السّلامُ العَالميُّ وَعْدٌ حَقٌّ
تَرْجَمَةُ البَيَانِ الصَّادِرِ عن بَيْتِ العَدْلِ الأعْظَمِ
والموجَّه إلى شعوب العالم
السّلامُ العالميُّ وعدٌ حقٌّ
الطّبعة الثّانية (عربي)
شهر الشّرف 152 بديع
كانون الثّاني 1996م
من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل
السّلام العالميّ وَعــْدٌ حَقٌّ
تَرجَمَة البَيَان الصَّـادر عَن
بَيت العَدلِ الأعظَـمِ
وَالموجَّه إلى شُعوبِ العَالمِ
صفحة خالية
مقدّمــة
إنَّ بيت العدل الأعظم هو أَعلى مؤسّسة في الجامعة البهائيّة. ويُنتخب كلّ خمس سنوات في مؤتمرٍ عالميّ. ويدير الشّؤون الإداريّة ونشاطات الجامعة البهائيّة التي تشمل ملايين عدّة من البهائيّين المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
"إنَّ العقيدة البهائيّة هي دين عالميّ مستقلّ. وهي تعلن الطّابع الضّروري الذي لا مناص منه لاتّحاد الجنس البشريّ... كما تطلب من المؤمنين به، كواجب أوّليّ، البحث المستقلّ – أي التّحري عن الحقيقة. ويدين كلّ أشكال التّعصّبات والأوهام. وتعلن أنَّ الغاية من الدّين هو أنّه ينبغي على الدّين أن يُعلي المحبّة والوفاق ويؤكد أنَّ الدّين ينبغي أن يكون منسجماً انسجاماً تاماً مع العلم – وأنَّه واحد من أهمّ عوامل السّلام والتّقدم المقدّر للمجتمع الإنسانيّ – كما يؤكّد وبدون لبْس، مبدأ المساواة بين الرّجال والنّساء في الحقوق والواجبات والإمكانات والامتيازات. ويُشدِّد على مبدأ التّعليم الإلزاميّ ونبذ حدود الفقر المدقع والغنى الفاحش – وإلغاء المؤسّسة الكهنوتيّة ومنع الرّقّ وحياة التّقشف
والتّسوُّل والحياة النّسكيّة.
وتفرض العقيدة البهائيّة الزّوجة الواحدة ولا تشجّع على الطّلاق وتشدِّد على ضرورة الطّاعة التّامة للحكومات. كما يحثّ الدّين البهائيّ على سموّ كلّ عمل منجز بروح الخدمة والدّعاء والتّعبد – كما يشجّع على خلق أو انتقاء لغة عالميّة إضافيّة.
وأخيراً تحدّد هذه العقيدة هيكليّة المؤسّسات التي ينبغي عليها أن تؤسّس ومن ثم تُرسِّخ السّلام العام للإنسانيّة".
تشرين الأول (أكتوبر) 1985
إلى شعوب العالم،
إنَّ السّلام العظيم الذي اتَّجهت نحوه قلوب الخَيِّرين من البشر عبر القرون، وتَغَنَّى به ذَوو البصيرة والشّعراء في رؤاهم جيلاً بعد جيل، ووعدت به الكتب المقدًّسة للبشر على الدّوام عصراً بعد عصر، إنًّ هذا السّلام العظيم هو الآن وبعد طول وقت في متناول أيدي أمم الأرض وشعوبها. فلأوّل مرّة في التّاريخ أصبح في إمكان كلّ إنسان أن يتطلّع بمنظارٍ واحد إلى هذا الكوكب الأرضيّ بأسره بكلّ ما يحتوي من شعوب متعدِّدة مختلفة الألوان والأجناس. والسّلام العالميّ ليس ممكناً وحسب، بل إِنّه أمر لا بدَّ أن يتحقّق، والدّخول فيه يمثِّل المرحلة التّالية من مراحل التّطوّر التي مرَّ بها هذا الكوكب الأرضيّ، وهي المرحلة التي يصفها أحد عظماء المفكّرين بأنها مرحلة "كَوكَبَة الجنس البشريّ".
إنَّ الخيار الذي يواجه سكّان الأرض أجمع هو خيار بين الوصول إلى السّلام بعد تجارب لا يمكن تخيُّلها من الرُّعْب والهَلَع نتيجة تشبُّث البشريّة العنيد بأنماطٍ من السّلوك تَقادَم عليها
الزّمن، أو الوصول إليه الآن بِفعْلِ الإرادة المنبثقة عن التّشاور والحوار. فعند هذا المنعطَف الخطير في مصير البشر، وقد صارت المعضلات المستعصية التي تواجه الأمم المختلفة هَمّاً واحداً مشتركاً يواجه العالم بأسره – عند هذا المنعطف يصبح الإخفاق في القضاء على موجة الصّراع والاضطراب مخالفاً لكلّ ما يُمليه الضّمير وتقصيراً في تحمُّل المسؤوليّات.
على أن ثمة ملامح إيجابيّة تدعو إلى التّفاؤل، ومنها التّزايد المُطَّرِد في نفوذ تلك الخطوات الحثيثة من أجل إحلال النّظام في العالم، وهي الخطوات التي بُوشِر باتّخاذها مبدئيّاً في بداية هذا القرن عبر إنشاء عُصْبَة الأمم، ومن بعدها هيئة الأمم المتّحدة ذات القاعدة الأكثر اتِّساعاً. ومن الملامح الإيجابيّة أيضاً أَنَّ أغلبيّة الأمم في العالم قد حقَّقت استقلالها في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية، مِمَّا يشير إلى اكتمال المرحلة التّاريخيّة لبناء الدّول، وأَنَّ الدّول اليافعة شاركت قريناتها الأقدم عهداً في مواجهة المسائل التي تهمّ كلّ الأَطراف. ثم هناك ما تَبعَ ذلك من ازدياد ضخم في مجالات التّعاون بين شعوب ومجموعات، كانت من قَبْلُ منعزلةً متخاصمة، عبر مشاريع عالميّة في ميادين العلوم والتّربية والقانون والاقتصاد والثّقافة. يُضاف إلى كلّ هذا قيام هيئات إنسانيّة عالميّة في العقود القريبة الماضية بأعدادٍ لم يسبق لها مثيل، وانتشار الحركات النّسائيّة وحركات الشّباب الدّاعية إلى إنهاء الحروب، ثم الامتداد العَفْوي المتوسِّع لشبكات مُتنوِّعة من النّشاطات التي يقوم بها أُناس عاديّون لخلق التّفاهم عبر
الاتصال الشّخصيّ والفرديّ.
إنَّ ما تحقّق من إنجازات علميّة وتقنيّة في هذا القرن الذي أُسبِغَتْ عليه النِّعَم والهِبات بصورةٍ غير عاديَّة، يَعِدُنا بطَفْرَةٍ تَقَدُّميّةٍ عُظْمَى في مضمار التّطور الاجتماعيّ لهذا الكوكب الأرضيّ، ويدلّ على الوسائل الكفيلة بحلّ المُشكلات الواقعيّة التي تُعاني منها الإنسانيّة. وتُوفِّر هذه الإنجازاتُ بالفعل الوسائلَ الحقيقيّة التي يمكن بها إدارةُ الحياة المُعقَّدة في عالمٍ مُوَحَّد. إِلاّ أَنَّ الحواجز لا تزال قائمة. فالأمم والشّعوب، في علاقاتها بعضها مع بعض، تكتنفها الشّكوك، وانعدام التّفهّم، والتّعصّب، وفقدان الثّقة، والمصالح الذّاتيّة الضّيِّقة.
ففي هذه البُرْهة المناسِبة يَجْدُر بنا نحن أُمناءَ بَيْتِ العَدْلِ الأَعْظَم، مدفوعين بمَا يُمْلِيه علينا شُعورُنا العميق بالتِزاماتنا الأدبيَّة وواجِباتنا الرّوحيّة، أَنْ نُلفِت أَنظار العالم إلى البَيَانات النّيِّرة النّافذة التي وجَّهها لأَوَّل مرَّة بهاءالله مؤسِّس الدّين البهائي إِلى حُكَّام البشر قبل نَيِّف وقرن من الزمان.
فقد كتب بهاءالله "إِنَّ رياح اليأس تهبّ من كلّ الجهات، ويستشري الانقلاب والاختلاف بين البشر يوماً بعد يوم، وتبدو علامات الهَرْجِ والمَرْج ظاهرة، فأسباب النّظام العالميّ الرّاهن باتت الآن غير ملائمة". وتؤكّد التّجاربُ المشتركة التي مَرَّت بها البشريّة هذا الحُكْم الذي حَمَلَ النّبوءَة بما سَيَحْدُث. فالعيوب التي يشكو منها النّظام العالميّ القائم تبدو جليَّةً واضحة المعالم
في عَجْز الدُّوَل المنتمية إلى الأمم المتّحدة – وهي دول ذات سيادة – عن طرْد شَبَح الحرب، وفي ما يُهدِّد العالم من انهيار نظامه الاقتصاديّ، وفي انتشار موجة الإرهاب والفَوْضَى، وفي المعاناة القاسية التي تجلبها هذه وغيرها من المِحَن لملايينٍ متزايدة من البشر. وحقيقة الأمر، أنّ الكثير من الصّراع والعدوان أصبح من خصائص أنظمتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّينيّة، وبلغ حدَّاً قاد العديد من النّاس إلى الاستسلام للرّأي القائل بأنَّ الإنسان فُطِرَ بطبيعته على سلوك طريق الشّرّ وبالتّالي فلا سبيل إلى إزالة ما فُطِرَ عليه.
وبتأصُّل هذا الرّأي في النّفوس والتّمسُّك به، نتج تَنَاقُضٌ وَلَّد حالةً من الشّلل أصابت شؤون البشر؛ فمن جهة لا تعلن شعوب كلّ الدّول عن استعدادها للسّلام والوِئام فحسب، بل وعن تشوُّقها إليهما لإنهاء حالة الفَزَع الرّهيبة التي أحالت حياتها اليوميّة إلى عذاب. ومن جهة أُخرى نجد أنَّ هناك تسليماً لا جدل فيه بالافتراض القائل إنَّ الإنسان أَنانيٌّ، مّحِبٌّ للعدوان ولا سبيل إلى إصلاحه، وبناءً عليه فإنه عاجزٌ عن إقامة نظامٍ اجتماعيٍّ مسالمٍ وتقدُّميٍّ، مُتحرِّك ومنسجم في آنٍ معاً، يُتيح أقصى الفُرَص لتحقيق الإبداع والمبادرة لدى الفرد، ويكون في ذات الوقت نظاماً قائماً على التّعاون وتبادل المنافع.
وبازدياد الحاجة المُلِحَّة لإحلال السّلام، بات هذا التّناقض الأساسيّ الذي يُعيق تحقيق السّلام يُطالبنا بإعادة تقييم
الافتراضات التي بُنِيَ على أساسها الرّأيُ السّائد حول هذا المَأزِق الذي واجه الإِنسان عبر التّاريخ. فإِذا ما أُخضِعَت المسألة لبَحْثٍ مُجرَّد عن العاطفة تَكَشَّف لنا البرهان والدّليل على أنّ ذلك السّلوك بعيد كلّ البُعْد عن كونه تعبيراً عن حقيقة الذّات البشريّة، وأّنه يُمثِّل صورة مُشوَّهة للنّفس الإنسانيّة. وعندما تَتِمُّ لدينا القناعة حول هذه النّقطة، يصبح في استطاعة جميع النّاس تحريكُ قُوىً اجتماعيّة بَنَّاءةً تُشجِّع الانسجام والتّعاون عِوَضاً عن الحرب والتّصارع، لأنّها قوى منسجمة مع الطّبيعة الإنسانيّة.
إِنَّ اختيار مثل هذا النَّهْج لا يعني تجاهلاً لماضي الإنسانيّة بل تفهُّماً له. والدّين البهائيّ ينظر إلى الاضطرابات الرّاهنة في العالم، والظّروف المُفجِعة التي تَمُرُّ بها الشّؤونُ الإنسانيّة على أَنَّها مرحلةٌ طبيعيّةٌ من مراحل التّطوُّر العُضْويّ التي تقود في نهاية الأمر، بصورةٍ حَتميّة، إلى وحدة الجنس البشريّ ضمن نظامٍ اجتماعيٍّ واحد، حدودُه هي حدود هذا الكوكب الأرضيّ. فقد مرّ الجنس البشريّ، كوحدة عضويّة مُتميِّزة، بمراحل من التّطور تُشبِه المراحل التي تُصاحب عادةً عهد الطّفولة والحداثة في حياة الأفراد. وها هو يمرّ الآن في الحِقبة الختاميّة للمرحلة العاصفة من سنوات المراهقة، ويقترب من سنّ الرُّشْد التي طال انتظار بلوغها.
إِنَّ الإِقرار صراحةً بأَنَّ التّعصّب والحرب والاستغلال لا تُمثِّل سِوَى مراحل انعدام النُّضج في المَجْرَى الواسع لأَحداث
التّاريخ، وبأَنَّ الجنس البشريّ يمرّ اليوم باضطرابات حَتْميَّة تُسجِّل بلوغ الإنسانيّة سنَّ الرُّشْد الجماعيّ – إِنَّ مثل هذا الإقرار يجب ألاَّ يكون سبباً لليأس، بل حافزاً لأَنْ نأخذ على عواتقنا المهمّة الهائلة، مهمّة بناء عالم يعيش في سلام. والموضوع الذي نحثُّكم على درسه وتَقَصِّيه هو أَنَّ هذه المهمة مُمْكِنَةُ التّحقيق، وأَنَّ القوى البَنَّاءة اللازمة مُتوفِّرة، وأَنَّ البُنْيات الاجتماعيّة المُوحَّدة يمكن تشييدها.
ومهما حملت السّنوات المقبلة في الأجَل القريب من معاناة واضطراب، ومهما كانت الظّروف المباشرة حالكة الظّلام، فإِنَّ الجامعة البهائيّة تؤمن بأنَّ في استطاعة الإنسانيّة مواجهةَ هذه التّجربة الخارقة بثقةٍ ويقينٍ من النّتائج في نهاية الأمر. فالتّغييرات العنيفة التي تندفع نحوها الإنسانيّة بسرعةٍ متزايدة لا تشير أبداً إلى نهاية الحضارة الإنسانيّة، وإنَّما من شأنها أن تُطلِق "القُدُرات الكامنة في مقام الإنسان"، وتُظهِر "سُمُوّ ما قُدّر له على هذه الأرض" وتَكْشِف عن "ما فُطِرَ عليه من نفيس الجوهر".
– 1 –
إِنَّ النِّعَم التي اختُصَّ بها الإنسان مُمَيِّزةً إِيّاه عن كلّ نوع آخر من المخلوقات يمكن تلخيصها في ما يُعرف بالنّفس البشريّة، والعَقْلُ هو الخاصيّة الأساسيّة لهذه النّفس. ولقد مَكَّنَتْ هذه النِّعَمُ الإنسان من بِناء الحضارات، وبلوغ الرّفاهيّة والازدهار الماديّ،
ولكنّ النّفس البشريّة ما كانت لتكتفي بهذه الإنجازات وَحْدَها. فهذه النّفس بحُكم طبيعتها الخفيًّة تَوَّاقَةٌ إلى السّموّ والعلاء، تتطلّع نحو رِحاب غير مرئيّة، نحو الحقيقة الأسمى، نحو هذا الجوهر الذي لا يمكن إدراك سِرِّه، جوهر الجواهر الذي هو الله سُبْحانَه وتَعَالى. فالأديان التي نُزِّلت لهداية الجنس البشريّ بواسطة شموسٍ مُشْرِقةٍ تَعاقَبَتْ على الظّهور كانت بمثابة حَلْقة الوَصْل الرّئيسيّة بين الإنسان وتلك الحقيقة الأسمى. وقد شَحَذت هذه الأديان قدرة الإنسان وهَذَّبتها لِيُتَاحَ له تحقيق الإنجازات الرّوحيّة والتّقدّم الاجتماعيّ في آنٍ معاً.
وليس في إمكان أيّة محاولة جدِّية تهدف إلى إصلاح شؤون البشر، وتسعى إلى إحلال السّلام العالميّ، أن تتجاهل الدّين. فلقد حاك التّاريخُ إلى حدٍّ بعيد نسيجَ ردائه من مفهوم الإنسان للأديان وممارستِهِ لها. وقد وصف أَحد المؤرِّخين البارزين الدّين بأنه "إحدى قدرات الطّبيعة الإنسانيّة"، ومما يَصْعب إنكاره هو أَنَّ إفساد هذه القدرة قد أَسهم في خَلْق كثيرٍ من البلبلة والاضطراب في المجتمع الإنسانيّ، وزَرَعَ الصّراع والخصام بين أفراد البشر وفي نفوسهم. كما أَنَّه ليس في إمكان أيّ شاهد مُنْصِف أن ينتقص من الأثر البالغ للدّين في المظاهر الحضاريّة الحيويّة، يُضاف إلى ذلك، أَنَّ الأثر المباشِر للدّين في مجالات التّشريع والأخلاق قد برهن تِباعاً على أنّه عاملٌ لا يمكن الاستغناء عنه في إقرار النّظام في المجتمع الإنسانيّ.
فقد كتب بهاءالله عن الدّين كعامل اجتماعيّ فعّال قائلاً: "إِنَّه السّبب الأعظم لنَظْم العالم واطمئنان من في الإمكان". وأَشار إلى أُفول شمس الدّين أو فساده بقوله: "فلو احتجب سِراج الدّين لتطرَّق الهرج والمرج وامتنع نَيِّر العدل والإنصاف عن الإشراق وشمسُ الأمن والاطمئنان عن الإِنوار". والآثار البهائيّة تُقرِّر في تَعْدادها وحَصْرها للنتائج المُترتِّبة على مثل هذا الفساد بأنَّ "انحراف الطّبيعة الإنسانيّة، وانحطاط السّلوك الإنسانيّ، وفساد النُّظُم الإنسانيّة وانهيارها، تَظْهر كلّها في مثل هذه الظّروف على أبشع صورة وأكثرها مَدْعَاةً للاشمئزاز. ففي مثل هذه الأحوال ينحطّ الخُلُق الإنسانيّ، وتتزعزع الثّقة، ويتراخى الانتظام، ويَخْرَس الضّمير، ويغيب الخجل والحياء، وتندثر الحشمة والأدب. وتعوجّ مفاهيم الواجب والتّكاتف والوفاء والإخلاص وتَخْمُد تدريجيّاً مشاعر الأمل والرّجاء، والفرح والسّرور، والأمن والسّلام".
إِذن، فإذا كانت الإنسانيّة قد وصلت إِلى هذا المنعطف من الصّراع الذي أصابها بحالة من الشّلل، فإنّه بات لِزاماً عليها أنْ تثوب إلى رشدها، وتنظر إلى إِهمالها، وتُفكِّر في أمر تلك الأصوات الغَاوية التي أَصْغَتْ إِليها، لكي تكتشف مصدر البلبلة واختلاف المفاهيم التي تُروَّج باسم الدّين. فأولئك الذين تمسّكوا لمآرب شخصيّة تمسُّكاً أعمى بحَرْفيَّةِ ما عندهم من آراء خاصة مُتزمِّتَة، وفرضوا على أتباعهم تفسيرات خاطئة متناقضة لأقوال أنبياء الله ورسله – إِنَّ أولئك يتحمّلون ثِقْل مسؤوليّة خلق هذه
البلبلة التي ازدادت حِدَّةً وتعقيداً بِمَا طرأ عليها من حواجز زائفة اختُلِقت لتَفْصِلَ بين الإيمان والعقل، وبين العِلم والدّين. وإذا راجعنا بكلّ تجرُّد وإنصاف ما قاله حقّاً مؤسِّسو الأديان العظيمة، وتَفَحَّصْنا الأوساط التي اضطُرّوا إلى تنفيذ أعباء رسالاتهم فيها، فلن نجد هناك شيئاً يمكن أن تَسْتَنِد إِليه النّزاعاتُ والتّعصّباتُ التي خَلَقت البلبلة والتّشويش في الجامعات الدّينيّة في العالم الإنسانيّ وبالتّالي في كافّة الشّؤون الإنسانيّة.
فالمبدأ الذي يفرض علينا أن نُعامِلَ الآخَرين، كما نُحِبّ أن يُعامِلَنا الآخَرون، مبدأٌ خُلُقِيّ تكرَّر بمختلف الصّور في الأديان العظيمة جميعاً، وهو يؤكّد لنا صِحَّة الملاحظة السّابقة في ناحيتَيْن مُعيَّنتَيْن: الأُولَى، أنّه يُلخِّص اتِّجاهاً خُلُقِيّاً يختصّ بالنّاحية التي تؤدّي إلى إحلال السّلام، ويمتدّ بأصوله عبر هذه الأديانِ بغَضّ النّظر عن أماكن قيامها أو أوقات ظهورها، والثّانية، أنّه يشير إلى ناحيةٍ أُخْرَى هي ناحية الوحدة والاتِّحاد التي تُمثِّل الخاصيّة الجوهريّة للأديان، هذه الخاصيّة التي أَخْفَقَ البشر في إدراك حقيقتها نتيجةَ نَظْرَتهم المُشوَّهة إلى التّاريخ.
فلو كانت الإنسانيّة قد أدركت حقيقة أولئك الذين تولَّوا تربيتها في عهود طفولتها الجماعيّة كمُنفِّذين لمسيرِ حضارةٍ واحدة، لجَنَتْ دون شكّ من الآثار الخَيِّرة، التي اجتمعت نتيجة تَعَاقُب تلك الرّسالات، محصولاً أكبر من المنافع التي لا تُحْصَى ولا تُعَدّ. ولكن الإنسانيّة فَشِلَت، ويا للأسف، في أن تفعل ذلك.
إِنَّ عودة ظهور الحَمِيَّة الدّينيّة المُتطرِّفة في العديد من الأقطار لا تعدو أن تكون تشنُّجاتِ الرَّمَق الأخير. فالماهيّة الحقيقيّة لظاهرة العنف والتّمزُّق المتَّصلة بهذه الحميّة الدّينيّة تشهد على الإفلاس الرّوحيّ الذي تُمثِّله هذه الظّاهرة. والواقع أَنَّ من أغرب الملامح الواضحة وأكثرها مدعاةً للأسف في تفشِّي الحركات الرّاهنة من حركات التّعصّب الدّينيّ هي مدى ما تقوم به كلّ واحدة منها ليس فقط في تقويض القِيَم الرّوحيّة التي تسعى إلى تحقيق وحدة الجنس البشريّ، بل وتلك الإنجازات الخُلُقِيّة الفريدة التي حقَّقها كلّ دين من هذه الأديان التي تدّعي تلك الحركات أنّها قائمة لخدمة مصالحها.
ورَغْمَ ما كان للدّين من قوّة حيويّة في تاريخ الإنسانيّة، ورغم ما كان لظهور الحميّة الدّينيّة أو حركات التّعصّب المتَّصفة بالعنف من آثارٍ تُثير النّفوس، فقد اعتبر عددٌ متزايدٌ من البشر، حِقَباً طويلةً من الزّمن، أنَّ الأديان ومؤسَّساتها عديمةُ الفائدة ولا محلّ لها في الاهتمامات الرّئيسيّة للعالم الحديث. وبدلاً من الاتِّجاه نحو الدّين اتَّجه البشر إِمّا نحو لَذَّة إشباع أطماعهم الماديّة، أو نحو اعتناق مذاهب عقائديّة صَنَعَها الإنسان بُغْيَةَ إِنقاذ المجتمع الإنسانيّ من الشّرور الظّاهرة التي يَنُؤ بحَمْلِها. ولكنّ المؤسف أنّ مذاهب عقائديّة متعدِّدة اتَّجهت نحو تأليه الدّولة، ونحو إخضاع سائر البشر لسَطْوَة أُمَّةٍ واحدة من الأُمَم، أو عِرْقٍ من الأعراق، أو طَبَقَةٍ من الطّبقات، بَدَلَ أن تَتَبَنَّى مبدأ وحدة الجنس البشريّ، وبَدَلَ أن تعمل على تنمية روح التّآخي والوئام بين مختلف
النّاس. وباتت تسعى إلى خَنْق كلّ حوار ومَنْع أي تَبادُل للرّأي أو الفكر، وذهبت إلى التّخلِّي دون شفقة عن الملايين من الذين يموتون جوعاً تاركةً إِيّاهم تحت رحمة نظام سوق المعاملات التّجاريّة الذي يزيد بوضوحٍ من حدَّة المحنة التي يعيشها معظم البشر، بينما أَفسحت المجال لِقطاعات قليلة من النّاس لأن تتمتَّع بتَرَفٍ وثراءٍ قلَّما تصوَّرهما أسلافنا في أحلامهم.
فكم هو فاجعٌ سِجِلُّ تلك المذاهب والعقائد البديلة التي وضعها أولو الحكمة الدُّنيويّة من أهل عصرنا. ففي خِضَمِّ خَيْبَة الأمل الهائلة لدى مجموعات إنسانيّة بأسرها، لُقِّنت الأماثيل لتتعبَّد عند محاريب تلك المذاهب، نَستقرئ عِبْرَة التّاريخ وحُكْمَه الفاصل على قِيَم تلك العقائد وفوائدها. إِنَّ المحصول الذي جَنَيْنَاه من تلك العقائد والمذاهب هو الآفات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي نُكِبت بها كلّ مناطق عالمنا في هذه السّنوات الختاميّة من القرن العشرين، وذلك بعد انقضاء عقودٍ طويلة من استغلالٍ متزايد للنّفوذ والسّلطة على يد أولئك الذين يَدينون بما حققوه من سُؤدَد وصعود في مجالات النّشاطات الإنسانيّة إلى تلك العقائد والمذاهب. وترتكز هذه الآفات الظّاهريّة على ذلك العَطَب الرّوحيّ الذي تعكسه نَزْعَة اللاّمُبالاة المستَحْوِذةُ على نفوس جماهير البشر في كلّ الأُمم، ويعكسه خمود جَذْوَة الأمل في أفئدة الملايين مِمَّنْ يُقاسون اللَّوْعَة والحرمان.
لقد آنَ الأوانُ كي يُسأل الذين دَعَوا النّاس إلى اعتناق العقائد
الماديّة، سواءً كانوا من أهل الشّرق أو الغرب، أو كان انتماؤهم إلى المذهب الرّأسماليّ أو الاشتراكيّ – آنَ الأوان ليُسأل هؤلاء ويُحاسَبوا على القيادة الخُلُقِيّة التي أخذوها على عواتقهم. فأَيْنَ "العالم الجديد" الذي وعَدَت به تلك العقائد؟ وأَين السّلام العالميّ الذي يُعلِنون عن تكريس جهودهم لخدمة مبادئه؟ وأين الآفاق الجديدة في مجالات الإنجازات الثّقافيّة التي قامت على تعظيم ذلك العِرق، أو هذه الدّولة، أو تلك الطّبقة الخاصّة؟ وما السّبب في أنَّ الغالبيّة العُظْمَى من أهل العالم تنزلق أكثر فأكثر في غياهب المجاعة والبؤس في وقتٍ بات في متناول يد أولئك الذين يتحكَّمون في شؤون البشر ثرواتٌ بَلَغَت حدَّاً لم يكن لِيَحْلُم بها الفراعنة، ولا القياصرة، ولا حتى القوى الاستعماريّة في القرن التّاسع عشر؟
إِنَّ تمجيد المآرب الماديّة – وهو تمجيد يُمثِّل الأصول الفكريّة والخصائص المشتركة لكلّ تلك المذاهب – إِنَّ هذا التّمجيد على الأخصّ هو الذي نجد فيه الجذور التي تُغذِّي الرّأي الباطل الذي يدَّعي بأنَّ الإِنسان أنانيٌّ وعدوانيٌّ ولا سبيل إلى إصلاحه. وهذه النّقطة بالذات هي التي يجب جلاؤها إذا ما أردنا بناء عالم جديد يكون لائقاً بأولادنا وأحفادنا.
فالقول بأنّ القِيَم الماديّة قد فشلت في تلبية حاجات البشريّة كما أَثبتت التّجاربُ التي مَرَّت بنا، يفرض علينا أَنْ نعترف بصدق وأمانة أَنَّه أصبح لِزاماً الآن بَذْلُ جَهْدٍ جديد لإيجاد الحلول
للمشكلات المُضْنِية التي يُعانيها الكوكب الأرضيّ. فالظّروف التي تحيط بالمجتمع الإنسانيّ، وهي ظروف لا تُطاق، هي الدّليل على أَنَّ فَشَلنا كان فشلاً جماعيّاً بدون استثناء، وهذه الحالة إِنَّما تُذْكِي نَعْرَة التّزمُّت والإصرار لدى كلّ الأطراف بَدَلَ أن تُزيلها. فمن الواضح إذَن أنَّ هناك حاجة مُلِحَّة إلى مجهودٍ مشترك لإصلاح الأمور وشفاء العِلَل. فالمسألة أساساً مسألةُ اتِّخاذ مَوْقِف. وهنا يَتَبادَر إلى الأذهان السّؤال التّالي: هل تستمرّ الإنسانيّة في ضلالها مُتمسِّكة بالأفكار البالية والافتراضات العقيمة؟ أم يَعْمِد قادتها متَّحدين، بِغَضِّ النّظر عن العقائد، إلى التّشاوُر فيما بينهم بعزيمةٍ ثابتة بحثاً عن الحلول المناسبة؟
ويجدُر بأولئك الذين يهمّهم مستقبل الجنس البشريّ أن يُنْعِموا النّظر بالنّصيحة التّالية: "إذا كانت المُثُل التي طال الاعتزاز بها، والمؤسَّسات التي طال احترامُها عبر الزّمن، وإذا كانت بعض الفروض الاجتماعيّة والقواعد الدّينيّة قد قَصَّرت في تنمية سعادة الإنسان ورفاهيته بوجهٍ عامّ، وباتت عاجزةً عن سدّ احتياجات إنسانيّة دائمةِ التّطوّر، فَلِتندثِرْ وتَغِبْ في عالم النّسيان مع تلك العقائد المُهْمَلة البالية. ولماذا تُستثنَى من الاندثار الذي لا بدّ أن يُصيب كلّ مؤسّسة إنسانيّة في عالمٍ يَخْضَع لقانونٍ ثابت من التّغيير والفَنَاء. إِنًّ القواعد القانونيّة والنّظريًّات السّياسيّة والاقتصاديّة وُضِعت أصلاً من أجل المحافظة على مصالح الإنسانيّة ككلّ، وليس لكي تُصْلَب الإنسانيّة بقصد الإبقاء على سلامة أي قانون أو مبدأ أو المحافظة عليه".
– 2 –
إِنَّ حَظْرَ الأسلحة النَّوويّة، وتحريم استعمال الغَازات السّامّة، ومنع حرب الجراثيم، إنَّ كلّ ذلك لن يُزيل الأسباب الجَذريَّة لاندلاع الحروب. ورغم وضوح أهميَّة هذه الإجراءات العمليّة كعناصر لمسيرة السّلام، فهي في حدّ ذاتها سَطحيَّة بحيث أَنَّها لن تكون ذات أثرٍ دائم. فالبشر يتمتَّعون بالبراعة لدرجةِ أَنَّه باستطاعتهم إِن أرادوا خَلْق وسائل أخرى لشنّ الحروب. فبإِمكانهم استخدام الأغذية، أو الموادّ الخام، أو المال، أو القوّة الصناعيّة، أو المذاهب العقائديّة، أو الإرهاب، أسلحةً يَطْغَى بها الواحد منهم على الآخر في صراع لا نهاية له طَمَعاً في السّيطرة والسّلطان. كما أنَّه من غير الممكن إصلاح الخَلَل الهائل في الشّؤون الإنسانيّة الرّاهنة عن طريق تسوية الصّراعات الخاصّة والخلافات المُعيَّنة القائمة بين الدّول. لقد أصبح من الواجب إِيجاد إطارٍ عالميّ حقيقي واعتمادُه لإصلاح الخلل.
ومن المؤكَّد أنّ قادة العالم يُدرِكون أَنَّ المشكلة في طبيعتها عالميّةُ النّطاق، وهي واضحة المعالم في جملة القضايا المُتراكِمة التي يُواجِهونها يوماً بعد يوم. وهناك أَيضاً الأبحاث والحلول المطروحة التي تتكدَّس أمامهم من قِبَل العديد من المجموعات الواعية المُهتمَّة بهذه القضايا ومن وكالات الأمم المتّحدة، ممّا لا يَدَع لأحدٍ منهم مجالاً لعدم الإِلمام بالمَطالب التي تتحدَّاهم والتي لا بُدَّ من مجابهتها. إلاّ أَنَّ هناك حالةً من شلل الإرادة. وهذه
الحالة هي بيت القصيد والمسألة التي يجب بحثها بعناية ومعالجتها بكلّ عزم وإصرار. فحالة الشّلل هذه تَجِد جذورها – كما سبق أن ذكرنا – في ذلك الاعتقاد الرّاسخ بأن البشر جُبِلوا على التَّصارُع فيما بينهم وأَنَّ هذه نَزْعَةٌ لا يمكن تلافِيها. ولقد ترتَّب على هذا الاعتقاد تردُّدٌ في إعارة أيّ التفاتٍ إلى إمكانيَّة إخضاع المصالح الوطنيّة الخاصة لمُتطلَّبات النّظام العالميّ، وترتَّب عليه أَيضاً نَوْعٌ من انعدام الرّغبة في اتِّخاذ مَوْقِفٍ شُجاع يقضي بقبول النّتائج البعيدة المدى النّاجمة عن تأسيس سلطةٍ عالميّة مُوحَّدة. وفي الإمكان أيضاً تلمُّس حالة الشّلل هذه في أَنَّ جماهير غفيرة من البشر لا تزال إلى حدّ بعيد، رازحةً تحت وَطْأَة الجهل والاستعباد، وعاجزةً عن الإفصاح عن رغباتها في المطالبة بنظامٍ جديد يَضْمَن لها العيش مع البشر كافّة في سلامٍ ووئامٍ ورخاء.
إِنَّ الخطوات التّجريبيّة التي اتُّخِذت في سبيل تحقيق النّظام العالميّ، وخاصةً تلك التي تمّ اعتمادها منذ الحرب العالميّة الثّانية تُوحِي بدلائل تبشِّر بالأمل. فتزايُدُ الاتِّجاه لدى مجموعات الأمم نحو إقامة علاقات تُمكِّنها من التّعاوُن فيمَا بينها في القضايا ذات المصالح المشتركة يُشير إلى أَنَّ الأمم كلّها باستطاعتها التّغلُّب على حالة الشّلل هذه في نهاية المطاف. فرابطة دول جنوب شرق آسيا، وجامعة دول البحر الكاريبي وسوقها المشتركة، والسّوق المشتركة لدول أمريكا الوُسْطَى، والمجلس الاقتصاديّ للتّعاون المشترك، ومجموعة الدّول الأوروبيّة، وجامعة الدّول العربيّة، ومُنظَّمة الوحدة الإفريقيّة،
ومنظّمة دول القارَّة الأمريكيّة، ومُنْتَدَى دول الباسيفيك الجنوبيّ - إِنَّ كلّ هذه التّنظيمات وكلّ جهودها المشتركة تُمهِّد السّبيل أمام قيام نظام عالميّ.
ومن العلامات الأخرى التي تُبشِّر بالأمل، ازديادٌ ملحوظٌ في تركيز الاهتمام على عددٍ من أَشدّ المشكلات تأصّلاً في هذا الكوكب الأرضيّ. ورغم تقصير هيئة الأمم المتحدة في بعض المجالات، فإٍنَّها قد تَبَنَّت ما يزيد على أَربعين بياناً وميثاقاً، وحتى في الحالات التي لم تكن فيها الحكومات مُتحمِّسة في التزاماتها تِجاه هذه البيانات والمواثيق، تولَّد لدى العاديّين من البشر شعورٌ جديد بالحياة. إِنَّ الإِعلان العام لحُقوق الإنسان، وميثاق منع جرائم الإبادة العنصريّة وقانون الجزاء المتعلّق بهذا الميثاق، إضافةً إلى الإجراءات المماثِلة المتعلقة بالقضاء على كلّ أنواع التّفرقة العِرقيّة أو الجنسيّة أو الدّينيّة، والدّفاع عن حقوق الطّفولة، وحماية كلّ فرد من التّعرُّض للتّعذيب، ومحاولة القضاء على المجاعة وعلى سوء التّغذية، والعمل على استخدام التّقدم العلميّ والتّقنيّ لصالح السّلام ولفائدة الإنسان – إِنَّ كلّ هذه الإجراءات، في حالةِ تنفيذها وتوسيع نطاقها بشجاعة لا بدّ أَن تُعجِّل مجيء ذلك اليوم الذي يفقد فيه شَبَحُ الحرب نفوذَه في السّيطرة على العلاقات الدّوليّة. ولا حاجة هنا للتّأكيد على أهميّة القضايا التي تُعالجها هذه البياناتُ والمواثيق، ولكنْ نظراً إلى أنَّ لبعض هذه القضايا علاقةً وثيقةً بموضوع السّلام في العالم، فإنّها تستحقُّ تعليقاً إضافيّاً.
فالتَّفْرِقَة العُنْصُريّة هي أحد أشدّ الشّرور ضرراً وأذىً وأكثرها استشراءً، وهي عائقٌ رئيسيّ في طريق السّلام. والعمل بمبادئ هذه التّفرقة هو انتهاكٌ فاضح لكرامة الإنسان، ولا يمكن القبول به بأي عُذْرٍ من الأعذار. إِنَّ التّفرقة العنصريّة تُعيق نُمُوّ الإِمكانات اللامحدودة عند أولئك الذين يرزحون تحت نِيرها، كما أنَّها تُفسِد أولئك الذين يُمَارسونها، وتُعطِّل تقدّم الإنسان ورُقِيَّه، وإذا ما أُريد القضاء على هذه المشكلة، فمن الواجب الاعترافُ بمبدأ وحدة الجنس البشريّ وتنفيذُ هذا المبدأ باتِّخاذ الإجراءات القانونيّة المناسبة وبتطبيقه على نطاقٍ عالميّ.
أمَّا الفوارق الشّاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي مصدرٌ من مصادر المُعاناة الحادَّة، فَتَضع العالم على شَفَا هاويَةِ الحرب والصّراع وتَدَعُه رهناً للاضطراب وعَدَم الاستقرار. وقليلةٌ هي المجتمعاتُ التي تمكَّنت من معالجة هذه الحالة معالجةً فَعًّالةً. ولذلك فإنَّ الحلَّ يتطلَّب تنفيذ جُمْلَةٍ من الاتِّجاهات العمليّة والرّوحيّة والخُلُقِيَّة. والمطلوب هو أن ننظر إلى هذه المشكلة نَظْرَةً جديدةً تَستدعي إجراء التّشاوُر بين مجموعةٍ مُوسَّعة من أهل الاختصاص في العديد من المجالات العلميّة المُتنوِّعة، على أن تتمّ المُشاورات مُجرَّدةً عن المُجادلات العقائديّة والاقتصاديّة، ويشترك فيها أولئك الذين سوف يتحمَّلون مُباشرةً أثر القرارات التي يجب اتِّخاذها بصورة ملحّة. إنَّ القضيّة لا ترتبط فقط بضرورة إزالة الهُوّة السّحيقة بين الفَقْر المُدْقِع والغِنَى الفاحش، ولكنّها ترتبط أيضاً بتلك القِيَم الرّوحيّة الحقَّة التي يُمْكِنها، إذا تمّ
إدراكها واستيعابها، خَلْقُ اتِّجاهٍ عالميّ جديد يكون في حدّ ذاته جُزءاً رئيسيّاً من الحلّ المطلوب.
إِنَّ الوطنيّة المتطرِّفة، وهي شعور يَخْتَلِف عن ذلك الشّعور المشروع المتَّزن المُتمثِّل في محبّة الإنسان لوطنه، لا بدّ أن يُستعاضَ عنها بولاءٍ أوْسَع، بمحبّة العالم الإنسانيّ ككلّ. يقول بهاءالله "إنَّ الأرض وطنٌ واحدٌ والبشرُ سكَّانه". إنَّ فكرة المُواطِنِيَّة العالميّة جاءت كنتيجة مباشرة لتقلُّص العالم وتحوُّله إلى بيئة واحدة يَتَجاوَر فيها الجميع، بفضل تقدُّم العلم واعتماد الأمم بعضها على بعض اعتماداً لا مجال لإنكاره. فالمحبّة الشّاملة لأهل العالم لا تَستثني محبّة الإنسان لوطنه. فخير وسيلة لخدمة مصلحة الجزء في مجتمع عالميّ هي خدمة مصلحة المجموع. وهناك حاجةٌ قُصْوَى لزيادة النّشاطات الدّوليّة الرّاهنة في الميادين المختلفة، وهي نشاطاتٌ تُنمِّي تَبادُل المحبّة والوئام وتخلق مشاعر التّضامُن بين الشّعوب.
كانت النّزاعات الدّينيّة عبر التّاريخ سبباً للعديد من الحروب والصّراعات، وآفةً من أعظم الآفات التي أعاقت التّقدّم والتّطوّر. ولقد أصبحت هذه النّزاعات بغيضةً على نحوٍ متزايد بالنّسبة لأتباع كلّ الأديان وكذلك بالنّسبة لمن لا يَدينون بدِين. وإِنَّ على أتباع الأديان كلّها أن يُواجهوا الأسئلة الأساسيّة التي تُثيرها هذه المُنازعات، وأَن يَجدوا لها أجوبةً واضحةً. فمثلاً، كيف يمكن لهم إِزالة الخلافات القائمة بينهم من الوجهتَيْن النّظريّة والعمليّة
على السّواء؟ إِنَّ التّحدِّي الذي يُواجِه قادة الأَديان في العالم يَحْمِلهم على أن يتمعَّنوا في مِحْنَة الإنسانيّة بقلوبٍ تمتلئ حَناناً، وبرغبةٍ في توخِّي الحقيقة، وأن يسألوا أَنفسهم، مُتذلِّلين أمام الخالق العَليّ القَدير، ما إذا كان بإمكانهم دَفْنُ خلافاتهم الفِقهيّة بروح عالية من التَّسامُح ليستطيعوا العمل معاً في سبيل إحلال السّلام وتعزيز التّفاهم الإنسانيّ.
إِنَّ قضيّة تحرير المرأة، أي تحقيق المُساواة الكاملة بين الجنسَيْن، هي مطلبٌ مُهِمٌّ من مُتطلبات السّلام، رغم أَنَّ الاعتراف بحقيقة ذلك لا يزال على نطاقٍ ضيِّق. إٍنَّ إنكار مثل هذه المساواة يُنزل الظّلم بنصف سكّان العالم، ويُنمِّي في الرّجل اتِّجاهات وعادات مؤذية تنتقل من محيط العائلة إلى محيط العمل، إلى محيط الحياة السّياسيّة، وفي نهاية الأَمر إلى ميدان العلاقات الدّوليّة. فليس هناك أي أَساسٍ خُلُقِيّ أو عمليّ أو بيولوجيّ يمكن أن يبرّر مثل هذا الإنكار، ولن يستقرّ المناخ الخلقيّ والنّفسيّ الذي سوف يتسنَّى للسّلام العالميّ النُّموُّ فيه، إلاّ عندما تَدْخُل المرأة بكلّ تَرحاب إلى سائر ميادين النّشاط الإنسانيّ كشريكةٍ كاملةٍ للرّجل.
وقضيّة التّعليم الشّامل للجميع تستحقّ هي الأخرى أَقصى ما يمكن من دعمٍ ومعونةٍ من قِبَل حكومات العالم أجمع. فقد اعتنق هذه القضيّة وانخرط في سِلك خدمتها رَعيلٌ من الأشخاص المخلصين يَنْتَمُون إلى كلّ دين وإلى كلّ وطن. ومِمَّا لا جدل فيه
أنَّ الجهل هو السّبب الرّئيسيّ في انهيار الشّعوب وسقوطها وفي تغذية التّعصّبات وبَقائها. فلا نجاح لأيّة أُمَّةٍ دون أن يكون العلم من حقّ كلّ مُواطِن فيها، ولكنّ انعدام الموارد والمصادر يحدّ من قدرة العديد من الأُمَم على سدّ هذه الحاجة، فيَفْرِض عليها عندئذ ترتيباً خاصّاً تَعتمِده في وضع جَدْولٍ للأَولَوِيَّات. والهيئات صاحبةُ القرار في هذا الشّأن تُحْسِن عملاً إِنْ هي أَخَذَت بعين الاعتبار إعطاءَ الأولويّة في التّعليم للنّساء والبنات، لأنَّ المعرفة تنتشر عن طريق الأُمّ المتعلِّمة بمُنْتَهى السّرعة والفَعَّاليّة، فتعمّ الفائدة المجتمع بأسره. وتمشيّاً مع مُقتضَيات العصر يجب أَن نهتمّ بتعليم فكرة المُواطنِيَّة العالميّة كجزء من البرنامج التّربويّ الأساسيّ لكلّ طِفل.
إِنَّ انعدام سُبُل الاتِّصال بين الشّعوب في الأساس يُضْعِف الجهود المبذولة في سبيل إحلال السّلام العالميّ ويُهدِّدها. فاعتماد لُغَةٍ إضافيَّة كلغة عالميّة سيُسْهِم إِسهاماً واسِعاً في حلّ هذه المشاكل ويَستأهل اهتماماً عاجلاً.
وفي سَرْدنا لهذه القضايا كلّها نُقْطَتَان تَستدعِيان التَّكرار والتّأكيد. النّقطة الأولى هي أَنَّ إِنهاء الحروب والقضاء عليها ليس مُجرَّد إِبرام مُعاهدات، أو توقيع اتِّفاقيَّات. إِنَّ المَهمَّة معقَّدة تتطلَّب مُستوىً جديداً من الالتزام بحلّ قضايا لا يُرْبَط عادةً بينها وبين موضوع البحث عن السّلام. ففكرة الأَمن الجماعي أو الأمن المشترك تُصبح أَضْغاثَ أحلام إِذا كان أساسُها الوحيد
الاتِّفاقات السّياسيّة. أَمَّا النّقطة الثّانيّة فهي أَنَّ التّحدِّي الأَساسي الذي يُواجِه العامِلين في قضايا السّلام هو وجوب السُّمُوِّ بإطار التَّعامُل إِلى مستوى التّقيُّد والمُثُل بشَكْلٍ يَتَميَّز عن أُسْلوب الإِذعان للأَمر الواقع. ذلك أَنَّ السّلام في جوهره يَنْبُع من حالةٍ تتبلور داخل الإنسان يَدْعَمها موقفٌ خُلُقِيّ وروحيّ. وخَلْقُ مثل هذا الموقف الخُلُقِيّ والرّوحيّ هو بصورة أساسيّة ما سوف يُمكِّننا من العثور على الحلول النّهائيّة.
وهناك مبادئ روحيّة يَصِفُها البعض بأنها قِيَمٌ إنسانيّة يمكن عن طريقها إيجاد الحلول لكلّ مشكلة اجتماعيّة. وعلى وجه العموم، فإِنَّ أيّة مجموعة بشريّة صادقةِ النّوايا تستطيع وضع الحلول العمليّة لمشكلاتها. ولكنَّ توفُّر النّوايا الصّادقة والخبرة العمليّة ليست كافيةً في غالب الأحيان. فالمِيزة الرّئيسيّة لأي مبدأ روحي تتمثَّل في أنّه يُساعدنا ليس فقط على خلق نظرة إلى الأمور تَنسجِم مع ما في قَرارة الطّبيعة الإنسانيّة، بل إِنّه يُولِّد أيضاً مَوْقِفاً، وطاقَة مُحَرِّكةً، وإرادةً، وطُموحاً – وكلّ ذلك يُسهِّل اكتشاف الحلول العمليّة وطُرُق تنفيذها. ولا ريب في أَنَّ قادة الحكومات وجميع من بِيَدهم مقاليد السّلطة سيدعمون جهودهم في سبيل حلّ المشكلات إِذا سَعَوا في بادئ الأمر إلى تحديد المبادئ وتعيينها، ومن ثمّ الاهتداء بهَدْيِها.
– 3 –
إِنَّ المسألة الأولى التي يجب حلّها هي كيفيّة تغيير العالم المُعاصر، بكلّ ما فيه من أنماط الصّراعات المتأصِّلة وجَعْلُه عالماً يَسُوده التّعاوُن والانسجام. فالنّظام العالميّ لا يمكن تثبيته إلاّ على أساس الوعي وعياً راسخاً لا يتزعزع بوحدة الجنس البشريّ، هذه الوحدة التي هي حقيقةٌ روحيّة تؤكِّدها العلوم الإنسانيّة بأسرها. إِنَّ علم الإِنسان، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم النّفس – هذه العلوم كلّها تعترف بانتماء الإنسان إلى أصلٍ واحد، رغم أَنَّ المظاهر الثّانويّة لحياته تختلف وتتنوَّع بصورة لا حصر لها ولا عدّ. ويتطلَّب إدراك هذه الحقيقة التّخلِّي عن التّعصّبات بكلّ أنوعها عِرقيّة كانت أو طبقيّة، أو دينيّة، أو وطنيّة، أو متَّصلةً باللّون أو بالجنس أو بمستوى الرُّقيّ الماديّ. وبمعنىً آخر تَرْك كلّ ما قد يُوحي إلى فئة من البشر بأنَّها أفضل شأناً أو أسمى مرتبةً من سواها.
إِنَّ القبول بمبدأ وحدة الجنس البشريّ هو أول مطلبٍ أساسيّ يجب توفُّره في عمليّة إِعادة تنظيم العالم وإدارته كوطن واحد لأبناء البشر أجمع. والقبول بهذا المبدأ الرّوحيّ قبولاً عالميَّ النّطاق ضروريٌّ بالنّسبة لأيّة محاولة ناجحة لإِقامة صَرْح السّلام العالميّ. وبناءً على ذلك يجب إعلانه في كلّ أنحاء العالم، وجعله مادَّةً تُدرَّس في المدارس، كما ينبغي المثابرة على تأكيده وإِثباته في كلّ دولة تمهيداً لإِحداث ما ينطوي عليه من تحوُّل
عضوي في بُنْيَة المجتمع.
والاعتراف بمبدأ وحدة العالم الإنسانيّ يَستلزِم، من وجهة النّظر البهائيّة، "أَقلَ ما يمكن إعادة بناء العالم المُتمدِّن بأسره ونَزْع سلاحه، ليصبح عالماً متَّحداً اتّحاداً عضويّاً في كلّ نواحي حياته الأساسيّة، فيتوحَّد جهازُه السّياسي، وتتوحَّد مطامحه الرّوحيّة، وتتوحَّد فيه عوالم التّجارة والمال، ويتوحَّد في اللّغة والخطّ، على أن يبقى في ذات الوقت عالماً لا حدود فيه لتنوُّع الخصائص الوطنيّة والقوميّة التي يُمثِّلها أعضاء هذا الاتِّحاد".
لقد أَسْهَب شوقي أفندي، وليُّ أمر الدّين البهائي، في شرح الآثار المترتِّبة على تنفيذ هذا المبدأ الأساسيّ، عندما عَلَّق على هذا الموضوع عام 1931 بقوله: "بعيداً عن أيّة محاولة لتقويض الأُسُس الرّاهنة التي يقوم عليها المجتمع الإنسانيّ، يسعى مبدأ الوحدة هذا إلى توسيع قواعد ذلك المجتمع، وإعادة صياغة شكل مؤسّساته على نحوٍ يَتَناسَق مع احتياجات عالمٍ دائمِ التّطوّر. ولن يتعارض هذا المبدأ مع أي ولاءٍ من الولاءات المشروعة، كما أنه لن ينتقص من حقِّ أي ولاءٍ ضروريِّ الوجود. فهو لا يستهدف إطفاءَ شُعْلَة المحبّة المتَّزنة للوطن في قلوب بني البشر، ولا يسعى إلى إزالة الحكم الذّاتيّ الوطنيّ، الذي هو ضرورةٌ ملحَّة إِذا ما أُرِيدَ تجنُّب الشّرور والمَخاطر النّاجمة عن الحكم المركزيّ المُبالَغ فيه. ولن يتجاهل هذا المبدأ أو يسعى إِلى طَمْس تلك الميّزات المتَّصلة بالعِرق،
والمناخ، والتّاريخ، واللّغة والتّقاليد، أو المتعلّقة بالفكر والعادات، فهذه الفوارق تُميِّز شعوب العالم ودُوَلَه بعضها عن بعض. إِنَّه يدعو إلى إقامة ولاءٍ أَوسع، واعتناق مطامح أسمى، تَفُوق كلّ ما سَبَقَ وحَرَّك مشاعر الجنس البشريّ في الماضي. ويؤكِّد هذا المبدأ إِخضاعَ المشاعر والمصالح الوطنيّة للمتطلَّبات الملحَّة في عالم مُوحَّد، رافضاً المركزيّة الزائدة عن الحدّ من جهة، ومُستنكِراً من جهة أخرى أيّة محاولة من شأنها القضاء على التّنوّع والتّعدّد. فالشِّعار الذي يَرْفعه هو: "الوحدة والاتِّحاد في التّنوّع والتّعدّد".
وإِنجازُ مثلُ هذه الأهداف يستلزم توفُّر عِدَّة مراحل عند تعديل المواقف والاتِّجاهات الوطنيّة والسّياسيّة، هذه الاتِّجاهات والمواقف التي باتت الآن تَميل نحو الفوضى في غياب قواعد قانونيّة مُحدَّدة أو مبادئ قابلة للتّنفيذ والتّطبيق على مستوى عالميّ ومن شأنها أن تُنظِّم العلاقات بين الدّول. ومِمَّا لا ريب فيه أَنَّ عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم المتّحدة، بالإضافة إلى العديد من التّنظيمات والاتِّفاقيَّات التي انبثقت عن هاتَيْن الهيئتَيْن العالميّتَيْن قد ساعدت دون شكّ على تخفيف حدّة بعض الآثار السّلبيّة للنزاعات الدّوليّة، ولكنها أَيضاً برهنت على أَنَّها تعجز عن منع الحروب والصّراعات، فالواقع أَنَّ عشرات الحروب قد نَشِبَت منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، وأَنَّ العديد منها لا يزال مُسْتَعِرَ الأُوار.
لقد كانت الوجوه البارزة لهذه المشكلة ظاهرةً للعَيان في القرن التّاسع عشر عندما أَصْدَر بهاءالله مقترحاته الأولى بصدد تأسيس السّلام العالميّ. وعرض بهاءالله مبدأ الأمن الجماعي أو الأمن المشترك في بياناتٍ وجَّهها إلى قادة العالم وحُكَّامه. وقد كتب شوقي أفندي مُعلِّقاً على مَغْزَى ما صرًّح به بهاءالله بقوله: "إِنَّ المغزى الذي يكمن في هذه الكلمات الخطيرة هو أَنَّها تشير إٍلى أَنَّ كَبْحَ جِماح المشاعر المتعلقة بالسّيادة الوطنيّة المتطرِّفة أَمرٌ لا مناص منه كإجراءٍ أوَّلي لا يمكن الاستغناء عنه في تأسيس رابطة الشّعوب المتّحدة التي ستَنْتَمي إليها مُستقبلاً كلّ دول العالم. فلا بُدَّ من حدوث تطورٍ يَقودُ إلى قيام شَكْلٍ من أشكال الحكومة العالميّة تخضع لها عن طِيبِ خاطرٍ كلّ دول العالم، فتتنازل لصالحها عن كلّ حقّ في شنّ الحروب، وعن حقوقٍ مُعيَّنة في فرض الضّرائب، وعن كلّ حقّ أَيضاً يسمح لها بالتّسلُّح، إِلاَّ ما كان منه يَكفي لأغراض المحافظة على الأمن الدّاخلي ضمن الحدود المَعْنيَّة لكلّ دولة. ويدور في فَلَك هذه الحكومة العالميّة قوّةٌ تنفيذيّة دوليّة قادرة على فرض سلطتها العليا التي لا يمكن تحدِّيها من قِبَل أيّ مُعارضٍ من أَعضاء رابطة شعوب الاتِّحاد. يُضاف إلى ذلك إِقامة بَرلَمان عالميّ يَنتخِب أعضاءَه كلّ شعب ضمن حدود بلاده، ويَحْظَى انتخابُهم بموافقة حكوماتهم الخاصّة، وكذلك تأسيسُ محكمة عُليا يكون لقراراتها صِفَة الإِلزام حتى في القضايا التي لم تكن الأطراف المَعنيَّة راغبةً في طرحها أمام تلك المحكمة... إِنَّها جامعةٌ عالميّة تزول فيها إلى
غير رجعة كلّ الحواجز الاقتصاديّة ويقوم فيها اعتراف قاطع بأنَّ رأس المال واليد العاملة شريكان لاغِنَى للواحد منهما عن الآخر، جامعةٌ يتلاشى فيه نهائيّاً ضجيج التّعصّبات والمُنازعات الدّينيّة، جامعةٌ تنطفئ فيها إِلى الأبد نار البغضاء العرقيّة، جامعةٌ تَسُودها شِرْعَةٌ قانونيّة دوليّة واحدة تكون تعبيراً عن الرّأي الحصيف الذي يَصِل إليه بعنايةٍ مُمثِّلو ذلك الاتِّحاد، ويجري تنفيذ أحكامها بالتّدخُّل الفوريّ من قِبَل مجموع القوات الخاضعة لكلّ دولة من دول الاتِّحاد. وأخيراً إِنَّها جامعةٌ عالميّة يتحوَّل فيها التّعصّب الوطني المتقلِّب الأهواء، العنيف الاتِّجاهات، إلى إِدراكٍ راسخٍ لمعنى المواطِنيَّة العالميّة – تلك هي حقّاً الخطوط العريضة لصورة النّظام الذي رَسَمَه مُسبَقاً بهاءالله، وهو نظامٌ سوف يُنْظَر إليه على أنَّه أَينع ثمرةٍ من ثمرات عصرٍ يكتمل نُضْجُه ببطء".
وقد أشار بهاءالله إلى تنفيذ مثل هذه الإجراءات البعيدة المدى بقوله: "سيأتي الوقت الذي يدرك فيه العموم الحاجة الملحَّة التي تدعو إلى عقدِ اجتماعٍ واسع يشمل البشر جميعاً. وعلى ملوك الأرض وحُكّامها أن يحضروه، وأن يشتركوا في مُداولاته، ويَدْرُسوا الوسائل والطُّرُق التي يمكن بها إرساء قواعد السّلام العظيم بين البشر".
إِنَّ الشّجاعة والعزيمة، وصفاء النّيَّة، والمحبّة المُنزَّهة عن المآرب الشّخصيّة بين شعبٍ وآخر، وكلّ الفضائل الرّوحيّة
والخُلُقِيَّة التي يستلزمها تنفيذ هذه الخطوة الخطيرة نحو السّلام ترتكز على فِعْل الإِرادة. ففي اتِّجاهنا لخَلْق الإِرادة الضروريّة علينا أن نأخذ بعين الاعتبار صادقين حقيقة الإنسان، أي فِكْرَه. فإِذا تمكَّنا من إدراك علاقة هذه الحقيقة النّافذة بالنّسبة لهذا الموضوع نتمكَّن أيضاً من تقدير الضرورة الاجتماعيّة لترجمة فضائل هذه الحقيقة الفريدة إلى الواقع عن طريق المَشُورة الودِّيّة الصّادقة الرّزينة، ومن ثمّ العمل بمُقْتضَيات نتائج هذه المشورة. وقد لَفَتَ بهاءالله الأنظار مشدِّداً على منافع المشورة في تنظيم الشّؤون الإنسانيّة وعلى أَنَّه لا يمكن الاستغناء عنها فقال: "تُسْبغ المشورة وعياً أكبر وتُحيل الحَدْسَ إلى يقين. إِنَّها سراجٌ مُنير في ظَلام العالم يُضيء السّبيل ويَهْدي إلى الرّشاد. إِنَّ لكلّ شيء درجةً من الكمال والنّضوج تستمرّ وتَدُوم، ونضوج نعمة الإدراك يظهر جليّاً بواسطة المشورة". وبالمِثْل فإِنَّ محاولة تحقيق السّلام عن طريق فِعل المشورة بالذات كما اقترحها بهاءالله سوف تُساعد على نشرِ روحٍ خَيِّرة بين أهل العالم لا يمكن لأيّة قوّة مُناهَضَةُ نتائجها النّافذة في نهاية الأمر.
أمَّا فيما يختصُّ بالإجراءات المتعلِّقة بذلك الاجتماع العالميّ فقد عَرَضَ عبد البهاء، ابن بهاءالله والذي خوَّله والِدُه صَلاحيَّة بيان تعاليمه، هذه العِبارات المتَّسمة بنَفاذ البصيرة: "عليهم أن يطرحوا أَمر السّلام على بِساط المشورة العامّة، وأَن يسعوا بكلّ وسيلة مُتاحة لهم إِلى تأسيس اتِّحادٍ يجمع دول العالم. وعليهم توقيعُ مُعاهدة مُلْزِمة للجميع، ووَضْعُ ميثاق بنوده مُحدَّدة،
سليمة، وحصينة. وعليهم أن يُعلنوا ذلك على العالم أجمع وأن يُحرِزوا موافقة الجنس البشريّ بأسره عليه. فهذه المهمّة العُليَا النّبيلة – وهي المصدر الحقيقي للرفاهية والسّلام بالنّسبة للعالم كلّه – يجب أن يَنْظُرَ إليها جميع سكان الأرض على أَنَّها مهمّةٌ مقدَّسة، كما ينبغي تسخير كلّ قوى البشريّة لضمان هذا الميثاق الأعظم ولاستقراره ودوامه. ويُعيِّن هذا الاتفاقُ الشّاملُ بتمام الوضوح حدودَ كلّ دولة من الدّول وتُخومِها، ويَنُصّ نهائيّاً على المبادئ التي تقوم عليها علاقات الحكومات بعضها ببعض. ويُوثِّق أيضاً المُعاهدات والواجبات الدّوليّة كلّها. وبالأسلوب ذاته يُحدِّد بكلّ دِقَّة وصَرامة حَجْمَ تسلُّح كلّ حكومة، لأَنَّ السّماح لأيّة دولة بزيادة جيوشها واستعداداتها للحرب، يثير شكوك الآخرين. والمبدأ الأساسي لهذا الاتِّفاق الرّصين يجب أن يكون محدَّداً بحيث إذا أَقدمت أيّ حكومة فيما بَعْدُ على انتهاك أي بندٍ من بنوده، هَبَّت في وجهها كلّ حكومات الأرض وفرضت عليها الخضوع التّامَّ، لا بل إٍنَّ الجنس البشريّ كلّه يجب أن يعقد العزم، بكلّ ما أُوتِي من قوّة، على دَحْر تلك الحكومة. فإِذا ما اعْتُمِدَ هذا الدّواء الأعظم لعلاج جسم العالم المريض، فلا بدَّ أَن يبرأ من أسقامه ويبقى إلى الأبد سليماً، مطمئناً، مُعافىً".
إِنَّ انعقاد هذا الاجتماع العظيم قد طال انتظاره.
إِنَّنا بكلّ ما يعتلج في قلوبنا من صادق المشاعر نُهيب بقادة كلّ الدّول أَن يغتنموا الفرصة المؤاتية لاتِّخاذ خطوات لا رجوع
عنها من أجل دعوة هذا الاجتماع العالميّ إلى الانعقاد. وجميع قوى التّاريخ تَحُثّ الجنس البشريّ على تحقيق هذا العمل الذي سوف يُسجِّل على مدى الزّمان انبثاق الفجر الذي طال ترقُّبه، فَجْرِ بلوغ الإنسانيّة نُضْجِها.
فَهَل تَنْهَضُ الأمم المتحدة، بالدّعم المُطْلَق من كلّ أعضائها، وترتفع إلى مستوى هذه الأهداف السّامية لتحقيق هذا الحدث المُتوِّج لكلّ الأحداث؟
فَلْيُدرِك الرِّجال والنّساء والشّباب والأطفال، في كلّ مكان، ما سيُضْفِيه هذا الحدث الضّروري على جميع الشّعوب من تَشريفٍ وإعزازٍ دائمَيْن. وَلْيَرْفَعوا أصواتهم بالموافقة والحَفْز على التّنفيذ. وَلْيَكُنْ هذا الجيل، فعلاً، أول من يفتتح هذه المرحلة المَجيدة من مراحل تطوّر حياة المجتمع الإنسانيّ على ظهر هذا الكوكب الأرضي.
– 4 –
إِنًّ التّفاؤل الذي يُخالِجنا مصدره رؤيا تَرتسِم أَمامنا، وَتَتَخطَّى فيما تَحْمِله من بشائر، نهايَة الحروب وقيامَ التّعاون الدّولي عبر الهيئات والوكالات التي تُشكَّل لهذا الغرض. فما السّلام الدّائم بين الدّول إِلاَّ مرحلةً من المراحل اللازمة الوجود، ولكنَّ هذا السّلام ليس بالضرورة، كما يؤكِّد بهاءالله، الهدف النّهائي في التّطوّر الاجتماعيّ للإنسان. إِنَّها رؤيا تتخطَّى هُدْنَةً أَوَّليَّةً تُفْرَض
على العالم خَوْفاً من وقوع مَجْزَرة نَوَويَّة، وتتخطَّى سلاماً سياسيّاً تَدْخُله الدّول المُتنافِسة والمُتناحِرة وهي مُرْغَمة، وتتخطَّى ترتيباً لتسوية الأمور يكون إِذعاناً للأمر الواقع بغْيَةَ إحلال الأمن والتّعايُش المشترك، وتتخطَّى أيضاً تجارب كثيرةً في مجالات التّعاوُن الدّولي تُمهِّد لها الخطوات السّابقة جميعها وتجعلها مُمكِنةً. إِنَّها حقّاً رؤيا تتخطَّى ذلك كلّه لتكشف لنا عن تاج الأهداف جميعاً، أَلاَ وهو اتِّحاد شعوب العالم كلّها في أُسْرَةٍ عالميّة واحدة.
لقد بات الاختلاف وانعدام الاتِّحاد خطراً داهماً لم يَعُدْ لدول العالم وشعوبه طاقةٌ على تحمُّله، والنّتائجُ المترتِّبة على ذلك مُريعةٌ لدرجةٍ لا يمكن تصوُّرها، وجليَّةٌ إلى حدٍّ لا تَحتاج معه إلى دليل أو برهان. فقد كتب بهاءالله قبل نيِّف وقرن من الزّمان قائلاً: "لا يمكن تحقيق إصلاح العالم واستتباب أمنه واطمئنانه إِلاّ بعد ترسيخ دعائم الاتِّحاد والاتِّفاق". وفي الملاحظة التي أبداها شوقي أفندي بأنَّ "البشريّة تَئنُّ متلهِّفةً إلى تحقيق الاتِّحاد وإِنهاء استشهادها الذي امتدّ عبر العُصور". يَعُود فيُعلِّق قائلاً: "إِنَّ اتِّحاد الجنس البشريّ كلّه يُمثِّل الإشارة المُميِّزة للمرحلة التي يقترب منها المجتمع الإنسانيّ الآن. فاتِّحاد العائلة، واتِّحاد القبيلة، واتِّحاد "المدينة – الدّولة"، ثم قيام "الأُمَّة – الدّولة" كانت مُحاولات تَتابَعَت وكُتِب لها كاملُ النّجاح. أَمَّا اتِّحاد العالم بدوله وشعوبه فهو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه بشريّة مُعذَّبة. لقد انقضى عهد بناء الأُمَم وتشييدِ الدّول. والفَوْضَى الكامنة في
النّظريّة القائلة بسيادة الدّولة تتَّجه الآن إلى ذِرْوتها، فعالمٌ يَنْمُو نحو النّضوج، عليه أن يتخلَّى عن التّشبُّث بهذا الزَّيْف، ويعترف بوحدة العلاقات الإنسانيّة وشُمولِها، ويؤسِّس نهائيّاً الجهاز الذي يمكن أن يُجسِّد على خير وجه هذا المبدأ الأساسي في حياته".
إِنَّ كلّ القوى المُعاصرة للتّطور والتّغيير تُثْبِت صِحَّة هذا الرّأي. ويمكن تَلَمُّس الأَدلَّة والبراهين في العديد من الأمثلة التي سبق أن سُقْناها لتلك العَلامات المُبشِّرة بالسّلام العالميّ في مجال الأحداث الدّوليّة والحركات العالميّة الرّاهنة. فهناك جَحافِل الرّجال والنّساء المُنْتَمِين إلى كلّ الثّقافات والأَعراق والدّول في العالم، العامِلين في الوكالات الكثيرة والمُتنوِّعة من وكالات الأمم المتّحدة، وهم يُمثِّلون "جهازَ خِدْمَةٍ مَدَنيَّة" يُغطِّي أرجاءَ هذا الكوكب الأرضي، وإِنجازاتهم الرّائعة تَدُلّ على مدى التّعاوُن الذي يمكن أن نُحقِّقه حتى ولو كانت الظّروف غير مُشجِّعة. إِنَّ النّفوس تَحِنُّ إلى الاتِّحاد، وكأنَّ رَبيعَ الرّوح قد أَهلَّ، وهذا الحنينُ يُجاهِد ليتجسَّد في مؤتمرات دوليّة كثيرة يَلتقي فيها أشخاصٌ من أصحاب الاختصاص في ميادين مختلفة من النّشاطات الإنسانيّة، وفي توجيه النّداءات لصالح المشاريع العالميّة المتعلقة بالطّفولة والشّباب. والحقيقة أَنَّ هذا الحنين هو أصل حركات التّوحيد الدّينيّة، هذه الحركات الرّائعة التي صار فيها أَتباع الأَديان والمذاهب المُتخاصِمة تاريخيّاً وكأنَّهم مشدودون بعضهم إلى بعض بصورةٍ لا مجال إلى مقاومتها. فإلى جانب الاتِّجاه المناقِض في مَيْل الدّول إلى شنّ الحروب
وتوسيع نطاق نفوذها وسُؤْدَدها، وهو اتِّجاهٌ تُقاوِمه دون كَلَل وبلا هَوادَة مسيرةُ الإِنسان نحو الاتِّحاد، تَبْقَى مسيرةُ الاتِّحاد هذه من أَبرز مَعالم الحياة فوق هذا الكوكب الأرضيّ سَيْطَرَةً وشُمولاً في السّنوات الختاميّة للقرن العشرين.
إِنَّ التّجربة التي تُمثِّلها الجامعةُ البهائيّة يمكن اعتبارها نَموذجاً لمثل هذا الاتِّحاد المُتوسِّع. وتَضُمُّ الجامعة البهائيّة ثلاثة أو أربعة ملايين تقريباً من البشر يَنْتَمون أَصلاً إلى العديد من الدّول والثّقافات والطّبقات والمذاهب، ويشتركون في سلسلة واسعة من النّشاطات مُسْهِمين في سدّ الحاجات الرّوحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لشعوبِ بلادٍ كثيرة. فهي وحدةٌ عُضويّة اجتماعيّة تُمثِّل تنوُّع العائلة البشريّة، وتُدير شؤونها ضمن نظام من مبادئ المَشُورة مقبولٍ بصورة عامَّة، وتعتزّ بالفَيْض العظيم كلّه من الهداية الإلهيّة في التّاريخ الإنسانيّ دون أيّ تمييز بين دين وآخر. وقيامُ مثل هذه الجامعة دليلٌ آخر مُقْنِع على صِدْقِ رؤيا مُؤسِّسها بالنّسبة لوحدة العالم، وبرهانٌ إِضافي على أًنَّ الإنسانيّة تستطيع العيش ضمن إطار مُجتمعٍ عالميّ واحد لديه الكَفاءَةُ لمواجهة جميع التّحدِّيات في مرحلة النُّضْج والرَّشاد. فإذا كان للتجربة البهائيّة أي حظٍّ في الإسهام بشَحْذ الآمال المتعلّقة بوحدة الجنس البشريّ، فإِنَّنا نكون سعداءَ بأن نعرضها نَموذجاً للدّرس والبحث.
وحينَ نتأمَّل الأَهميّة القُصْوَى للمهمَّة التي تتحدَّى العالم بأسره، فإِنَّنا نَحني رُؤوسنا بتواضُع أمام جَلال البارئ سُبْحَانَه
وتَعَالَى، الذي خلق بفضل محبَّته اللاّمُتناهية البَشَرَ جميعاً من طِينةٍ واحدة، ومَيَّز جوهر الإنسان مُفضِّلاً إِيَّاه على المخلوقات كافة، وشرَّفه مُزَيِّناً إِيًّاه بالعَقْل، والحِكْمَة، والعِزَّة، والخُلود، وأسبغ عليه "المِيزة الفريدة والمَوهِبة العظيمة لِيَبْلُغَ محبَّة الخالق ومَعرِفتَه"، هذه الموهبة التي "يجب أن تُعَدَّ بمثابة القوّة الخلاَّقة والغَرَض الأصيل لوجود الخليقة".
نحن نؤمن إِيماناً راسخاً بأنَّ البشر جميعاً خُلِقوا لكي "يَحْمِلوا حضارةً دائمةَ التّقدُّم" وبأَنَّه "ليس من شِيَم الإنسان أن يسلك مسلك وحوش الغاب"، وبأنَّ الفضائل التّي تَليق بكرامة الإنسان هي الأَمَانةُ، والتَّسامُحُ، والرَّحْمَةُ، والرَّأْفَةُ، والأُلْفَةُ مع البشر أَجمعين. ونَعُود فنؤكِّد إيماننا بأن "القُدُرات الكامنة في مقام الإنسان، وسموّ ما قُدِّر له على هذه الأرض، وما فُطِرَ عليه من نفيس الجَوْهَر، لسوف تَظْهَر جميعها في هذا اليوم الذي وَعَدَ به الرَّحْمن". وهذه الاعتبارات هي التي تُحرِّك فينا مشاعر إيمانٍ ثابتٍ لا يتزعزع بأنَّ الاتِّحاد والسّلام هُمَا الهَدَفُ الذي يمكن تحقيقه ويسعى نحوه بَنو البشر.
ففي هذه اللحظة التي نَخُطّ فيها هذه الكلمات تَتَرامى إلينا أصوات البهائيّين المليئةُ بالآمال رغم ما لا يزال يتعرَّض له هؤلاء من اضطهادٍ في مَهْد دينهم. فالمَثَل الذي يضربه هؤلاء للثّبات المُفْعَم بالأمل يجعلهم شُهوداً على صحَّة الاعتقاد بأَنَّ قُرْبَ تحقيقِ حُلْمِ السّلام، الذي راوَدَ البشريّة لمُدَّة طويلة من الزّمان، أَصبح
اليوم مشمولاً بعناية الله سُلْطَةً ونفوذاً، وذلك بفضل ما لرسالة بهاءالله من أثرٍ خلاّق يبعث على التّغيير. وهكذا نَنْقُل إِليكم هُنَا ليس فقط رؤيا تُجسِّدها الكلمات، بل نَستحضِر أَيضاً ما لِفعل الإيمان والتّضحية من نفوذٍ وقوّة. كما نَنْقل إليكم ما يُحِسّ به إِخواننا في الدّين في كلّ مكان من مشاعر الرّجاء تلهُّفاً لقيام الاتِّحاد والسّلام. وها نحن ننضمّ إلى كلّ ضحايا العدوان، وكلّ الذين يحِنّون إلى زَوال التّطاحُن والصّراع، وكلّ الذين يُسْهِم إِخلاصُهم لمبادئ السّلام والنّظام العالميّ في تعزيز تلك الأهداف المُشرِّفة التي من أَجلها بُعِثَت الإنسانيّة إلى الوجود فَضلاً من لَدُن الخالق الرَّؤُوف الوَدُود.
إِنًّ رغبتنا المُخْلِصة في أن ننقل إليكم ما يُساوِرنا من فَوْرَةِ الأَمل وعُمْق الثّقة، تَحْدُونا إلى الاستشهاد بهذا الوَعْد الأَكيد لبهاءالله: "لسوف تَزُول هذه النّزاعات العديمة الجَدْوَى، وتَنْقَضِي هذه الحروب المُدمِّرة، فالسّلام العظيم لا بُدَّ أَنْ يَأْتِي".
بَيْتُ العَدْلِ الأَعْظَم