدرة، وتحمّلوا بنهاية الغلبة.

كذلك اعرَف معنى تبديل الأرض، الّذي هو عبارة عن تبديل أراضي القلوب، بما نزل عليها من أمطار المكرمة الهاطلة من غمام الرّحمة من تلك السّماء، إذ تبدَّلت أراضيها بأرض المعرفة والحكمة. فكم نبت في رياض قلوبهم من رياحين التوحيد، وكم تفتَّح في صدورهم المنيرة من شقائق حقائق العلم والحكمة. وإذا لم تكن أراضي قلوبهم قد تبدَّلت، فكيف يقدر رجال ما تعلَّموا حرفًا، وما رأوا معلِّمًا، وما دخلوا أيَّة مدرسةٍ، أن يتكلّموا بكلمات ومعارف لا يستطيع أحدٌ أن يدركها، بل كأنّهم قد خلقوا من تراب العلم السّرمديّ، وعُجنوا من ماء الحكمة اللّدنّيّة. ولهذا قيل (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء). وهذا النّوع من العلم هو الّذي كان ولا يزال ممدوحًا، لا العلوم المحدودة الحادثة من الأفكار المحجوبة الكدرة، الّتي تارة يسرقونها من بعض، ويفتخرون بها على الغير.

فيا ليت صدور العباد تتقدَّس وتتطهَّر من نقوش هذه التّحديدات والكلمات المظلمة، لعلَّ تفوز بتجلّي أنوار شمس العلم والمعاني، وجواهر أسرار الحكمة اللّدنّيّة. فانظر الآن، لو لم تتبدّل الأراضي الجرزة لهذه الوجودات، كيف يمكن أن تصبح محلاًّ لظهور أسرار الأحديّة. وبروز جواهر الهويَّة. ولهذا قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ﴾. كذلك بفضل نسمات جود سلطان الوجود، حتّى الأرض الظّاهرة قد تبدَّلت، لو أنتم في أسرار الظّهور تتفكَّرون.

وهكذا فأدرك معنى هذه الآية الّتي تقول ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. وهنا يجب الإنصاف قليلاً، لأنّه لو كان المقصود منها ما أدركه النّاس، فأيّ حسن يترتّب على ذلك؟ فضلاً عن أنّه من المسلَّم به أنّه لا ينسب إلى ذات الحقِّ المنيع يدٌ مرئيّة بالبصر الظّاهر، تعمل هذه الأمور، لأنّ الإقرار بمثل هذا الأمر يكون كفرًا محضًا، وإفكًا صرفًا. وإذا قلنا أنّ هذا يرجع إلى مظاهر أمره الّذين يكونون مأمورين بهذا الأمر في يوم القيامة، فإنّ هذا أيضًا يكون بعيدًا للغاية، ولا يأتي بفائدة بل أنّ المقصود من الأرض هو أرض المعرفة والعلم، ومن السّموات هو سموات الأديان. فانظر الآن كيف أنّ أرض العلم والمعرفة الّتي كانت مبسوطة من قبل، قد قبضها بقبضة القدرة والاقتدار، وبسط أرضًا منيعة جديدة في قلوب العباد، وأنبت رياحين جديدة، وورودًا بديعة، وأشجارًا منيعة في الصّدور المنيرة.

وكذلك فانظر كيف قد طويت بيمين القدرة سماوات الأديان المرتفعة من قبل، وارتفعت سماء البيان بأمر الله، وتزيّنت بالشّمس والقمر والنّجوم من أوامره البديعة الجديدة. هذه أسرار الكلمات قد أصبحت مكشوفة وظاهرة بغير حجاب، لعلَّ تدرك صبح المعاني، وتطفئ سرج الظّنون والوهم، والشّكّ والرّيب، بقوّة التّوكّل والانقطاع، وتوقد في مشكاة قلبك وفؤادك مصباح العلم واليقين الجديد.

واعلم بأنّ المقصود من جميع هذه الكلمات المرموزة، والإشارات العويصة الظّاهرة من المصادر الأمريّة، إنْ هو إلّا امتحان للعباد، كما قد ذُكر، حتّى تعرف أراضي القلوب الجيّدة المنيرة من الأراضي الجرزة الفانية، هذه سُنَّة الله بين عباده في القرون الخالية، يشهد بذلك ما هو مسطور في الكتب.

ثمَّ تأمّل آية القبلة، وكيف أنّه بعد هجرة شمس النبوّة المحمّديّة من مشرق البطحاء إلى يثرب، استمرّ في التّوجّه إلى بيت المقدس في وقت الصّلاة، حتّى جرى لسان اليهود بكلمات غير لائقة لا يناسب ذكرها في هذا المقام، ويدعو إلى التّطويل. ولمّا تكدّر حضرته كثيرًا من ذلك، شخص ببصره إلى السّماء متفكّرًا متحيّرًا، فنزل بعدئذٍ جبريل، وتلى عليه هذه الآية ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السّماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ وبعدئذٍ، بينما كان حضرته قائمًا يصلّي ذات يوم فريضة الظّهر مع جمع من أصحابه، وأدّى ركعتين منها، نزل عليه جبريل وقال ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فانحرف حضرته أثناء الصّلاة عن بيت المقدس، وولّى وجهه شطر الكعبة وفي الحين حصل تزلزل واضطراب بين أصحابه بدرجة أنّ جمعًا منهم تركوا الصّلاة وأعرضوا. فهذه الفتنة لم تكن إلّا امتحانًا للعباد، وإلّا فذاك السّلطان الحقيقيّ كان قادرًا على أن لا يغيّر القبلة أبدًا، وأن يبقى بيت المقدس قبلة في ذلك العصر، وأن لا يسلب منه خلعة القبول هذه.

هذا وفي عهد أكثر الأنبياء، الّذين بعثوا بالرّسالة بعد موسى، مثل داود وعيسى ودونهم من الأنبياء العظام، الّذين جاءوا بين هذين النّبيّين، لم يحدث أن تغيّر حكم القبلة، بل كان كلّ هؤلاء المرسلين من جانب ربّ العالمين، يأمرون النّاس بالتّوجّه إلى تلك الجهة، إذ أنّ كلّ الأراضي في نظر ذلك السّلطان الحقيقيّ هي في درجة واحدة، إلّا أرضًا يكون قد أختصّها بأمرٍ في أيّام ظهور مظاهره، كما قال تعالى: ﴿وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾. ومع تحقُّق هذه الأمور فلماذا حصل هذا التّبديل الّذي تسبّب منه جزع العباد وفزعهم، وصار علَّة تزلزل الأصحاب واضطرابهم. أجل إنّ مثل هذه الأمور الّتي هي سبب وحشة جميع النّفوس لم تقع إلّا لكي يردّ الكلّ على محكِّ امتحان الله، كي يحصل التّمييز والفصل بين الصّادق والكاذب. ولهذا قال بعد اختلاف النّاس، ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ الّتي مضمونها إنّا ما غيّرنا وما نسخنا القبلة الّتي كانت بيت المقدس إلّا لنعلم من يتّبعك ممّن ينقلب على عقبيه. أي من يعرض عنك ولا يطيعك، ويبطل الصّلاة ويفرّ منك، ﴿حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾.

وإنّك لو تأمَّلت قليلاً في هذا المطلب والبيان، لشاهدت أبواب المعاني والتّبيان مفتوحة أمام وجهك، وترى كلّ العلوم وأسرارها بلا ستر ولا حجاب. وإنّ هذه الأمور ليست إلّا لتربية النّفوس وخلاصهم من قفص النّفس والهوى. وإلاّ فإنّ ذاك السّلطان الحقيقيّ لم يزل كان غنيًّا بذاته عن معرفة الموجودات، ولا يزال يكون مستغنيًا بكينونته عن عبادة الممكنات. فنسمة من نسمات غنائه تجعل كلّ العالم يفتخر بخلعه الغنى. وقطرةً واحدة من بحر جوده، تهب كلّ الوجود شرف الحياة الباقية. ولكن لما كان المقصود هو تمييز الحقّ من الباطل، والشّمس عن الظّل، لهذا كانت الامتحانات النّازلة في كلّ حين من قبل ربِّ العزّة جاريةً كالغيث الهاطل.

وإذا ما تدبَّر النّاس وتفكّروا ولو قليلاً في حياة الأنبياء السّالفين وظهورهم فإنّ الأمر يسهل كثيرًا على أهل الدّيار، بدرجةٍ أنّهم لا يحتجبون من الأفعال والأقوال الّتي تخالف النّفس والهوى، ويحرقون كلّ الحجبات بنار سدرة العرفان، ويستريحون على عرش السّكون والاطمئنان. فمثلاً: موسى بن عمران الّذي كان أحد الأنبياء العظام، وصاحب كتاب، بينما كان مارًّا في السّوق ذات مرة في أوائل أيّامه قبل بعثته رأى اثنين يتخاصمان، فطلب أحدهما من موسى أن يعاونه على خصمه، فأعانه حضرته بما أدّى إلى قتله كما هو مسطورٌ في الكتاب، ولا نذكر تفصيله لئلّا يكون سببًا للتّعويق، وتعطيل المقصود. فاشتهر هذا الخبر في المدينة، وغلب على حضرته الخوفُ، كما نُصَّ في الكتاب إلى أن أتاه الخبر ﴿إِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ليَقْتُلُوكَ﴾ فخرج من المدينة، وأقام في مَدْيَن في خدمة شعيب، وفي أثناء عودته، ورد بالوادي المبارك برّيّة سيناء، وشاهد تجلِّي سلطان الأحديّة من شجرةٍ لا شرقيَّةٍ ولا غربيَّةٍ، واستمع النّداء الرّوحانيّ المنعش للروح من النّار الموقدة الربّانيّة، وتلقّى الأمر بأن يهدي الأنفس الفرعونيّة، حتّى ينقذ العباد من وادي النّفس والهوى، ويدخلهم في رياض الرّوح والهدى المحيية للقلوب، ويخلّص جميع من في الإبداع بسلسبيل الانقطاع من حيرة البعد، ويوصلهم إلى دار سلام القرب. ولما ورد على بيت فرعون، وبلّغه ما كان مأمورًا به، أطلق فرعون عِنان لسانه بغير أدب وقال: ألم تَكُ أنت قَتَلْتَ نفسًا وكنت من الكافرينَ؟ كما أخبر ربّ العزّة عن لسانِ فرعون لما اعترض على موسى بقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.

فتفكّر الآن في الفتن الإلهيّة وبدائع امتحاناته كيف أنّ شخصًا عُرف بقتل النّفس، واعترف أيضًا بالظّلم كما هو مذكور في الآية، وتربَّى أيضًا في بيت فرعون بحسب الظّاهر نحوًا من ثلاثين سنة أو أقلّ، ونشأ ونما في نعمائه، ثمَّ يجتبيه ربُّه بغتةً من بين العباد، ويأمره بأمر الهداية الكبرى، والحال أنّ ذاك السّلطان المقتدر، كان قادرًا على أن يمنع موسى من القتل، حتّى لا يكون مشهورًا بين العباد بهذا الاسم، الّذي هو سبب وحشة القلوب، وعلّة احتراز النّفوس.

ولننتقل الآن إلى حالة مريم لنشاهد كيف أنَّ هذه الطّلعة الكبرى تمنَّت الموت من عظمة الأمر وشدّة التّحيّر، كما يستفاد من الآية المباركة الّتي ناحت بها مريم بعد ولادة عيسى، ونطقت بهذه الكلمة ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾. قسمًا بالله، إنّ الأكباد لتذوب من استماع هذا الكلام، والفرائص لترتعد. وما كان هذا الحزن والاضطراب إلّا خشية من شماتة الأعداء، واعتراض أهل الكفر والشّقاء. ثمّ تفكّر أيّ جواب كان يمكن أن تقوله مريم للنّاس بشأن طفل ليس له أب مُعَيَّن! وكيف يمكن أن يُقال لهم إنّه من روح القدس! لهذا حملتْ مُخَدَّرةُ البقاء ذاك الطفل، ورجعت به إلى المنزل. فقال لها القوم لما وقعت عيونهم عليه ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾.

فانظر الآن إلى هذه الفتنة الكبرى، والامتحان الأعظم، واصرف نظرًا عمّا مضى، وتفكّر كيف أنّ نفس جوهر الرّوح، المعروف بين القوم بأنّ لا أب له، قد منحه الله النّبوّة وجعله حجّته على كلّ أهل السّموات والأرض. ثمّ تأمّل بعدها في أمور مظاهر الظّهور الّتي تظهر على خلاف مشتهى أنفس العباد وأهوائهم بتقدير من سلطان الإيجاد، وإذا ما اطّلعت على جواهر هذه الأسرار، فإنّك تطَّلع على مقصود ذاك المحبوب، وتلاحظ أنَّ أقوال ذاك المليك ذي الاقتدار هي مثل أفعاله تمامًا، بدرجة أنّ ما تشاهده في أفعاله تراه أيضًا في كلماته، وما تلاحظه في كلماته يتجلّى لك في أفعاله. ولذلك كانت هذه الأفعال والأقوال، في الظّاهر نقمة للفجّار، وفي الباطن رحمة للأبرار. وإذا ما نظرت بعين البصيرة شاهدت أنّ الكلمات المنزّلة من سماء المشيّة متّفقة متّحدة مع الأمور الظّاهرة من ملكوت القدرة، ولأدركت أنّهما كشيء واحد، كما قد سبق ذكره.

والآن أيّها الأخ، انظر وتفكّر لو كانت تظهر أمثال هذه الأمور في هذا العهد، وتَذِيعُ أمثال هذه الحكايات فماذا كانوا يفعلون؟ قسمًا بمربيّ الوجود ومنزل الكلمات، إنّهم كانوا يحكمون بالكفر في الحال، ويأمرون بالقتل بلا سؤال. فكيف يستمعون إلى القول بأنّ عيسى قد ظهر من نفخة روح القدس؟ أو أنّ موسى قد أُمر بالأمر المبرم؟ إنّك لو تصيح بذلك مائة ألف مرّة، فإنّه لا يدخل في أذن أحد أنّ من لا أب له قد بعث بالرّسالة، أو أنّ قاتلاً قد سمع النّداء من شجرة نار ﴿إِنِّي أَنَا اللهُ﴾.

ولو نُظِرَ بعين الإنصاف، لَيُشاهدُ من جميع هذه البيانات أنّ مظهر هذه الأمور كلّها هو اليوم ظاهر كما أنّ نتائجها أيضًا ظاهرة. ومع أنّه لم يقع في هذا الظّهور أمثال هذه الأمور، فإنّهم مع ذلك متمسّكون بظنونات الأنفس المردودة. ولكَمْ افترَوْا عليه من افتراءات، ولكَمْ ارتكبوا في حقّه من بلايا لم يظهر لها شبه في الإبداع.

الله أكبر، لما بلغ البيان هذا المقام، مَرّ الشّذى الرّوحاني من الصّبح الصّمداني، وهبَّ نسيم الصّباح من مدينة سبأ البقاء، وبمروره بشّر النّفس ببشارة جديدة، وفتح للرّوح فتوحًا غير محدود، وبسط أمامها بساطًا جديدًا. وأتى بهدايا ثمينة لا عداد لها من قِبَلِ المحبوب الّذي جلّ عن الوصف، فَخِلْعَة الذّكر قاصرة عن أن تتناسب مع قَدِّه اللطيف، ورداء البيان ناقص لا يفي بقامته المنيرة، يكشف رمز المعاني من غير لفظ، وينطق بأسرار التّبيان من دون لسان. يلقّن بلابل أغصان الهجر والفراق النّوح والأنين، ويعلّمهم قواعد العشق وسلوك العاشقين، ويُبيِّنُ لهم سِرَّ الخضوع للمحبوب، ويلقِّن الورود البديعة في رضوان القرب والوصال كيف يكون جذب القلوب وسحر الدّلال. ويفيض بأسرار الحقائق على شقائق بستان العشق، ويستودع في صدور العشاق دقائق الرموز، ولطائف الأسرار. ولقد تدفَّقت حياض عنايته في هذه السّاعة على شأن يغتبط له روح القدس غاية الغبطة، إذ وهب للقطرة أمواج البحر، وللذرَّة طراز الشّمس. وبلغت الألطاف إلى مقام: قصد الجُعل مكمن المسك، واستقرّ الخفّاش في مقابل الشّمس، وبعثت الأموات من قبور الأجساد بنفخة الحياة، وأجلسَ الجهّالَ على سرير العلم، وأقام الظّالمين على أريكة العدل.

إنّ عالم الوجود حامل بجميع هذه العنايات. ينتظر السّاعة الّتي فيها تظهر آثار هذه العناية الغيبيّة في العوالم التّرابيّة، وبها يبلغ العطاش الّذين سقطوا من شدّة الظّمأ إلى كوثر زلال المحبوب، ويفوز الضّالون في فيافي البعد والعدم بسرادق القرب والحياة في جوار المعشوق. ومن هم الّذين تنبت في أرض قلوبهم هذه الحبوب القدسيّة؟ وتنفتح في رياض نفوسهم شقائق الحقائق الغيبيّة؟ وحقيقةً إنّ سدرة العشق مشتعلة في سيناء الحبّ بأشدّ اشتعال،بحيث لا تخمدها ولا تقضي عليها مياه البيان، وإنّ عَطَشَ هذا الحوت لا ترويه البحور، وإنّ هذا السّمندر النَّاريَّ لا يستقرّ إلّا في وهج سناء طلعة المحبوب. فأوقد إذًا يا أخي سراج الرّوح في مشكاة قلبك، وأشعله بدهن الحكمة، واحفظه بزجاج العقل، كي لا يطفئه نَفَس الأنفس المشركةِ، ويمنعه عن الإنارة. كذلك نوّرنا أفق سماء البيان من أنوار شموس الحكمة والعرفان، ليطمئنَّ بها قلبك وتكون من الّذين طاروا بأجنحة الإيقان في هواء محبّة ربّهم الرّحمن.

أمّا قوله: ﴿حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء﴾ فمعناه أنّه من بعد كسوف شمس المعارف الإلهيّة، وسقوط نجوم الأحكام الثّابتة، وخسوف قمر العلم المربّي للعباد، وانعدام أعلام الهداية والفلاح، وإظلام صُبْح الصّدق والصّلاح، تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء. والمقصود من السّماء هنا هو السّماء الظّاهرة. إذ عند قرب ظهور فَلك سموات العدل، وجريان فُلك الهداية على بحر العظمة، يظهر في السّماء نجم بحسب الظّاهر يكون مبشّرًا لخلق السّموات بظهور ذاك النّير الأعظم، كما يظهر في سماء المعاني نجم يكون مبشّرًا لأهل الأرض بذاك الفجر الأقوم الأكرم. وهاتان العلامتان تظهران في السّماء الظّاهرة، وفي السّماء الباطنة، قبل ظهور كلّ نبيّ كما هو المعروف والمشهور.

من جملة ذلك خليل الرّحمن، حيث قُبيل ظهور حضرته رأى النّمرودُ منامًا، فاستطلع فيه رأيَ الكهنة، فأخبروه عن طلوع نجمٍ في السّماء. كما أنّه ظهر في الأرض شخص أخذ يبشِّرُ النّاسَ بظهور حضرته.

ومن بعده كانت حكاية كليم الله الّتي أخبر عنها كهنةُ ذاك الزّمان فرعون بأنّ كوكبًا قد طلع في السّماء، وهو دليل على انعقاد نطفة على يدها يكون هلاكك أنت وقومك. وكذلك قد ظهر عالمٌ كان يبشِّر بني إسرائيل في اللّيالي، يُسلِّيهم ويطمئنهم كما هو مسطور في الكتب. ولو توخّينا تفصيل تلك الأمور لأصبحت هذه الرّسالة كتابًا مفصّلاً. كما أنّنا لا نحبّ أن نذكر حكايات الأيّام الخالية، ويشهد الله بأنّ هذا البيان الّذي ذكرناه الآن لم يكن إلّا من فرط الحبِّ لجنابكم، لعلّ يصل جمع من فقراء الأرض إلى شاطئ الغِنى، أو تَرِد فئة من الجهّال إلى بحر العلم، أو يصل طلاب العلم المتعطّشون للمعرفة إلى سلسبيل الحكمة. وإلاّ فإنّ هذا العبد يَعُدّ الاشتغال بهذه المقالات ذنبًا عظيمًا، ويحسبه عصيانًا كبيرًا.

وكذلك أيضًا، عند قرب ظهور عيسى اطّلع نفر من المجوس على ظهور نجم عيسى في السّماء. واقتفوا أثَر ذلك النّجم إلى أن دخلوا المدينة الّتي كانت مقرَّ سلطنة هيريدوس، وهو الّذي كانت سلطنة تلك الممالك في قبضة تصرّفه في تلك الأيام. وجاء هؤلاء المجوس قائلين: ﴿أين هو المولود ملك اليهود؟ لأنّنا قد رأينا نجمه في المشرق ووافينا لنسجد له﴾. وبعد البحث والفحص علموا بأنّ ذاك الطّفل قد ولد في بيت لحم بأرض يهوذا. فهذه هي العلامة في السّماء الظّاهرة. وأمّا العلامة في السّماء الباطنة، الّتي هي سماء العلم والمعاني فكانت ظهور يحيى بن زكريّا، الّذي كان يبشّر النّاس بظهور عيسى، كما قال عزَّ من قائل ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ فالمقصود من الكلمة هنا، هو حضرة عيسى الّذي كان يحيى مبشّرًا بظهوره. ومسطورٌ أيضًا في الألواح السّماوية هذه العبارة: ﴿كان يوحنّا يكرز في برّيّة يهوذا قائلاً: توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات﴾، والمقصود من يوحنّا هو يحيى.

كذلك كان قبل ظهور الجمال المحمّدي قد ظهر آثار في السّماء الظّاهرة. وأمّا الآثار الباطنة فقد كانوا أربعة رجال واحدًا بعد الآخر يبشّرون النّاس على الأرض بظهور شمس الهويّة. وقد تشرّف بشرف خدمتهم رُوزبَهْ الّذي سُمِّي بسلمان، وكان كلّما حضرت الوفاةُ أحدًا منهم يُرسل رُوزبَهْ إلى الشّخص الآخر إلى أن أتت نوبة الرّابع الّذي قال له في حين وفاته: يا روزبه اذهب من بعد تكفيني ودفني إلى الحجاز حيث تشرق هناك الشّمس المحمّديّة ويا بشراك بلقاء حضرته.

ولما بلغت الأيّام إلى هذا الأمر البديع المنيع، أخبر أكثر المنجّمين عن ظهور نجم في السّماء الظّاهرة. كما أنّه قد كان على الأرض النّوران النّيّران أحمد وكاظم قدّس الله تربتهما.

إذاً قد ثبت من هذه المعاني بأنّ قبل ظهور أيّ أحد من المرايا الأحديّة، تظهر علامات ذلك الظّهور في السّماء الظّاهرة، وفي السّماء الباطنة، الّتي هي محلّ شمس العلم، وقمر الحكمة وأنجم المعاني والبيان، وتلك عبارة عن ظهور إنسان كامل قبل كلّ ظهور لتربية العباد وإعدادهم لملاقاة شمس الهويّة، وقمر الأحديّة.

أمَّا قوله: ﴿وحينئذٍ ينوح كلّ قبائل الأرض ويرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السّماء بقوَّةٍ ومجدٍ كبير﴾. فالتّلميح في هذا البيان الإلهيّ يقصد به أنّه في ذاك الوقت ينوح العباد من فقدان شمس الجمال الإلهيّ، وقمر العلم، وأنجم الحكمة اللّدنّيّة، ويشاهد في تلك الأثناء طلعة الموعود، وجمال المعبود نازلاً من السّماء، وراكبًا على السّحاب. يعني أنّ ذاك الجمال الإلهيّ يظهر من سماوات المشيئة الربّانيّة في هيكل بشري، ولم يقصد من السّماء هنا إلّا جهة العلوّ والسموّ، الّتي هي محلُّ ظهور تلك المشارق القدسيّة والمطالع القدميّة. ولو أنّ هذه الكينونات القديمة قد ظهرت من بطون الأمّهات بحسب الظّاهر إلّا أنّهم في الحقيقة نازلون من سماوات الأمر، وإن يكونوا ساكنين على الأرض، إلّا أنّهم متّكئون على رفرف المعاني. وحيثما يمشون بين العباد فإنّهم يكونون طائرين في هواء القرب. يمشون على أرض الرّوح بغير حركة الرّجل، ويطيرون إلى معارج الأحديّة بغير جناح. وفي كلّ نَفَس يطوون عالم الإبداع من مشرقه إلى مغربه، وفي كلّ آن يمرّون على ملكوت الغيب والشّهادة، مستقرّون على عرش (لا يشغله شأن عن شأن). وجالسون على كرسي: ﴿كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾. مبعوثون من علوّ قدرة سلطان القدم، وسموّ مشيئة المليك الأعظم. وهذا معنى قوله إنّهم ينزلون من السّماء.

واعلم أنّه يطلق لفظ السّماء في بيانات شموس المعاني على مراتب كثيرة: فمثلاً منها سماء الأمر، وسماء المشيئة، وسماء الإرادة، وسماء العرفان، وسماء الإيقان، وسماء التّبيان، وسماء الظّهور، وسماء البطون، وأمثالها. ففي كلّ مقام أراد من لفظ السّماء معنى مخصوصًا لا يدركه أحد غير الواقفين على أسرار الأحديّة، والشّاربين من كؤوس الأزليّة. فمثلاً يقول ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ والحال أنّ الرّزق ينبت من الأرض. وكذلك قوله: (الأسماء تُنْزَلُ من السّماء) مع أنّها تظهر من لسان العباد. فإن أنت نظّفت ولو قليلاً مرآة قلبك وطهَّرتها من غبار الغرض، فإنّك تدرك جميع التّلميحات في كلمات الكلمة الجامعة الإلهيّة، وتقف على أسرار العلم في كلّ ظهور. وما لم تحرق الحجبات العلميّة المصطلح عليها بين العباد بنار الانقطاع، فإنّك لا تفوز بصبح العلم الحقيقيّ النورانيّ.

والعلم علمان: علم إلهيّ، وعلم شيطانيّ، أوّلهما يظهر من إلهامات السّلطان الحقيقيّ، وثانيهما يبدو من تخيّلات الأنفس الظّلمانيّة. فمعلّم ذاك حضرة الباري، ومعلّم هذا الوساوس النّفسانيّة. بيان الأوّل: ﴿اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ﴾. وبيان الثاني: (العلمُ هو الحجابُ الأكبر). أثمار ذاك الشّجرِ الصَّبرُ والشّوق والعرفان والمحبّة، وأثمار هذا الشّجر الكبرُ والغرور والنّخوة. ومن بيانات أصحاب البيان الّتي ذكروها في معنى العلم، أنّه لا يستشمّ منه أيّة رائحة من روائح هذه العلوم الظّلمانيّة الّتي أحاطت ظلمتُها كلّ البلاد. لا يثمر هذا الشّجر إلّا البغي والفحشاء، ولا يأتي إلّا بالغلّ والبغضاء، ثمره سمّ قاتل، وظلّه نار مهلكة، فنعم ما قال:

(تَمَسَّكْ بِأَذْيَالِ الهَوى وَاخْلَعْ الحَيَاء وَخَلِّ سَبِيلَ النَّاسِكِينَ وَإِنْ جَلُّوا)

فيجب إذًا أن تُنزِّه الصّدر عن كلّ ما سمعته، وتقدّس القلب عن جميع التّعلّقات كي تكون محلّ إدراك الإلهامات الغيبيَّة، ومستودع أسرار العلوم الربّانّيّة. ولهذا يقول (السّالك في النّهج البيضاء والرّكن الحمراء لن يصل إلى مقام وطنه إلّا بالكفِّ الصِّفر عمّا في أيدي النّاس) هذا شرط السّالك. فكِّر فيه مليًّا وتعقّله، حتّى تقف على مقصود الكتاب من غير ستر ولا حجاب.

وبالاختصار قد بعدنا عن المقصد، ولو أنّ كلّ ما ذكر هو في المطلب، قسمًا بالله كلّما أردت الاختصار والاكتفاء بالأقلّ من القليل، أرى زمام القلم يفلت من اليد، ومع ذلك فكم من لآلئ عصماء لا عداد لها، لم تزل مودعة في صدف القلب، وكم من حوريّات المعاني لم تزل مستورةً في غرفات الحكمة، لم يمسسهنّ أحد، كما قال تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ ومع كلّ هذه البيانات، كأنّي لم أذكر حرفًا عن المقصود، ولم آت برمز عن المطلوب. فمتى يوجد محرم أمين للسّرّ مستعدّ للإحرام في حرم المحبوب، والوصول إلى كعبة المقصود، كي يرى ويسمع أسرار البيان من دون سمع ولا لسان. إذًا أصبح المقصود من السّماء في الآية المنزلة معلومًا ومفهومًا من هذه البيانات المحكمة الواضحة اللّائحة.

أمّا قوله: إنّه يأتي على السّحاب والغمامِ، فالمراد من الغمام هنا - هو تلك الأمور المخالفة لأهواء النّاس وميولهم، كما ورد في الآية ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ وذلك من قبيل تغيير الأحكام وتبديل الشّرائع وارتفاع القواعد والرّسوم العاديّة وتقدُّم المؤمنين من العوام على المعرضين من العلماء. وكذلك يقصد به ظهور ذلك الجمال الأزليّ خاضعًا للحدودات البشريّة، مثل الأكل والشرب، والفقر والغنى، والعزَّة والذّلّة، والنّوم واليقظة، وأمثال ذلك، ممّا يثير الشّبهة عند النّاس ويحجبهم. فكلّ هذه الحجبات قد عبّر عنها بالغمام.

وهذا هو الغمام الّذي به تتشقّق سماوات العلم والعرفان لكلّ من على الأرض. كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ وكما أنّ الغمام يمنع أبصار النّاس عن مشاهدة الشّمس الظّاهرة، كذلك هذه الشّؤونات المذكورة تمنع العباد عن إدراك شمس الحقيقة. يشهد بذلك ما جاء في الكتاب عن لسان الكفّار. ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ حيث قد لوحظ على الأنبياء فقر وابتلاء ظاهريّ، كما لوحظ أيضًا فيهم مستلزمات الجسد العنصريّة من قبيل الجوع والأمراض والحوادث الإمكانيّة. ولمّا كانت تظهر هذه الشّؤون من تلك الهياكل القدسيّة كان النّاس يتيهون في فيافي الشّكّ والرّيب، ويهيمون في بوادي الوهم والحيرة مستغربين: كيف أنّ نفسًا تأتي من جانب الله وتدّعي إظهار الغلبة على كلّ من على الأرض، وتنسب إلى نفسها أنّها علَّة خلق الموجودات كما قال (لَوْلاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأَفْلاكَ)، ومع ذلك تكون مبتلية بهذه الأمور الجزئيّة بتلك الكيفيّة، كما قد سمعت من قبيل ابتلاء كلّ نبيّ وأصحابه بالفقر والأمراض والذّلَّة، حيث كانوا يرسلون رؤوس أصحابهم إلى المدائن كهدايا. ويمنعونهم عن إظهار ما أُمروا به. وكلّ واحد منهم كان مبتلي تحت أيدي أعداء الدّين، بدرجة أنّهم صنعوا بهم كلّ ما أرادوا أن يصنعوه.

ومن المعلوم أنّ التّغييرات والتّبديلات الّتي تقع في كلّ ظهور هي عبارة عن ذاك الغمام المظلم الّذي يحول بين بصر عرفان العباد ومعرفتهم تلك الشّمس الإلهيّة الّتي أشرقت من مشرق الهويّة، وذلك لأنّ العباد باقون على تقليد آبائهم وأجدادهم هذه السّنين الطّويلة، ومتربّون على الآداب والطّرائق الّتي كانت مقرَّرة في الشّريعة القديمة. ثمَّ دفعة واحدة يسمعون أو يرون شخصًا مماثلاً لهم في جميع الحدودات البشريّة، يقوم من بينهم وينسخ تلك الحدودات الشّرعيّة الّتي تربوا عليها قرونًا متواترة، وكانوا يعدّون المخالف والمنكر لها، كافرًا وفاسقًا وفاجرًا. فلا بدَّ أنّ هذه الأمور تكون حجابًا وغمامًا للّذين لم تذق قلوبهم سلسبيل الانقطاع، ولم تشرب من كوثر المعرفة. ويحتجبون عن عرفان تلك الشّمس بمجرّد استماعهم لهذه الأمور. وبدون سؤال ولا جواب يحكمون بكفره، ويفتون بقتله. كما قد عرفت وسمعت ممّا وقع في القرون الأولى، وممّا هو واقع في هذا الزّمان أيضا ً ممّا شاهدته، إذًا ينبغي لنا أن نبذل الجهد حتّى أنّنا بفضل التأييدات الغيبيَّة لا نُحرَم بهذه الحجبات الظّلمانيّة، وغمام الامتحانات الربّانيّة، عن مشاهدة ذاك الجمال النّورانيّ، ونعرفه هو بنفسه لا بشيء آخر. وإذا ما أردنا حجّة، فنكتفي بحجّة واحدة وبرهان واحد حتّى نفوز بمنبع الفيض اللاّمتناهي، الّذي في ساحته تنعدم جميع الفيوضات الأخرى. لا أنّنا في كلّ يوم نعترض باعتراض من خيالنا، أو نتمسّك برأي على حسب أهواء أنفسنا.

سبحان الله، رغمًا من كلّ هذه الإنذارات الّتي أخبروا عنها من قبلُ، بتلويحات عجيبة، وإشارات غريبة، كي يطَّلع عليها كلّ الناس، ولا يحرمون أنفسهم في هذا اليوم عن بحر بحور الفيوضات، مع ذلك فقد وقع في الأمر ما وقع ممَّا هو مشهور، ونزلت بمضامينه الآيات الفرقانيّة كما قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾. وبعض علماء أهل الظاهر جعلوا هذه الآية من علامة القيامة الموهومة الّتي يتصورونها. والحال إنّ مضمونها موجود في أكثر الكتب السّماويّة، ومذكور في كلّ الأماكن الّتي فيها ذِكر علامات الظّهور الّذي يأتي بعده كما ذكرنا من قبل.

وكذلك قوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يريد بها أنّ ربَّ العزَّة قد جعل الأمورات المضادّة للأنفس الخبيثة، والمخالفة لأهواء النّاس محكًّا وميزانًا لامتحان عباده، وتمييزًا للسّعيد من الشّقي، والمعرض من المقبل، كما قد ذُكر. وقد عبّر بالدُّخان في هذه الآية المذكورة عن الاختلافات في الرّسوم العاديّة، وعن نسخها وهدمها وانعدام أعلامها المحدودة. فأيّ دخان أعظم من هذا الدّخان الّذي غشى كلّ النّاس، وأصبح عذابًا لهم، لا يستطيعون منه خلاصًا مهما حاولوا بل إنّهم في كلّ حين يعذّبون بعذاب جديد من نار أنفسهم.إذ أنّهم كلّما يسمعون بأنّ هذا الأمر البديع الإلهيّ، والحكم المنيع الصّمدانيّ قد أصبح ظاهرًا في أطراف الأرض. وهو كلّ يوم في علوٍّ وازدياد تشتعل في قلوبهم نار جديدة، وكلّما يلاحظون من قدرة أصحابه وانقطاعهم وثبوتهم الّذي يزداد كلّ يوم بفضل العناية الإلهيّة استحكامًا ورسوخًا يظهر على نفوس المعرضين اضطراب جديد. والحمد لله، قد بلغت السّطوة الإلهيّة في هذه الأيام شأنًا لا يجرؤون معه على الكلام. وإذا ما لقوا أحدًا من أصحاب الحقّ من الّذين لو كان لهم مائة ألف روح لأنفقوها في سبيل المحبوب بكلّ روح وريحان، يظهرون أمامه الإيمان من الخوف. وإذا ما خلوا لأنفسهم يشتغلون بالسَّبِّ واللّعن كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وعمّا قليل سوف ترى أعلام القدرة الإلهيّة مرتفعة في كلّ البلاد، وتشاهد آثار غلبته وسلطنته ظاهرة في جميع الدّيار.

وخلاصة الكلام أنّه لما لم يدرك أكثر العلماء هذه الآيات ولم يقفوا على المقصود من القيامة فسّروها بقيامة موهومة من حيث لا يشعرون. والله الأحد شهيد بأنّه لو كان لديهم شيء من البصيرة، لأدركوا من تلويح هاتين الآيتين جميع المطالب الّتي هي عين المقصود. ولوصلوا بعناية الرّحمن إلى صبح الإيقان المنير، كذلك تغنّ عليك حمامة البقاء على أفنان سدرة البهاء لعلَّ تكوننَّ في مناهج العلم والحكمة بإذن الله سالكًا.

وقوله ﴿يرسل ملائكته﴾ إلى آخر القول، فالمقصود بهؤلاء الملائكة هم أولئك النّفوس الّذين هم بقوّة روحانيّة حرقوا الصّفات البشريّة بنار محبّة الله، واتّصفوا بصفات أهل العليّين والكروبيّين كما يقول حضرة الصّادق في وصف الكروبيّين (إنّهم قوم من شيعتنا خلف العرش) ولو أنّ ذكر عبارة خلف العرش يقصد بها معان شتَّى، حسب الظّاهر وحسب الباطن أيضًا، إلّا أنّها في إحدى المقامات في المرتبة الأولى تدل على عدم وجود الشّيعة كما يقول في مقام آخر (المؤمن كالكبريت الأحمر) وبعدها يخاطب المستمع قائلاً له (هل رأيت الكبريت الأحمر) فالتفت إلى هذا التّلويح الّذي هو أبلغ من التّصريح وأدلّ على عدم وجود المؤمن، هذا قول حضرته، والآن أنظر كم من هؤلاء الخلق المجرّدين عن الإنصاف، والّذين لم يستنشقوا رائحة الإيمان كيف أنّهم ينسبون الكفر للّذين بقولهم يتحقّق الإيمان.

وبالاختصار لما أن صارت هذه الوجودات القدسيّة منزّهة ومقدّسة عن العوارض البشريَّة، ومتخلِّقة بأخلاق الرّوحانيّين، ومتَّصفة بأوصاف المقدَّسين، لهذا أطلق اسم الملائكة على هذه النّفوس المقدَّسة. هذا هو معنى تلك الكلمات الّتي قد اتَّضحت كلّ فقرة منها بالآيات الواضحة والدّلائل المتقنة، والبراهين اللّائحة.

ولما لم تصل أمم عيسى إلى هذه المعاني، ولم تظهر هذه العلامات بحسب الظّاهر كما أدركوها هم وعلمائهم، لهذا لم يُقبلوا إلى المظاهر القدسيّة من ذلك اليوم إلى الآن، وصاروا محرومين من جميع الفيوضات القدسيَّة، ومحجوبين عن بدائع الكلمات الصّمدانيّة. هذا شأن هؤلاء العباد في يوم الميعاد حيث عجزوا عن أن يدركوا بأنّه لو كانت أشراط الظّهور في أيّ عصر تظهر في عالم الظّاهر مطابقة لما ورد في الأخبار، فمن الّذي كان يستطيع الإنكار والإعراض، وكيف كان يفصل بين السّعيد والشّقيّ، والمجرم والتّقيّ، احكم بالإنصاف. مثلا ً لو تظهر بحسب الظّاهر هذه العبارات المسطورة في الإنجيل، وتنزل الملائكة مع عيسى ابن مريم من السّماء الظّاهرة على السّحاب، فمن ذا الّذي يقدر على التّكذيب أو يستطيع الإنكار ويستكبر عن الإيمان؟ بل إنّ الاضطراب يأخذ أهل الأرض قاطبة على الفور بدرجة لا يقدرون على التّكلّم والتّفوُّه بحرف واحد، فكيف يصل الحال إلى الرّدِّ أو القبول؟ ونظرا ً لعدم إدراكهم هذه المعاني فقد عارض جمع من علماء النّصارى محمّدًا قائلين له إذا كنت أنت النّبيّ الموعود، فلماذا ليس معك هؤلاء الملائكة المذكورون في كتبنا والّذين يجب أن يأتوا مع جمال الموعود ويكونوا عونًا له في أمره ونذيرًا للعباد؟ كما أخبر ربِّ العزّة عن لسانهم بقوله: ﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ إنّ أمثال هذه الاعتراضات كانت موجودة بين النّاس في كلّ الأزمان والأعصار. وكانوا في كلّ الأيّام مشتغلين بزخارف القول، بحجّة أنّ العلامة الفلانيّة لم تظهر، والبرهان الفلاني لم يتحقّق وما انتابتهم هذه الأمراض إلّا من تمسُّكهم بعلماء عصرهم في تصديق وتكذيب هذه الجواهر المجرَّدة، والهياكل الإلهيّة. ونظرًا لاستغراقهم في الشّؤونات النّفسيّة، واشتغالهم بالأمورات الدّنيّة الفانية، لهذا كانوا يرون في هذه الشّموس الباقية، أنّها مخالفة لعلمهم وإدراكهم، ومعارضة لجهدهم واجتهادهم. وكانوا يفسّرون معاني الكلمات الإلهيّة، ويبيِّنون أحاديث الحروفات الأحديّة وأخبارها، تفسيرًا لفظيًّا بحسب مداركهم القاصرة. لهذا حَرَموا أنفسهم وجميع النّاس من أمطار ربيع الفضل، وابتعدوا عن رحمة حضرة الأحديّة، مع أنّهم مقرّون ومذعنون بالحديث المشهور القائل (حديثُنا صعبٌ مستصعبٌ). وبالحديث الّذي يقول في موضع آخر (إنّ أمرَنا صعبٌ مستصعبٌ لا يحتمله إلّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أو نبيٌّ مُرسَلٌ أو عبدٌ امتحنَ اللهُ قلبَهُ للإيمانِ). ومن المسلَّم لديهم أنّه لم يصدق في حقِّهم أحد هذه الأحوال الثّلاثة. فالحالان الأوّلان أمرهما واضح، وأمّا في الحالة الثّالثة فإنّهم لم يسْلَموا أبدًا من الامتحانات الإلهيّة وعند ظهور المحكِّ الإلهيّ لم يظهر منهم شيء إلّا الغشّ.

سبحان الله مع إقرارهم بهذا الحديث فإنّ العلماء الّذين لا يزالون إلى الآن في ظنّ وشكّ في المسائل الشّرعيّة كيف يدّعون العلم في غوامض مسائل الأصـول الإلهيّة، وجواهر أسرار الكلمات القدسيّة، ويقولون بأنّ الحديث الفلاني الّذي هو من علائم ظهور القائم (المهدي) لم يظهر إلى الآن مع أنّهم لم يدركوا أبدًا رائحة معاني الأحاديث وغفلوا عن أنّ جميع العلامات قد ظهرت وصراط الأمر قد امتدّ، والمؤمنون كالبرق عليه يمرّون. وهم لظهور العلامة ينتظرون. قل يا ملأ الجهّال فانتظروا كما كان الّذين من قبلكم لمن المنتظرين.

وإذا ما سئلوا عن شرائط ظهور الأنبياء الّذين يأتون من بعد حسب ما هو المسطور في الكتب من قبل والّتي من جملتها علامات ظهور الشّمس المحمّديّة وإشراقها كما قد أشرنا إليه من قبل والّتي بحسب الظّاهر لم تظهر منها علامة واحدة. فمع هذا إذا سئلوا بأيّ دليل وبرهان تردّون النّصارى وأمثالهم وتحكمون عليهم بالكفر، فحين عجزهم عن الجواب يتمسّكون بقولهم إنّ هذه الكتب قد حرّفت وإنّها ليست من عند الله، وإنّها لم تكن من عنده أبدًا. والحال أنّ نفس عبارات الآية تشهد بأنّها من عند الله. ومضمون نفس هذه الآية أيضًا موجود في القرآن لو أنتم تعرفون: الحقّ أقول لكم أنّهم لم يدركوا في تلك المدّة ما هو المقصود من التّحريف.

أجل قد ورد في الآيات المنزلة، وكلمات المرايا الأحمديّة ذكر تحريف العالين وتبديل المستكبرين ولكنّ ذلك في مواضع مخصوصة: (ومن جملتها حكاية ابن صوريّا حينما سأل أهل خيبر من نقطة الفرقان محمّد عليه السلام عن حكم قصاص زنا المحصن والمحصنة فأجابهم حضرته "بأنّ حكم الله هو الرّجم" وهم أنكروا قائلين بأنّ مثل هذا الحكم غير موجود في التّوراة فسألهم حضرته "أيّ عالم من علمائكم تسلِّمون به وتصدقون كلامه؟" فاختاروا ابن صوريّا فأحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال له "أقسمك بالله الّذي فلَق لكم البَحْرَ، وأَنْزَلَ عليكم المَنَّ، وظلَّلَ لكم الغمامَ، ونجَّاكم من فرعون وملئه، وفضَّلَكم على النّاس بأن تذكر لنا ما حكم به موسى في قصاص الزّاني المُحْصَن والزّانية المُحْصَنَة" أي أنّ حضرته استحلف ابن صوريّا بهذه الإيمان المؤكّدة عمّا نُزِّل في التّوراة من حكم قصاص الزّاني المحصن فأجاب: أن يا محمّد إنّه الرّجم، فقال حضرته لماذا نسخ هذا الحكم من بين اليهود وتعطَّل حكمه. فأجاب بأنّه "لما حَرَقَ بختنصّر بيت المقدس وأعمل القتل في جميع اليهود لم يبقَ أحدٌ منهم في الأرض إلّا عدد يسير. فعلماء ذاك العصر بالنظر لقلَّة اليهود وكثرة العمالقة اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم بأنّهم لو عملوا وفق حكم التّوراة لقُتِل الّذين نجوا من يد بختنصّر بحكم التّوراة، ولهذه المصلحة رفعوا حكم القتل من بينهم بالمرّة") وفي هذه الأثناء نزل جبريل على قلبه المنير وعرض عليه هذه الآية ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ﴾ هذا موضع من المواضع الّتي أشير إليها، وفي هذا المقام ليس المقصود من التّحريف ما فهمه هؤلاء الهمج الرّعاع كما يقول بعضهم إنّ علماء اليهود والنّصارى محوا من الكتاب الآيات الّتي كانت في وصف الطّلعة المحمّديّة، وأثبتوا فيه ما يخالفها، وهذا القول لا أصل له ولا معنى أبدًا: فهل يمكن أنَّ أحدًا يكون معتقدًا بكتاب ويعتبره بأنّه من عند الله ثمَّ يمحوه؟ وفضلاً عن ذلك فإنّ التّوراة كانت موجودة في كلّ البلاد ولم تكن محصورة بمكّة والمدينة حتّى يستطيعوا أنّ يغيّروا أو يبدّلوا فيها. بل إنّ المقصود من التّحريف هو ما يشتغل به اليوم جميع علماء الفرقان ألا وهو تفسير الكتاب وتأويله بحسب ميولهم وأهوائهم: ولمّا كان اليهود في عصر حضرة الرّسول يفسِّرون آيات التّوراة الدّالّة على ظهور حضرته بحسب أهوائهم وما كانوا يرضون ببيان محمّد عليه السّلام لذا صدر في حقِّهم حكم التّحريف. كما هو مشهود اليوم عن أمَّة الفرقان كيف أنّها حرَّفت آيات الكتاب الدَّالة على علامات الظّهور، ويفسِّرونها بحسب ميولهم وأهوائهم كما هو معروف.

وفي موضع آخر يقول: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وهذه الآية دالّة أيضًا على تحريف معاني الكلام الإلهيّ لا على محو الكلمات الظّاهريّة كما هو مستفاد من الآية، وتدركه أيضًا العقول المستقيمة.

وفي موضع آخر يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ إلى آخر الآية. وهذه الآية قد نزلت في شأن علماء اليهود وأكابرهم حيث كانوا يكتبون ألواحًا عديدة في ردِّ حضرة الرّسول لأجل استرضاء خاطر الأغنياء، واستجلاب زخارف الدّنيا، وإظهار الغلّ والكفر. وكانوا يستدلُّون على ذلك بدلائل عديدة لا يجوز ذكرها، وينسبون إلى أدلَّتهم هذه أنّها مستفادة من أسفار التوراة كما يشاهد اليوم مثل ذلك: فكم من الرّدود على هذا الأمر البديع كتبها علماء العصر الجاهلون، وزعموا بأنّ مفترياتهم هذه مطابقةٌ لآيات الكتاب، وموافقة لكلمات أولي الألباب.

وقصارى القول إنّ المقصود من هذه الأذكار هو أنّه إذا كانوا يقولون بأنّ هذه العلائم المذكورة المشار إليها في الإنجيل قد حرِّفت، ويردّونها ويتمسّكون بآيات وأخبار، فاعرف بأنّه كذب محض، وافتراء صرف: نعم إنّ ذكر التّحريف بهذا المعنى الّذي أشير إليه موجود في مواضع معيّنة. ولقد ذكرنا بعضًا منها حتّى يكون معلومًا ومثبوتًا لكلّ ذي بصر بأنّ الإحاطة بالعلوم الظّاهرة أيضًا موجودة لدى بعض من الأمّيّين الإلهيّين كيلا يقع المعارضون في هذا الوهم ويتشبّثون بالمعارضة مدَّعين بأنّ الآية الفلانيّة دليل على التّحريف. وإنّ هؤلاء الأصحاب قد ذكروا هذه المراتب والمطالب فقط بسبب عدم اطّلاعهم: وعلاوة على ما ذكر فإنّ أكثر الآيات المشعرة بالتّحريف قد نزِّلت في حقّ اليهود لو أنتم في جزائر علم الفرقان تحبرون.

ولو أنّه قد سمع من بعض حمقى أهل الأرض أنّهم يقولون بأنّ الإنجيل السّماوي ليس في يد النّصارى بل قد رفع إلى السّماء غافلين عن أنّهم بهذا القول يثبتون نسبة الظّلم والاعتساف بأكمله لحضرة الباري جلَّ وعلا. لأنّه إذا كان بعد غياب شمس جمال عيسى عن وسط القوم وارتقائها إلى الفَلك الرّابع ورفع كتاب الله جلَّ ذكره أيضًا من بين خلقه الّذي هو أعظم حجّة بينهم فبأيّ شيء يتمسّك به أولئك العباد من زمن عيسى إلى زمن إشراق الشّمس المحمّديّة؟ وبأيّ أمر كانوا به مأمورين؟ وكيف يصيرون مورد انتقام المنتقم الحقيقيّ، ومحلَّ نزول عذاب وسياط السّلطان المعنويّ: وبصرف النّظر عمّا ذكر يترتَّب على ذلك انقطاع فيض الفيَّاض وانسداد باب رحمة سلطان الإيجاد، فَنَعُوذُ بِاللهِ عَمَّا يَظُنُّ العِبادُ في حَقِّه، فَتَعالی عَمَّا هُم يَعرفُونَ.

فيا عزيزي إنّه في هذا الصّبح الأزلي الّذي فيه أحاط العالم أنوار ﴿اللهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وارتفع سرادق العصمة والحفظ بقوله: ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ وفيه انبسطت وقامت يد القدرة بقوله: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ينبغي لنا أن نشدَّ أزر الهمَّة لعلَّ نصلُ بعناية من الله وكرم منه إلى المدينة القدسيّة ﴿إِنَّا للهِ﴾ ونستقرّ في مواقع عزّ ﴿إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ويجب عليك إن شاء الله أن تنزِّه عيني فؤادك عن الشّؤون الدّنيويّة حتّى تدرك ما لا نهاية له من مراتب العرفان، وترى الحقّ أظهر من أن يحتاج في إثبات وجوده إلى دليل أو يتطلّب التّمسُّك بحجّة في معرفته.

أيّها السّائل المحبّ، لو أنّك تكون طائرًا في هواء الرّوح الرّوحانيّ لترى الحقّ ظاهرًا فوق كلّ شيء بدرجة لا ترى في الوجود شيئًا غيره (كَانَ اللهُ وَلَم يَكُنْ مَعَهُ مِنْ شَيءٍ) وهذا المقام مقدَّس عن أن يستدلّ عليه بدليل أو يحتاج إلى برهان. ولو تكون سائرًا في فضاء قدس الحقيقة لتجد كلّ الأشياء معروفة بعرفانه وهو ما زال ولا يزال معروفًا بنفسه. ولو تكون ساكنًا في أرض الدّليل فاكف نفسك بما قاله بنفسه ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ هذه هي الحجّة الّتي قرّرها بنفسه ولم يكن أعظم منها حجّة ولن يكون (دَلِيْلُهُ آيَاتُهُ وَوُجُودُهُ إِثْبَاتُهُ).

إنّني في هذا الوقت أُذَكِّر أهل البيان وأطلب من عرفائهم وحكمائهم وعلمائهم وشهدائهم بأن لا ينسوا الوصايا الإلهيّة الّتي أنزلها في الكتاب ويكون دائمًا ناظرين إلى أصل الأمر كيلا يتمسّكوا ببعض عبارات الكتاب حين ظهور ذلك الجوهر الّذي هو جوهر الجواهر وحقيقة الحقائق ونور الأنوار. وأن لا يرد عليه منهم ما ورد في كور الفرقان لأنّ ذاك السّلطان -سلطان الهويّة- قادر على أن يقبض الرّوح من كلّ البيان، وخلقه بحرف واحد من بدائع كلماته. أو يهب عليهم الحياة البديعة القدميَّة بحرف واحد منه ويحشرهم ويبعثهم من قبور النّفس والهوى: وأنت فالتفت وارتقب وأيقن في ذاتك بأنَّ الكلَّ سوف ينتهي أمرهم إلى الإيمان به وإدراك أيَّامه ولقائه ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾. اسمعوا يا أهل البيان ما وصَّيناكم بالحقّ لعلَّ تسكننَّ في ظلِّ كان في أيام الله ممدودًا.

"البَابُ المذكُورُ في بَيانِ أَنَّ شمسَ الحقيقةِ وَمَظْهَرَ نَفْسِ اللهِ ليكونَنَّ سُلطانًا على مَن في السّموات والأرض وَإِنْ لن يُطِيعَهُ أَحَدٌ من أهل الأرض، وَغَنِيًّا

عن كُلِّ مَن في الملك وَإِنْ لم يكن عنده دينار – كذلك نُظْهِرُ

لك من أسرار الأمر، وَنُلْقِي عليك من جواهرِ الحكمةِ

لتطيرَنَّ بجناحيّ الانقطاع في الهواء

الّذي كان عن الأبصار

مستورًا".

إنّ لطائف هذا الباب وجواهره توضِّح وتثبت لدى أصحاب النّفوس الزّكيّة والمرايا القدسيّة، أنَّ شموس الحقيقة ومرايا الأحديَّة الّتي تظهر في كلِّ عصرٍ وزمان من خيام غيب الهويّة إلى عالم الشّهادة لتربية الممكنات، وإبلاغ الفيض إلى كلّ الموجودات – هذه الشّموس تظهر بسلطنة قاهرة، وسطوة غالبة، لأنّ هذه الجواهر المخزونة والكنوز الغيبيّة المكنونة هم محل ظهور يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ.

ومن الواضح لدى أولي العلم والأفئدة المنيرة، أنَّ غيب الهويَّة وذات الأحديَّة كان مقدَّسًا عن البروز والظّهور، والصّعود والنّزول والدّخول والخروج، ومتعاليًا عن وصف كلّ واصف وإدراك كلِّ مدرك، لم يزل كان غنيًّا في ذاته، ولا يزال يكون مستورًا عن الأبصار والأنظار بكينونته ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ لأنَّه لا يمكن أن يكون بينه وبين الممكنات بأيِّ وجه من الوجوه نسبة وربط وفصل ووصل أو قرب وبعد وجهة وإشارة. لأنَّ جميع من في السّموات والأرض قد وُجِدوا بكلمة أمره، وبُعِثوا من العدم البحت والفناء الصّرف إلى عرصة الشّهود والحياة بإرادته الّتي هي نفس المشيئة.

سبحان الله! إنَّه ما كان ولن يكون بين الممكنات وبين كلمته أيضًا نسبة ولا ربط: والبرهان الواضح على هذا المطلب قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ والدّليل اللّائح عليه (وَكَانَ اللهُ وَلَم يَكُنْ مَعَهُ مِنْ شَيءٍ). إذ أنَّ جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والعرفاء والحكماء قد أقرّوا بعدم بلوغ معرفة ذلك الجوهر الّذي هو جوهر الجواهر. وأذعنوا بالعجز عن العرفان والوصول إلى تلك الحقيقة الّتي هي حقيقة الحقائق.

ولما أن كانت أبواب عرفان ذات الأزل مسدودةً على وجه الممكنات لهذا باقتضاء رحمته الواسعة في قوله (سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شيءٍ) و (وَسَعَتْ رَحْمَتِي كُلَّ شَيءٍ) قد أظهر بين الخلق جواهر قدس نورانيّة، من عوالم الرّوح الرّوحانيّ على هياكل العزِّ الإنسانيّ، كي تحكي عن ذات الأزليَّة وساذج القدميّة – وهذه المرايا القدسيّة ومطالع الهويّة تحكي بتمامها عن شمس الوجود وجوهر المقصود. فمثلاً علمهم من علمه، وقدرتهم من قدرته، وسلطنتهم من سلطنته، وجمالهم من جماله، وظهورهم من ظهوره، وهم مخازن العلوم الربّانيّة، ومواقع الحكمة الصّمدانيّة، ومظاهر الفيض اللّامتناهي، ومطالع الشّمس السّرمديّة كما قال (لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم إِلَّا بِأَنَّهُم عِبَادُكَ وَخَلْقُكَ) وهذا مقام (أَنَا هُوَ وَهُوَ أَنَا) حسب المذكور في الحديث. والأحاديث والأخبار الدّالة على هذا المطلب عديدة لم يتعرَّض هذا العبد إلى ذكرها حبًّا للاختصار. بل إنّ كلَّ ما في السّموات والأرض مواقع لبروز الصِّفات والأسماء الإلهيّة، كما هو ظاهر في كلِّ ذرَّة آثار تجلِّي تلك الشّمس الحقيقيّة، بل إنَّه من غير ظهور هذا التّجلِّي في عالم الملك لا يكون لأيّ شيء شرف الفخر بخلعة الحياة أو شرف الوجود. فكم في الذّرّة مستور من شموس المعارف، وكم في القطرة مخزون من بحور الحكمة، ولا سيّما الإنسان الّذي اختصّ من بين الموجودات بهذه الخلع، وامتاز بهذا الشّرف. لأنَّ جميع الأسماء والصِّفات الإلهيّة تظهر من المظاهر الإنسانيّة بنحوٍ أكمل وأشرف. وكلّ هذه الأسماء والصِّفات راجعة إليه حيث قال: (الإنسانُ سِرّي وأنا سِرّه) والآيات المتواترة المشعرة والدّالّة على هذا المطلب الرّقيق اللّطيف مسطورة في جميع الكتب السّماويّة، ومذكورة في الصّحف الإلهيّة، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم﴾ وفي مقام آخر ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ وفي مقام آخر يقول أيضًا: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ وكما يقول سلطان البقاء روح من في سرادق العماء فداه (مَن عرفَ نفسَهُ فقد عرفَ ربَّه) قسمًا بالله يا حبيبي الجليل لو تفكّر قليلاً في هذه العبارات لتجدن أبواب الحكمة الإلهيّة ومصاريع العلم غير المتناهي مفتوحة أمام وجهك.

والخلاصة أنَّه صار معلومًا من هذه البيانات أنَّ جميع الأشياء حاكية عن الأسماء والصّفات الإلهيّة، وعلى كلّ قدر استعداده مدلّ ومشعر بالمعرفة الإلهيّة على شأن أحاطت ظهوراته الصّفاتيّة والأسمائيّة كلّ الغيب والشّهود – ولهذا يقول: (أيكون لغيرك من الظّهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك عميت عين لا تراك) وكما يقول أيضًا سلطان البقاء: (ما رأيت شيئًا إلّا وقد رأيت الله فيه أو قبله أو بعده). وفي رواية كُمَيل (نور أشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التّوحيد آثاره) والإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات وأكملها لأشدّ دلالة وأعظم حكاية من سائر المعلومات، وأكمل إنسان وأفضله وألطفه هم مظاهر شمس الحقيقة. بل إنَّ ما سواهم موجودون بإرادتهم ومتحرّكون بإفاضتهم. لولاك لما خلقتُ الأفلاك. بل الكلّ في ساحة قدسهم عدمٌ صرف وفناءٌ بحت. بل إنَّ ذكرهم منزّه عن ذكر غيرهم، ووصفهم مقدّس عن وصف ما سواهم. وهؤلاء الهياكل القدسيّة هم المرايا الأوّليّة الأزليّة الّتي تحكي عن غيب الغيوب وعن كلّ أسمائه وصفاته من علم وقدرة وسلطنة وعظمة ورحمة وحكمة وعزّة وجود وكرم. فكلّ تلك الصّفات ظاهرة ساطعة من ظهور هذه الجواهر الأحديّة. إنَّ هذه الصّفات ليست مختصّة ببعض دون بعض ولم تكن كذلك فيما مضى بل إنَّ جميع الأنبياء المقرّبين والأصفياء المقدّسين موصوفون بهذه الصّفات وموسومون بتلك الأسماء. نهاية الأمر أنَّ بعضهم يظهر في بعض المراتب أشدّ ظهورًا، وأعظم نورًا كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾. إذًا صار من المعلوم والمحقّق أنَّ محلّ ظهور جميع هذه الصّفات العالية وبروز الأسماء غير المتناهية هم أنبياء الله وأولياؤه. سواء أتظهر بحسب الظّاهر بعض هذه الصّفات في تلك الهياكل النّورانيّة أو لا تظهر: وليس معنى ذلك أنَّه إذا لم تظهر من تلك الأرواح المجرّدة صفة بحسب الظّاهر يكون نصيبها نفي تلك الصّفة عن أولئك المظاهر للصّفات الإلهيّة ومعادن أسماء الرّبوبيّة. لهذا يجري على كلّ هؤلاء الوجودات المنيرة والطّلعات البديعة حكم جميع صفات الله من السّلطنة والعظمة وأمثالها حتّى وإن لم يظهروا بحسب الظّاهر بسلطنة ظاهرة أو غيرها. وهذه الفقرة ثابتة ومحقّقة لكلّ ذي بصر فلا تحتاج إلى دليل آخر.

أجل إنَّ هؤلاء العباد لما لم يأخذوا تفاسير الكلمات القدسيّة من العيون الصّافية المنيرة عيون العلوم الإلهيّة، فهم لهذا سائرون في وادي الظّنون والغفلة، وقد أنهكهم الظّمأ، وأدركهم الإعياء معرضون عن البحر العذب الفرات، وطائفون حول الملح الأجاج كما قال ورقاء الهويّة في وصفهم، ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي أنَّه إنَّ يروا سبيل الصّلاح والفلاح لا يتّخذوه سبيلاً ولا يقبلوا عليه. وأمّا إن يروا طريق الباطل والطّغيان والضّلالة فهذا يعدّونه بزعمهم طريق الوصول إلى الحقّ. ولم يظهر منهم هذا الإقبال إلى الباطل والإعراض عن الحقّ يعني أنّهم لم يبتلوا بالضّلالة والغيّ إلّا جزاءً بما كانوا يكذّبون بآياتنا، وكانوا عن نزولها وظهورها غافلين. كما شوهد في هذا الظّهور البديع المنيع من مئات الآلاف من الآيات الإلهيّة الّتي نزّلت من سماء القدرة والرّحمة – ومع ذلك قد أعرض عنها كلّ الخلق وتمسّكوا بأقوال العباد الّذين ما أدركوا حرفًا منها – فلهذا السّبب اشتبهوا في أمثال هذه المسائل الواضحة وحرموا أنفسهم عن رضوان علم الأحديّة ورياض الحكمة الصّمديّة.

ولنرجع أخيرًا إلى المبحث الخاصّ بالسّؤال عن سلطنة القائم من حيث كونها قد وردت في الأحاديث المأثورة عن الأنجم المضيئة. ومع ذلك لم يظهر أثر من تلك السّلطنة بل قد تحقّق خلافه. إذ أنَّ أصحابه وأولياءه كانوا ولا زالوا محصورين ومبتلين تحت أيدي النّاس، وظاهرين في عالم الملك بمنتهى الذّلّ والعجز. نعم إنّ السّلطنة المذكورة في الكتب في حقّ القائم لهي حقّ ولا ريب فيها، ولكنّها ليست بتلك السّلطنة والحكومة الّتي تدركها كلّ نفس، فضلاً عن أنّ جميع الأنبياء السّابقين الّذين بشّروا النّاس بالظّهور الّذي يأتي بعدهم، قد ذكر كلّ أولئك المظاهر السّابقين سلطنة الظّهور التّالي كما هو مسطور في كتب القبل، وإنّها لم تتخصّص بالقائم وحده بل إنّ حكم السّلطنة وجميع الصّفات والأسماء متحقّق وثابت في حقّ كلّ أولئك المظاهر من السّابقين واللّاحقين، لأنّهم مظاهر الصّفات الغيبيّة، ومطالع الأسرار الإلهيّة كما سبقت الإشارة إليه.

وفضلاً عن ذلك فإنّ المقصود من السّلطنة هو إحاطة حضرته وقدرته على كلّ الممكنات – سواء أيظهر في عالم الظّاهر بالاستيلاء الظّاهريّ أو لا يظهر به – وهذا أمر منوط بإرادة حضرته ومشيئته، وليكن في علم جنابك أنّ المقصود من السّلطنة والغنى، والحياة والموت، والحشر والنّشر، المذكور في الصّحف الأولى ليس هو ما يدركه الآن هؤلاء القوم ويفهمونه. بل إنَّ المراد من السّلطنة هي السّلطنة الّتي تظهر في أيّام ظهور كلّ واحد من شموس الحقيقة من نفس المظهر لنفسه، وهي الإحاطة الباطنيّة الّتي بها يحيطون بكلّ من في السّموات والأرض. ثمَّ تظهر بعدئذ في عالم الظّاهر بحسب استعداد الكون والزّمان والخلق. فمثلاً سلطنة حضرة الرّسول هي الآن ظاهرة واضحة بين النّاس، ولكن في أوّل أمر حضرته كانت كما سمعت وعرفت. بحيث ورد على ذلك الجوهر جوهر الفطرة وساذج الهويّة ما ورد من أهل الكفر والضّلال، الّذين هم علماء ذلك العصر وأتباعهم. فكم كانوا يلقون من الأقذار والأشواك في محلّ عبور حضرته: ومن المعلوم أنَّ أولئك الأشخاص كانوا يعتقدون بظنونهم الخبيثة الشّيطانيّة، أنَّ أذيتهم لذلك الهيكل الأزليّ، تكون سببًا لفوزهم وفلاحهم لأنّ جميع علماء العصر، مثل عبد الله بن أُبَيّ، وأبو عامر الرّاهب، وكعب بن أشرف، ونضر بن الحارث جميعهم قاموا على تكذيب حضرته ونسبوا إليه الجنون والافتراء، ورموه بمفتريات. نعوذ بالله من أن يجري به المداد، أو يتحرّك عليه القلم أو تحمله الألواح. نعم إنّ هذه المفتريات الّتي نسبوها إلى حضرته كانت سببًا في إيذاء النّاس له. ومن المعلوم والواضح أنّه إذا كان علماء العصر يُكفّرون شخصًا ويحكمون بردّته ويطردونه من بينهم ولا يعتبرونه من أهل الإيمان فكم يرد على هذه النّفس من البلايا كما قد ورد على هذا العبد ممّا كان مشهودًا للجميع.

لهذا قال حضرة الرّسول: (ما أوذِي نبيٌّ بمثل ما أوذيت) فهذه المفتريات الّتي ألصقوها بحضرته، وذلك الإيذاء الّذي حلّ به منهم، كلّ ذلك مذكور في الفرقان. فارجعوا إليه لعلّكم بمواقع الأمر تطّلعون. واشتدّت عليه الأمور من كلّ الجهات بدرجة أنّه ما كان يعاشره أحد، ولا يعاشرون أصحابه مدّة من الزّمان. و كلّ من كان يتشرّف بحضرته ويتّصل به كانوا يؤذونه غاية الأذى.

إنّا نذكر في هذا المقام آية من الكتاب بحيث لو نظرت إليها بعين البصيرة لَنُحتَ وندبت على مظلوميّة حضرته ما دمت حيًّا – وهذه الآية قد نزلت في وقت كان حضرته في شدّة الضّيق والكدر من شدّة البلايا وإعراض النّاس عنه. فنزل عليه جبريل من سدرة منتهى القرب، وتلا عليه هذه الآية ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء﴾ أي يقول له إنّه إن كان قد كبر عليك إعراض المعرضين واشتدّ عليك إدبار المنافقين وإيذاؤهم، فإن استطعت وقدرتَ فاطلب نفقًا تحت الأرض أو سلّمًا في السّماء. ويفهم من التّلويح في هذا البيان أنّه لا مفرّ لك من ذلك ولا قدرة لك عليه، إلّا إذا كنت تختفي تحت الأرض أو ترقى إلى السّماء.

والآن انظر وتأمّل كم من السّلاطين يخضعون لاسم حضرته ويعظّمونه، وكم من البلاد وأهلها يستظلّون في ظلّه ويفتخرون بالانتساب إليه، كما أنّهم يذكرون على المنابر والمآذن هذا الاسم المبارك بكمال التّعظيم والتّكريم – وكذا السّلاطين الّذين لم يدخلوا في ظلّ حضرته، ولم يخلعوا عن أنفسهم قميص الكفر، هم أيضًا مقرّون ومعترفون بالعظمة والجلال لهذه الشّمس – شمس العناية – فهذه هي السّلطنة الظّاهرة الّتي تشاهدها. وهي لا بدّ من ظهورها وثبوتها لجميع الأنبياء، إمّا في الحياة أو بعد عروجهم إلى الموطن الحقيقيّ كما هو مشهود اليوم. ولكن تلك السّلطنة المقصودة لم تزل ولا تزال طائفة حولهم، ودائمًا معهم، وما انفكّت عنهم آنًا من الزّمان. وهي السّلطنة الباطنيّة الّتي أحاطت كلّ من في السّموات والأرض.

ومن جملة ذلك السّلطنة الّتي ظهرت عن شمس الأحديّة محمّد عليه الصّلاة والسّلام. أما سمعت كيف أنّه بآية واحدة قد فصل بين النّور والظّلمة، والسّعيد والشّقي، والمؤمن والكافر، وظهرت جميع الإشارات والدّلالات الخاصّة بالقيامة الّتي سمعت عنها، من حشر ونشر، وحساب وكتاب وغيره. كلّ ذلك قد ظهر وتحقّق في عالم الشّهود بتنزيل تلك الآية الواحدة – وهكذا كانت تلك الآية المنزلة رحمة للأبرار، أي للنّفوس الّذين قالوا حين الاستماع: (ربّنا سمعنا وأطعنا). ونقمة للفجّار أي للّذين قالوا بعد الاستماع: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾. وكانت سيف الله الفاصل بين المؤمن والكافر، وبين الأب والابن. كما شاهدت كيف أنَّ أولئك الّذين أقرّوا بالإيمان والّذين أنكروا، قد قاموا ضدّ بعضهم بعضًا لإبادة الأنفس وإتلاف الأموال. فكم من أب قد أعرض عن أبنائه، وكم من عشّاق ابتعدوا عن معشوقيهم، واحترزوا منهم. وكم كان هذا السّيف البديع حادًّا وقاطعًا بحيث قطع من بينهم كلّ نسبة وصلة. كما تلاحظ أيضًا أنّه من جهة أخرى قد وصل وألّف بينهم، إذ قد شوهد أنَّ جمعًا من النّاس كان شيطان النّفس والهوى قد بذر فيما بينهم في سنين عديدة بذور العداوة والبغضاء، وبسبب الإيمان بهذا الأمر البديع المنيع صاروا متّحدين ومتّفقين بدرجة كأنّهم أتوا من صلب واحد. كذلك يؤلّف الله بين قلوب الّذين هم انقطعوا إليه وآمنوا بآياته وكانوا من كوثر الفضل بأيادي العزّ من الشّاربين. وعلاوة على ذلك، كم من أناس مختلفين في العقائد، ومتباينين في المذاهب، ومتفاوتين في المزاج، قد لبسوا قميص التّوحيد الجديد من هذا النّسيم – نسيم الرّضوان الإلهيّ وربيع القدس المعنويّ. وشربوا من كأس التّفريد.

هذا هو معنى الحديث المشهور القائل بأنّ (الذّئب والغنم يأكلان ويشربان من محلّ واحد). والآن انظر إلى عدم عرفان هؤلاء الجهلاء، كيف أنّهم لا زالوا ينتظرون مثل الأمم السّابقة متى تجتمع هذه الحيوانات على خوان واحد – هذه درجة عرفان أولئك النّاس، كأنّهم ما شربوا من كأس الإنصاف أبدًا وما مشوا في سبيل العدل خطوة. وبصرف النّظر عن ذلك، فأيّ حسنٍ يحدثه وقوع هذا الأمر في العالم. فنِعْمَ ما نُزِّل في شأنهم ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾.

وانظر أيضًا كيف أنَّه بتنزيل تلك الآية الواحدة من سماء المشيئة قد فصّل في حساب الخلائق، بحيث أنَّ كلّ من أقبل وأقرّ زادت حسناته على سيّئاته وعفي عنه وغفرت له جميع الخطايا. كذلك يصدق في شأنه بأنَّه سريع الحساب. وكذلك يبدّل الله السّيّئات بالحسنات، لو أنتم في آفاق العلم وأنفس الحكمة تتفرّسون – وكذلك كلّ من أخذ نصيبه من كأس الحبّ فقد فاز بالحياة الإيمانيّة الباقية الأبديّة من بحر الفيوضات السّرمديّة، وغمام الرّحمة الأبديّة. وكلّ من لم يفز بهذه الكأس ابتلي بالموت الدّائميّ. والمقصود من الموت والحياة المذكورين في الكتب هو الموت الإيمانيّ والحياة الإيمانيّة. وبسبب عدم إدراك هذا المعنى اعترضت عامّة النّاس في كلّ ظهور، ولم يهتدوا إلى شمس الهداية، ولم يقتدوا بالجمال الأزليّ.

ولما أضاء السّراج المحمّديّ في المشكاة الأحمديّة، أطلق على النّاس حكم البعث والحشر والحياة والموت. وبذا ارتفعت أعلام المخالفة، وانفتحت أبواب الاستهزاء، كما أخبر الرّوح الأمين عن لسان المشركين بقوله: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الّذينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وفي مقام آخر ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾. ولهذا قال في مقام آخر قهرًا لهم: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ومضمونه هل كنّا عاجزين عن الخلق الأوّل، بل إنَّ هؤلاء المشركين في شكّ وشبهة من خلق جديد.

إنّ علماء التّفسير وأهلَ الظّاهر لمّا لم يدركوا معاني الكلمات الإلهيّة، واحتجبوا عن المقصود الأصليّ، لهذا استدلّوا بقاعدة النّحو على أنَّ كلمة "إذا" الّتي تدخل على الماضي تفيد معنى المستقبل. وبعدها تحيّروا في تفسير الكلمات الّتي لم تنزل فيها كلمة "إذا" مثل قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ الّذي معناه الظّاهر بأنَّه نفخ في الصّور فعلاً، وإنّه ليوم الوعيد، الّذي كان بحسب نظرهم بعيدًا جدًا. وجاءت كلّ نفس لأجل الحساب ومعها سائق وشهيد. وفي مثل هذه المواقع إمّا قدَّروا كلمة "إذا" أو استدلّوا عليها، بأنَّه لما كانت القيامة محقّقة الوقوع، لهذا أتى به بلفظ الفعل الماضي كأنَّه شيء مضى: فانظروا إلى قلّة إدراكهم وعدم تمييزهم. إذ إنَّهم لم يدركوا النّفخة المحمّديّة الّتي عبّر عنها بهذه الصّراحة، ويحرمون أنفسهم عن فيض هذه النّقرة الإلهيّة، وينتظرون صور إسرافيل، الّذي هو واحد من عباده. مع أنَّ وجود إسرافيل وأمثاله قد تحقّق ببيان حضرته: قل أتستبدلون الّذي هو خير لكم فبئس ما استبدلتم بغير حقّ وكنتم قوم سوء أخسرين. بل المقصود من الصّور هو الصّور المحمّدي الّذي نفخ على كلّ الممكنات. والمقصود من القيامة قيام حضرته على الأمر الإلهيّ. وإنَّه قد خلع على الغافلين الّذين كانوا أمواتًا في قبور أجسادهم خلع الإيمان الجديدة، وأحياهم بحياة جديدة بديعة – لهذا لمّا أراد جمال الأحديّة إظهار رمزٍ من أسرار البعث والحشر والجنّة والنّار والقيامة، أوحى إليه جبريل بهذه الآية ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾. ومعناه إنَّ أولئك الضّالين التّائهين في وادي الضّلالة، سوف يهزّون رؤوسهم على سبيل الاستهزاء، ويقولون: في أيّ زمان ستظهر هذه الأمور؟ فقل لهم في الجواب عسى أن يكون ذلك قريبًا: إنَّ التّلويح في هذه الآية الواحدة ليكفي النّاس لو كانوا بالنّظر الدّقيق ينظرون.

سبحان الله، ما أبعد هؤلاء القوم عن سبيل الحقّ، إذ إنَّ القيامة كانت قائمة بقيام حضرته، وعلاماته وأنواره كانت محيطة بكلّ الأرض، مع ذلك كانوا يسخرون. وكانوا عاكفين على التّماثيل الّتي أقامها علماء العصر بأفكارهم الباطلة العاطلة. وكانوا غافلين عن شمس العناية الرّبّانيّة، وأمطار الرّحمة السّبحانيّة. بلى إنَّ الجُعل لمحروم عن روائح القدس الأزليّة، والخفّاش ليهرب من مواجهة أنوار الشّمس المضيئة.

إنّ هذا المطلب وتلك الأحوال كانت في كلّ الأعصار في أيام ظهور مظاهر الحقّ. كما قال عيسى عليه السّلام ﴿لا بدّ لكم بأن تولدوا مرّة أُخرى﴾. وكما قال في مقام آخر: ﴿من لم يولد من الماء والرّوح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح﴾ أي أنَّ النّفس الّتي لم تحيَ من ماء المعرفة الإلهيّة وروح القدس العيسويّ، فإنّها غير لائقة للدّخول والورود في الملكوت الرّبّانيّ. لأنَّ الّذي ظهر من الجسد وتولّد منه فهو جسد، والمولود من الرّوح الّتي هي نفس عيسى فهو روح. وخلاصة المعنى هو أنَّ العباد الّذين ولدوا من روح المظاهر القدسيّة، وحَيُوا من نفحتهم في أيّ ظهور يصدق عليهم حكم الحياة والبعث والورود في جنّة المحبّة الإلهيّة. وما عداهم من العباد يصدق عليهم حكم آخر، هو الموت والغفلة، والورود في نار الكفر والغضب الإلهيّ. ولقد أطلق في الكتب والألواح والصّحائف حكم الموت والنّار، وعدم البصر والقلب والسّمع على الّذين لم يشربوا من كؤوس المعارف اللّطيفة ولم تفز قلوبهم بفيض روح القدس إبّان ظهوره في كلّ عصر كما أشير إليه من قبل ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾.

وفي مقام آخر في الإنجيل مسطور بأنَّه في ذات يوم توفّي والد أحد أصحاب عيسى. فعرض الأمر على حضرته وطلب منه إجازة ليذهب ليكفّنه ويدفنه ثمَّ يرجع. فأجابه جوهر الانقطاع ﴿دع الموتى يدفنون موتاهم﴾.

وكذلك قد حضر لدى حضرة الإمام عليّ - كرم الله وجهه - نفران من أهل الكوفة، أحدهما له بيت يريد بيعه، والآخر كان مشتريًا له، وكان قد قرّ قرارهما على أن تقع المبايعة باطّلاع حضرته، وتحرّر وثيقة المبايعة أمامه. فخاطب مظهر الأمر الإلهيّ الكاتب وقال له أن اكتب (قد اشترى ميت عن ميت بيتًا محدودًا بحدود أربعة، حدّ إلى القبر وحدّ إلى اللّحد وحدّ إلى الصّراط وحد إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار). فالآن لو كان هذان النّفران قد حُييت روحهما من نفخة صور عليّ ولو كانا قد بعثا من قبر الغفلة بمحبّة حضرته لما أطلق عليهما البتّة حكم الموت.

لم يكن مقصود الأنبياء والأولياء في أيّ عهد وعصر من ذكر الحياة والبعث والحشر إلّا الحياة والبعث والحشر الحقيقيّ. فإذا ما تأمّل الإنسان قليلاً في هذا البيان الّذي قاله عليّ لانكشفت له جميع الأمور، وعرف ما هو المقصود من اللّحد والقبر، والصّراط والجنّة والنّار. ولكن ما الحيلة وجميع النّاس محجوبون في لحد النّفس ، ومدفونون في قبر الهوى. والخلاصة أنَّك لو رزقت قليلاً من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد، لأنَّ في حياة الجسد يشترك جميع النّاس والحيوانات. أمّا هذه الحياة فهي مختصّة بأصحاب الأفئدة المنيرة، الّذين شربوا من بحر الإيمان، ورزقوا من ثمرة الإيقان. وهذه الحياة لا يعقبها موت، وهذا البقاء لا يلحقه فناء، كما قال (المؤمن حيٌّ في الدّارين). أمّا إذا كان المقصود بتلك الحياة، هي الحياة الجسديّة الظّاهرة المشهودة، فإنّ هذه يعقبها الموت.

وكذلك البيانات الأخرى المذكورة في الكتب والمثبوتة فيها تدلّ على هذا المطلب العالي وتلك الكلمة المتعالية. وكذلك الآية المباركة الّتي نزّلت في حقّ حمزة سيّد الشّهداء، وفي حقّ أبي جهل إنّها لبرهان واضح على ذلك، وحجّة لائحة حيث تقول ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وهذه الآية قد نزّلت من سماء المشيئة عندما ارتدى حمزة رداء الإيمان المقدّس وكان أبو جهل ثابتًا على الكفر وراسخًا في الإعراض. فصدر من مصدر الألوهيّة الكبرى ومكمن الرّبوبيّة العظمى حكم الحياة بعد الموت في حقّ حمزة، وعلى نقيض ذلك في حقّ أبي جهل، ممّا أشعل نائرة الكفر في قلوب المشركين، وحرّك فيهم هوى الإعراض. وعلى هذا صرخوا وصاحوا قائلين: في أيّ زمان مات حمزة ومتى قام من الموت؟ وفي أيّ وقت جاءته هذه الحياة؟ ولمّا لم يدركوا هذه البيانات الشّريفة، ولم يسألوا أيضًا أهل الذّكر حتّى يبذلوا لهم رشحًا من كوثر المعاني، لهذا شاع في العالم أمثالُ هذا النّوع من الفساد.

إنّك لترى اليوم أنَّه مع وجود شمس المعاني فإنّ جميع النّاس من الأعالي والأداني متمسّكون بالجُعل الظّلمانيّة والمظاهر الشّيطانيّة، وعلى الدّوام يستفسرون منهم عن مشكلات مسائلهم. وهؤلاء نظرًا لعدم عرفانهم يجيبون بجواب لا يترتّب منه ضرر على أسباب معاشهم، ولا على مكانتهم بين النّاس. ومن الواضح المعلوم أنَّ الجُعل نفسه ما فاز بنصيب من نسيم مسك البقاء، وما دخل في رضوان الرّياحين المعنويّة، فكيف مع هذا يمكنه أن يعطّر مشامّ الآخرين؟ ولم يزل كان هذا شأن هؤلاء العباد ولا يزال يكون كذلك. ولن يفوز بآثار الله إلّا الّذين هم أقبلوا إليه وأعرضوا عن مظاهر الشّيطان. وكذلك أثبتَ الله حكم اليوم من قلم العزّة على لوح كان خلف سرادق العزّ مكنونًا. ولو التفتَّ إلى هذه البيانات وتفكَّرْتَ في ظاهرها وباطنها لعَرفتَ جميعَ المسائل المعضلة الّتي هي اليوم سدّ بين العباد وبين معرفتهم يوم التّناد. وما احتجت بعد ذلك إلى سؤال ولا إلى جواب. ونرجو إن شاء الله ألّا ترجعَ من شاطئ البحر الإلهيّ ظمآنًا محرومًا، وألاّ تؤوب من حرم المقصود الأزليّ بدون قسمة ولا نصيب. وهذا متوقفٌ على همّتكم ومسعاكم.

وخلاصة المقال أنَّ المقصود من هذه البيانات الواضحة هو لإثبات سلطنة سلطان السّلاطين. فأنصفوا الآن أيُّ السّلطنتين أكبرُ وأعظم، أتلك السّلطنة الّتي بحرف واحد وبيان واحد، صار لها كلّ هذا التّصرف والغلبة والهيمنة، أم سلطنة أولئك السّلاطين الّذين بحسب الظّاهر يخضع النّاس لهم أيّامًا معدودات بفضل إعانة الرّعايا ومعاونة الفقراء لهم؟ بينما هم في الحقيقة معرِضون ومدبرون عنهم بالقلوب. وهذه السّلطنة قد سخّرت العالم بحرف واحد ومنحته الحياة وأفاضت عليه الوجود – ما للتّراب وربّ الأرباب! بل كيف يمكن أن تذكر هناك نسبة مع أنَّ كلّ النّسب مقطوعة لدى ساحة قدس سلطنته؟ وإذا ما أمعنت النّظر لشاهدت أنَّ خدام عتبته لهم سلطنة على كلّ المخلوقات والموجودات كما ظهر ويظهر.

وبالاختصار هذا هو معنىً من معاني السّلطنة الباطنيّة الّتي أشرنا إليها بحسب استعداد النّاس وقابليّتهم، وإلاّ فلنقطة الوجود وطلعة المحمود سلطنات أخرى، هذا المظلوم غير قادر على إظهار مراتبها ومقاماتها، والخلق غير لائق لإدراكها – فسبحان الله عمّا يصف العباد في سلطنته وتعالى عمّا هم يذكرون.

إنّي أسأل جنابك عمّا إذا كان المقصود من السّلطنة هو الحكم الظّاهريّ والغلبة والاقتدار الدّنيويّ الظّاهريّ، الّذي يقهر كلّ النّاس ويخضعهم، ويجعلهم طائعين له في الظّاهر، ومنقادين إليه حتّى بذلك يكون الأحباء مستريحين ومعزّزين، والأعداء مخذولين ومنكوبين – فإنّ هذا النّوع من السّلطنة لا يصدق في حقّ ربّ العزّة، الّذي من المسلّم أنّ السّلطنة تكون باسمه، والجميع يعترف بعظمته وشوكته. إذ أنَّك تشاهد الآن أنّ أكثر الأرض تحت تصرف أعدائه. والجميع يسيرون على خلاف رضائه. وكلّهم كافر ومعرض ومدبر عما أُمر به. ومقبل وفاعل لما نهي عنه. وأحباؤه دائمًا مقهورون ومُبتلون تحت يد الأعداء. وكلّ هذا واضح وأظهر من الشّمس.

إذًا فاعلم أيّها السّائل الطّالب، إنَّ السّلطنة الظّاهرة ما كانت أبدًا ولن تكون يومًا ما معتبرة لدى الحقّ وأوليائه. وعلاوة على ذلك فإنّه إذا كان المقصود من الغلبة والقدرة هو القدرة والغلبة الظّاهريّة فإنّ الأمر يكون في غاية الصّعوبة والإشكال على جنابك، حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾. ويقول في مقام آخر ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وقوله في مقام آخر (هو الغالِب فوقَ كُلِّ شيء). كما أنَّ أكثر آياتِ الفرقان صريحة في هذا المطلب.

وأمّا إذا كان المقصود من هذا هو ما يقول به هؤلاء الهمجُ الرّعاعُ فلا مفرّ لهم من إنكار جميع هذه الكلمات القدسيّة، والإشارات الأزليّة، لأنَّه لم يكن هناك مُجاهد من جند الله على وجه الأرض أعلى ولا أقرب إلى الله من الحسين بن علي. إذ لم يكن لحضرته مثلٌ ولا شبهٌ على وجه الأرض. لولاه لم يكن مثلهُ في الملك. ومع هذا فقد سمعت ما وقع له – أَلَا لعنة الله على القوم الظّالمين.

والآن لو تفسّر هذه الآية حسب الظّاهر فإنّها لا تصدق بحال من الأحوال في أولياء الله وجنوده، لأنَّ حضرته قد ذاق كأس الشّهادة بنهاية المغلوبيّة والمظلوميّة في كربلاء في أرض الطّفّ، مع أنّ بسالته وجنديّته كانت لائحة وواضحة كالشّمس وكذلك قوله في الآية المباركة ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. لو كانت تُفسّر تفسيرًا حرفيًّا بالسّلطنة الظّاهريّة، فإنّها لا تتّفق أبدًا، لأنَّهم كانوا دائمًا يطفئون الأنوار الإلهيّة بحسب الظّاهر ويخمدون السّرج الصّمدانيّة فمن أين مع هذا كانت تظهر الغلبة؟ ثمَّ انظر إلى المنع الوارد في الآية الشّريفة قوله: ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ فأيّ معنى لنوره هُنا؟ إذ قد لوحظ أنَّ جميع الأنوار لم يجدوا محلّ أمنٍ ليستريحوا فيه من ظلم المشركين ولم يذوقوا طعم الرّاحة. وكانت مظلوميّة هذه الأنوار على شأن أنَّ أيّ إنسان كان يستطيع أن يفعل بجواهر الوجود هؤلاء كلّ ما كان يريده. كما عَرَف النّاس كلّ ذلك وأدركوه وأحصوه. وكيف مع هذا يستطيع هؤلاء النّاس أن يفهموا ويفسّروا معنى وبيان هذه الكلمات الإلهيّة وآيات العزّ الصّمدانيّة؟

والخلاصة أنَّ المقصود ليس كما تصوّره بل إنَّ المقصود من الغلبة والقدرة والإحاطة هو مقام آخر وأمر آخر. مثلاً انظروا إلى غلبة قطرات دم حضرة الحسين الّذي سفك على التّراب وكيف كان لهذا التّراب من تأثير في أجساد النّاس، وغلبة ونفوذ على أرواحهم بسبب شرافة هذا الدّم وغلبة نفوذه، بحيث وصل الأمر إلى حد أنَّ كلّ من أراد الاستشفاء من أسقامه، كان يشفى إن رزق بذرّة منه. وكلّ من أراد حفظ ماله ووضع في بيته مقدارًا من هذا التّراب المقدّس بيقين كامل، ومعرفة ثابتة راسخة حفظت جميع أمواله. وهذه مراتب تأثيراته في الظّاهر. ولو أنَّني أذكر تأثيراته الباطنيّة فلا بدّ أن يقال إنّه اعتبر التّراب ربّ الأرباب، وخرج بالكلّيّة عن دين الله.

وكذلك فانظر إلى شهادة الحسين وكيف كانت بنهاية الذّلّة. وتفكّر كيف لم يكن معه أحد لينصره في الظّاهر أو يغسله ويكفّنه. مع ذلك ترى اليوم كم من النّاس يشدّون الرّحال من أطراف البلاد وأكنافها ليحضروا في تلك الأرض، ويضعوا رؤوسهم على تلك العتبة. هذه هي الغلبة والقدرة الإلهيّة، والشّوكة والعظمة الرّبّانيّة.

إيّاك أن تتصوّر أنَّ تلك الأمور حدثت بعد شهادة الحسين وأنَّ ليس لها فائدة أو ثمرة بالنّسبة لحضرته. ذلك لأنَّ حضرته حيّ أبدًا بالحياة الإلهيّة، وساكن في رفرف امتناع القرب، ومقيم في سدرة ارتفاع الوصل. فجواهر الوجود هؤلاء قائمون في مقام الإنفاق بكلّ ما عندهم، بمعنى أنَّهم أنفقوا وينفقون أرواحهم وأموالهم وأنفسهم كلّها في سبيل المحبوب. وليس لديهم مرتبة أحبّ من هذا المقام، إذ ليس للعاشقين مطلب إلّا رضاء المعشوق، ولا مقصد إلّا لقاء المحبوب.

وإنّي لو أريد أن أذكر لك رشحًا من أسرار شهادة الحسين ونتائجها، فإنّ هذه الألواح لا تكفيها ولا تصل إلى نهايتها، وإنّي آمل إن شاء الله أن يهبّ نسيم الرحمة، وتلبس شجرة الوجود خلعة جديدة من الرّبيع الإلهي، حتّى نهتدي إلى أسرار الحكمة الرّبّانيّة، ونستغني بعنايته عن عرفان كلّ شيء. وإلى الآن لم نشاهد أحدًا فائزًا بهذا المقام إلّا عددًا قليلًا ليسوا معروفين بين النّاس. فلننتظر ما يقضي به قضاء الله، وما يظهر من خلف سرادق الإمضاء. كذلك لكم من بدائع أمر الله ونلقي عليكم من نغمات الفردوس لعلّكم بمواقع العلم تصلون، ومن ثمرات العلم ترزقون.

إذًا فاعلم علم اليقين بأنَّ شموس العظمة هؤلاء، إن يكونوا جالسين على التّراب، فإنّهم في الحقيقة مستقرّون على العرش الأعظم وإن لم يكن لديهم فلس واحد فإنّهم يكونون طائرين في أعلى مدارج الغنى. وإن يكونوا مبتلين تحت يد الأعداء فإنّهم يكونون ساكنين على يمين القدرة والغلبة. وإن يكونوا في كمال الذّلّة الظّاهرة، فإنّهم يكونون جالسين ومتّكئين على عرش العزّة الصّمدانيّة. وإن يكونوا في نهاية العجز الظّاهريّ، فإنّهم يكونون قائمين على كرسيّ السّلطنة والاقتدار.

بناءً على هذا جلس عيسى ابن مريم يومًا من الأيّام على كرسيّ، ونطق ببيانات من نغمات روح القدس، مضمونها: أيّها النّاس، إنّ غذائي هو من نبات الأرض أَسُدُّ به الجوع، وفراشي سطح الغبراء وسراجي في اللّيالي ضياء القمر، وركوبتي أقدامي، فمن أغنى مني على وجه البسيطة؟ قسمًا بالله إنَّ مائة ألف نوع من الثّروة والغنى طائف حول هذا الفقر، وإنّ مائة ألف من ملكوت العزّة طالب لهذه الذّلّة. ولو تفوز برشح من بحر هذه المعاني لتنقطع عن عالم الملك والوجود، وتفدى بروحك كالفراش حول السّراج الوهّاج.

ومثل هذا قد روى عن حضرة الصّادق من أنَّ شخصًا من الأصحاب اشتكى من الفقر لدى حضرته ذات يوم، فقال له ذاك الجمال الأبديّ – إنّك غنيّ وشربت من شراب الغِنَى. فتحيّر ذاك الفقير من بيان ذاك الوجه المنير. وقال كيف أكون غنيًّا وأنا محتاج إلى درهم؟ فقال له حضرته – أو ليست محبّتنا في قلبك؟ فأجاب بلى يا ابن رسول الله. فقال له هل تبيعها بألف دينار؟ فأجاب، أنَّي لا أستبدلها بالدّنيا وما خلق فيها- فقال حضرته: كيف يكون فقيرًا من عنده مثل هذا الكنز الّذي لا يرضى عنه بالعالم بديلاً.

هذا الفقر والغِنَى وهذه الذّلّة والعزّة، والسّلطنة والقدرة، وما دونها ممّا هو معتبر عند هؤلاء الهمج الرّعاع، إنّه ليس شيئًا مذكورًا لدى تلك السّاحة، كما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النّاس أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. إذًا فالمقصود من الغِنَى هو الغِنَى عمّا سوى الله، ومن الفقر هو الفقر إلى الله.

وكذلك انظر وتأمل، كيف أنَّ اليهود قد أحاطوا بعيسى ابن مريم ذات يوم، وطلبوا منه الإقرار بما أدّعى به من أنَّه هو المسيح والنّبيّ، ليحكموا عليه بالكفر وينفذّوا فيه حد القتل، حتّى أحضروا شمس سماء المعاني في مجلس بيلاطس بحضور قيافا الّذي كان أعظم علماء ذاك العصر. وأحضروا في ذلك المجلس أيضًا جميع العلماء، واجتمع كذلك جمع كبير بقصد التّفرّج عليه والاستهزاء به وإيذاء حضرته. وحدث أنَّه كلّما استفسروا من حضرته لعلّهم يسمعون منه إقرارًا، كان حضرته يختار السّكوت، وما تعرّض للجواب عليهم أبدًا إلى أن قام ملعون وجاء في مقابل وجهه وحلّفه قائلاً: أولم تقل إنّي مسيح الله؟ وإنّي ملك اليهود؟ وإنّي صاحب كتاب وإنّي مخرّب يوم السّبت؟ فرفع حضرته رأسه المبارك وأجاب: ﴿أما ترى بأنَّ ابن الإنسان قد جلس عن يمين القدرة والقوّة؟﴾، يعني أما ترى ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدرة والقوّة الإلهيّة. والحال أنَّه بحسب الظّاهر لم يكن موجودًا لدى حضرته شيء أبدًا من أسباب القدرة إلّا القدرة الباطنيّة الّتي قد أحاطت بكلّ من في السّموات والأرض. ولا أدري ماذا أذكر بعد هذا القول، ممّا ورد على حضرته، وماذا صنعوا معه إلى أن تصدّوا أخيرًا لإيذاء حضرته وقتله حتّى فرّ إلى الفَلَك الرابع؟

وكذلك مذكور في انجيل لوقا بأنَّ حضرته مرّ في يوم آخر على أحد من اليهود كان مبتلى بمرض الفالج، وراقدًا على السّرير. فلما رأى اليهوديّ حضرته عرفه بالقرائن واستغاث به. فأجاب عيسى قائلاً ﴿قم عن سريرك فإنّك مغفورة خطاياك﴾ فاعترض بعض اليهود الّذين كانوا حاضرين في ذاك المكان قائلين ﴿هل يمكن لأحد أن يغفر الخطايا إلّا الله؟﴾ فالتفت المسيح إليهم وقال: ﴿أيّما أسهل أن أقول له قم فاحمل سريرك أم أقول له مغفورة خطاياك لتعلموا بأنَّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض لمغفرة الخطايا﴾. أي أنَّ حضرته لما أن قال لذلك العاجز المسكين قم حقًّا قد غفرت خطاياك، اعترض جمع من اليهود قائلين هل يقدر أحد أن يغفر للعباد غير الله الغالب القادر؟ فالتفت حضرته إليهم وقال: أيما أسهل عندكم أأقول لهذا المفلوج العاجز قم وامشِ أم أقول له مغفورة خطاياك لتعلموا أنَّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض لغفران ذنوب المذنبين. هذه هي السّلطنة الحقيقيّة وهذا هو اقتدار أولياء الله.

إنّ المقصود من كلّ هذه التّفاصيل الّتي تكرّر ذكرها في كلّ مقام ومكان، هو لتطّلع على تلويحات كلمات أصفياء الله. لعلَّ القَدم لا يزلّ، والقلب لا يضطرب من بعض العبارات، ونسير على صراط حقّ يقين بقدم اليقين، لعلَّ يهب علينا نسيمُ الرّضا من رياض القَبُول الإلهيّ. ويوصلنا نحن الفانين إلى الملكوت الأبديّ ولتكون عارفًا بمعاني السّلطنة وأمثالها، ممّا ورد ذكره في الأخبار والآيات.

وزيادة على ذلك، فليكن من المعلوم المحقّق لجنابك أنَّ ما تمسّك به اليهود والنّصارى وكانوا يعترضون به على الجمال الأحمديّ هو بعينه ما قد تشبّث به أصحاب الفرقان في هذا الزّمان، ويعترضون به على نقطة البيان روح من في ملكوت الأمر فداه. فانظر إلى هؤلاء الغافلين الّذين يقولون اليوم ما قاله اليهود وهم لا يشعرون. فنعمَ ما نزّل من قبلُ في شأنهم ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾. وأيضًا ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.

ولما أشرق غيب الأزل وساذج الهويّة، الشّمس المحمّديّة من أفق العلم والمعاني كان من جملة اعتراضات علماء اليهود أنَّه لن يبعث نبيّ بعد موسى: نعم، إنّه مذكور في الكتاب بأنَّه لا بدّ أن تظهر طلعة لتروّج ملّته ومذهبه، حتّى يحيط بكلّ الأرض شرعة شريعته المذكورة في التّوراة. لذلك ينطق سلطان الأحديّة عن لسان أولئك السّاكنين في وادي البعد والضّلالة بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي أنَّ اليهود قالت أنَّ يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما افتروا بل إنَّ أيادي قدرته مبسوطتان ومهيمنتان دائمًا أبدًا ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾.

ولو أنَّ علماء التّفسير قد اختلفوا في شرح أسباب نزول هذه الآية، إلّا أنَّه يجب أن تنظر إلى المقصود الّذي تنصّ عليه الآية لا إلى ما تخيّله اليهود من أنَّ السّلطان الحقيقيّ قد خلق الطّلعة الموسويّة، وخلع عليه ثوب الرّسالة، وبعدها أصبحت يداه مغلولتين وغير قادر على إرسال رسول بعد موسى. والتفت إلى هذا القول الّذي لا معنى له، وكم هو بعيد عن شريعة العلم والمعرفة. وانظر اليوم كيف أنَّ جميع هؤلاء النّاس يشتغلون بأمثال هذه الأقوال المزخرفة، وقد مضى عليهم أكثر من ألف سنة وهم يردّدون تلاوتها، ويعترضون على اليهود من حيث لا يشعرون. وما التفتوا وما أدركوا بأنَّ ما يقولونه سرًّا وجهرًا هو عين ما يعتقد به اليهود. كما سمعت كيف أنَّهم يقولون إنَّ جميع الظّهورات قد انتهت، وأبواب الرّحمة الإلهيّة قد انسدّت. فلا تطلع بعد ذلك شمس من مشارق القدس المعنويّة، ولا تظهر أمواج من بحر القدم الصّمداني، ولا يأتي هيكل مشهود من خيام الغيب الربّانيّ. هذا هو مبلغ إدراك هؤلاء الهمج الرّعاع الّذين اعتقدوا بجواز انقطاع الفيض الكلّيّ والرّحمة المنبسطة الأمر الّذي لا يجوز لأيّ عقل أو إدراك أنَّ يسلّم بانقطاعه. وقد قاموا على الظّلم من كلّ النّواحي والأطراف. وبذلوا الهمّة لإخماد نار السّدرة بأجاج ماء الظّنون، وغفلوا عن أنَّ زجاج القدرة يحفظ سراج الأحديّة في حصن حفظه. فيكفي هؤلاء القوم ذلّة أن بقوا محرومين عن أصل المقصود. محجوبين عن لطيفة الأمر وجوهره. لأنَّ منتهى الفيض الإلهيّ الّذي قُدّر للعباد، هو لقاء الله وعرفانه الّذي به وعد الكلّ وهذا هو نهاية فيض فيّاض القدم على عباده، وكمال الفضل المطلق على خلقه، ممّا لم يرزق به أحد من هؤلاء العباد، ولا تشرّف بهاته الشّرافة الكبرى. ومع ذلك أنكروها وفسّروها حسب أهوائهم كما يقول: ﴿وَالّذينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وكذلك يقول: ﴿الّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. وكذلك يقول في موضع آخر: ﴿قَالَ الّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللهِ كَم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾. وفي موضع آخر: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا﴾ وفي موضع آخر ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ فجميع هذه الآيات دالّة على اللّقاء، بحيث ما لوحظ في الكتب السّماويّة حكم أحكم منها مع ذلك أنكروها وجعلوا أنفسهم محرومين من هذه الرّتبة السّامية العليا والمقام الأعزّ الأبهى.

وقد ذكر بعضهم أنَّ المقصود من اللّقاء هو تجلّي الله في يوم القيامة. والحال أنَّهم لو يقولون إنَّ المقصود هو التّجلّي العامّ، فإنّ هذا التّجلّي موجود في كلّ الأشياء كما قد ثبت من قبل أنَّ كلّ الأشياء هي مَحلٌّ ومظهرٌ لتجلّي ذاك السّلطان الحقيقيّ. وأنَّ آثار إشراق شمس المجّلّي موجودة ولائحة في مرايا الموجودات. بل لو ينظر الإنسان بالبصر المعنويّ الإلهيّ ليشاهد بأنَّه لا يمكن أن يوجد شيء في الوجود بغير ظهور تجلّي السّلطان الحقيقيّ. حيث تلاحظون أنَّ كلّ الممكنات والمخلوقات حاكية عن ظهور ذاك النّور المعنويّ وبروزه، وتشاهدون أنَّ أبواب الرّضوان الإلهيّ مفتوحة في كلّ الأشياء لورود الطّالبين في مدائن المعرفة والحكمة، ودخول الواصلين في حدائق العلم والقدرة، كي يشاهدوا في كلّ حديقة عرائس المعاني جالسة في غرفات الكلمات بنهاية الزّينة واللّطافة. إذ أنَّ أكثر آيات الفرقان دالّ على هذا المطلب الرّوحاني ومشعِر به. فقوله: ﴿وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾، شاهدٌ ناطقٌ بذلك. وقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابا﴾ هو برهان صادق عليه. فالآن لو يكون المقصود من لقاء الله هذه التّجلّيات لكان جميع النّاس إذًا مشرّفين بلقاء طلعة من لا يزال ذاك السّلطان عديم المثال ولا يكون هناك داع إذًا للتّخصيص بالقيامة.

ولو يقولون إنَّ المقصود هو التّجلّي الخاصّ كما عبّر جمع من الصّوفيّة عن هذا المقام بالفيض الأقدس، فإنّ هذا التّجلّي أيضًا إن يكن في نفس الذّات فإنّه في حضرة العلم من الأزل. وعلى فرض التّصديق بهذه الرّتبة، فإنّ صدق اللّقاء في هذا المقام لا يصدق على أحد لأنَّ هذه الرّتبة محقّقة في غيب الذّات ولم يفز بها أحد. (السَّبِيْلُ مَسْدُودٌ وَالطَّلَبُ مَرْدُودٌ) لأنَّ هذا المقام لا تطير إليه أفئدة المقرّبين فكيف تصل إليه عقول ذوي الحدود والحجبات؟

ولو يقولون إنّه هو التّجلّي الثّاني المُعبّر عنه بالفيض المقدّس فهذا مُسَلّم به في عالم الخلق أعني في عالم ظهور الأوّليّة وبروز البدعيّة. وهذا المقام مختصّ بأنبيائه وأوليائه، إذ لم يكن موجودًا في عوالم الوجود من هو أعظم منهم وأكبر كما يقرّ الجميع بهذا المطلب ويذعنون له. وهؤلاء هم مواقع جميع الصّفات الأزليّة ومظاهر الأسماء الإلهيّة. وهم المرايا الّتي تحكي عنه تمامًا. وكلّ ما هو راجع إليهم في الحقيقة، فهو راجع إلى حضرة الظّاهر المستور. ولا يمكن أن تحصل معرفة المبدأ الأوّل والوصول إليه إلّا بمعرفة هذه الكينونات المشرقة من شمس الحقيقة والوصول إليها. وإذًا من لقاء هذه الأنوار المقدّسة يحصل لقاء الله. ومن علمهم يظهر علم الله. ومن وجههم يلوح وجه الله. ومن أوّليّة هذه الجواهر المجرّدة وآخريّتها وظاهريّتها وباطنيّتها يثبت على من هو شمس الحقيقة بأنَّه ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾. وكذلك تثبت سائر الأسماء العالية والصّفات المتعالية. لهذا فكلّ نفس صارت في أيّ ظهور موفّقةً وفائزةً بهذه الأنوار المضيئة الممتنعة، والشّموس المشرقة اللاّئحة، فهي فائزة بلقاء الله وواردةٌ في مدينة الحياة الأبديّة الباقية. وهذا اللّقاء لا يتيسّر لأحد إلّا في القيامة، الّتي هي نفس الله بمظهره الكلّيّ.

وهذا هو معنى القيامة المذكورة والمسطورة في كلّ الكتب والّتي بها وُعد جميع النّاس وبُشِّروا بذلك اليوم. فانظر الآن هل يُتَصوّر يوم أعزّ من هذا اليوم وأكبر منه وأعظم، حتّى يسمح الإنسان لنفسه بأن يفلت من يده مثل هذا اليوم، ويحرم نفسه من فيوضات هذا اليوم الجارية من قبل الرّحمن كأمطار الرّبيع؟ وبعد أن قام الدّليل بتمامه على أنَّه لا يوجد يوم أعظم من هذا اليوم، ولا أعزّ من هذا الأمر، كيف يجوز لإنسان أن يحرم نفسه من فضل كهذا الفضل الأكبر بكلمات المتوهّمين والظّانّين. وفضلاً عن كلّ هذه الدّلائل المحكمة المتقنة الّتي لا مفرّ لأيّ عاقل منها، ولا مهرب لأيّ عارف عنها، أما سمعوا الرّواية المشهورة الّتي تقول: (إذا قامَ القائمُ قامت القيامة). وكذلك فسّر أئمة الهدى والأنوار الّتي لا تطفى الآية الكريمة: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ بأنَّها تشير إلى حضرة القائم وظهوره مع أنَّ القوم يعتبرونها من الأمورات المحدثة في يوم القيامة والمسلّم بها عندهم.

فيا أيّها الأخ أدرك إذًا معنى القيامة واعرفه، وطهِّر السّمع عن كلمات هؤلاء المردودين. فإنّك لو تسير قليلاً في عوالم الانقطاع لتشهد بأنَّه لا يُتصوّر يومٌ أعظم من هذا اليوم، ولا قيامة أكبر من هذه القيامة. وإنّ عملاً واحدًا في هذا اليوم يعادل بأعمال مائة ألف سنة. بل أستغفر الله عن هذا التّحديد، لأنَّ عمل هذا اليوم مقدّس عن الجزاء المحدود. وحيث أنَّ هؤلاء الهمجَ الرعاعَ ما أدركوا وما عَرَفوا معنى القيامة ولا لقاء الله، لهذا غدوا محجوبين عن فيضه بالمرّة، مع أنَّ المقصود من العلم وتحمّل مشقّاته هو الوصول إلى هذا المقام ومعرفته. مع ذلك فجميعهم مشغولون بالعلوم الظّاهرة بحيث لا ينفكّون عنها لحظة. وغضّوا الطّرف عن جوهر العلم والمعلوم، كأنَّهم ما تجرّعوا رشحًا من يمّ العلم الإلهيّ، وما فازوا بقطرة من سحاب الفيض الرّحماني.

فانظر الآن، هل إذا لم يدرك أحد فيض اللّقاء في يوم ظهور الحقّ، ولا يعرف مظاهر الحقّ، هل يصدق عليه صفة العالِم حتّى ولو كان له ألف سنة في التّحصيل، وأحاط بجميع العلوم المحدودة الظّاهرة؟ كلاّ – لأنَّه معلوم بالبداهة أنَّه لا يصدق في حقّه صفة العلم. ولكن إذا لم تطّلع نفسٌ على حرف واحد من العلم، وفازت بهذه الشّرافة الكبرى، فلا بد أنَّها محسوبة من العلماء الربّانيّين، لأنَّها قد فازت بالغاية القصوى من العلم، وبلغت نهاية منتهاه.

وهذه الرّتبة أيضًا هي من علائم الظّهور كما يتفضّل ويقول: (يجعلُ أعلاكم أسفلكم وأسفلكم أعلاكم). وكما قال في الفرقان: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾. وقد شوهد اليوم، كم من العلماء نظرًا لإعراضهم قد استقرّوا في أسفل أراضي الجهل، وانمحت أسماؤهم من دفتر العالين والعلماء، وكم من الجهّال نظرًا لإقبالهم قد ارتقوا إلى أعلى أفق العلم، وأثبتت أسماؤهم في ألواح العلم بقلم القدرة كذلك ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ولهذا قالوا: (طلب الدّليل عند حصول المدلول قبيح. والاشتغال بالعلم بعد الوصول إلى المعلوم مذموم). قل يا أهل الأرض هذا فتى ناريّ، يركض في برّيّة الرّوح، ويبشّركم بسراج الله ويذكّركم بالأمر الّذي كان عن أفق القدس في شطر العراق تحت حجبات النّور بالسّتر مشهودًا.

فيا حبيبي إنّك لو تطير قليلاً في سماوات معاني الفرقان، وتتفرّج على أرض المعرفة المبسوطة فيه، لينفتح على وجهك كثير من أبواب العلوم، وتوقن بأنّ جميع هذه الأمور الّتي تمنع العبادَ في هذا اليوم عن الورود إلى شاطئ البحر الأزليّ، هي الّتي بعينها في ظهور نقطة الفرقان: قد منعت أيضًا أهلَ ذلك العصر عن الإقرار بتلك الشّمس، والإذعان لها. وكذلك تطّلع على أسرار الرّجعة والبعث، وتستقرّ في أعلى غرف اليقين والاطمئنان.

فانظر من جملة ذلك أنَّ جمعًا من الجاحدين لذلك الجمال عديم المثال، والمحرومين من الكعبة الباقية، قد عرضوا على محمّد ذات يوم على سبيل الاستهزاء قائلين: ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ يعني أنَّ الله عهد إلينا ألّا نؤمن لرسول ما لم يظهر معجزة هابيل وقابيل، أي يقدم قربانًا تنزل عليه النّار من السّماء فتحرقه، كما سمعتم عن حكاية هابيل، وممّا هو مذكور في الكتب. فأجابهم حضرته ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. ومضمونها أنَّ حضرته قال لهم لقد جاءكم من قبلي رسل من عند الله بالبيّنات الظّاهرات وبالّذي تطلبونه، فلِمَ قتلتم رسل الله هؤلاء إن كنتم صادقين. فأنصفوا الآن: متى كان هؤلاء العباد الّذين كانوا في عصر محمّد وعهده بحسب الظّاهر موجودين في عهد آدم أو الأنبياء الآخرين، مع أنَّه كان هناك فاصلة آلاف السّنين بين عهد آدم وذاك الزّمان؟ فمع ذلك لِمَ نسب جوهر الصّدق محمّد إلى أهل زمانه قتل هابيل أو الأنبياء الآخرين؟ إنّه لا مفرّ من أن تنسب إلى حضرته والعياذ بالله الكذب، أو الكلام اللّغو، أو تقول بأنَّ هؤلاء الأشقياء كانوا هم نفس أولئك الأشقياء الّذين كانوا يعارضون الأنبياء والمرسلين في كلّ عصر إلى أن قتلوهم أخيرًا واستشهدوا جميعًا.

تفكّر وتمعّن في هذا البيان، كي يمرّ عليك طيب نسيم العرفان الهابّ من مصر الرّحمن، وتبلغ الرّوح بمليح بيان المحبوب إلى حديقة العرفان. إذ إنَّ الغافلين من النّاس لمّا لم يدركوا معاني هذه البيانات البالغة الكاملة، ولم يجدوا الجواب مطابقًا للسّؤال حسب زعمهم، كانوا ينسبون إلى تلك الجواهر جواهر العلم والعقل – الجهل والجنون.

وكذلك يقول حضرة الرّسول في آية أُخرى، في مقام التّعريض بأهل زمانه ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أي أنَّ هؤلاء القوم كانوا يقاتلون الكفّار ويحاربونهم في سبيل الله، ويطلبون الفتح عليهم لنصرة أمر الله، فلما جاءهم الّذي عرفوه كفروا به فلعنة الله على الكافرين. فانظر الآن كيف أنَّ هذه الآية تتضمّن هذا المعنى: وهو أنَّ النّاس الّذين كانوا في زمان حضرته، هم عين النّاس الّذين كانوا في عهد الأنبياء السّابقين، يحاربون ويجادلون لترويج تلك الشّريعة، وتبليغ أمر الله. والحال أنّ النّاس الّذين كانوا في عهد عيسى وموسى، هم غير الّذين كانوا في عهد محمّد. وفضلاً عن ذلك فإنّ الشّخصين اللّذين عرفوهما من قبل، كانا موسى صاحب التّوراة، وعيسى صاحب الإنجيل. مع ذلك لِمَ يقول حضرة محمّد لما أن جاءهم ما عرفوه أي الّذي هو عيسى أو موسى كفروا به؟ والحل أنَّ محمّدًا كان موسومًا بحسب الظّاهر باسم آخر هو محمّد، وظهر من مدينة أخرى، وجاء بلغة أخرى، وشرع آخر، فمع ذلك كيف يمكن إثبات حكم هذه الآية وإدراك معناها؟.

إذن فإدراك الآن حكم الرّجوع الّذي نزّل في نفس الفرقان بتلك الدّرجة من الصّراحة، والّذي ما فهمه أحد إلى اليوم. والآن فماذا تقول؟ لو تقول إنَّ محمّدًا كان رجعة الأنبياء الأوّلين كما هو مستفاد من الآية، فكذلك أصحابه أيضًا هم رجعة أصحاب الأنبياء الأوّلين، حيث إنَّ رجعة عباد القبل واضحة ولائحة أيضًا من الآيات المذكورة. ولو ينكرون ذلك يكونون قائلين بخلاف حكم الكتاب الّذي هو الحجّة الكبرى. إذًا فأدرك أنت على هذا المنوال حكم الرّجع والبعث والحشر الّذي كان في أيّام ظهور مظاهر الهويّة، حتّى ترى بعينيّ رأسك رجوع الأرواح المقدّسة في الأجساد الصّافية المنيرة، وتزيل غبار الجهل، وتُطهِرّ النّفس الظّلمانيّة بماء الرّحمة المتدفّق من العلم الرّحماني، لعلَّ تميّز سبيل صبح الهداية من ليل الضّلالة بسراجه النّورانيّ، وتفرّق بينهما بقوّة الرّحمن وهداية السّبحان.

وليكن في علم جنابك علاوة على ما ذكر أنَّ الحاملين لأمانة حضرة الأحديّة الّذين يظهرون في العوالم الملكيّة بحكم جديد وأمر بديع، لمّا كانت هذه الأطيار – أطيار العرش الباقي – ينزلون من سماء المشيئة الإلهيّة، ويقومون جميعًا على الأمر المبرم الرّبّانيّ، لهذا هم في حكم نفس واحدة، وذات واحدة. إذ إنَّ الجميع يشربون من كأس المحبّة الإلهيّة، ويُرزقون من أثمار شجرة التّوحيد. ولمظاهر الحقّ هؤلاء مقامان مقرّران، أوّلهما مقام صرف التّجريد وجوهر التّفريد، وفي هذا المقام لو تدعو الكلّ باسم واحد وتصفهم بوصف واحد فلا بأس في ذلك، كما يقول: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ لأنَّهم جميعًا يدعون النّاس إلى توحيد الله، ويبشّرونهم بكوثر الفيض والفضل الّذي لا يتناهى، وكلّهم فائزون بخلعة النّبوة، ومفتخرون برداء المكرمة. ولهذا يقول محمّد نقطة الفرقان: (أمّا النّبيون فأنا) وكذلك يقول: (إنّي آدم الأوّل ونوح وموسى وعيسى). وكما نطقت الطّلعة العلويّة بهذا المضمون، وظهرت من مجاري البيانات الأزليّة، ومخازن اللآليء العلميّة، أمثالُ هذه البيانات المشعرة بتوحيد مواقع التّجريد ممّا هو مدوّن في الكتب. وهذه الطّلعات هم مواقع الحكم ومطالع الأمر. وهذا الأمر مقدّس عن حجبات الكثرة وعوارض التّعدّد ولهذا يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ ولما كان الأمر واحدًا فلا بدّ أن يكون مظاهر الأمر أيضًا واحدًا. وكذلك نطق أئمة الدّين، وسرج اليقين في الدّين الإسلاميّ – قالوا: (أوّلنا محمّد، وآخرنا محمّد، وأوسطنا محمّد).

وخلاصة القول إنَّ من المعلوم والمحقّق لجنابك، أنَّ جميع الأنبياء هم هياكل أمر الله الّذين ظهروا في أقمصة مختلفة. وإذا ما نظرت إليهم بنظر لطيف لتراهم جميعًا ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواء واحد، وجالسين على بساط واحد، وناطقين بكلام واحد، وآمرين بأمر واحد. وهذا هو اتّحاد جواهر الوجود والشّموس غير المحدودة والمعدودة. فإذًا لو يقول أحد من هذه المظاهر القدسيّة، إنّي رجعة كلّ الأنبياء فهو صادق. وكذلك يثبت في كلّ ظهور لاحق صدق رجوع الظّهور السّابق. وإذا كان قد ثبت رجوع الأنبياء وفقًا للآيات وطبقًا للأخبار، كذلك يثبت ويتحقّق رجوع الأولياء أيضًا. وهذا الرّجوع أظهر من أن يحتاج إلى أي دليل أو برهان. فانظروا مثلاً إنَّ من جملة الأنبياء نوحًا عليه السّلام، وإنّه لما أن بعث بالنّبوة وقام على الأمر بقيام إلهيّ، أصبح كلّ من آمن به وأذعن لأمره في الحقيقة مشرّفًا بحياة جديدة. ويصدق في حقّه أنّه قد منح حياة جديدة وروحًا جديدة، إذ إنَّه قبل الإيمان بالله والإذعان لمظهر نفسه، كان عنده كمال التّعلّق بالأموال والأسباب المتعلّقة بالدّنيا من قبيل الأزواج والأولاد والطّعام والشّراب وأمثالها بدرجة أنَّه كان يقضي اللّيل والنّهار في الحصول على الزّخارف الدّنيويّة، واستجماع اللّهو والتّرف، ويبذل الهمّة في اقتناء الأشياء الفانية. وعلاوة على ما ذكر فإنّه قبل الورود على لجّة الإيمان، كان راسخًا في حدود الآباء والأجداد، وثابتًا في اتّباع آدابهم وشرائعهم، على شأن لو كان يحكم عليه بالقتل، ربّما كان يرضى به، ولا يقبل تغيير حرف من الأمور التّقليديّة الّتي كانت موجودة بين قومه. وذلك كما صاح القوم كلّهم بنداء ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ﴾.

على أنَّ هؤلاء القوم مع تقيّدهم بهذه الحجبات المحدودة، والحدودات المذكورة، فإنّهم بمجرّد ما كانوا يتجرّعون صهباء الإيمان من كأس الإيقان من أيادي مظاهر السّبحان، كانوا ينقلبون بالمرّة بحيث أنَّهم كانوا ينقطعون عن الأزواج، والأولاد والأموال، والمتاع، والأرواح والإيمان. بل عن كلّ ما سوى الله. وتأخذهم غلبات الشّوق الإلهيّ، وجذبات الذّوق الصّمداني على شأن ما كانوا يقيمون للدّنيا وما فيها وزنًا. فهل لا ينطبق على هؤلاء حكم خلق جديد ورجوع جديد؟ ألم يشاهد أنَّ هذه النّفوس قبل الفوز بالعناية البديعة الجديدة الإلهيّة، كانت تحافظ على روحها ونفسها من موارد الهلاك بمائة ألف حيلة وتدبير؟ بحيث أنَّهم كانوا يحترزون من الإصابة بشوكة، ويفرّون في المثل خوفًا من ثعلب؟ ولكن بعد أن نالوا شرف الفوز الأكبر، والعناية العظمى، كانوا ينفقون في سبيل المحبوب أرواحهم بكلّ ارتياح، حتّى ولو يكون للواحد منهم مائة ألف روح، لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. بل إنَّ نفوسهم المقدّسة كانت تتمنّى الخلاص من قفص الجسد، وكان الفرد الواحد من هؤلاء الجنود يواجه قومًا ويقاتلهم، مع ذلك لو تكون هذه النّفوس هي عين النّفوس الأولى، كيف يظهر منها أمثال هذه الأمورات، المخالفة للعادات البشريّة، والمنافية للأهواء الجسمانيّة؟.

والخلاصة إنَّ هذا المطلب واضح. إذ بدون حصول التّغيير والتّبديل الإلهيّ، يكون من المحال ظهور مثل هذه الآثار والأفعال منهم، وبروزها في عالم الكون ممّا ليس له شبيه بأيّ وجه من الوجوه بآثارهم وأفعالهم الأولى، حيث كان يتبدّل اضطرابهم بالاطمئنان، ويتغيّر ظنُّهم باليقين، وينقلب خوفهم إلى جرأه وشجاعة. هذا هو شأن الإكسير الإلهيّ، الّذي يُقلِّب العباد في لحظة واحدة.

مثلاً انظروا إلى مادة النّحاس، إنّها لو تحفظ في منجمها مدة سبعين سنة من غير أن تتجمّد فإنّها تصل إلى رتبة الذّهب، ولو أنَّ البعض يعتقد أنَّ نفس النّحاس هو ذهب استولى عليه المرض من تأثير الجمودة عليه فلم يبلغ إلى رتبته الذّاتيّة.

والخلاصة إنّه على أيّ حال يستطيع الإكسير الكامل تحويل مادة النّحاس إلى ذهب في آن واحد، ويقدر على طيّ منازل السّبعين سنة في لحظة واحدة. فهل يمكن أن يقال بعدئذ أنَّ ذاك الذّهب ما زال بعدُ نحاسًا؟ وأنَّه لم يبلغ رتبة الذّهب مع أنَّ هناك مِحكًّا موجودًا يمكنه أن يعّين ويوضّح الصّفات الذّهبيّة من الصّفات النّحاسيّة؟.

وهكذا حال هؤلاء النّفوس، فإنّهم بفضل الإكسير الإلهيّ يطوون العالم التّرابي في آن واحد ويدخلون في العوالم القدسيّة. وبخطوة واحدة ينتقلون من المكان المحدود، ويصلون إلى العالم الإلهيّ المنزّه عن المكان والحدود. فيجب بذل الجهد حتّى تفوز بهذا الإكسير الّذي في لحظة واحدة يُوَصّل مغرب الجهل إلى مشرق العلم، ويبدّل ظلمة اللّيل الظّلمانيّ بالصّبح النّورانيّ، ويهدي الهائمين في بيداء الظّنّ إلى معين القرب واليقين، ويدخل الهياكل الفانية في الجنّة الباقية. فالآن لو يصدق في حقّ هذا الذّهب حكم النّحاس ليصدق أيضًا في حقّ هؤلاء العباد ويتحقّق فيهم حكم أنَّهم هم هم نفس أولئك العباد قبل الفوز بالإيمان.

فانظر يا أخي كيف أنَّ أسرار الخلق الجديد والرّجوع والبعث هي ظاهرة بغير حجاب، ولائحة بلا نقاب من هذه البيانات الشّافية الكافية الوافية. وإن شاء الله بفضل التّأييدات الغيبيّة تخلع عن جسمك ونفسك الثّياب الرّثيثة، وتفتخر بارتدائك الخلع الجديدة الباقية.

لهذا فكلّ الّذين سبقوا بالإيمان كلّ من على الأرض في أيّ ظهور لاحق، وشربوا زلال المعرفة من جمال الأحديّة، وارتقوا إلى أعلى معارج الإيمان والإيقان والانقطاع، فهؤلاء يكون لهم حكم رجوع الأنفس الّذين فازوا بهذه المراتب في الظهور السّابق، وينطبق على هؤلاء الأصحاب في الظّهور اللاّحق حكم رجعة أصحاب الظّهور السّابق اسمًا ورسمًا وفعلاً وقولاً وأمرًا، لأنَّ ما ظهر من أولئك العباد في العهد السّابق هو بعينه قد ظهر ولاح من هؤلاء العباد في العهد اللاّحق. خذوا مثلاً الورد، لو أنَّه يطلع من شجرة في شرق الأرض، ويطلع أيضًا من شجرة أخرى في مغربها فإنّه يكون وردًا في الحالَين، لأنَّ الاعتبار في هذه الحالة لا يكون موجّهًا إلى حدودات غصن الشّجرة وهيئته، بل يكون موجّهًا إلى الرّائحة والعطر الظّاهرين من كليهما.

إذًا طهِّر النّظر ونزِّهه عن الحدودات الظّاهرة حتّى ترى الجميع باسم واحد ورسم واحد وذات واحدة وحقيقة واحدة. وتدرك أيضًا أسرار رجوع الكلمات في الحروفات النّازلة. تأمّل قليلاً في الأصحاب الّذين كانوا في عهد نقطة الفرقان، وكيف أنَّهم بالنّفحات القدسيّة من الحضرة المحمّديّة صاروا منزّهين ومقدّسين ومنقطعين عن جميع الشّؤونات البشريّة والمشتهيات النّفسيّة، وفائزين قبل كلّ أهل الأرض جميعًا بشرف اللّقاء، الّذي هو عين لقاء الله، ومنقطعين عن كلّ ما سواه. وكيف أنَّهم كانوا ينفقون أرواحهم بين يديّ ذلك المظهر – مظهر ذي الجلال كما عرفت وسمعت. والآن فاشهد نفس ذاك الثّبوت والرّسوخ والانقطاع، فإنّه بعينه قد رجع في أصحاب نقطة البيان، كما شاهدت كيف أنَّ هؤلاء الأصحاب قد رفعوا علم الانقطاع على رفرف الامتناع ببدائع وجود ربّ الأرباب.

وخلاصة القول إنَّ هذه الأنوار قد ظهرت من مصباح واحد، وهذه الأثمار قد أتت من شجرة واحدة، فلا فرق ملحوظ بينهم في الحقيقة ولا تغيير مشهود. كلّ ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء من خلقه. ولنحترز إن شاء الله عن أرض النّفي، ونتقدم إلى بحر الإثبات ، حتّى نشاهد ببصرٍ مقدّس عن العناصر والأضداد العوالم الإلهيّة، من عوالم الجمع والفرق، والتّوحيد والتّفريق، والتّحديد والتّجريد، ونطير إلى أعلى أفق القرب والقدس لمعاني كلمات الحضرة الإلهيّة.

إذًا قد أصبح معلومًا من هذه البيانات بأنَّه لو تظهر طلعة من الطّلعات الإلهيّة، في الآخر الّذي لا آخر له، وتقوم على أمر قام به طلعة في الأوّل الّذي لا أول له، فإنّه في هذا الحين يصدق على طلعة الآخر حكم طلعة الأوّل. لأنَّ طلعة الآخر الّذي لا آخر له قد قامت بنفس الأمر الّذي قام به طلعة الأوّل الّذي لا أوّل له. ولهذا فإن نقطة البيان روح ما سواه فداه قد شبّه شموس الأحديّة بالشّمس، ولو أنّها تطلع من الأوّل الّذي لا أوّل له إلى الآخر الّذي لا آخر له، فإنّما هي هي تلك الشّمس. والآن لو يقال بأنَّ هذه الشّمس هي هي الشّمس الأوليّة فهو صحيح. ولو يقال عنها بأنَّها رجوع تلك الشّمس فهو صحيح أيضًا. وكذلك يصدق من هذا البيان ذكر صيغة الختميّة على طلعة البدء وذكر صيغة البدئيّة على طلعة الختم، لأنَّ ما يقوم به طلعة الختم هو هو بعينه ما قام به جمال البدء.

وبالرّغم من وضوح هذا المطلب لدى الشّاربين من صهباء العلم والإيقان، فإنّه مع ذلك، كم من النّفوس بسبب عدم البلوغ إلى معناه، قد احتجبوا بذكر خاتم النّبييّن، وصاروا محجوبين وممنوعين عن جميع الفيوضات. مع أنَّ الحضرة المحمّديّة قد قالت: (أمّا النّبيون فأنا). وكذلك قالت: (إنّني آدم ونوح وموسى وعيسى) كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومع هذا لم يتفكّروا كيف أنَّه بعد أن جاز لذلك الجمال الأزليّ أن يقول عن نفسه، إنّي آدم الأوّل، كيف لا يجوز له كذلك أن يقول إنّي آدم الآخر. وكما أطلق على نفسه أنَّه بدء الأنبياء أي آدم، كذلك بمثل هذه الكيفيّة يطلق على ذلك الجمال الإلهيّ أنَّه ختم الأنبياء أيضًا. وهذا الأمر واضح جدًّا لأنَّه بعد أن صحّ على حضرته أنَّه بدء النّبيّين، كذلك يصحّ عليه بنفس هذه الكيفيّة أنَّه ختم النّبيّين.

ولقد امتُحن جميع أهل الأرض في هذا الظّهور بهذا المطلب حيث أنَّ الأكثرين منهم قد تمسّكوا بنفس هذا القول وأعرضوا عن صاحبه. وإنّني لا أدري ماذا أدرك هؤلاء القوم من الأوّليّة والآخريّة للحقّ جلَّ ذكره. إن يكن المقصود من الأوّليّة والآخريّة هي الأوّليّة والآخريّة في العالم الملكيّ، فإنّ عالم الملك لم يصل بعدُ إلى المنتهى، فكيف تصدق إذًا الآخريّة على تلك الذّات الأحديّة؟ بل إنّه في هذا المقام تكون الأوّليّة نفس الآخريّة والآخريّة عين الأوّليّة.

وخلاصة القول إنَّه كما تصدق الآخريّة على ذاك المربّي للغيب والشّهود في الأوّل الّذي لا أوّل له، كذلك تصدق أيضًا على مظاهره بنفس هذه الكيفيّة في الحين الّذي يصدق فيه عليهم اسم الأوّليّة يصدق فيه عليها أيضًا اسم الآخريّة. وفي الحين الّذي يكونون فيه جالسين على سرير البدئيّة يكونون في نفس الحين مستقرّين على عرش الختميّة. ولو يكون لأحد بصر حديد، فإنّه يشاهد بأنَّ مظهر الأوّليّة والآخريّة والظّاهريّة والباطنيّة والبدئيّة والختميّة، هم هؤلاء الذّوات المقدّسة والأرواح المجرّدة والأنفس الإلهيّة. ولو تكون طائرًا في هواء قدس (كان الله ولم يكن معه من شيء) لترى أنَّ جميع هذه الأسماء لدى تلك السّاحة معدومة عدمًا صرفًا ومفقودة فقدًا بحتًا. وما كنت تحتجب أبدًا بعدها بهذه الحجبات والإشارات والكلمات. فما أعلى وألطف هذا المقام الّذي فيه لا يهتدي جبرائيل إلى السّبيل بغير دليل ولا يستطيع الطّير القدسيّ أن يطير فيه بغير إعانة غيبيّة.

والآن فافهم قول عليّ أمير المؤمنين حيث قال: (كشف سُبُحات الجلال من غير إشارة). ومن جملة السّبحات المجلّلة هم علماء العصر وفقهاء زمان الظّهور الّذين هم جميعًا نظرًا لعدم إدراكهم، واشتغالهم بالدّنيا، وحبّهم للرّياسة الظّاهريّة، لم يذعنوا لأمر الله. بل أنَّهم كانوا لا يمدون آذانهم لاستماع النّغمة الإلهيّة، ﴿بَلْ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُم في آذانِهِم﴾. ولما كان العباد قد اتّخذوهم أيضًا أولياء من دون الله لذا هم منتظرون لرفض تلك الخُشبُ المسنّدة وقبولهم. لأنَّه ليس لهم بصر ولا سمع ولا قلب ليميّزوا به ويفرّقوا من تلقاء أنفسهم بين الحقّ والباطل. مع أنَّ جميع الأنبياء والأولياء والأصفياء قد أمروا العباد من قِبَل الله بأن يسمع كلٌّ بإذنه ويرى بعينه، مع ذلك ما اعتنوا بنصح الأنبياء بل صاروا تابعين لعلمائهم ولا زالوا لهم تابعين.

ولو أنَّ مسكينًا أو فقيرًا عاريًا عن لباس أهل العلم يقول: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ ليقولن في جوابه: إنّ هؤلاء العلماء والفضلاء مع ما لهم من الرّياسة الظّاهرة، والألبسة الأنيقة اللّطيفة، لم يفهموا ولم يدركوا الحقّ من الباطل، وأنت وأمثالك قد أدركته؟ ويتعجّبون غاية العجب من مثل هذا القول، بالرّغم من أنَّ أمم السّلف هم أكثر عددًا منهم وأعظم قوّة وأكبر شأنًا. ولو تكون الكثرة ولباس العلم دليلاً وشاهدًا على العلم والصّدق، لكانت الأمم السّابقة البتّة أولى بذلك منهم وأسبق.

وفضلاً عن وجود هذه الفقرة فإنّه من المعلوم الواضح أنَّه في جميع أحيان ظهور المظاهر القدسيّة، كان علماء عصرهم يصدّون الخلق عن سبيل الحقّ، يشهد بذلك ما دُوِّنَ في جميع الكتب والصّحف السّماويّة. فإنّه ما بعث أحد من الأنبياء إلّا وكان مَعرض البغض والإنكار والرّدّ والسّبّ من العلماء، قاتلهم الله بما فعلوا من قبلُ، ومن بعدُ كانوا يفعلون. والآن أيّ سبحات الجلال أعظم من هياكل الضّلال هذه؟ واللهِ إِنَّ كشفها أعظم الأمور وخرقها أكبر أعمال. وفقنا الله وإيّاكم يا معشر الرّوح، لعلّكم بذلك في زمن المستغاث توفّقون، ومن لقاء الله في أيّامه لا تحتجبون.

وكذلك فإنّ من السّبحات المجلّلة أيضًا ذكر خاتم النّبيّين وأمثال تلك الإطلاقات، الّتي يعدّ كشفها من أعظم الأمور لدى هؤلاء الهمج الرّعاع، الّذين ظلّ جميعهم محتجبين بهذه الحجبات المحدودة والسّبحات المجلّلة العظيمة، أما سمعوا نغمة طير الهويّة القائل: (إنّي تزوّجت بألف فاطمة، كلّ واحدة منهنّ كانت بنت محمّد بن عبد الله خاتم النّبيّين). فانظروا الآن كم من الأسرار مستورة في سرادق العلم الإلهيّ، وكم من جواهر علمه مكنونة في خزائن العصمة، حتّى توقن بأنَّ صنعه لم يكن له بداية ولن يكون له نهاية. وبأنَّ فضاء قضائة أعظم من أن يحدّد بالبيان، أو تطويه طيور الأفئدة. وأنَّ تقديراته القدريّة أكبر من أن تنتهي بإدراك نفس خلقه موجود من الأوّل الّذي لا أوّل له إلى الآخر الّذي لا آخر له. ومظاهر جماله لم يعرف لها من بداية، وستستمرّ إلى نهاية ما لا نهاية له. ففكّر الآن في هذا البيان وتأمّل كيف يصدق حكمه على جميع هاته الطّلعات.

وكذلك فأدرك نغمة الجمال الأزليّ حسين بن عليّ حيث يقول لسلمان ما مضمونه: (إنّي كنت مع ألف آدم، والمدّة الفاصلة بين كلّ آدم وآدم خمسون ألف سنة. وقد عرضت على كلّ منهم ولاية أبي). ثمَّ يذكر من التّفاصيل حتّى يقول: (إنّي خضت ألف موقعة في سبيل الله بحيث أنَّ أصغر موقعة وأقلّها كانت مثل غزوة خيبر الّتي حارب فيها أبي وجاهد ضدّ الكفّار) فَكِدَّ نفسك الآن وأجهدها حتّى تفهم من هاتين الرّوايتين أسرار كلّ من الختم والرّجع والصّنع الّذي لا أوّليّة له ولا آخريّة.

فالخلاصة يا حبيبي أنَّ نغمة اللّاهوت مقدّسة عن أن تحدّ بحدود سمع أهل النّاسوت وإدراكاتهم وأنَّى لنملة الوجود أن تطرق بقدمها في ساحة المعبود. مع ذلك فالنّفوس الضّعيفة بسبب عدم الإدراك تنكر هذه البيانات المعضلة وتنفي أمثال هذه الأحاديث. بلى لا يعرف ذلك إلّا أولو الألباب. قل هو الختم الّذي ليس له ختم في الإبداع، ولا بدء له في الاختراع. إذًا يا ملأ الأرض في ظهورات البدء تجلّيات الختم تشهدون.

يا للعجب الشّديد من أنَّ هؤلاء القوم يتمسّكون في بعض المراتب الّتي تطابق ميولهم وأهواءهم بأيّة منزلة في الفرقان، أو حديث من أحاديث أولي الإيقان. وفي بعض المراتب الّتي تغاير أهواءهم يعرضون بالمرّة ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ ما لكم كيف تحكمون ما لا تشعرون. مثل ذلك ما أنزله ربّ العالمين في الكتاب المبين بعد أن ذكر الختميّة في قوله تعالى: ﴿وَلَكِن رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وعد جميع النّاس بلقائه، كما تشهد بذلك آيات الكتاب الدّالّة على لقاء مليك البقاء، ممّا قد ذكرنا بعضًا منها. والله الأحد شاهد على هذا القول بأنّه لم يذكر في الفرقان أمر أعظم من اللّقاء، ولا أصرح منه. فهنيئًا لمن فاز به في يوم أعرض عنه أكثر النّاس كما أنتم تشهدون.

ومع ذلك صاروا معرضين بالحكم الأول عن الأمر الثّاني بالرّغم من أنَّ حكم اللّقاء في يوم القيامة منصوص في الكتاب. ولقد ثبت وتحقّق بالدّلائل الواضحة أنَّ المقصود من القيامة هو قيام مظهره على أمره. وكذلك المقصود من اللّقاء لقاء جماله في هيكل ظهوره. إذ أنّه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾. وبالرّغم من جميع هذه المطالب الثّابتة والبيانات الواضحة قد تمسّكوا بذكر الختم من حيث لا يشعرون. وظلّوا محتجبين بالمرّة عن موجد الختم والبدء في يوم لقائه. ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وبصرف النّظر عن هذه المراتب، لو كان هؤلاء القوم قد ذاقوا قطرة من العين اللّطيفة عين يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لما كانوا يعترضون أبدًا على محلّ الأمر بمثل هذه الاعتراضات غير المرضية - الأمر والقول والفعل في قبضة قدرته. كلّ شيء في قبضة قدرته أسير. وإنّ ذلك عليه سهل يسير. فاعل لما يريد وعامل بما يشاء. من قال لِمَ وبِمَ فقد كفر. ولو أنّ هؤلاء العباد يشعرون قليلاً بما ارتكبوا ليَهلكُنَّ في الحين وليَقذفُنَّ أنفسهم بأيديهم إلى النّار الّتي هي مقرّهم ومرجعهم. أما سمعوا قوله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ ومع وجود هذه البيانات كيف يقدر المرء أن يتجاسر ويسأله ويشتغل بزخارف القول.

سبحان الله قد بلغ جهل العباد وعدم عرفانهم إلى حدّ ومقام أصبحوا فيه مقبلين إلى علمهم وإرادتهم، ومعرضين عن علم الحقّ وإرادته جلَّ وعزّ. فأنصفوا الآن لو يكون هؤلاء العباد موقنين بهذه الكلمات الدّرّيّة، والإشارات القدسيّة، ويعتقدون أنَّ الحقّ يفعل ما يشاء كيف بعدئذ يتشبّثون بهذه الزّخارف من القول ويتمسّكون بها بل إنّهم كانوا يقرّون بأرواحهم كلّ ما يقوله ويذعنون له. قسمًا بالله لو لم تسبق التّقديرات المقدّرة والحكم القدريّة لأهلكت الأرضُ جميع هؤلاء العباد ولكن يؤخّر ذلك إلى ميقات يوم معلوم.

الخلاصة قد انقضى ألف سنة ومايتان وثمانون من السّنين من ظهور نقطة الفرقان، وجميع هؤلاء الهمج الرّعاع يتلون الفرقان في كلّ صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود منه، وهم يقرأون ويكرّرون بعض الآيات الصّريحة في الدّلالة على المطالب القدسيّة، وعلى مظاهر العزّ الصّمدانيّة. ومع ذلك لم يدركوا شيئًا منها بل إنّهم عجزوا عن أن يدركوا في كلّ تلك المدّة، أنَّ المقصود من تلاوة الكتب وقراءة الصّحف في كلّ عصر، هو لإدراك معانيها والبلوغ إلى معارج أسرارها. وإلا فالتّلاوة بلا معرفة ليس منها البتّة فائدة كلّيّة.

ولقد حدث أن حضر شخص ذات يوم عند هذا الفقير إلى بحر المعاني، وجاء في سياق الحديث معه ذكر علائم القيامة والحشر والنّشر والحساب. فأصرّ وألحّ على الاستفهام منّا كيف تم حساب الخلائق في الظّهور البديع مع أنّه لم يطّلع عليه أحد. فألقينا عليه حينئذ بعضًا من الصّور العلميّة والشّؤونات الحكميّة على قدر إدراك السّامع وفهمه. ثمَّ قلنا له بعد ذلك، أفي كلّ تلك المدّة لَمْ تتل القرآن؟ وألَم تر الآية المباركة الّتي تقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ﴾؟ وألم تلتفت إلى أنَّ المقصود من معنى السّؤال ليس كما أدركتموه؟ بل إنَّ السّؤال ليس باللّسان ولا بالبيان كما تشعر به وتدلّ عليه هذه الآية. لأنّه يقول بعدها: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ﴾.

إذن بهذا يكون حساب الخلائق من سيماهم، وظهور كفر الجميع وإيمانهم وعصيانهم من وجوههم، مثل ما هو مشهود اليوم من معرفة أهل الضّلالة بسيماهم، وتمييزهم بها عن أصحاب الهداية. فلو أنَّ هؤلاء العباد يمعنون النّظر في آيات الكتاب خالصًا لوجه الله وطلبًا لرضائه لِيُدْرِكون منها البتّة جميع ما يطلبونه بدرجة أنّهم يدركون من آياته ظاهرًا مكشوفًا كلّ الأمور الواقعة في هذا الظّهور من الكلّيّ والجزئيّ، حتّى خروج مظاهر الأسماء والصّفات من الأوطان، وإعراض الملّة وإغماض الدّولة، وسكون مظهر الكلّيّة واستقراره في الأرض المعلومة المخصوصة. ولكن لا يعرف ذلك إلّا أولو الألباب. أختِم القول بما نزّل على محمّد من قبلُ ليكون ختامه المسك الّذي يهدي النّاس إلى رضوان قدس منير. قال وقوله الحقّ: ﴿واللهُ يَدْعُوا إلى دارِ السَّلامِ ويَهدي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقيمٍ﴾. ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. ليسبق هذا الفضل على العالم، والحمد لله ربّ العالمين.

لقد كرّرنا البيان في كلّ مطلب لعلَّ يأخذ كلّ امرئ من الشّريف والوضيع حظّه ونصيبه من هذه البيانات على قدره واستعداده. وإذا ما عجز إنسان عن إدراك بيانٍ، فإنّه يدرك مقصوده من بيان آخر ليعلم كلّ أناس مشربهم.

قسمًا بالله إنَّ لهذه الحمامة التّرابيّة نغمات غير هاته النّغمات، ولها رموز غير هذه البيانات، كلّ نكتة منها مقدّسة عمّا سبق بيانه وجرى به القلم. فلتحدّد المشيئة الإلهيّة الوقت الّذي فيه تبرز عرائس المعاني من القصر الرّوحانيّ بغير حجاب، وتخطو بقدم الظّهور في ساحة القِدم. وما من أمر إلّا بعد إذنه، وما من قدرة إلّا بحوله وقوّته، وما من إله إلّا هو له الخلق والأمر، وكلّ بأمره ينطقون ومن أسرار الرّوح يتكلّمون.

لقد سبق أن بيّنّا من قبل أنَّ للشّموس المشرقة من المشارق الإلهيّة مقامين، أحدهما مقام التّوحيد ورتبة التّفريد كما سبقت الإشارة إليه من قبل ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾. وثانيهما مقام التّفضيل ومقام عالم الخلق ورتبة الحدودات البشريّة، ففي هذا المقام لكلّ واحد منهم هيكل معيّن، وأمر مقرّر، وظهور مقدّر، وحدود مخصوصة. بمثل ما إنَّ كلّ واحد منهم موسوم باسم، وموصوف بوصف، ومأمور بأمر بديع، وشرع جديد، كما يقول: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾. وبالنّظر لاختلاف هذه المراتب والمقامات تظهر بياناتٌ وكلماتٌ مختلفةٌ من تلك الينابيع للعلوم السّبحانيّة. وإلّا في الحقيقة تعتبر جميعها لدى العارفين بمعضلات المسائل الإلهيّة في حكم كلمة واحدة. ولما لَمْ يطّلعْ أكثر النّاس على المقامات المذكورة، لهذا يضطربون، ويتزلزلون من الكلمات المختلفة الصّادرة من تلك الهياكل المتّحدة.

إذن أصبح معلومًا أزلاً وأبدًا، أنَّ جميع هذه الاختلافات في الكلمات هي من اختلافات المقامات. ولهذا أُطْلِقت ولا تزال تطلق على جواهر الوجود هؤلاء في مقام التّوحيد وعلو التّجريد، صفات الرّبوبيّة، والألوهيّة، والأحديّة الصّرفة، والهويّة البحتة، لأنّ جميعهم ساكنون على عرش ظهور الله، وواقفون على كرسيّ بطون الله، أعني أنَّ ظهور الله ظاهرٌ بظهورهم، وجمالَ الله مشرقٌ من وجوههم. لهذا قد ظهرت نغمات الرّبوبيّة من هذه الهياكل الأحديّة.

ولكن في المقام الثّاني الّذي هو مقام التّمييز والتّفضيل والتّحديد ومقام الإشارات والدّلالات الملكيّة، تظهر منهم العبوديّة الصّرفة، والفقر البحت، والفناء الباتّ كما يقول: إنّي عبد الله، وما أنا إلّا بشر مثلكم.

فأدرك من هذه البيانات المثبوتة المحقّقة مسائلك الّتي قد سألت عنها، حتّى تكون راسخًا في دين الله غير متزلزل من اختلافات بيانات الأنبياء والأصفياء.

وإذا ما سمع من المظاهر الجامعة: أنّي أنا الله، فهو حقّ ولا ريب فيه. إذ قد ثبت مرارًا أنَّ بظهورهم وبصفاتهم وبأسمائهم، يظهر في الأرض ظهور الله واسم الله وصفة الله. ولهذا يقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ وكذلك يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾. وإذا ما تغنّوا بنغمة: إنّي رسول الله، فإنّه أيضًا صحيح ولا شكّ فيه كما يقول: ﴿مَا كَانَ محمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللهِ﴾. وفي هذا المقام هم جميعًا مرسلون من لدن ذاك السّلطان الحقيقيّ والكينونة الأزليّة.

وإذا ما نادى كلّ واحد منهم بنداء: أنا خاتم النّبيّين، فهو أيضًا حقّ ولا سبيل إلى الرّيب فيه ولا طريق إلى الشّبهة. لأنّ الجميع حكمهم حكم ذات واحدة، ونفس واحدة، وروح واحدة، وجسد واحد، وأمر واحد. وكلّهم مظهر البدئيّة والختميّة، والأوليّة والآخريّة والظّاهريّة والباطنيّة لروح الأرواح الحقيقيّ وساذج السّواذج الأزليّ.

ولو يقولون: نحن عباد الله، فإنّ هذا أيضًا ثابت وظاهر، حيث قد ظهروا في الظّاهر بمنتهى رتبة العبوديّة. تلك العبوديّة الّتي لا يستطيع أحد في الإمكان أن يظهر بنحوٍ منها. لذلك قد ظهرت أذكار الرّبوبيّة والألوهيّة من جواهر الوجود هؤلاء في حين استغراقهم في بحار القدس الصّمديّ، وارتقائهم إلى معارج المعاني للسّلطان الحقيقيّ. وإذا ما نظر بعين التّدقيق، يرى أنّهم في هذه الرّتبة قد اعتبروا أنفسهم في منتهى العدم والفناء أمام الوجود المطلق، والبقاء الصّرف حتّى كأنّهم عدّوا أنفسهم عدمًا صرفًا، وجعلوا ذكرهم في تلك السّاحة شِركًا. لأنّ مطلق الذّكر في هذا المقام دليل على الوجود والبقاء. وإنّ هذا لَخطأ كبير عند الواصلين، فكيف بِذكر الغير أو اشتغال القلب واللّسان والفؤاد والرّوح بغير ذكر المحبوب، أو ملاحظة العين غير جماله، أو إصغاء الأذن لغير نغمته، أو مشي الرّجل في غير سبيله.

ولقد هبّت نسمة الله في هذا الزّمان وأحاطت روح الله من في الإمكان، فامتنع القلم عن الحركة، وتوقّف اللّسان عن البيان.

والخلاصة أنّه بالنّظر إلى هذا المقام قد ظهر منهم ذكر الرّبوبيّة وأمثالها. وفي مقام الرّسالة أظهروا الرّسالة، وهكذا في كلّ مقام جاءوا بذكر حسب اقتضائه، ونسبوا كلّ هذه الأذكار إلى أنفسهم، فهي أذكار من عالم الأمر إلى عالم الخلق، ومن عوالم الرّبوبيّة إلى العوالم الملكيّة، لهذا فمهما يقولون، ومهما يذكرون، من الألوهيّة والرّبوبيّة، والنّبوّة والرّسالة، أو الولاية والإمامة، والعبوديّة، كلّه حقّ ولا شبهة فيه. إذن يجب التّفكّر في هذه البيانات الّتي استدللنا بها حتّى لا يضطرب أحد بعدها، ولا يتزلزل من الاختلافات في أقوال المظاهر الغيبيّة، والمطالع القدسيّة.

والمقصود أنّه يجب التّفكّر في كلمات شموس الحقيقة حتّى إذا لم تدرك وتعرف يحب الاستفهام والسّؤال عنها من الواقفين على مخازن العلم حتّى يبيّنوها ويوضّحوها، ويرفعوا الإشكال عنها. لأنّهم يفسّرون الكلمات القدسيّة بعقولهم القاصرة، وإذا لم يجدوها مطابقة لأهوائهم وما في أنفسهم، يقومون على الرّدّ والاعتراض. وهكذا حال علماء العصر وفقهائه في هذا اليوم. من أولئك الّذين يجلسون على مسند العلم والفضل، ويَعتَبرون الجهل علمًا، ويسمّون الظّلم عدلاً، فإنّهم لو يسألون شمس الحقيقة عن مجعولات أفكارهم، ولو إنّهم يسمعون منها جوابًا غير مطابق لما فهموه، أو لما أدركوه من الكتاب بأنفسهم، فإنّهم البتّة ينفون العلم عن معدن العلم ومنبعه، كما وقع هذا في كلّ الأزمان.

مثلاً مذكور في السّؤال عن الأهِلَّة لما سئلوا محمّدًا سيّد الوجود وأجابهم حضرته حسب الأمر الإلهيّ بقوله: ﴿هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ فإنّهم بعد الاستماع نفوا عن حضرته صفة العلم.

ومثل ذلك حدث في آية الرّوح الّتي تقول ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، فإنّه لمّا ذكر لهم هذا الجواب صاحوا جميعًا محتجّين قائلين: وا ويلاه من جاهل لا يعرف ما هي الرّوح، ويعدّ نفسه عالمًا بالعلم اللّدنيّ. واليوم حيث أنَّ علماء العصر يفتخرون باسم حضرته وقد رأوا آباءهم مذعنين له أيضًا، فلذلك هم قابلون لحكمه بالتّقليد. وأنصفوا لو أنّهم يسمعون اليوم مثل هذا الجواب في الإجابة عن أمثال هذه المسائل. فإنّهم لا بدّ يَرُدُّون ويعترضون ويُعيدون نفس كلمات السّابقين كما فعلوا. مع أنَّ جواهر الوجود هؤلاء مقدّسون عن كلّ هذه العلوم المجعولة، ومنزّهون عن جميع هذه الكلمات المحدودة، ومتعالون عن إدراك كلّ مدرك. كلّ هذه العلوم تلقاء ذاك العلم كذب صرف، وجميع هذه الإدراكات إفك محض. بل إنَّ كلّ ما يظهر من معادن الحكمة الإلهيّة ومخازن العلم الصّمداني فهو عين العلم. وحديث (العلمُ نقطةٌ كَثَّرَهَا الجاهلون) دليلٌ عليه، وحديث (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء) مثبّت لهذا البيان.

وخلاصة القول أنّه لما لم يدركوا معنى العلم، وسَمّوا أفكارهم الوهميّة النّاشئة من مظاهر الجهل علمًا لذا قد ورد منهم على مبدأ العلوم ما قد رأيت وسمعت.

فمثلاً، إنَّ أحدًا من العباد المشهور بالعلم والفضل، والّذي يعدّ نفسه من صناديد القوم، قد ردّ وسبّ جميع العلماء الرّاشدين في كتابه، كما هو مشهود في كلّ مَوْقع منه تلويحًا وتصريحًا. ولما كان هذا العبد قد سمع كثيرًا عن ذكره، أردت أن أتصفّح قليلاً في رسائله، رغم أنَّ هذا العبد ما كان له ميل للإقبال على النّظر في كلمات الغير ولن يكون. إلّا أنّه لما سأل جمعٌ عن أحواله واستفسروا عنه، لهذا صار لزامًا علينا أن ننظر قليلاً في كتبه، ونجيب السّائلين بعد الاطّلاع والمعرفة.

والخلاصة أنَّ مؤلفاته باللّغة العربيّة لم يتّفق وقوعها في يدنا حتّى أخبرنا شخص ذات يوم بأنّه يوجد في هذا البلد كتاب له يسمّى بإرشاد العوامّ. ولو أنّه يُشْتَمُّ من هذا الاسم رائحة الكبر والغرور، حيث فرض نفسه عالمًا والنّاس جهلاء. وفي الحقيقة قد عُرِفت جميع مراتبه من اسم هذا الكتاب، وثبت بأنّه سالك سبيل النّفس والهوى، وساكن في تيه الجهل والعمى، كأنّه نسي الحديث المشهور القائل: (العلمُ تمامُ المعلوم، والقدرةُ والعزّةُ تمامُ الخلق). فمع هذا طلبنا الكتاب، ومكث عند هذا العبد أيّامًا معدودات، وكأنّنا نظرنا فيه مرّتين، وتصادف في المرّة الثّانية أن وقع نظرنا على موضع فيه حكاية معراج سيّد (لولاك)، إشارة إلى الحديث (لولاك لما خلقت الأفلاك). فلاحظنا أنّه دوّن نحوًا من عشرين علْمًا أو يزيد، وجعلها شرطًا لمعرفة المعراج. وكذلك عرفنا منه بأنّه لو كانت نفس لا تدرك هذه العلوم حقّ إدراكها، فإنّها لا تفوز بمعرفة هذا الأمر العالي المتعالي. ومن جملة العلوم الّتي ذكرها، علم الفلسفة، وعلم الكيميا، وعلم السّيميا. وجعل إدراك هذه العلوم الفانية المردودة شرطًا لإدراك العلوم الباقية القدسيّة.

سبحان الله مع هذا الإدراك، كم من الاعتراضات والتّهم قد وردت منه على هياكل العلم الإلهيّ غير المتناهي؟ فنعم ما قال:

(أتتهمُ الّذين جعلهم الله أمناءَ

على خزائن السّبع الطّباق)

ولم يلتفت إلى هذه المزخرفات من الأقوال أحدٌ من أهل البصيرة. إنَّ أمثال هذه العلوم لم تزل ولا تزال مردودة عند الحقّ. وكيف يكون إدراك العلوم المردودة عند العلماء الحقيقيّين شرطًا من شروط إدراك معارج المعراج، مع أنَّ صاحب المعراج ما حمل حرفًا من هذه العلوم المحدودة المحجوبة! والقلب المنير، قلب سيّد لولاك كان مقدّسًا ومنزّهًا عن جميع هذه الإشارات فنعم ما قال:

(كلّ الإدراكات محمولة على الحمر العرجاء

بينما الحقّ راكب على الرّيح ومنطلق كالسّهم).

فوالله لو يريد إنسان إدراك سرّ المعراج أو تناول قطرة من عرفان هذا البحر، ويكون لديه أيضًا هذه العلوم، بمعنى أنَّ مرآة قلبه تكون مغبرّة من نقوش هذه العلوم، يجب عليه حتمًا أن يُنظِّفها ويُطهِّرها، حتّى يتجلّى سرّ هذا الأمر في مرآة قلبه.

واليوم ينهى النّاسَ عن تحصيل هذه العلوم المنغمسون في بحر العلوم الصّمدانيّة، والسّاكنون في فُلك الحكمة الرّبّانيّة. فصدورهم المنيرة بحمد الله منزّهة عن هذه الإشارات، ومقدّسة عن تلك الحجبات. ولقد حرقنا الحجاب الأكبر بنار محبّة المحجوب، ذاك الحجاب الّذي قيل فيه – (العلم حجاب الأكبر) – وأقمنا مكانه سرادقًا آخر. وبهذا نفتخر ولله الحمد بأنّنا أحرقنا سبحات الجلال بنار جمال المحبوب، ولم نترك في القلب والفؤاد محلاًّ لغير المقصود، وما كنّا متمسّكين بعلم غير علمه، ولا متشبّثين بمعلوم غير تجلّي أنواره.

والخلاصة إنّي تعجّبت كثيرًا، حيث لم أرَ في أقواله هذه إلّا أنّه يريد أن يعرف النّاس بأنّ لديه جميع هذه العلوم ومع ذلك أقسم بالله بأنّه ما مرّ عليه نسيم من رياض العلم الإلهيّ، وما اطّلع على حرف من أسرار الحكمة الرّبّانيّة، بل لو يقال له معنى العلم ليضطرب حتمًا، وليندكّ جبل وجوده. ومع هذه الأقوال السّخيفة الّتي لا معنى لها، كم ادّعى من الادّعاءآت الزّائدة عن الحدّ.

سبحان الله كم أتعجّب من أناس ملتفّين حوله، وتابعين لمثل هذا الشّخص، حيث قنعوا بالتّراب وأقبلوا إليه، وأعرضوا عن ربّ الأرباب، واكتفوا بنعيق الغراب عن نغمة البلبل، وقنعوا بمنظر غراب البين عن جمال الورد. وعلاوة على ذلك، كم لاحظنا من أشياء أخرى من الكلمات المجعولة في هذا الكتاب. في الحقيقة إنّه لَمِن الظّلم أن ينشغل القلم بتحرير ذكر تلك المطالب أو يُصرف الوقت فيها، ولكن إذا وُجد المحكّ يُعرف الحقّ من الباطل، والنّور من الظّلمة، والشّمس من الظّلّ.

ومن جملة العلوم الّتي يدّعيها هذا الشّخص صنعة الكيميا. وإنّني لأتوق أن يطلب منه سلطان أو شخص مقتدرٌ ظهورَ هذا العلم من عالم اللّفظ إلى عالم الشّهود، ومن حيّز القول إلى حيّز الفعل. وهذا العاري عن العلم الفاني، مع كونه ما ادّعى أمثال هذه العلوم، ولا اعتبر وجودها دليلاً على العلم، أو فُقْدَانَها علّة للجهل، فإنّي أتحدّى هذا الرّجل في هذه الفقرة، حتّى يتّضح الصّدق من الكذب. ولكن ما الفائدة وأنا لم أرَ من أناس هذا الزّمان إلّا جرح السّنان، ولم أذق شيئًا منهم غير السّمّ القاتل. وإلى الآن لا يزال أثر الحديد باقيًا في عنقي، وعلائم التّعذيب ظاهرةً في كلّ بدني.

وأمّا عن مراتب علمه وجهله، وعرفانه وإيقانه، فقد ورد ذكرها في الكتاب الّذي ما فرّط فيه من شيء، ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ﴾ ثمَّ يتفضل بذكر آية أخرى حتّى ينتهي بهذه الآية ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ فانظر كيف أنّ وصفه مذكور في محكم الكتاب بغاية الوضوح والصّراحة. ومن عجب هذا الشّخص أيضًا أنّه يدعو نفسه في كتابه من باب خفض الجناح، بأنّه العبد الأثيم. أثيم في الكتاب، وعزيز بين الأنعام، وكريم في الاسم.

تفكّر في الآية المباركة، حتّى يثبت بوجه صحيح على لوح قلبك معنى: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. ومع وجود هذا فقد اعتقد به جمعٌ، وأعرضوا عن موسى العلم والعدل وتمسّكوا بسامريّ الجهل. وأدبروا عن شمس المعاني المشرقة في السّماء الأزليّة الإلهيّة، واعتبروها على زعمهم كأنّها لم تكن.

وقصارى القول يا أخي، إنَّ لآلئ العلم الرّبّانيّ لا تتناولها يد إلّا من المعدن الإلهيّ. ورائحة الرّيحان المعنويّ لا تستنشق إلّا من حديقة الأزهار الحقيقيّة. وأوراد علوم الأحديّة لا تنبت إلّا في مدينة القلوب الصّافية. ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالّذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾.

ولما كان من المفهوم أنَّ تغنّيات ورقاء الهويّة لا يدركها أحد إلّا من أهلها، لهذا يجب ويلزم على كلّ نفس أن تعرض مشكلات المسائل الإلهيّة، ومعضلات إشارات المطالع القدسيّة على أصحاب الأفئدة المنيرة، وحملة أسرار الأحديّة، حتّى تحلّ المسائل بالتّأييدات الرّبّانيّة، والفيوضات الإلهيّة. لا بتأييدات العلوم الاكتسابيّة ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

ولكن يا أخي، إنَّ الشّخص المجاهد الّذي أراد أن يخطو بقدم الطّلب والسّلوك في سبيل معرفة سلطان القدم، يجب عليه في بداية الأمر، أن يجعل القلب الّذي هو محلّ ظهور تجلّي الأسرار الغيبيّة الإلهيّة، مطهّرًا ومنزّهًا عن كلّ غبرة مظلمة من غبار العلوم الاكتسابيّة، وإشارات المظاهر الشّيطانيّة. ويجعل الصّدر الّذي هو سرير ورود وجلوس محبّة المحبوب الأزليّ لطيفًا ونظيفًا. وكذلك يقدّس القلب عن كلّ ما يتعلّق بالماء والطّين. يعني أن يجعله مقدّسًا عن جميع النّقوش الشّبحيّة والصّور الظّلّيّة، بدرجة لا يبقى في القلب آثار للحبّ والبغض، كيلا يميل به الحبّ عن جهة أو يمنعه البغض عن جهة بلا دليل. وذلك كما منع اليوم أكثر النّاس لهذين الوجهين عن الوجه الباقي، وعن حضرة صاحب المعاني، وأصبحوا يرتعون بلا راع في صحارى الضّلالة والنّسيان. ويجب على السّالك في كلّ حين أن يتوكّل على الحقّ، وأن يعرض عن الخلق وينقطع عن عالم التّراب، ويتمسّك بربّ الأرباب. ولا يرجّح نفسه على أحد، ويمحو عن لوح قلبه الافتخار والاستكبار، ويأخذ نفسه بالصّبر والاصطبار، ويتّخذ الصّمت له شعارًا. ويحترز عن التّكلّم بما لا فائدة فيه، لأنّ اللّسان نار خامدة وكثرة البيان سمّ قاتل. فالنّار الظّاهرة تحرق الأجساد، ونار اللّسان تكوي الأفئدة والأرواح. أثر تلك النّار يفنى بعد ساعة، وأثر هذه النّار يبقى قرنًا من الزّمان.

وعلى السّالك أن يعدّ الغيبة ضلالة، وأن لا يخطو بقدمه أبدًا في تلك السّاحة، لأنّ الغيبة تطفئ سراج القلب المنير، وتميت الحياة من الفؤاد. يقنع بالقليل، ويزهد عن طلب الكثير. يعدّ مصاحبة المنقطعين غنيمة، والعزلة عن المتمسّكين بالدّنيا والمتكبّرين نعمة. يشتغل في الأسحار بالأذكار، ويسعى في طلب محبوبه بتمام الهمّة والاقتدار. يحرق حجاب الغفلة بنار الحبّ والذّكر. يفرّ كالبرق عمّا سوى الله. يجود بنصيب على البائسين، ولا يتوقّف عن العطاء والإحسان للمحرومين. ينظر بعين الرّعاية للحيوان، فكيف بالإنسان، وأهل البيان؟ لا يبخل بالرّوح عن المحبوب. ولا يحترز عن الحقّ خشية شماتة الخلق. وما لا يرضاه لنفسه لا يرتضيه لغيره، ولا يقول بما لا يفي به، ويعفو عن الخاطئين عند كمال القدرة عليهم، ويطلب لهم المغفرة ويصفح عن العاصين ولا ينظر إليهم بعين الحقارة، لأنّ حسن الخاتمة مجهول. إذ كم من عاص يتوفّق حينَ الموت إلى جوهر الإيمان ويذوق خمرة البقاء ويسرع إلى الملأ الأعلى. وكم من مطيع ومؤمن ينقلب حين ارتقاء الرّوح، ويستقرّ في أسفل دركات النّيران.

والخلاصة أنَّ المقصود من جميع هذه البيانات المتقنة والإشارات المحكمة هو أنّه يجب على السّالك والطّالب أن يعلم ويعتقد بأنّ ما سوى الله فانٍ، وما دون المعبود معدوم.

وهذه الشّرائط هي من صفات العالين، وسجايا الرّوحانيّين، ذكرت في شرائط المجاهدين،وسير السّالكين في مناهج علم اليقين. وبعد أن تتحقّق هذه المقامات في السّالك المنقطع، والطّالب الصّادق يصدق في حقّه لفظ المجاهد. وإذا ما صار مؤيّدًا بعمل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ فلا بدّ أن يستبشر ببشارة ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.

وإذا ما أُوقد في القلب سراج الطّلب والمجاهدة، والذّوق والشّوق، والعشق والوَلَه، والجذب والحبّ، وهبَّ نسيم المحبّة من شطر الأحديّة، تزول ظلمة ضلالة الشّكّ والرّيب، وتحيط أنوار العلم واليقين بكلّ أركان الوجود. ففي ذلك الحين يطلع البشير المعنوي كالصّبح الصّادق، من المدينة الإلهيّة بالبشارة الرّوحانيّة، ويستيقظ القلب والنّفس والرّوح من نوم الغفلة بصورِ المعرفة، ويُمنح حياة جديدة بديعة بتأييدات وعنايات من روح القدس الصّمدانيّ، بحيث يرى نفسه صاحب بصر جديد، وسمع بديع، وقلب وفؤاد جديد. ويرى الآيات الواضحة في الآفاق، والحقائق المستورة في الأنفس. ويشاهد بعين الله البديعة في كلّ ذرّة بابًا مفتوحًا للوصول إلى مراتب عين اليقين، وحقّ اليقين ونور اليقين. ويلاحظ في جميع الأشياء أسرار تجلّي الوحدانيّة، وآثار الظّهور الصّمدانيّة.

قسمًا بالله لو وصل السّالك في سبيل الهدى، والطّالب لمعارج التّقى، إلى هذا المقام الأرفع الأعلى، لاستنشق رائحة الحقّ من مسافات بعيدة، ولأدرك صبح الهداية النّورانيّ من مشرق كلّ شيء، ولدَلَّه كلّ ذرّة على المحبوب. وهداه كلّ شيء إلى المطلوب، ولاستطاع أن يميّز الحقّ من الباطل، ويفرّق بينهما، كما يفرّق بين الظّلّ والشّمس. فمثلاً لو هبَّ نسيمُ الحقّ عن مشرق الإبداع وهو في مغرب الاختراع، لاستنشق حتمًا شذى عبيره. وكذلك يميّز جميع آثار الحقّ من كلمات بديعة، وأعمال منيعة، وأفعال باهرة، عن أفعال وأعمال وآثار ما سواه، كما يميّز أهلُ اللّؤلؤِ اللّؤلؤةَ من الحجر، وكما يميز الإنسان الرّبيعَ من الخريف، والحرارة من البرودة. وإذا ما تطهّر مشام الرّوح من زكام الكون والإمكان، لوجد السّالك حتمًا رائحة المحبوب من منازل بعيدة، ولوَرَدَ من أثر تلك الرّائحة إلى مصر الإيقان لحضرة المنّان وَليشاهد بدائع حكمة الحضرة السّبحانيّة في تلك المدينة الرّوحانيّة. ولسمع جميع العلوم المكنونة من أطوار ورقة الشّجرة لتلك المدينة. وليسمع من تراب تلك المدينة بسمعه الظّاهر والباطن، التّسبيح والتّقديس لربّ الأرباب. وليشاهد بعين رأسه أسرار الرّجوع والإياب. فماذا أذكر من الآثار والعلامات، والظّهورات والتّجلّيات، المقدّرة في تلك المدينة بأمر سلطان الأسماء والصّفات؟ فيها يزول العطش بغير ماء. وتزداد حرارة محبّة الله بدون نار. وفي كلّ نبت مستور حكمة بالغة معنويّة. وعلى أغصان كلّ دوحةِ ورد ألفُ بلبل ناطق بالجذب والوله. ومن أورادها البديعة يظهر سرّ النّار الموسويّة. ومن نغماتها القدسيّة تبدو نغمة روح القدس العيسويّة تَهِب الغناء بغير ذهب، وتمنح البقاء بلا فناء. مكنون في كلّ ورقة منها نعيم، ومخزون في كلّ غرفة منها مئة ألف حكمة.

والمجاهدون في الله بعد الانقطاع عمّا سواه يأنسون بتلك المدينة بحيث لا ينفكّون آنًا عنها يسمعون الدّلائل القطعيّة من سنابل ذاك المحفل، ويأخذون البراهين الواضحة من جمال الورود ونغمات البلبل. وهذه المدينة تتجدّد وتتزيّن في رأس كلّ ألف سنة، أو ما يقلّ عن ذلك أو يزيد.

فيا حبيبي، يجب بذل الجهد حتّى نصل إلى تلك المدينة، ونكشف سبحات الجلال بالعناية الإلهيّة والألطاف الرّبّانيّة، حتّى نفدي أرواحنا الخامدة بتمام الاستقامة في سبيل المحبوب الجديد. ونعترف بكلّ عجز وانكسار لنفوز بهذا الفوز. وأمّا تلك المدينة فهي الكتب الإلهيّة في كلّ عهد. فمثلاً في عهد موسى كانت التّوراة، وفي زمن عيسى كان الإنجيل، وفي عهد محمّد رسول الله كان الفرقان. وفي هذا العصر البيان. وفي عهد من يبعثه الله كتابه الّذي هو مرجع كلّ الكتب والمهيمن على جميعها. وفي هذه المدائن أرزاق مقدرة، ونعم باقية مقرّرة، تهب الغذاء الرّوحانيّ، وتطعم النّعمة القدميّة، وتمنح نعمة التّوحيد لأهل التّجريد، وتجود على من لا نصيب لهم بنصيب، وتبذل كأس العلم للهائمين في صحراء الجهل. وفي هذه المدائن مخزون ومكنون الهداية والعناية، والعلم والمعرفة، والإيمان والإيقان لكلّ من في السّموات والأرض.

فمثلاً كان الفرقان حصنًا حصينًا لأمّة الرّسول، بحيث أنَّ كلّ من آوى إليه في زمانه بقي محفوظًا من رمي الشّياطين، ورمح المخالفين، والظّنونات المجتثّة، والإشارات الشّركيّة. ورزق كذلك بالفواكه الطّيّبة الأحديّة، وبأثمار علم الشّجرة الإلهيّة، وشرب من أنهار ماء المعرفة غيرِ الآسِن، وتذوّق خمر أسرار التّوحيد والتّفريد. حيث أنَّ جميع ما تحتاج إليه تلك الأمّة من أحكام الدّين، وشريعة سيّد المرسلين، موجودٌ ومعَيَّنٌ في ذاك الرّضوان المبين. وإنّه لهو الحجّة الباقية لأهله من بعد نقطة الفرقان. إذ أنَّ حكمه مسلّم، وأمره محقّق الوقوع، والجميع كانوا مأمورين باتّباعه إلى حين الظّهور البديع في سنة السّتّين. وبه يصل الطّالبون إلى رضوان الوصال، ويفوز المجاهدون والمهاجرون بسرادق القرب. وإنّه لدليل محكم وحجّة عظمى. وما عداه من الرّوايات والكتب والأحاديث ليس لها ذلك الفخر، لأنّ الحديث وأصحاب الحديث، وجودهم وقولهم مثبوت بحكم الكتاب ومحقّق به. وعلاوة على ما ذكر فإنّ في الأحاديث اختلافات كثيرة وشبهًا جمّة كما قال نقطة الفرقان في أواخر أيّامه: (إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب الله وعترتي). ومع أنَّ هناك أحاديث كثيرة قد نزلت من منبع الرّسالة، ومعدن الهداية، فإنّه لم يذكر شيئًا غير الكتاب. وقد جعله السّبب الأعظم، والدّليل الأقوم للطّالبين، حتّى يكون هاديًا للعباد إلى يوم الميعاد.

فانظر الآن بعين منصفة، وقلب طاهر، ونفس زكيّة. ولاحظ ما قرّره الله في كتابة المسلّم به بين الطّرفين، من العامّة والخاصّة، وجعله حجّة لمعرفة العباد. فينبغي لهذا العبد ولجنابك ولكلّ من على الأرض أن نتمسّك بنوره، ونميّز الحقّ من الباطل ونفرّق بين الضّلالة والهداية. لأنّ الحجّة انحصرت بأمرين أحدهما الكتاب وثانيهما عترته. ولما انقطعت العترة من بينهم انحصرت الحجّة حينئذٍ في الكتاب.

وفي أوّل الكتاب يقول: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ففي الحروف المقطّعة من الفرقان مستورة أسرار الهويّة، وفي صدف هذه الحروف مخزونة لآلئ الأحديّة، وليس هذا مجال ذكرها. ولكن بحسب الظّاهر مقصود حضرته ممّا خاطبه به هو أن يا محمّد، إنّ هذا الكتاب المنزّل من سماء الأحديّة لا ريب ولا شكّ فيه، وهو هدى للمتّقين، فلاحظوا بأنّ هذا الفرقان قد قرّره وقدّره لهداية كلّ من في السّموات والأرض، وشهد ذات الأحديّة، وغيب الهويّة بنفسه على أنّه لا شكّ ولا شبهة فيه، وأنّه هاد للعباد إلى يوم الميعاد، فهل من الإنصاف أن يشكّ هؤلاء العباد، ويشتبهوا في الثّقل الأعظم الّذي شهد الله بأحقّيّته وحكم بها؟ أو يعرضوا عن الأمر الّذي جعله سببًا للهداية، والوصول إلى معارج العرفان؟ ويطلبون أمرًا آخر ويتشكّكون بزخرف أقوال النّاس قائلين: إنَّ فلانًا قال كذا وكذا، وأنّ الأمر الفلاني ما ظهر. والحال لو أنَّ هناك أمرًا أو شيئًا غير كتاب الله يكون علّة وسببًا لهداية الخلق، لذكر حتمًا في الآية المذكورة.

والخلاصة أنّه يجب علينا ألّا نتجاوز عن الأمر المبرم الإلهيّ، ولا عن التّقدير المقدّر الصّمدانيّ المذكور في الآية، ونصدّق بالكتب البديعة، لأنّنا إذا لم نصدّق بهذه الكتب، فلا يتحقّق التّصديق بهذه الآية المباركة، كما هو واضح من أنَّ أيّ إنسان لم يصدّق بالفرقان فإنّه في الحقيقة لم يصدّق أيضًا بالكتب المنزّلة من قبل. وهذه هي المعاني المستفادة من ظاهر الآية. ولو نذكر معانيها المستورة ونبيّن أسرارها المكنونة، فلا شكّ أنَّ الزّمان لا يكفي لذلك والكون لا يحتمله، وكان الله على ما أقول شهيدًا.

وكذلك يقول في مقام آخر: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.

ممّا ترجمته الظّاهرة، أنّه لو كنتم في شكّ وشبهة ممّا نزّلنا على عبدنا محمّد، فأتوا بسورة من مثل هذه السّورة المنزلة، وادعوا شهداءكم أي علماءكم حتّى يعينوكم على إنزال سورة إن كنتم صادقين. فانظر الآن كم هو عظيم شأن الآيات وكبير قدرها، حيث قد ختم بها الحجّة البالغة والبرهان الكامل والقدرة القاهرة والمشيئة النّافذة. وما أشرك سلطان الأحديّة في إظهار حجّته أيّ شيء معها، لأنّ الآيات بين الحجج والدّلائل هي بمنزلة الشّمس، وما سواها بمنزلة النّجوم. وإنّها لهي الحجّة الباقية، والبرهان الثّابت، والنّور المضيء بين العباد من لدن السّلطان الحقيقيّ. لا يبلغ فضلها فضل، ولا يسبقها أيّ أمر وهي كنز اللآلئ الإلهيّة، ومخزن الأسرار الأحديّة، وإنّها لهي الخيط المحكم، والحبل المتين، والعروة الوثقى، والنّور الّذي لا يطفى. تجري منها شريعة المعارف الإلهيّة، وتفور منها نار الحكمة البالغة الصّمدانية، وهي نار لها أثران ظاهران في آن واحد: في المقبلين تحدث حرارة الحبّ، وفي المبغضين برودة الغفلة.

أيّها الرّفيق، ينبغي لنا ألّا نتجاوز عن أمر الله، ونرضى بما جعله حجّته ونخضع له. والخلاصة أنَّ حجّة هذه الآية المنزلة وبرهانها، لأعظم من أن يستطيع هذا العليل إقامة الدّليل عليها. والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل، وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الجميل.

وكذلك يقول تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾. أي يقول هذه آيات منزلة من سماء الهويّة نتلوها عليك، فبأيّ حديث بعد ظهور الحقّ ونزول آياته يؤمنون؟ ولو تلتفت إلى تلويح هذه الآية لتفقه أنّه لم يكن هناك أبدًا مظهر أكبر من الأنبياء ولم تظهر أيضًا في الأرض حجّة أكبر ولا أعظم من الآيات المنزلة، بل إنّه لم يكن في الإمكان حجّة أعظم من هذه الحجّة إلّا ما شاء ربّك.

وكذلك يقول في مقام آخر: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَم يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يعني ويل لكلّ أفّاك أثيم، يسمع الآيات النّازلة من سماء المشيئة الإلهيّة تتلى عليه، ثمَّ يستكبر كأن لم يسمعها، فبشّره بعذاب أليم. وإنّ الإشارة في هذه الآية لتكفي كلّ من في السّموات والأرض لو كان النّاس في آيات ربهم يتفرّسون. وإنّك لَتَسمع اليوم كيف أنّه إذا تليت الآيات الإلهيّة لا يعتني بها أحد، كأنّ أحقر الأمور عندهم هي الآيات الإلهيّة والحال أنّه ما كان ولن يكون هناك أمر أعظم من الآيات. قل لهم أيّها الغافلون إنّكم تقولون ما قاله آباؤكم من قبل، فلو أنّهم جنوا ثمرًا من شجرة إعراضهم فسوف تجنونه أنتم أيضًا. وعن قريب سوف تستقرّون في النّار مع آبائك. فالنّار مثواهم فبئس مثوى الظّالمين.

ويقول تعالى في مقام آخر: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يعني إذا علم من آياتنا شيئًا اتّخذها على سبيل الاستهزاء، فلهم عذاب مهين. ومن جملة الاستهزاء أنّهم كانوا يقولون أظهر لنا معجزة أخرى وائتنا ببرهان آخر، فكان يقول أحدهم: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاء﴾ والآخر كان يذكر: ﴿إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾. وبمثل ما استبدل اليهود في عهد موسى المائدة السّماويّة بالأشياء الخبيثة من قبيل الثّوم والبصل، كذلك طلب هؤلاء القوم أيضًا تبديل الآيات المنزّلة بالظّنونات النّجسة الكثيفة. كما تشاهد اليوم، أنَّ المائدة المعنويّة نازلة من سماء الرّحمة الإلهيّة وغمام المكرمة السّبحانيّة. وأنّ بحور الحيوان في موج وجريان، في رضوان الجنان، بأمر خالق كن فكان. والجميع مجتمعون كالكلاب على الأجساد الميتة، وقانعون بالبركة المالحة الّتي هي ملح أجاج. سبحان الله! إنّنا لفي غاية الحيرة من عباد يطلبون الدّليل بعد ارتفاع أعلام المدلول. ويتمسّكون بإشارات العلم بعد ظهور شمس المعلوم. مثلهم كمن يطلب من الشّمس حجّة لإثبات نورها، أو يطلب من أمطار الرّبيع برهانًا لإثبات فيضها. فحجّة الشّمس نورها الّذي أشرق وأحاط العالم، وبرهان الرّبيع جوده الّذي جدّد العالم برداء جديد. على أنَّ الأعمى لا يعرف للشّمس أثرًا غير حرارتها. والأرض الجرز ليس لها نصيب من رحمة الرّبيع

(فلا عجب إن لم يكن لهم نصيب من القرآن غير النّقش

كما أنّه ليس للأعمى نصيب من الشّمس إلّا الحرارة)

وفي مقام آخر يقول: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فانظر أيّ حجج كانوا يحتجّون بها على مظاهر الرّحمة الكاملة الواسعة. إنّهم كانوا يستهزؤن بالآيات، الّتي كلّ حرف منها أعظم من خلق السّموات والأرض، وبها يحيا أموات وادي النّفس والهوى بروح الإيمان. وكانوا يقولون أخرِج لنا آباءنا من القبور. فبمثل هذا كان إعراض القوم واستكبارهم، مع أنَّ كلّ واحدة من هذه الآيات حجّة مُحكمة لكلّ من على الأرض، وبرهان أعظم يكفي كلّ من عليها لو أنتم في آيات الله تتفكّرون. وإنّ في هذه الآية المذكورة لمكنون لآلئ الأسرار. ومن طلب وَجَدَّ وَجَد.

إيّاك والإصغاء إلى زخرف أقوال العباد الّذين يدّعون بأنّ الكتاب والآيات ليس بحجّة للعوامّ لأنّهم لا يفهمونها ولا يدركونها مع أنَّ هذا القرآن حجّة لأهل المشرق والمغرب. وإن لم يكن في مقدور النّاس إدراكه كيف يكون حجّة على الجميع؟ ولو صحّ ما يدّعون لما كان هناك تكليف على نفس، أو إلزام لها بعرفان الله لأنّ عرفانه أعظم من عرفان كتابه. والعوامّ ليس عندهم استعداد لإدراكه.

والخلاصة أنَّ هذا القول في منتهى اللّغو والسّخافة. وكلّه يقال من باب الكبر والغرور، كي ما يبعدون النّاس عن رياض رضاء الله، ويقبضون على زمامهم في أيديهم قبضًا محكمًا. مع أنَّ هؤلاء العوامّ أكثر قبولاً ورضاء لدى الحقّ من علمائهم الّذين أعرضوا عنه. والحال أنَّ فهم الكلمات الإلهيّة، وإدراك بيانات الحمامات المعنويّة، ليس له أيّ دخل بالعلم الظّاهريّ. بل هو منوط بصفاء القلب، وتزكية النّفوس، وتجرّد الرّوح. كما هو مشهود الآن في فئة من العباد الّذي ما عرفوا حرفًا من رسوم العلم، لكنّهم جالسون على رفرف العلم، ورياض قلوبهم مزيّنة بأوراد الحكمة وأنهار المعرفة، من سحاب الفيض الإلهيّ. فطوبى للمخلصين من أنوار يوم عظيم.

وكذلك يقول: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وكذا يقول: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾. ومضمون هذه الآية واضح. فانظر ماذا كانوا يقولون بعد تنزيل الآيات، أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون. فكانوا يسمّون حضرته شاعرًا ويسخرون من الآيات الإلهيّة. ويقولون إنَّ هذه الكلمات، إن هي إلّا أساطير الأوّلين. يعنون بذلك الكلمات الّتي قيلت من قبل، وأنّ محمّدًا جمعها ثمَّ يقول إنّها من عند الله.

كذلك قد سمعت اليوم بأمثال هذه الأقوال، ممّا ينسبونه إلى هذا الأمر، ويقولون إنَّ هذه الكلمات قد جمعها من الكلمات الّتي نزلت من قبلُ، أو هي كلمات مغلوطة. قد كبر قولهم وصغر شأنهم وحدُّهم.

لهذا قالوا بعد هذه الإنكارات والاعتراضات المذكورة، إنّه بحسب ما في الكتب، لا يجوز أن يبعث نبيّ مستقلّ من بعد موسى وعيسى يكون ناسخًا للشّريعة. بل يجب أن يأتي شخص يكمل الشّريعة السّابقة. فنزلت هذه الآية المباركة المشعرة بجميع المطالب الإلهيّة والدَّالة على عدم انقطاع الفيوضات الرّحمانيّة. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُم بِهِ حتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ أي مرتاب في ربّه. فأدركوا من هذه الآية، وتيقّنوا أنّه في كلّ عصر، كان يتمسّك أمم ذلك العهد بآية من الكتاب، وينطقون بمثل هذه الأقوال المزخرفة، من أنّه لا يجوز أن يأتي نبيٌّ آخر في عالم الإبداع، مثل ما استدلّ علماء الإنجيل بالآية المذكورة فيه بأنّه لا يرفع حكم الإنجيل أبدًا. ولا يبعث نبيّ مستقلّ إلّا لإثبات شريعة الإنجيل.

وأكثر الملل مبتلون بهذا المرض الرّوحيّ. كما ترى، كيف أنَّ أهل الفرقان قد احتجبوا بذكر خاتم النّبيّين، على مثال الأمم السّابقة. مع أنّهم مقرّون بقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ولما يُبيّن الرّاسخُ في العلوم وأمِّها ونفسها وذاتها وجوهرِها بيانًا فيه مخالفة قليلة لأهوائهم، فإنّك تسمع ماذا يقولون وماذا يفعلون. وما هذا إلّا من رؤساء النّاس في الدّين، يعني من أولئك الّذين ما اتّخذوا لهم إلهًا إلّا الهوى، ولا عرفوا لهم مذهبًا غير الذّهب، واحتجبوا بحجبات العلم، وتاهوا في ضلالة كما يقول ربّ الأنام بتصريح تامّ، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ يعني أما رأيت ذاك الغافل الّذي اتّخذ إلهه أهواء نفسه، وأضلّه الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون.

أمّا معنى ﴿وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ فإنّه وإن كان في الظّاهر كما ذكر، ولكن عند هذا الفاني، المقصود من هذه الآية، هم علماء العصر الّذين أعرضوا عن جمال الحقّ وتمسّكوا بعلومهم المنبعثة من النّفس والهوى واحتجُّوا على نبأ الله وأمره ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾. وكذلك يقول ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾. والحقّ يقول: وإذا تتلى الآيات القدسيّة الأحديّة عليهم، يعني أولئك الكفرة الفجرة، يقول أولئك المشركون الغافلون عن الحقّ ما هذا رسول من عند الله، إنّما هو رجل يريد أن يمنعكم عمّا كان يعبده آباؤكم، وقالوا ما هذا إلّا كذب مفترى.

فاسمع النّداء القدسيّ الإلهيّ، واللّحن المليح الصّمدانيّ، كيف أنّه بالتّلويح قد أنذر المكذّبين بالآيات وتبرّأ عن المنكرين للكلمات القدسيّة. ولاحظ بُعد النّاس عن كوثر القرب وإعراض أولئك المحرومين واستكبارهم على ذلك الجمال القدسيّ، مع أنَّ ذاك الجوهر، جوهر اللّطف والكرم، قد كان يهدي هياكل العدم إلى ساحة القدم، ويدلّ اولئك الفقراء الحقيقيّين إلى شريعة الغنى القدسيّة. ومع ذلك كان يقول بعضهم هذا رجل مفترٍ على ربّ العالمين. وبعضهم يقول هذا يمنع النّاس عن شريعة الدّين والإيمان، والآخرون ينسبون إليه الجنون وأمثال ذلك.

كذلك نشاهد اليوم كم من لغو القول قد قالوه على ذاك الجوهر، جوهر البقاء، وكم من مفتريات وذنوب نسبوها إلى منبع العِصْمَة ومعدنها. مع أنّه في كتاب الله ولوح القدس الصّمدانيّ وفي جميع أوراقه وكلماته قد أنذر المكذّبين بالآيات المنزلة والمعرضين عنها وبشّر المقبلين إليها. ومع هذا كم من الاعتراضات قد اعترضوا بها على الآيات المنزلة من السّموات القدسيّة البديعة. والحال أنَّ عين الإمكان ما رأت مثل هذا الفضل، وقوّة سمع الأكوان ما سمعت بمثل هذه العناية. إذ أنَّ الآيات كانت جارية ونازلة من غمام الرّحمة الرّحمانيّة بمثابة غيث الرّبيع. لأنّ الأنبياء من أولي العزم، الّذين عَظَمَةُ قدرهم ورِفْعَةُ مَقامِهم واضحة ولائحة كالشّمس، يفتخر كلّ واحد منهم بكتاب مشهود، متداول بين الأيدي، آياته محصيّة. بينما قد نزّلت الآيات من هذا الغمام الرّحمانيّة على قدر لم يحصها أحد للآن. حيث أنَّ المتداول منها في اليد إلى الآن نحو عشرين مجلّدًا، وكم منها لم تصل إليه الأيدي، وكم منها أيضًا قد نُهِبَ وسُلِبَ ووقع بأيدي المشركين، ولا يُعلَم ما فعلوا به.

فيا أخي ينبغي التّأمّل والتّفكّر والالتجاء إلى المظاهر الإلهيّة لعلَّ نتّعظ من المواعظ الواضحة في الكتاب، ونتنبّه من النّصائح المذكورة في الألواح، ولا نعترض على مُنزل الآيات، ونستسلم لأمره بالرّوح. ونقبل حكمه بكلّ رَوح وريحان، ونذعن له، لعلَّ نرد في فضاء الرّحمة، ونسكن في شاطئ الفضل، وَإِنَّهُ بِعِبَادِهِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

وكذلك يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾؟ فما أوضح المقصود في هذه الآية، وما أظهر برهان حجيّة الآيات المنزلة. ولقد نزلت هذه الآية في وقت كان فيه الكفار يؤذون المسلمين، وينسبون إليهم الكفر، كما كانوا ينسبون لأصحاب حضرته بأنّهم صاروا كافرين بالله، ومؤمنين وموقنين بساحرٍ كذّاب. وفي صدر الإسلام لما كان الأمر بحسب الظّاهر لم تكن له قوة، فإنّهم كانوا كلّما لقوا أصحاب تلك الحضرة في أيّ مقام ومكان، كانوا يعملون على نهاية الأذيّة والزّجر، والرّجم والسّبّ لأولئك المقبلين إلى الله. فنزلت في هذا الحين هذه الآية المباركة من سماء الأحديّة، وعلّمت أصحاب تلك الحضرة ببرهان واضح، ودليل لائح، أن يقولوا للكافرين والمشركين: هل تؤذوننا وتظلموننا وما صدر منّا عمل، إلّا أن آمنّا بالله وآياته النّازلة علينا من لسان محمّد؟ وكذلك آمنّا بالآيات النّازلة على أنبيائه من قبل بحيث يكون المقصود أنَّ ما علينا تقصير إلّا أنّنا اعتبرنا الآيات الجديدة البديعة الإلهيّة النّازلة على محمّد، والآيات النّازلة من قبل على الأنبياء، بأنّها جميعها من عند الله، وصدّقنا بها، وأذعنّا لها.

هذا هو الدّليل الّذي علّمه سلطان الأحديّة لعباده، مع ذلك هل من الجائز أن يعرضوا عن هذه الآيات البديعة الّتي أحاطت الشّرق والغرب، ويعدّوا أنفسهم من أهل الإيمان؟ أو أنّهم يؤمنون بأنّ منزل الآيات لا يحسب المقرّين بها من أهل الإيمان بناء عن هذا الاستدلال الّذي قرّره؟ حاشا ثمَّ حاشا أن يطرد المقبلين إلى آيات الأحديّة، والمقرّين بها عن أبواب رحمته، أو يهدّد المتمسّكين بالحجّة المثبتة. إذ أنّه مثبّت الحقّ بآياته ومحقّق الأمر بكلماته، وإنّه لهو المقتدر المهيمن القدير.

وكذلك يقول عزّ من قال ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾. وإنّ أكثر الآيات الفرقانيّة لدالّة على هذا المطلب ومشعرة به. وهذا العبد قد اقتصر على هذه الآيات المذكورة. فانظر الآن هل ذُكِرَ في الكتاب بأجمعه أمرٌ آخر غير الآيات الّتي جعلها حجّة لمعرفة مظاهر جماله حتّى يعترضوا ويتمسّكوا به؟ بل إنّه في كلّ المواقع قد جعل النّار موعدًا ومقرًّا للمنكرين بالآيات والمستهزئين بها كما هو معلوم.

والآن لو يأتي إنسان بالآلاف المؤلّفة من الآيات، والخطب والصّحايف والمناجاة، دون أن يكون قد تعلّمها من أحد بالعلوم الاكتسابيّة، فبأيّ دليل يستدلّ به الّذين يعرضون عنها، ويحرمون أنفسهم من هذا الفيض الأكبر؟ وماذا يقولون في الجواب من بعد عروج الرّوح من الجسد الظّلماني؟ أيتمسّكون بقولهم إنّا تمسّكنا بالحديث الفلاني، ولمّا لم نجد تحقّق معناه بحسب الظّاهر لذا اعترضنا على مظاهر الأمر، وابتعدنا عن شرائع الحقّ؟ أما سمعتَ بأنّ من جملة البراهين والأدلّة على أحقّيّة بعض الأنبياء من أولي العزم، كان نزول الكتاب عليهم. وإنّ هذا لدليل مسلّم به. وهل يجوز مع هذا أن يعترضوا على من ظهر منه مجلّدات عدّة؟ وأن يتّبعوا في حقّه أقوال شخص أحمق جمع بعض أقوال عن طريق الجهل لإلقاء الشّبهة في القلوب؟ وأصبح شيطان العصر وسبب الغفلة للعباد وإضلال من في البلاد؟ وبذا يحرمون أنفسهم من شمس الفيض الإلهيّ. وبصرف النّظر عن هذه المراتب، إذا هم احترزوا من هذه النّفس القدسيّة، وأدبروا عن هذا النّفس الرّحمانيّ، فإنّي لا أدري بمن يتمسّكون، وإلى أيّ وجه يقبلون. بلى ﴿وَلِكُلِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، فقد هديناك السّبيلين في هذين المنهجين. ثمَّ أمش على ما تختار لنفسك، وهذا قول الحقّ وما بعد الحقّ إلّا الضّلال.

ومن جملة الأدلّة على إثبات هذا الأمر، هو أنّه في كلّ عهد وعصر كان يظهر فيه غيب الهويّة في هيكل البشريّة، كان يستضيء بضياء شمس النّبوّة، ويهتدي بأنوار قمر الهداية، ويفوز بلقاء الله بعضٌ من الّذين لا يعرفهم أحدٌ، وليس لهم شأن بين القوم، ولا علاقة لهم بالدّنيا وما فيها. لهذا كان يستهزئ بهم علماء العصر وأغنياء الوقت، كما يقول عن لسان أولئك الضّالين ﴿فَقَالَ الملَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قُومِهِ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلْنَا بِادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُم عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ فكانوا يعترضون ويقولون لأولئكم المظاهر القدسيّة، إنّه ما اتّبعكم إلّا أراذلنا الّذين لا يُعتَنَى بشأنهم. ومقصودهم من هذا أنّه لم يؤمن بكم علماء القوم، ولا أغنياؤهم ولا ذوو الشّأن منهم. وكانوا يستدلّون بهذا الدّليل وأمثاله على بطلان من له الحقّ.

وأمّا في هذا الظّهور الأظهر، والسّلطنة العظمى، فإنّ جمعًا من العلماء الرّاشدين، والفضلاء الكاملين، والفقهاء البالغين، قد رزقوا من كأس القرب والوصال، وفازوا بالعناية العظمى، وانقطعوا عن الكون والإمكان في سبيل المحبوب. ولنذكر بعضًا من أسمائهم، عسى أن يكون ذلك سببًا لاستقامة الأنفس المضطربة والنّفوس غير المطمئنّة.

فمن جملتهم جناب مُلا حسين الّذي أصبح محلاًّ لإشراق شمس الظّهور. لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيّته وما استقرّ على كرسيِّ صمدانيّته. وجناب آقا سيّد يحيى الّذي كان وحيد عصره وفريد زمانه، ومُلّا محمّد علي الزّنجاني، ومُلّا علي البسطامي، ومُلّا سعيد البارفروشي، ومُلّا نعمة الله المازندراني، ومُلّا يوسف الأردبيلي، ومُلّا مهدي الخوئي، والسّيّد حسين التّرشيزي، ومُلّا مهدي الكندي، وأخوه مُلا باقر، ومُلّا عبد الخالق اليزدي ومُلّا علي البَرقَاني، وأمثالهم ممّن يبلغ عددهم قريبًا من أربعماية نفس، أسماؤهم جميعًا مثبوتة في اللّوح المحفوظ الإلهيّ. وهؤلاء كلّهم قد اهتدوا بشمس الظّهور وأقرّوا وأذعنوا لها على شأن انقطع أكثرهم عن أموالهم وأهليهم، وأقبلوا إلى رضى ذي الجلال، وقاموا بتضحية الأرواح في سبيل المحبوب. وأنفقوا جميع ما رزقوا به على شأن كانت صدروهم هدفًا لسهام المخالفين، ورؤوسهم زينة لسنان المشركين. ولم تبق أرض إلّا وقد شربت من دم هذه الأرواح المجرّدة، ولم يبق سيف إلّا وقد مَرَّ على رقابهم. دليلُ صدق قولهم فعلُهم. فهل شهادة هذه النّفوس القدسيّة الّذين أنفقوا أرواحهم في سبيل المحبوب على هذه الكيفيّة، والّذين تحيّر العالم كافّة من بذلهم أرواحهم ونفوسهم، هل شهادتهم لا تكفي لهؤلاء العباد من أهل هذا العصر؟ وأمّا إنكار بعض العباد الّذين يبيعون دينهم بدرهم، ويُبدِّلون البقاء بالفناء، ويستبدلون كوثر القرب بالعيون المالحة، وليس لهم مراد إلّا أخذ أموال النّاس، كما تشاهد أنَّ كلّ واحد منهم مشغول بزخارف الدّنيا وبعيد عن الرّبّ الأعلى.

فأنصف الآن، أيّ الشّهادتين مقبولة ومسموعة؟ أشهادة الّذين وافق قولُهم فعلَهم، وطابق ظاهرهم باطنهم على نحو تاهت العقول في أفعالهم، وتحيّرت النّفوس في اصطبارهم، وبما حملت أجسادهم؟ أم شهادة هؤلاء المعرضين؟ الّذين لا يتنفّسون إلّا بأهواء أنفسهم، والّذين ليس لهم نجاة من قفص الظّنونات الباطلة، والّذين لا يرفعون رأسهم عن الفراش نهارًا إلّا للسّعي في طلب الدّنيا الفانية، كالخفّاش الظّلمانيّ، والّذين لا يستريحون ليلاً إلّا للسّعي في تدبيرات الأمورات الدّنيئة. مشغولون بالتّدبير النّفسانيّ وغافلون عن التّقدير الإلهيّ. بالنّهار يشتغلون في طلب المعاش بأرواحهم. وفي اللّيل يأخذون في تزيين أسباب الفراش. ففي أيّ شرع وملّة يجوز التّمسّك بإعراض هذه النّفوس المحدودة؟ وغضّ الطّرف عن إقبال وتصديق النّفوس الّذين انقطعوا في رضاء الحقّ عن النّفس والمال والاسم والرّسم والصّيت والشّهرة؟.

ألم يكونوا يعتبرون من قبل أنَّ أمر سيّد الشّهداء الحسين بن عليّ، كان أعظم الأمور وأكبر الأدلّة على أحقّيّة حضرته؟ وكانوا يقولون بأنّه ما حدث في العالم أمر مثله. وما ظهر حقّ بهذه الاستقامة وبهذا الظّهور. مع أنَّ أمر حضرته لم يمتدّ لأكثر من الصّبح إلى الظّهر. ولكن هذه الأنوار المقدّسة قد قضت ثمانية عشر عامًا، والبلايا نازلة عليهم كالمطر من جميع الجهات. وهم ينفقون الرّوح بكلّ ارتياح في سبيل السّبحان، بمنتهى العشق والذّوق والحبّ والمحبّة كما هو واضح ومثبوت للجميع، فكيف مع هذا يعدّون هذا الأمر سهلاً؟ هل ظهر في أيّ عصر مثل هذا الأمر الخطير؟ وإذا لم يكن هؤلاء الأصحاب مجاهدين في الله، فمن غيرهم يكون مجاهدًا؟ وهل هؤلاء كانوا طلاّب عزّة ومكانة وثروة؟ وهل كان لديهم مقصد غير رضاء الله؟ وإذا كان كلّ هؤلاء الأصحاب، مع ما لهم من هذه الآثار العجيبة والأفعال الغريبة على الباطل، فمن غيرهم يكون لائقًا لدعوى الحقّ؟ قسمًا بالله إنَّ فعلهم هذا لحجّة كافية ودليل وافٍ لجميع من على الأرض، لو كان النّاس في أسرار الأمر يتفكّرون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾.

وعلاوة على ذلك، فإنّ علامة الصّدق والكذب معلومة ومقرّرة في الكتاب. فيجب أن يمتحن إدّعاء ودعاوي كلّ العباد بهذا المحكّ الإلهيّ، حتّى يميّز الصّادق من الكاذب. ولهذا يقول: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. فانظروا الآن كيف أنّه مع وجود هؤلاء الشّهداء الصّادقين، الّذين نَصُّ الكتاب شاهدٌ لهم على صدق قولهم، كما رأيت أنّهم جميعًا أنفقوا أرواحهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم وكلّ ما يملكون، وعرجوا إلى أعلى غرف الرّضوان، فهل شهادة هذه الطّلعات العالية والأنفس المنقطعة في تصديق هذا الأمر العالي المتعالي تكون غير مقبولة؟ وهؤلاء القوم الّذين يتركون المذهب لأجل الذّهب، ويحترزون عن أوّل ما صدر من جانب الله لأجل الجلوس في الصّدر، تكون شهادتهم على بطلان هذا النّور اللاّئح جائزة ومقبولة؟ مع أنَّ جميع النّاس قد عرفوهم، وعلموا من أطوارهم أنّهم لا يتجاوزون عن الاعتبار الظّاهري الملكيّ بمقدار ذرّة واحدة في سبيل الدّين الإلهيّ. فكيف إذا بلغ التّجاوز إلى النّفس والمال وغيره؟ فانظر الآن كيف أنَّ المحكّ الإلهيّ قد فرّق بنصّ الكتاب وميّز الخالص من المغشوش. ومع ذلك هم إلى الآن غير مستشعرين، وفي نوم الغفلة مشغولون بكسب الدّنيا الفانية والرّياسة الظّاهريّة. يا ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ مَضى عَلَيْكَ أَيَّامٌ، وَاشْتَغَلْتَ فِيها بِمَا تَهْوى بِهِ نَفْسُكَ مِنَ الظُّنُونِ وَالأَوْهَامِ. إِلى مَتى تَكُونُ راقِدًا عَلَى بِساطِكَ. فارْفَعْ رَأْسَكَ عَنِ النَّوْمِ؛ فإِنَّ الشَّمْسَ ارْتَفَعَتْ فِي وَسَطِ الزَّوالِ، لَعَلَّ تُشْرِقُ عَلَيْكَ بِأَنْوارِ الْجَمالِ. والسّلام.

ولكن فليُعلَم بأنّ هؤلاء العلماء والفقهاء الّذين ذُكِروا لم يكن أحد منهم من ذوي الرّياسة الظّاهرة، لأنّ من المحال أن يتّبع الحقَّ علماء العصر المقتدرون والمعروفون والجالسون على صدر الحكم والمستقرّون على سرير الأمر إلّا من شاء ربّك. فإنّ مثل هذا الأمر لم يظهر في العالم إلّا قليلا ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ كما أنّه لم يقبل في هذا العهد أحد من العلماء المشهورين الّذين كان في قبضة حكمهم زمام النّاس، بل سعوا في دفع هذا الأمر وردّه بتمام البغض والإنكار، على نحو لم تسمع به أُذن، ولم تره عين.

ولقد أصدر حضرة الباب الرّبّ الأعلى، روح ما سواه فداه، توقيعًا مخصوصًا لجميع علماء كلّ بلد، ذكر في توقيع كلّ منهم مراتب إعراضه وإغماضه بالتّفصيل، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ ومقصوده من هذا الذّكر هو لكيلا يعترض أهل البيان حين ظهور المستغاث في القيامة الأخرى بأنّه في ظهور البيان قد آمن جمع من العلماء، فلماذا لم يحصل مثله في هذا الظّهور؟ ويتمسّكون والعياذ بالله بأمثال هذه الزّخارف، ويحرمون أنفسهم من الجمال الإلهيّ؟ نعم إنَّ هؤلاء العلماء المذكورين لم يكن أكثرهم من المعروفين، وبفضل الله كانوا جميعًا مقدّسين عن الرّياسة الظّاهرة ومنزّهين عن الزّخارف الفانية. ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء.

وهناك برهان آخر ودليل لائح كالشّمس بين الدّلائل أَلَا وهو - استقامة ذلك الجمال الأزليّ على الأمر الإلهيّ. فإنّه مع كونه كان في سنّ الشّباب فإنّه قد قام مع هذا بأمر مخالفٍ لكلّ أهل الأرض من الوضيع والشّريف، والغنيّ والفقير، والعزيز والذّليل، والسّلطان والرّعيّة، كما سمع بذلك الكلّ، ولم يخَفْ من أحد، ولم يعتَنِ بأيّ نفس. فهل يكون هذا بغير أمر إلهيّ، ومشيئة مثبتة ربّانيّة؟ قسمًا بالله لو يتطرّق في فكر أحد أمرٌ كهذا، ويتخيّله في نفسه لينعدم في الحين، ولو يجتمع في قلبه كلّ القلوب، فإنّه لا يتجاسر أيضًا على مثل هذا الأمر المهمّ، إلّا بإذن من الله، وأن يكون قلبه متّصلاً بالفيوضات الرّحمانيّة، ونفسه مطمئنّة بالعنايات الرّبّانيّة. فيا هل تُرى عَلامَ يحملون هذا! أينسبونه للجنون كما نسبوه للأنبياء من قبل؟ أم يقولون بأنّه تعرّض لهذه الأمور من أجل الرّياسة الظّاهرة، وجمع زخارف الدّنيا الفانية؟.

سبحان الله إنّه في أوّل كتاب من كتبه الّذي سمّاه قيّوم الأسماء، وهو أوّل جميع كتبه، وأعظمها وأكبرها، قد أخبر عن شهادته. وفي مقام منه ذكر هذه الآية قائلاً: ﴿يَا بَقِيَّةَ اللهِ قَدْ فَدَيْتُ بِكُلِّي لَكَ، وَرَضَيْتُ السَّبَّ فِي سَبِيلِكَ، وَمَا تَمَنَّيْتُ إِلَّا القَتْلَ فِي مَحَبَّتِكَ وَكَفَى بِاللهِ العَلِيِّ مُعْتَصِمًا قَدِيمًا﴾.

وكذلك في تفسير الهاء تمنّى لنفسه الشّهادة قائلاً: ﴿كَأَنِّي سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي سِرِّي إِفْدِ أَحَبَّ الأَشيَاءِ إِلَيْكَ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا فَدَى الحُسَينُ عليه السّلام فِي سَبِيلِي. وَلَولَا كُنْتُ نَاظِرًا بِذَلِكَ السِّرِّ الواقِعِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ اجْتَمَعُوا مُلُوكُ الأَرضِ، لَنْ يَقْدِرُوا أَن يَأْخُذُوا مِنِّي حَرفًا، فَكَيْفَ العَبِيدُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُم شَأْن بِذَلِكَ، وَإِنَّهُم مَطْرُودُونَ﴾ إلى أن قال ﴿لِيَعْلَمَ الكُلُّ مَقَامَ صَبْرِي وَرِضَائِي وَفِدَائِي فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، فهل يمكن أن يُنسب إلى صاحب هذا البيان بأنّه يمشي على غير الصّراط الإلهيّ أو أنَّه طلب أمرًا بغير رضائه؟ إنَّ في هذه الآية لمكنون نسيم انقطاع، بحيث إذا هبّ لينفق جميع هياكل الوجود أرواحهم، وينقطعون عن أنفسهم. فانظروا الآن إلى النّاس كيف أنّهم كالنّسناس في أفعالهم الدّنيئة، وجاحدون للحقّ غاية الجحود، بحيث يغضّون الطّرف عن كلّ هذا، ويركضون خلف جيف عديدة، يرتفع من بطونها ضجيج أموال المسلمين. ومع هذا كم من مفتريات غير لائقة ينسبونها إلى المطالع القدسيّة. كذلك نذكر لك ما اكتسبت أيدي الّذين هم كفروا، وأعرضوا عن لقاء الله في يوم القيامة، وعذّبهم بنار شركهم، وأعدّ لهم في الآخرة عذابًا تحترق به أجسادهم وأرواحهم ذلك بأنّهم قالوا إنَّ الله لم يكن قادرًا على شيء وكانت يده عن الفضل مغلولة.

هذا وإنّ الاستقامة على الأمر حجّة كبيرة وبرهان عظيم كما قال خاتم الأنبياء (شيّبتني الآيتان). الّتي كلّ واحدة منها مشعرة بالاستقامة على أمر الله كما قال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾.

فانظر الآن كيف قد بلَّغت هذه السّدرة الرّضوانيّة السّبحانيّة أمر الله في أوّل شبابها، وكم ظهر من الاستقامة من ذاك الجمال، جمال الأحديّة، بحيث أنّه قام كلّ من على الأرض على منعه، ولم يأتِ ذلك بثمر أو فائدة بل كلّما كان يَرِد منهم من الإيذاء على تلك السّدرة، سدرة طوبى، كلّما كان يزداد شوقه، ويزداد اشتعال نار حبّه. وكلّ هذا واضح لا ينكره أحد إلى أن فدى أخيرًا بروحه وصعد إلى الرّفيق الأعلى.

ومن جملة الدّلائل على أحقّيّة ظهوره ظهور الغلبة والقدرة والإحاطة الّتي أظهرها من نفسه بنفسه مُظهِر الوجود، ومظهر المعبود في أكناف العالم وأقطاره. فحينما ظهر في شيراز ذاك الجمال الأزليّ في سنة السّتّين وكشف الغطاء، فإنّه في قليل من الزّمان قد ظهرت في جميع البلاد آثار الغلبة والقدرة، والسّلطنة والاقتدار من ذاك الجوهر، جوهر الجواهر، وبحر البحور، بحيث أنّه قد ظهرت من كلّ بلد آثار وإشارات ودلالات وعلامات من تلك الشّمس اللاّهوتيّة. وكم من رشحات علميّة من ذلك البحر، بحر العلم اللّدنّي، قد أحاطت جميع الممكنات، مع أنَّ جميع العلماء وأعزّة القوم في كلّ بلد ومدينة قد قاموا على ردّهم ومنعهم، وشدّوا أزر الغلّ والحسد والظّلم على دفعهم. وكم من نفوس قدسيّة قتلوها بتهمة الظّلم، مع أنّها كانت جواهر العدل. وكم من هياكل الرّوح قد أهلكوها بأشدّ العذاب، وما بدا منها إلّا خالص العلم والعمل. ومع كلّ هذا كان كلّ واحد من أولئك الوجودات ذاكرًا ومشغولاً بذكر الله إلى النّفس الأخير، وطائرًا في هواء التّسليم والرّضا. وقد أثّر في هذه الوجودات وتصرف فيها على نحو لم يكن لهم مراد غير إرادته، ولم يبغوا أمرًا غير أمره. رضوا برضائه، وهامت قلوبهم بذكره.

ففكّر الآن قليلاً. هل ظهر من أحد في الإمكان مثل هذه القدرة والإحاطة؟ فإنّ جميع هذه القلوب المنزّهة، والنّفوس المقدّسة، قد أسرع إلى موارد القضاء بكمال الرّضا. وما ظهر منها في مواقع الشّكاية إلّا الشّكران، وما شوهد منها في مواطن البلاء إلّا الرّضاء. وليس بخافٍ على أحد مقدار الغلّ والبغض والعداوة الّذي كان يظهره كلّ أهل الأرض نحو هؤلاء الأصحاب بدرجة أنّهم كانوا يعدّون الأذيّة والأذى لتلك الطّلعات القدسيّة المعنويّة علّة الفوز والنّجاة، وسببًا للفلاح والنّجاح الأبديّ. وهل وقع في البلاد في أيّ تاريخ من عهد آدم إلى الآن مثل هذه الغوغاء؟ وهل ظهر بين العباد مثل هذه الضّوضاء؟ ومع كلّ هذه الأذيّة والإيذاء فإنّهم كانوا عرضة للَّعن من جميع النّاس، وهدفًا لملامة كلّ العباد. كأنّ الصّبر قد ظهر في عالم الكون من اصطبارهم، والوفاء قد وجد في أركان العالم من أفعالهم.

وخلاصة الكلام عليك بأن تفكّر في جميع هذه الوقائع الحادثة والحكايات الواردة، حتّى تطّلع على عظمة الأمر وسموّه، كي ينفخ في وجودك روح الاطمئنان بعناية الرّحمن، وتجلس وتستريح على سرير الإيقان. وعلاوة على كلّ هذه المطالب المقرّرة، والدّلائل المذكورة، فالله الأحد لشاهد بأنّك لو تفكّر مليًّا لترى أنَّ إنكار أهل الأرض وسبَّهم هذا، ولعنهم لهؤلاء الفوارس، فوارس ميدان التّسليم والانقطاع، لهو أعظم دليل وأكبر حجّة على أحقّيّتهم. وإنّك في أيّة لحظة تتفكّر في اعتراضات جميع النّاس من العلماء والفضلاء والجهّال تزداد ثبوتًا ورسوخًا وتمكينًا في هذا الأمر. لأنّ كلّ ما قد وقع قد أخبر به من قبل معادن العلم اللّدنيّ، ومهابط الأحكام الأزليّة.

ولو أنَّ هذا العبد لا يريد أن يذكر الأحاديث الّتي وردت من قبل، ولكن نظرًا لمحبّة ذاك الجناب نتلو عليك بضعة من الرّوايات الّتي تناسب هذا المقام مع أنّه في الحقيقة لا حاجة لذكرها لأنّ كلّ ما قد ذكر يكفي الأرض ومن عليها. وفي الحقيقة قد ذكرت جميع الكتب وأسرارها في هذا المختصر بحيث لو يتأمّل أحد قليلاً ليدرك ممّا ذكر أسرار الكلمات الإلهيّة والأمور الظّاهرة من ذاك السّلطان الحقيقيّ. ولكن لما لم يكن كلّ النّاس على شأن واحد، ولا من رتبة واحدة، لهذا نذكر بضعة من الأحاديث حتّى يكون سببًا لاستقامة الأنفس المتزلزلة واطمئنان العقول المضطربة، وكذلك لتكون الحجّة الإلهيّة تامّة وبالغة على العباد من الأعالي والأداني.

فمن جملة الأحاديث الواردة هذا الحديث حيث يقول (إذا ظهرت راية الحقّ لعنها أهل الشّرق والغرب). فالآن ينبغي أن ترتشف قليلاً من صهباء الانقطاع والاستقرار على رفرف الامتناع وأن يكون نصب العين (تَفَكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنةً) لكي يتبيّن لك ما هو سبب هذا الأمر الشّنيع، في أنَّ كلّ النّاس مع إظهارهم الحبّ والطّلب للحقّ يلعنون أهل الحقّ بعد ظهوره كما يستفاد من الحديث وهذا واضح. إذ أنَّ السّبب هو نسخ القواعد والرّسوم والعادات والآداب الّتي تقيّد بها كلّ النّاس. وإلّا لو أنَّ جمال الرّحمن يسير حسب تلك الرّسوم والآداب الّتي كان عليها النّاس، ويصدقهم فيما هم عليه، فلا يكون هناك داع لظهور كلّ هذا الاختلاف والفساد في الممالك وممّا يثبت هذا الحديث الشّريف ويصدقه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾.

وخلاصة القول إنّه لما يدعو النّاس منادي الأحديّة، من وراء الحجبات القدسيّة إلى الانقطاع التّام عمّا في أيديهم وحيث أنَّ هذا النّداء الإلهيّ مخالف لأهوائهم لذلك يظهر كلّ هذا الافتتان والامتحان. والآن انظر إلى النّاس كيف أنّهم لا يذكرون أبدًا هذه الأحاديث المحكمة الّتي ظهرت جميعها، ولكنهم يتمسّكون بالأحاديث الّتي لا يعلم صحّتها من سقمها، ويقولون عنها لماذا لم تظهر؟ والحال إنَّ ما لم يتعقّلوه أيضًا قد ظهر وبهر، ولاحت آثار الحقّ وعلاماته كالشّمس في وسط السّماء. مع ذلك بقي العباد هائمين في تيه الجهل والعمى. وبالرّغم من الآيات الفرقانيّة العديدة، والرّوايات المحقّقة الّتي تدلّ جميعها على شرع جديد وحكم جديد، وأمر بديع، فإنّهم مع ذلك ينتظرون بأنّ طلعة الموعود يحكم على وفق شريعة الفرقان، كما يقول اليهود والنّصارى بمثل هذا المقال.

ومن جملة الكلمات الدّالّة على الشّرع الجديد والأمر البديع، فقرات دعاء النّدبة للإمام علي الّتي تقول: (أين المدّخرُ لتجديد الفرائض والسّنن وأين المتخيّرُ لإعادة الملّة والشّريعة) ويقول أيضًا في الزّيارة (السّلام على الحقّ الجديد). سُئِل أبو عبد الله عن سيرة المهدي كيف سيرته قال: (يصنع ما صنع رسول الله، ويهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهليّة).

فانظر الآن كيف أنّه مع وجود أمثال هذه الرّوايات، كم من استدلالات يستدلّون بها على عدم تغيير الأحكام. مع أنَّ المقصود من كلّ ظهور التّغيير والتّبديل في أركان العالم سرًّا وجهرًا، وظاهرًا وباطنًا. إذ أنّه لو لم يتغيّر أمورات الأرض بأيّ وجه من الوجوه فإنّ ظهور المظاهر الكلّيّة يكون لغوًا وباطلاً. ومع أنّه يقول في "كتاب العوالم" الّذي هو من الكتب المشهورة المعتبرة. (يظهر من بني هاشم صبيّ ذو كتاب وأحكام جديد إلى أن قال وأكثر أعدائه العلماء). وفي مقام آخر يذكر عن الصّادق بن محمّد أنّه قال: (ولقد يظهر صبيّ من بني هاشم، ويأمر النّاس ببيعته. وهو ذو كتاب جديد، يبايع النّاس بكتاب جديد على العرب شديد. فإن سمعتم منه شيئًا فأسرعوا إليه). فما أحسن اتّباعهم لوصيّة أئمة الدّين وسرج اليقين مع أنّه يقول: (إذا سمعتم بأنّ شابًّا من بني هاشم قد ظهر ويدعو النّاس إلى كتاب إلهيّ جديد وأحكام بديعة ربّانيّة، فأسرعوا إليه). مع ذلك قد حكم الجميع على ذاك السّيّد، سيّد الإمكان، بالكفر والخروج من الإيمان. وما ذهبوا إلى ذاك النّور الهاشميّ والظّهور السّبحانيّ، إلّا بسيوف مسلولة، وقلوب طافحة بالبغضاء. ثمَّ لاحظوا أيضًا كيف أنَّ عداوة العلماء مذكورة في الكتب بمنتهى الصّراحة. ومع وجود هذه الأحاديث الظّاهرة المدلّة، والإشارات الواضحة المحقّقة، فإنّ جميع النّاس قد أعرضوا عن الجوهر الصّافي للمعرفة والبيان، وأقبلوا إلى مظاهر الضّلالة والطّغيان. ومع هذه الرّوايات الواردة والكلمات النّازلة، فإنّهم يتكلّمون بما تهوى أنفسهم. ولو ينطق جوهر الحقّ ببيان يكون مخالفًا لأهواء هذه الفئة، وما في أنفسهم، فإنّهم يكفِّرونه في الحال ويقولون بأنّ هذا مخالف لقول أئمّة الدّين، وذوي النّور المبين. وإنّه ما صدر في الشّرع المتين أمر وحكم كهذا، كما ظهر ويظهر اليوم من هذه الهياكل الفانية أمثال هذه الأقوال الّتي لا فائدة فيها.

وانظر الآن في هذه الرّواية الأخرى كيف أنّهم قد أخبروا عن جميع هذه الأمور قبل وقوعها، فقد ذكر في "كتاب الأربعين" (يظهر من بني هاشم صبيّ، ذو أحكام جديدة فيدعو النّاس ولم يجبه أحد. وأكثر أعدائة العلماء. فإذا حكم بشيء لم يطيعوه. فيقولون هذا خلاف ما عندنا من أئمّة الدّين). إلى آخر الحديث. كما يعيد الجميع اليوم هذه الكلمات وهم لا يشعرون بأنّ حضرته جالس على عرش يفعل ما يشاء، ومستقرّ على كرسيّ يحكم ما يريد.

إنّ كيفيّة ظهوره لا يسبقها إدراك أيّ مدرك وقدر أمره لا يحيط به عرفان أيّ عارف، وجميع الأقوال منوطة بتصديقه، وكلّ الأمور محتاج لأمره، وما سواه مخلوق بأمره، وموجود بحكمه. وهو مظهر الأسرار الإلهيّة، ومبيّن الحكم الغيبيّة الصّمدانيّة كما ورد في كتاب "بحار الأنوار"، وفي "العوالم"، وفي "الينبوع" عن الصّادق بن محمّد أنّه قال: (العلم سبعة وعشرون حرفًا، فجميع ما جاءت به الرّسل حرفان ولم يعرف النّاس حتّى اليوم غير الحرفين. فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفًا). فانظر الآن كيف أنّه جعل العلم سبعة وعشرين حرفًا. وأنّ جميع الأنبياء من آدم إلى الخاتم قد بيّنوا حرفين منه، وبعثوا بهذين الحرفين. ويقول بأنّ القائم يظهر جميع هذه الخمسة والعشرين حرفًا. فاعرف من هذا البيان مقام حضرته وقدره، وكيف أنَّ قدره أعظم من كلّ الأنبياء، وأمره أعلى وأرفع من عرفان وإدراك كلّ الأولياء. وأنّ الأمر الّذي ما اطّلع عليه الأنبياء والأولياء والأصفياء، أو ما أظهروه بأمر مبرم إلهيّ، مثل هذا الأمر. يزنه هؤلاء الهمج الرّعاع بعقولهم وعلومهم ومداركهم القاصرة. فإذا لم يطابق موازينهم يرفضونه. ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾.

فعلى أيّ وجه يحملون هذا الحديث المذكور الصّريح في الدّلالة على ظهور المطالب الغيبيّة، والأمورات البديعة الجديدة في أيّام حضرته. وأنّ هذه الأمورات البديعة تصبح سببًا في اختلاف النّاس بدرجة يحكم جميع العلماء والفقهاء بقتل حضرته، وقتل أصحابه. ويقوم كلّ أهل الأرض على مخالفته ومعارضته، كما يقول في كتاب "الكافي"، في حديث جابر في "لوح فاطمة" في وصف القائم (عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب فيذلّ أولياؤه في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس التّرك والدّيلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والرّنّة في نسائهم. أولئك أوليائي حقًّا). فانظر الآن كيف أنّه لم يبق حرف من هذا الحديث إلّا وقد ظهر بحيث أنَّ دمهم الشّريف قد سفك في أكثر الأماكن وأسروهم في كلّ بلد، وأداروا بهم في الولايات والمدن والبلدان وأحرقوا بعضًا منهم بالنّار. ومع ذلك لم يفكّر أحد منهم بأنّه لو كان القائم الموعود يظهر بالشّريعة السّابقة، ويبعث بأحكامها، فلِمَ ذُكرَت هذه الأحاديث؟ ولماذا تظهر كلّ هذه الاختلافات، حتّى يجعلوا قتل هؤلاء الأصحاب واجبًا، ويعدّون أذيّة هذه الأرواح المقدّسة سببًا للوصول إلى معارج القرب؟

وفضلاً عن هذا، فانظر كيف أنَّ جميع هذه الأمور الواردة والأفعال النّازلة قد ذكرت من قبل في الأحاديث كما يقول في "روضة الكافي" في بيان الزَّوْرَاء: (وفي روضة الكافي عن معاوية بن وهب عن أبي عبدالله قال: أتعرف الزّوراء؟ قلت: جعلت فداك، يقولون إنّها بغداد. قال: لا ثمَّ قال: دخلت الرّيّ؟ قلت: نعم. قال: أتيت سوق الدّوابّ؟ قلت: نعم. قال: رأيت الجبل الأسود عن يمين الطّريق؟ تلك الزّوراء يقتل فيها ثمانون رجلاً من ولد فلان كلّهم يصلح للخلافة. قلت: من يقتلهم؟ قال: يقتلهم أولاد العجم).

هذا حكم أصحاب حضرته وأمرهم الّذي بيّنوه من قبل. والآن لاحظوا أنَّ الزّوراء الموافقة لهذه الرّواية هي أرض الرّيّ. وفي ذلك المكان قد قتل هؤلاء الأصحاب بأشدّ أنواع العذاب. وقد قتل العجم جميع هذه الوجودات القدسيّة كما هو مذكور في الحديث، وكما سمعتم وعرفتم، وكما هو واضح ومثبوت لكلّ العالم والآن لم لا يتفكّر هؤلاء الخرّاطين، خرّاطين الأرض، في هذه الأحاديث الّتي تحقّقت جميعها، وظهرت كالشّمس في وسط السّماء، ولم لا يُقبلون إلى الحقّ ويتمسّكون ببعض الأحاديث الّتي لم يفهموا معناها؟ وبذا أعرضوا عن ظهور الحقّ وجمال الله واستقرّوا في سقر: إنَّ هذه الأمور ليست إلّا من إعراض فقهاء العصر وعلماء العهد، ولهذا يقول الصّادق بن محمّد (فقهاء ذلك الزّمان شرّ فقهاء تحت ظلّ السّماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود) ؟

وإنّي لأرجو من فقهاء البيان وعلمائهم، أن لا يقتفوا أثرهم في هذا الطّريق، وأن لا يرد منهم في زمن المستغاث على الجوهر الإلهيّ، والنّور الرّبّانيّ، والجمال الأزليّ، ومبدأ المظاهر الغيبيّة ومنتهاها، ما ورد في هذا الكور. وأن لا يعتمدوا على عقولهم وعلومهم ومداركهم. وأن لا يتخاصموا مع مظهر العلوم الرّبّانيّة الّتي لا تتناهى. وبالرّغم من كلّ هذه الوصايا فإنّا نرى أعورًا من رؤساء القوم يقوم على معارضتنا بمنتهاها. وكذلك نرى أنّهم في كلّ بلد سيقومون على نفي ذاك الجمال القدسيّ، وإنّ أصحاب ذاك السّلطان، سلطان الوجود وجوهر المقصود، يفرّون في الجبال وفي الصّحاري، ويختفون من أيدي الظّالمين، والبعض منهم يتوكّلون على الله، وينفقون أرواحهم بكمال الانقطاع. وكأنّي أشاهد أنَّ من هو موصوف ومعروف بكمال الزّهد والتّقوى، على شأن يعدّ جميع النّاس إطاعته فرضًا والتّسليم لأمره واجبًا يقوم على المحاربة مع أصل تلك الشّجرة الإلهيّة، ويسعى لمعارضتها بكمال الجدّ والاجتهاد. هذا هو شأن النّاس.

أمّا أهل البيان، فلي أمل أنّهم يتربّون ويطيرون في هوآء الرّوح ويسكنون في فضائه، ويميّزون الحقّ عن غيره، ويدركون غشّ الباطل بالبصيرة النّيّرة. ولو أنّه في هذه الأيّام قد هبّت رائحة حسد، فإنّي أقسم بمربّي الوجود من الغيب والشّهود، بأنّه من أوّل بداية وجود العالم، مع كونه لا بداية له، إلى هذا الحين، ما ظهر مثل هذا الغلّ والحسد والبغضاء، ولن يظهر شبهه أبدًا. حيث أنَّ جمعًا من الّذين لم يستنشقوا رائحة الإنصاف قد رفعوا رايات النّفاق، واتّفقوا على مخالفة هذا العبد. فبرز من كلّ جهة رمح، وطار من كلّ سمت سهم مع أنّي ما افتخرت على أحدٍ في أمر، وما استعليت على نفس. وكنت مع كلّ إنسان صديقًا بمنتهى المحبّة، ورفيقًا بغاية الرّأفة والشّفقة، كنت مع الفقراء مثل الفقراء، ومع العلماء والعظماء بكمال التّسليم والرّضاء. مع ذلك، فوالله الّذي لا إله إلّا هو مع كلّ هذا الابتلاء والبأساء والضّرّاء الّتي وردت علينا من الأعداء وأولي الكتاب، إنّها كانت كالعدم الصّرف، والفقد البحت، بالنّسبة لما ورد علينا من الأحبّاء.

وبالاختصار، ماذا نقول من البيان بعد هذا ممّا لا طاقة للإمكان أن يحتمله، إن كان هناك إنصاف؟ إنَّ هذا العبد في أوائل أيّام وروده في هذه الأرض، لما رأى علائم الحوادث المقبلة، اختار المهاجرة قبل وقوعها، وهام في فيافي الفراق. وقضيت اثنين من السّنين وحيدًا في براري الهجر فجرت العبرات من عيوني كالعيون، وسالت بحور الدّم من قلبي. فكم من ليال لم أجد قوتًا، وكم من أيّام لم أجد للجسد راحة. ومع كلّ هذه البلايا النّازلة، والرّزايا المتواترة، فوالّذي نفسي بيده كان كمال السّرور موجودًا، ونهاية الفرح مشهودًا. حيث لم يكن عندي خبر من ضرّ أحد أو نفعه، وصحّته أو سقمه. كنت مشغولاً بنفسي، نابذًا ورائي العالم وما فيه. وما كنت أدري أنَّ شرك قضاء الله أوسع من ميدان الخيال، وسهم تقديره مقدّس عن التّدبير. فلا نجاة لأحد من شرك قضائه، ولا مفرّ له إلّا بالرّضاء في إرادته.

قسمًا بالله لم يكن عندي نيّة الرّجوع من هذه المهاجرة، ولا أمل في العودة من هذا السّفر. وكان مقصودي من ذلك أن لا أكون علّة اختلاف الأحباب، ولا مصدر انقلاب الأصحاب. وأن لا أكون سببًا في ضرّ أحد، ولا علّة لحزن قلب. فلم يكن في فكري قصد آخر غير ما ذكرت، ولا أمام نظري أمر سواه. ولو أنَّ كلّ إنسان قد حمله على غير محمله، وفسّره على حسب أهوائه وأمياله. وأخيرًا صبرنا إلى أن صدر حكم الرّجوع من مصدر الأمر، ولا بدّ من التّسليم له.

فرجعنا ولاحظنا بعد الرّجوع ما يعجز القلم عن ذكره. وها قد مضى الآن سنتان، والأعداء قائمون بنهاية الجدّ والاهتمام على إهلاك هذا العبد الفاني، كما هو معلوم عند الجميع. مع ذلك ما قام أحد من الأحباب لنصرتنا، وما أعاننا بأيّ وجه من الوجوه. بل عوضًا عن النّصر كان يرد علينا من الأحزان المتوالية والمتواترة، من قولهم وفعلهم ما هو كالغيث الهاطل. وهذا العبد قائم أمام الوجوه وواضع روحه على كفّه بكمال التّسليم والرّضاء، عسى بالعناية الإلهيّة والفضل السّبحانيّ ينفق هذا الحرف المذكور المشهور روحه، ويفدي بها في سبيل النّقطة الأولى، والكلمة العليا. ولو لم يكن عندي هذه النّيّة، فوالّذي نطق الرّوح بأمره، إنّي ما كنت أتوقّف في هذا البلد لحظة واحدة، وكفى بالله شهيدًا أختم القول بلا حول ولا قوّة إلّا بالله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

إنّ أصحاب الأفئدة المنيرة الّذين شربوا من صهباء الحبّ، وما اتّبعوا النّفس والهوى بمقدار خطوة واحدة، يشهدون ويرون أنَّ الدّلائل والبراهين والحجج الّتي تدلّ جميعها على هذا الأمر البديع والظّهور الإلهيّ المنيع، لَهي أظهر من الشّمس في الفَلَك الرّابع. فانظر الآن إلى إعراض الخلق عن الجمال الإلهيّ، وإقبالهم إلى أهوائهم النّفسانيّة. ومع هذه الآيات المتقنة والإشارات المحكمة الموجودة في الثّقل الأكبر، الّذي هو الوديعة الرّبّانيّة بين العباد. ومع هذه الأحاديث الواضحة الّتي هي أصرح من البيان والتّبيان، فقد صاروا عنها جميعًا غافلين، ومعرضين متمسّكين بظاهر بضعة أحاديث، لم يجدوها مطابقة لمداركهم، ولم يفهموا معانيها. وبذا صاروا محرومين من سلسال خمر ذي الجلال، ومأيوسين من الزّلال الباقي للجمال السّرمدي.

انظر أيضًا أنَّ سنة ظهور تلك الهويّة النّوراء، قد ذكرها أئمّة الهدى أيضًا في الأخبار والأحاديث، مع ذلك ما استشعروا وما انقطعوا، ولو في لحظة واحدة، عن أهواء أنفسهم فقد ورد في حديث المفضَّل أنّه سأل الصّادق: فكيف يا مولاي في ظهوره. فقال: (في سنة السّتّين يظهر أمره ويعلو ذكره) هذا وإنّي لفي حيرة من هؤلاء العباد، كيف أنّهم احترزوا عن الحقّ مع هذه الإشارات الواضحة اللاّئحة، حتّى أنّه مثلاً قد ورد في الأخبار والأحاديث السّابقة، ذكر الحزن والسّجن والابتلاء الّذي ورد على خلاصة تلك الفطرة الإلهيّة. ففي كتاب البحار (إنّ في قائمنا أربع علامات من أربعة أنبياء، موسى وعيسى ويوسف ومحمّد. أمّا العلامة من موسى فالخوف والانتظار. وأمّا العلامة من عيسى فما قالوا في حقّه والعلامة من يوسف السّجن والتّقيّة. والعلامة من محمّد يظهر بآثار مثل القرآن) ومع أنّهم ذكروا هذا الحديث المحكم بهذه الدّرجة، الّتي جاءت كلّ الأمورات الواردة فيه مطابقة لما وقع، فإنّه مع ذلك لم ينتبه أحد ولا يخيّل إليَّ أنّهم سيتنبهون فيما بعد أيضًا، إلّا من شاء ربّك إنَّ الله مسمع من يشاء، وما أنا بمسمع من في القبور.

وليكن من المعلوم لجنابك، أنَّ لأطيار الهويّة وحمامات الأزليّة بيانان. بيان بحسب الظّاهر قالوه ويقولونه من غير رمز وستر، ولا نقاب ولا حجاب، حتّى يكون سراجًا يهدي السّالكين إلى معارج القدس، ونورًا مبينًا يجذب الطّالبين إلى بساط الأنس كما هو مذكور في الرّوايات الصّريحة والآيات الواضحة. ولهم بيانات أخرى، قالوها ويقولونها تحت الرّمز والسّتر والحجاب كيما يظهر من المغلّين مكنونات قلوبهم وتنكشف حقائقهم. ولهذا يقول الصّادق بن محمّد: (والله ليمحّصنّ والله ليغربلنّ) وهذا هو الميزان الإلهيّ والمحكّ الصّمدانيّ، الّذي به يمتحن عباده. فلم يهتد أحد إلى معاني هذه البيانات إلّا ذوو القلوب المطمئنّة، والنّفوس المرضيّة والأفئدة المجرّدة. ومن أمثال هذه البيانات ما كان ولم يكن مقصودهم منها معانيها الظّاهرة الّتي يدركها النّاس لذلك يقول: (لكلّ علم سبعون وجهًا وليس بين النّاس إلّا وجه واحد وإذا قام القائم يبث باقي الوجوه بين النّاس) وأيضًا قال: (نحن نتكلّم بكلمة، ونريد منها إحدى وسبعين وجهًا، ولنا لكلّ منها المخرج).

والخلاصة إنّا قد ذكرنا هذه المراتب لكيلا يضطرب العباد من بعض الرّوايات والبيانات، الّتي لم تظهر آثارها في عالم الملك، ولكي يحملوها على عدم إدراكهم لها، لا على عدم ظهور معاني الحديث. لأنّه غير معلوم عند أولئك العباد، ماذا كان مقصود أئمّة الدّين منها، كما يستفاد من الحديث. إذاً ينبغي للعباد أن لا يجعلوا أنفسهم ممنوعين من الفيوضات بأمثال هذه العبارات، وعليهم أن يسألوا من أهلها، حتّى تتّضح الأسرار المستورة، وتظهر من دون ستر وحجاب.

ولكنّا لم نشاهد أحدًا من أهل الأرض يكون طالبًا للحقّ ليرجع في المسائل الغامضة إلى مظاهر الأحديّة. بل الكلّ في أرض النّسيان ساكنون ولأهل الغيّ والطّغيان تابعون ولكنّ الله يفعل بهم كما هم يعملون وينساهم كما نسوا لقاءه في أيّامه، وكذلك قضى على الّذين كفروا، ويقضي على الّذين هم كانوا بآياته يجحدون.

وأختم القول بقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ وكذلك نزّل من قبل لو أنتم تعقلون.

المنزول من الباء والهآء والسّلام على من سمع نغمة الورقاء في سدرة المنتهى فسبحان ربّنا الأعلى.

المصادر
OV