أَلحَمْدُ للّهِ الَّذِي جَعَلَ أَسْمَائَهُ وَصِفَاتِهِ لَمْ يَزْل نَافِذَةً أَحْكَامُهَا فِي مَرَاتِبِ الوُجُودِ وَبَاهِرَةً آثارُهَا وَثَابِتَةً آياتُهَا فِي عَوَالِمِ الغَيْبِ وَالشُّهُودِ، وبها جعل الحقائق المقدّسة المستفيضة المستنبئة مستأثرة لظهور شئونه وسائرة في فلك الكمال قوسي النّزول والصّعود، وقدّرها مبدأ الايجاد في عالم الإنشاء ومصدر الحقائق المتدرّجة في مراتب الوجود بالوجه الأعلى المعهود، فلمّا أشرقت شمسها بقوّتها النّاشرة الجاذبة على الحقائق الكامنة في هويّة الغيب فانبعثت وانتشرت وانتثرت وانتظمت واستفاضت واستنبأت واستأثرت لظهور الشّئون الرّحمانيّة والآثار الصّمدانيّة، فظهرت بحلل الأنوار بعد خرق الأستار وسارت في أفلاك التّوحيد ودوائر التّقديس ومدارات التّهليل، فكانت شموس التّسبيح للّه الحقّ دائرة مشرقة في فضاء رحب واسع غير متناه لا تحدّده الجهات ولا تحصره الإشارات، فسبحان بادعه ومنشئه وباسطه وناظمه ومزيّنه بمصابيح لا عداد لها وقناديل لا نفاد لها ولا يعلم جنود ربّك إلّا هو، وجعل دوائر هذه الكواكب النّورانيّة الرّحمانيّة أفلاكها العلويّة، وجعل أجسام هذه الأفلاك الرّوحانيّة لطيفة ليّنة سيّالة مائعة موّاجة رجراجة بحيث تسبح تلك الدّراري الدّرّيّة في دائرة محيطها وتسيح في فضاء رحيبها بعون صانعها وخالقها ومقدّرها ومصوّرها، وبما اقتضت الحكمة البالغة الكلّيّة الإلهيّة أن تكون الحركة ملازمة للوجود جوهريّا وعرضيّا روحيّا وجسميّا، وأن تكون لهذه الحركة زمام ومعدّل وماسك وسائق لئلّا يبطل نظامها ويتغيّر قوامها فتتساقط الأجسام وتتهابط الأجرام قد خلق قوّة جاذبة عامّة بينها غالبة حاكمة عليها منبعثة من الرّوابط القويمة والموافقة والمطابقة العظيمة الموجودة بين حقائق هذه العوالم الغير المتناهية، فجذبت وانجذبت وحرّكت وتحرّكت ودارت وأدارت ولاحت وألاحت تلك الشّموس القدسيّة الباهرة بعوالمها النّورانيّة وتوابعها وسيّاراتها في مداراتها وسمواتها ودوائرها، فبذلك تمّ نظامها وحسن انتظامها وأتقن صنعها وظهر جمالها وثبت بنيانها وتحقّق برهانها فسبحان جاذبها وقابضها وفائضها ومدبّرها ومحرّكها عمّا يصفه العارفون وينعت به النّاعتون.
يا أيّها المستفيض من فيضان البحر الأعظم المتموّج المتهيّج المتهاجم الأمواج على شواطئ الأمم، طوبى لك بما أويت إلى الرّكن الشّديد والكهف المنيع مقام التّبتّل إلى ربّك العزيز الحميد، وتبرّأت من ظنون الفنون وتقدّست من أوهام الأفهام سارعا إلى موارد الحقائق والأسرار ومتعطّشا إلى معين فرات العلم ومجمع البحار ومرجع الأنهار، فاعلم بأنّ كلّ غير متناه صنعه غير متناه وأنّ الحدود صفةالمحدود وأنّ الحصر في الموجود ليس في حقيقة الوجود، ومع ذلك كيف يتصوّر الحصر للأكوان من دون بيّنة وبرهان، فانظر ببصر حديد في هذا الكور الجديد، هل رأيت لشأن من شئون ربّك حدّا يقف عنده بالتّحديد؟ لا وحضرة عزّه بل أحاطت شئونه كلّ الأشياء وتنزهت وتقدّست عن حدّ الإحصاء في عالم الإنشاء، هذه شئون رحمانيّة في العوالم الرّوحانيّة وكذلك فاستدلل بها في العوالم الجسمانيّة، لأنّ الجسمانيّات آيات وانطباعات للرّوحانيّات، وأنّ كلّ سافل صورة ومثال للعالي بل إنّ العلويّات والسّفليّات والرّوحانيّات والجسمانيّات والجوهريّات والعرضيّات والكلّيّات والجزئيّات والمباديٴ والمباني والصّور والمعاني وحقائق كلّ شيء وظواهرها وبواطنها كلّها مرتبط بعضها مع بعض ومتوافق ومتطابق على شأن تجد القطرات على نظام البحور والذّرّات على نمط الشّموس بحسب قابلّياتها واستعداداتها، لأنّ الجزئيّات بالنّسبة لما دونها كلّيّات وأنّ الكلّيّات المتعظّمة في أعين المحجوبين جزئيّات بالنّسبة إلى الحقائق والمكوّنات الّتي أعظم منها، فالكلّيّة والجزئيّة في الحقيقة أمر إضافيّ وشأن نسبيّ وإلّا رحمة ربّك وسعت كلّ شيء، إذا فاعلم بأنّ الهيئة الجامعة لنظام الوجود شاملة لكلّ موجود كلّيّ أو جزئيّ إمّا ظهورا أو بطونا سرّا أو علانية، فكما أنّ الجزئيّات غير متناهية من حيث الأعداد كذلك الكلّيّات الجسيمة والحقائق العظيمة الكونيّة خارجة عن حدّ العداد والإحصاء، وأنّ مشارق التّوحيد ومطالع التّفريد وشموس التّقديس تعالت وتقدّست عن القيود العدديّة، وأنّ العوالم الرّوحانيّة والنّورانيّة تنزّهت عن الحدود الحصريّة، وكذلك عوالم الوجود الجسمانيّة لا يحصيها العقول والأفهام ولا تحيط بها مدارك أولي العلم الأعلام، فانظر إلى الحديث المأثور ودقّق النّظر في معانيه الدّالّة على سعة الكون واتّساعه الخارج عن العقول والحدود وهذا نصّه [إنّ اللّه تعالى خلق مائة ألف ألف قنديل وعلّق بالعرش والأرض والسّماء وما بينهما حتّى الجنّة والنّار كلّها في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلّا اللّه] وكلّما ذكر العارفون لها حدّا وعبّروا لها حصرا إنّما كان لضيق دائرة العقول والإدراكات واحتجاب أهل الإشارات الّذين قرائحهم جامدة وفطنهم خامدة من فرط الحجبات، وإنّ في كلّ كور ودور رزقا مقسوما وشأنا معلوما، وإنّ الحقائق لها ظهور وبروز بالنّسبة إلى المراتب والدّرجات والاستعداد والقابليّات، مثلا فانظر في الحقيقة الإنسانيّة والكمالات النّفسانيّة والفضائل الرّوحانيّة والشّئون الوجدانيّة إنّها لها اشتهار وظهور وانبعاث وسنوح يتتابع التّدرّج في معارج النّشأة الأولى من مقام النّطفة الأدنى إلى أعلى مدارج البلوغ الأعلى، فبمثل ذلك شأن كلّيّة الوجود من الغيب والشّهود، إذا تفرّس في هذا الكور البديع والدّور العظيم المنيع وقل تعالى اللّه ربّ العرش الرّفيع بما أظهر الشّمس الوحدانيّة والحقيقة الصّمدانيّة من هذا المطلع الشّامخ الباذخ القويّ القديم بحيث لمّا سطعت أشعّتها النّافذة الحامية على الأكوان الخاوية والأراضي الخالية انبعثت حقائق كلّ شيء والمعاني الكلّيّة بقوّتها النّامية واشتهرت مكنونات العلوم الكاشفة لحقائق المعلوم وظهر السّرّ المصون المخزون والرّمز المكنون، لأنّ في هذا الكور الكريم والطلوع العظيم دور الحقائق والأسرار وحشر الشّئون الرّحمانيّة في مركز الأنوار وظهور الكنوز المستترة في هويّة عوالم ربّك العزيز المختار، بحيث في حقيقة القطرات تتموّج بحور الآيات وفي هويّة الذّرّات تتجلّى شموس الأسماء والصّفات ويكتشف المعاصرون في صفائح الأحجار أسرارا لم يكتشفوا السّابقون في لوائح مرايا الأنوار، لأنّ في هذا الظّهور الأعظم - دون النّظر والاستدلال - قد فتح أبواب المكاشفة والشّهود وتخلّصت ذوات الأجنحة من الأفكار من شبكة الأوهام وانكشفت السّبحات وانشقّت الحجبات وهتك الأستار من سطوة الأسرار، ولمّا كان الإمكان شأنه الضّعف والاضمحلال لم يستطع ولم يحتمل ظهور آثار هذا الظّهور المشرق على أعلى الطّور إلا تدريجا، فلأجل ذلك ستنظرون بأعين الفرح والابتهاج آثار هذا النّيّر الأعظم الوهّاج وتجتلون أنوار الحكمة مشرقة على كلّ الأرجاء من الآفاق وتلتقطون دراري النّور الّتي يقذفها هذا الطّمطام المتلاطم المتهيّج الموّاج وتشربون من الينابيع الصّافية العذبة النّابعة من فيضان هذا الغمام المدرار بالماء الثّجّاج، فطوبى لمن لم يحتجب بسبحات علوم كالأوهام عن مشاهدة حقائق العلم وإدراك جواهرها في أيّام اللّه، وبشرى لمن كشف له الغطاء وبعث ببصر حديد بين ملاء الإنشاء بعد ما شاخصت الأبصار من تجلّي المختار، وويل لمن حشر يوم القيامة أعمى وغفل عن ذكر ربّه الأعلى وفي آذانه وَقْرٌ عن استماع النّداء المرتفع في هذا الفردوس الأعلى، وقل يا إلٓهي لو خلقت في كلّ جزء من أعضائي ألسنا ناطقة بأفصح اللّغات ومعاني رائقة فائقة عن حدود الإشارات وحمدتك وشكرتك في الدّهور والأحقاب لعجزت عن أداء فرائض شكري لفضلك وإحسانك، بما وفّقتني على الإيمان بمظهر رحمانيّتك ومطلع فردانيّتك ومشرق آياتك الكبرى ومهبط أسرار قيّوميّتك في قطب الإنشاء، ﴿وَأَيَّامَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى﴾، وكشفت عن بصري الغشاوة الحاجبة للأبصار وأسمعتني نغمات طيور القدس على أغصان دوحة البقاء وأسقيتني من كأس الكافور والماء الطّهور عن يد ساقي عنايتك في هذا الظّهور الأعظم الأمنع الأقدس المبارك الكريم.
يا أيّها المرفرف في جوّ فضاء محبّة اللّه، فاعلم بأنّ المعارف والعلوم والحكم والفنون الّتي ظهرت وسبقت في الأدوار الأوّليّة بالنّسبة للحقائق والمسائل الإلهيّة والأسرار الكونيّة، الّتي انقشع سحابها وكشف نقابها وسطع شعاعها في هذا الظّهور اللّامع في الأوج الأعلى إنّما هي مباد وكنايات بل أكثرها أوهام وشبهات، لأنّ الحقيقة الجامعة الكونيّة مثلها عند ربّك كمثل الحقيقة الجامعة الإنسانيّة، فإنّها في مراتبها الأوّليّة من الطّفوليّة والصّباوة والمراهقة - ولو كانت مصدرا لظهور الصّفات والمحامد البشريّة - ولكن أين هذا الشّئون من الكمالات العقليّة والحقائق الملكوتيّة والأسرار الرّبّانيّة السّائحة الفائضة في مرتبة بلوغها وأعظم سطوعها وشروقها، فلأجل ذلك ينبغي أن تتّخذ هذا الأمر ميزانا لكلّ الأمور ولا تعبأ بالحكايات والأقاويل الّتي تتناقل على أفواه أهل الوهم والإشارات، لأنّها مبالغات وقصص وأساطير لا يعتبرها أولو الأبصار، بل الشأن في تحقيق المسائل واكتشاف الحقائق المستورة والأسرار المكنونة في هويّة الحقائق الكونيّة بالبراهين الواضحة والدّلائل الباهرة والحجج القاطعة بموازين تامّة كاملة، فأمثال هذه الأمور لا يجوز الاعتماد والرّكون عليها عند الّذين فتح ٱللّه بصيرتهم وطابت سريرتهم وتنوّرت بواطنهم ولطفت ظواهرهم وانجلت قلوبهم وانشرحت صدورهم في هذا الكور المجيد العظيم، وإلّا الحكم والمعاني الّتي مؤسّسة على الأوهام ولا يقتنع بها الفطن الذّكيّ الخبير العلّام أصبحت عند أولي العلم اليوم كأضغاث أحلام، فسبحان المجلّي على العقول بأنوار الحقيقة السّاطعة من مشرق الظّهور، فتعالى الرّبّ المجيد بما خرق الحجبات وهتك السّبحات وكشف الظّلمات وقطع سلاسل الإشارات وكسر أغلال الظّنّيات وحرّر العقول عن قيود الظّنون وأطلق طيور الأفكار في أوج الأسرار، حتّى يطيرنّ بأجنحة السّرور في عوالم الوجود وتشقّ حدّة الأبصار الأستار الّتي نسجتها عناكب الأوهام في هذا الايوان الرّفيع والسّرادق المنيع.
إذا فاعلم بأنّ العلوم الرّياضيّة انكشفت مسائلها وانحلّت معضلاتها وانتظمت قوانينها وأثمرت أفانينها في هذا العصر الكريم والقرن المجيد، وأنّ الانكشافات الّتي سبقت للمتقدّمين من الفلاسفة وآرائهم لم تكن مؤسّسة على أصل متين وأساس رصين لأنّهم أرادوا أن يحصروا عوالم اللّه في أضيق دائرة وأصغر ساهرة وتحيّروا فيما ورائها إلى أن قالوا لا خلاء ولا ملاء بل عدم، وهذا الرّأي مناف ومباين بجميع المسائل الإلٓهيّة والأسرار الرّبّانيّة، بل عند تطبيق عوالم المعاني بالصّور والرّوحانيّات بالجسمانيّات نجد هذا الرّأي أضعف من بيت العنكبوت، لأنّ العوالم الرّوحانيّة النّورانيّة منزّهة عن الحدود الحصريّة والعدديّة وكذلك العوالم الجسمانيّة في هذا الفضاء الأعظم الأوسع الرّحيب، وهذا سر كشفه اللّه لعباده بفضله ورحمته حتّى يظهر أوهام الّذين هم منكرون ويفضح براهين الّذين هم في غفلتهم يعمهون وينهدم بنيان ظنونهم وتسودّ وجوه فنونهم، بحيث عميت أعينهم عن مشاهدة عوالم ٱللّه وقصرت عقولهم عن إدراك أسرار الملكوت في هذا المشهد العظيم، واعتقدوا بأنّ العوالم محصورة في هذه الدّائرة الصّغيرة الّتي بالنّسبة إلى العوالم كسواد عين نملة في فضاء لا نهاية لها كما قال وقوله الحقّ: ﴿وَلَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾، وأمّا ما ذكر من الطّبقات السّبع والسّموات السّبع المذكورة في الآثار الّتي سبقت من مشارق الأنوار ومهابط الأسرار، هذا لم يكن إلّا بحسب اصطلاح القوم في تلك الأعصار، وكلّ كور له خصائص بحسب القابليّات واستعداد ظهور الحقائق من خلف الأستار، إذ كلّ شيء عند ربّك بمقدار، وما قصدوا بذكر الأفلاك إلّا المدارات للسيّارات الشّمسيّة الّتي في هذا العالم الجامع لنظام هذه الشّمس وتوابعها، لأنّ سيّارات هذه الشّمس على أقدار سبعة من حيث الجرم والجسامة والرّوٴية والنّور، ومدار القدر الأوّل منها فلك من أفلاك هذا العالم الشّمسيّ وسماء من سموات هذه الدّائرة المحيطة المحدّدة الجهات الواقعة ضمن محيطها، وكذلك كلّ الدّراري الدّرهرهة السّاطعة في وجه السّماء الّتي واحدة منها شمس ولها عالم مخصوص بتوابعها وسيّاراتها، إذا نظرت إليها تجدها بالنّظر إلى ظهورها إلى الأبصار من دون واسطة المرايا المجسّمة يظهر إنّها على أقدار سبعة ومدار كلّ قدر منها أو دائرته سماء مرفوع وفلك محيط في الوجود، ثمّ اعلم بأنّ هذه المدارات والدّوائر العظيمة واقعة ضمن أجسام لطيفة مائعة رائقة سيّالة موّاجة رجراجة كما هي مأثورة في الرّوايات ومصرّحة في الكلمات بأنّ السّماء موج مكفوف لأنّ الخلاء ممتنع محال، فغاية ما يقال إنّ الأجسام الفلكيّة والأجرام الأثيريّة مختلفة في بعض المواد والأجزاء والتّركيب والعناصر والطّبائع المسبّبة لاختلاف التّأثيرات الظّاهرة والكيفيّات الفائضة منها، وإنّ الأجسام الفلكيّة المحيطة بالأجرام يختلف أيضا بعضها مع بعض من حيث اللّطافة والسّيلان والأوزان وإلّا الخلاء محال، فالظّرف لا بدّ له من مظروف ولا يكاد يكون المظروف إلّا جسما، ولكنّ أجسام الأفلاك في غاية الدّرجة من اللّطافة والخفّة والسّيلان، لأنّ الأجسام تنقسم إلى الجامدة كالأحجار والمتطرّقة كالمعادن والفلزّات والسّائلة كالمياه والهواء، وأخفّ منها ما يتصاعدون به اليوم في السّفن الهوائيّة إلى جوّ السّماء وأخفّ منها الأجسام النّاريّة والأجسام الكهربائيّة البرقيّة، فهذه كلّها أجسام في الحقيقة ولكنّ بعضها غير موزونة، وكذلك خلق ربّك في هذا الفضاء الواسع العظيم أجساما متنوّعة من غير حدّ وعدّ تذهل العقول عن إحاطتها وتتحيّر النّفوس في معرفتها ومشاهدتها، وأمّا الّذين زعموا بأنّ الأفلاك أجسام مصمتة صلبة مماسّ بعضها مع بعض زجاجيّة شفّافة لا تمنع نفوذ ضوء الأجرام ولا تقبل الخرق والالتيام ولا يعرضه التّخلّل والتّذبّل في كرور الأيّام، هذه آراء أولي الظّنون من أهل الفنون ولم ينتبهوا لمعنى الآية الباهرة بصريح الإشارة ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وهذا واضح بإنّ السّباحة لا تتصوّر إلّا في أجسام ليّنة مائعة سائلة وممتنع ومحال في أجسام صلبة جامدة، إذا فانظر ببصر حديد في هذا البيان الشّافي الكافي الواضح المبين، ثمّ انظر إلى أوهام الحكماء وكيف تاهوا وهاموا في فلوات اللّازم والملزوم وتصوّرات ما نزّل بها سلطانا الملك العزيز القيّوم، وأمّا قضيّة إنّ الأرض دائرة حول الشّمس وإنّها (أي الأرض) سيّارة من هذه الدّراري التّابعة للشّمس وإنّ الحركة اليوميّة المسبّبة للطّلوع والغروب حاصلة من حركة الأرض على محورها، فهذه ليست من الآراء المستجدّة والكشفيّات الحاصلة في الأزمنة الأخيرة، بل أوّل من قال بحركة الأرض حول الشّمس هو فيثاغورس الحكيم أحد أساطين الحكمة الخمس وحامي ذمارها وكاشف أسرارها، وأشار إلى هذا الأمر قبل التّاريخ الميلادي بخمسمائة عام واستدلّ بأنّ الشّمس مركز للعالم بسبب ناريّتها، واتّبعه في هذا الرّأي أفلاطون الحكيم في أواخر أيّامه وَأَلَّفَ أريستورخ الحكيم كتابا قبل الميلاد بمأتي وثمانين سنة وصرّح فيه أنّ الأرض دائرة على الشّمس وعلى محورها، ولكن ما كان مستندا على براهين قاطعة وأدلّة واضحة وحجج بالغة من قوانين الهندسة والقواعد الرّياضيّة، بل هي سنوح فكريّ وتصوّر عقليّ، وأمّا أكثر الحكماء السّابقة من حيث مشاهدتهم الحسّيّة ومطالعتهم النّظريّة في العالم المرئيّ ورصدهم في الكواكب والنّجوم حكموا بحركة الشّمس وسكون الأرض، ومنهم البطلميوس الرّومانيّ الإسكندرانيّ الشّهير في علم النّجوم والتّاريخ، وكان معلّما في مدرسة الإسكندريّة في المائة الثّانيّة من الميلاد، فاختار قاعدة من القواعد القديمة وأسّس عليها رصده ورتّب زيجا موٴسّسا على حركة الشّمس وسكون الأرض، وقد اشتهرت قاعدته وشاع وذاع رصده وزيجه بين العالم للسّلطة القويّة الّتي كانت للأمّة الرّومانيّة وحكومتها على سائر الأمم، وهو ألّف كتابا في فنّ النّجوم والرّياضيّات وسمّاه بمجسطي وفي القرون الأوّليّة من الإسلام ترجمه الفارابي إلى العربيّ واشتهر بين علماء الإسلام هذا الرّأي واتّبعوه وقلّدوه من دون إمعان نظر وتحقيق وانتباه إلى بعض الآيات ومعانيها كما قال وقوله الحقّ ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وبهذه الآية المباركة ثبت بأنّ كافّة هذه الدّراري اللّامعة في جوّ هذه السّماء الرّفيع والفضاء الفسيح الوسيع، وهذه الأرض أيضا متحرّكة سائرة في مداراتها وسابحة في أفلاكها ودوائرها، وأعظم من ذلك ذهولهم في تفسير الآية المباركة الأخرى الدّالّة على حركة الشّمس على مركزها ومحورها قال وقوله الحقّ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾، تاهت عقولهم وتحيّرت نفوسهم وعجزت مشاعرهم عن إدراك معانيها، لأنّهم أرادوا أن يطبّقوا على قواعد بطلميوس الرّومانيّ المذكور ويوفّقوها على الزّيج الّذي رتّبه فلم يتمكّنوا على هذا التّطبيق فاحتاجوا إلى تأويلات ركيكة كقول بعضهم لمستقرّ لها كان في الأصل لا مستقرّ لها فحذفت الألف منه، وقول الآخرين أنّ المستقرّ يوم القيامة عند ذلك تقف الشّمس عن سيرها وحركتها، مع أنّ في الآية صراحة واضحة بأنّ الشّمس لها حركة على محورها ومركزها.
إذا فاعلم بأنّ المسائل الرّياضيّة الّتي تحقّقت دلائلها ولاحت براهينها مصدّقة بالدّلائل القطعيّة من الأصول الحكميّة وقواعد هندسيّة في علم الهيئة وموٴسّسة على التّحقيقات النّجوميّة والتّدقيقات الرّصديّة وأيضا مطابقة لأصول المسائل الكلّيّة في العلوم الإلهيّة، لأنّ عند تطبيق العالم الظّاهر بالباطن والعالي بالسّافل والصّغير بالكبير والإجمال بالتّفصيل يظهر بأجلى بيان بأنّ القواعدالجديدة في علم الهيئة أعظم تطبيقا من سائر الأقوال كما بيّنّا وأوضحنا، وأنّ رصد لكوفر نيكو وزيجه أتقن في الأعمال والتّدقيق والتّحقيق من سائر الزّيجات، لأنّه كان في سنة خمسمائة بعد الألف من الميلاد ورصد مدّة ستّة وثلاثين سنة حتّى أخرج القاعدة المشهورة بحسب اكتشافه في حيّز العرض على الأفكار ولو لا حبّ الإيجاز والاختصار لشرحت لك تفاصيلها ولخّصت محاصيلها ولكن بهذه كفاية لأولي الأبصار وهداية لذوي الأنظار.
قل تعالى الملك القيّوم الّذي بظهوره انشقّ حجاب الموهوم واستغنى المخلصون بحبّ جماله المعلوم الكاشف لحقائق الحكم والشّئون من نتائج الظّنون ووهميّات العلوم، واطّلعوا المشتاقون على السّرّ المكنون والرّمز المصون المخزون، وطاروا بأجنحة الشّهود إلى أوج اللّقاء معدن السّرور ومقام الفرح والحبور، وسمعوا نغمات الطّيور على أفنان أيكة الظّهور، واغتسلوا من العين الطّهور وشربوا بحور الحيوان في عالم النّور، وٱنتشأوا من الكأس الّتي مزاجها كافور في يوم مشهود مشهور، ويناجون ربّهم بألحان لم تسمع الآذان بمثلها في جنّات وعيون ويقولون أناجيك يا إلٓهي ومحبوبي بلسان هويّتي مقبلا إلى مشرق أحديّتك ومطلع شمس عزّ فردانيّتك، مرطّبا لساني بالشّكر والثّناء على مركز رحمانيّتك بما خلقتني من غير استحقاق بفضلك في هذا الكور المجيد والظّهور الفريد، في أيّام اختصصتها بين الأزمان بطلوع شمس حقيقتك السّاطعة أشعّتها على كلّ الآفاق، وأسبغت فيها نعمتك وأكملت حجّتك وأتممت آلاءك ونعمك على المخلصين من بريّتك، لأنّك شرّفتهم بأيّام كانوا الأصفياء فدوا الأرواح في مفاوز الفراق اشتياقا لاستنشاق نفحة من النّفحات المرسلة فيها وانتظارا لمشاهدة آثار من الأنوار المشرقة في سمائها، وإنّك بفضلك وإحسانك توّجتني بهذا الإكليل اللّامع في قطب الإمكان وأجلستني على سرير محبّتك بين ملأ الأكوان، وأيّدتني على الاستقامة على أمرك بعد ما تزعزع منه أعظم القوى بين ملأ الإنشاء، وارتعد الفرائص وتسعسع أركان الوجود في عوالم الإبداع والاختراع، أَسْئَلُكَ بِجَمَالِكَ القَدِيمِ وَنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ وَسِرِّكَ العَظِيمِ أَنْ تَحْفَظَنَا عَنْ أَوْهَامِ الإِشَارَاتِ، وَتُوٴَيِّدَنَا عَلَى الاسْتِقَامَةِ وَالثُّبُوتِ وَالرُّكُوزِ وَالرُّسُوخِ فِي أَمْرِكَ يَا مَالِكَ الغَيْبِ وَالشُّهُودِ إِنَّكَ أَنْتَ المُعْطِي الكَرِيمُ الرَّحِيمُ. (عبدالبهاء عبّاس)