بدائع الحمد والثّناء وجوامع الشّكر والمنّة لله الأحد الّذي ميّز الحقيقة الإنسانيّة من بين الحقائق الكونيّة كافّة وزيّنها بالعلم والنّهى اللّذين هما الكوكبان العظيمان في عالم الإمكان، فارتسمت بآثار تلك الموهبة العظمى ونتائجها في مرآة الكائنات صورٌ بديعةٌ في كلّ عصرٍ وانطبعت عليها نقوشٌ جديدةٌ في كلّ قرنٍ. فإنّك لو نظرت في عالم الوجود بالبصيرة الصّافية لرأيت أنّ هيكل العالم مزيّن من فيوضات الفكر والعلم في كلّ دور بزينةٍ ومتجلٍّ في كلّ طور بجلوة ومتباه بالمواهب الجديدة اللّطيفة، وآية الله الفرد الأحد الكبرى هذه -أي العقل والنّهى- قد سبقت كافّة الكائنات في الخلق وتقدّمت عليها في الشّرف وذلك مصداقًا للحديث النّبويّ «أوّل ما خلق الله العقل» وهي الّتي تشخص ظهورها في الهيكل الإنسانيّ منذ صدر الإيجاد.
تعالى وتقدّس الله الّذي جعل العالم الظّلمانيّ غبطة العوالم النّورانيّة بفضل إشراقات أنوار هذه الموهبة الرّبانيّة. «وأشرقت الأرض بنور ربّها»، وتعالى وتقدّس الله الّذي جعل الفطرة الإنسانيّة مطلع هذا الفيض الأبديّ «الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان.»
فيا أولي الألباب ابسطوا أكفّ التّوسّل إلى الله الفرد وتضرّعوا وابتهلوا إليه شكرًا على هذا الفضل الأعظم حتّى نتوفَّق في هذا العهد والعصر إلى بزوغ السّنوحات الرّحمانيّة وطلوعها من وجدان النّفوس الإنسانيّة كي لا تخمد تلك النّار الرّبانيّة الموقدة والمودعة في الأفئدة البشريّة. فلاحظوا بعين البصيرة أنّ هذه الآثار والأفكار والمعارف والفنون والحكم والعلوم والصّنائع والبدائع المختلفة المتنوّعة كلّها من فيوض العقل والمعرفة، وما من طائفة أو قبيلة ازدادت في هذا البحر اللّجِّيِّ تعمّقًا إلا وازدادت على جميع القبائل والملل تقدّمًا، وما عزّة أيّة ملّة وسعادتها إلاّ أن تشرق من أفق المعارف إشراق الشّمس «هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون»، وما شرف الإنسان ومفخرته إلاّ في أن يصبح منشأ خير بين ملأ الإمكان، وهل من نعمة يمكن تصوّرها في عالم الوجود أعظم من أن يرى الإنسان نفسه -إذا ما نظر في نفسه- سبب اطمئنان الهيئة البشريّة وراحتها وسعادتها ومنفعتها بتوفيق الله؟ لا والله! بل ما من لذّة أتمّ ولا سعادة أكبر من هذه. فإلى متى نطير بجناح النّفس والهوى؟ وإلى متى نقضي الحياة في دركات الجهل منكوبين بالنّكبة الكبرى كالأمم المتوحّشة؟ وهب لنا الله العين لننظر بها في الآفاق ونتشبّث بكلّ وسيلة من وسائل الحضارة والنّبل، ومنَّ علينا بالسّمع حتّى إذا ما استمعنا إلى حكم العقلاء والعارفين اتّعظنا منها ومن ثم نشمّر عن ساعد الهمّة لنعمل بمقتضى تلك الحكم. ومنحنا الحواس والقوى الباطنة لنستغلّها في أمور البشريّة الخيريّة، وأصبحنا مميّزين بين أنواع الموجودات وأجناسها بعقل نافذ حتّى نقوم على الأمور الكلّيّة والجزئيّة والمهمّة والعاديّة بالاستمرار لكي نصان جميعًا في حصن العلم الحصين محفوظين، ونضع في كلّ حين أساسًا جديدًا ونصنع صنيعًا بديعًا ونروّجه لسعادة البشر. فما أشرف الإنسان وأعزّه إن هو قام بما يجب وبما يليق به، ثم ما أرذله وأذلّه إن قضى عمره الغالي منهمكًا في منافعه الذّاتيّة وأغراضه الشّخصيّة مغمضًا الطّرف عن منفعة الجمهور.
لو جال الإنسان المدرك لحقائق الآفاق والأنفس بجواد همّته العالية في ميدان العدل والتّمدّن، لكانت السّعادة الإنسانيّة أعظم سعادة «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم»، وليس دون شقاء البشر شقاء إن ظلّ هامدًا خامدًا جامدًا منهمكًا في الشّهوات النّفسانيّة فيهبط إلى أسفل دركات التّوحّش والجهالة بحيث يمسي أحطّ من الحيوانات الضّارة «أولئك كالأنعام بل هم أضلّ» «إنّ شرّ الدّواب عند الله الصّم البكم الّذين لا يعقلون». ومجمل القول إنّه من الواجب أن نشدّ إزار الهمّة بكلّ غيرة وأن نتشبّث كلّ التّشبّث بأسباب طمأنينة عموم البشر وراحته وسعادته ومعارفه وتمدّنه وصنائعه وعزّته وشرفه وعلوّ منزلته حتّى تصبح أراضي الاستعدادات الإنسانيّة، بفضل زلال النّيّة الخالصة وسلسال الجهد والسّعي، منبتًا لرياحين الفضائل الذّاتيّة وشقائق حقائق الخصال الحميدة الخضلة النّضرة، وتغدو مغبوطة حدائق معارف الأسلاف، فتصير البقعة المباركة الإيرانيّة مركزًا لسنوح الكمالات الإنسانيّة في جميع المراتب وتصبح مرآة تنعكس فيها المدنيّة انعكاسًا عالميًا.
وجوهر الحمد والثّناء يليق بمطلع العلم اللّدنّيّ ومشرق الوحي الإلهيّ وعترته الطّاهرة والّذي انتشلت أشعّة حكمته البالغة السّاطعة ومعارفه الكلّيّة بصورة خارقة للعادة سكّان إقليم يثرب والبطحاء المتوحشين من حضيض الجهل والغفلة إلى أوج العلم والمعرفة في زمن قليل، بحيث تألّقت نجوم سعادتهم ومدنيّتهم في فجر الإمكان وأصبحوا مراكز للفنون والعلوم والمعارف والخصائص الإنسانيّة.
ومن المعلوم لدى أولي الأبصار أنّه لما استقرّ في هذه الأيّام رأي الملك السّديد على تمدين أهالي إيران وترقيتهم وطمأنينتهم وراحتهم وتعمير البلدان، وأراد بخالص رغبته أن يشمّر عن ساعد الهمّة بحميَّة بالغة لرعاية الشّعب، وإجراء العدالة فيما بينهم حتّى يضيء آفاق إيران بأنوار العدل إضاءة تحسدها عليها ممالك الشّرق والغرب، وتسري في عروق أهل هذه الدّيار وشرايين مواطنيها الرّوح العريقة السّابقة الممتازة، لهذا رأيت لزامًا عليّ أن أكتب لوجه الله موجزًا في بعض الموضوعات اللازمة شكرًا على هذه الهمّة الكلّية، محترزًا من ذكر اسمي حتّى يتّضح أنّه لم يكن لي قطّ من قصد سوى الخير. بل إنّه لما كنت أعتبر الدّلالة على الخير، عمل الخير بعينه، فإنّني بهذه الكلمات النّصحيّة أذكِّر أبناء وطني ناصحًا أمينًا لوجه الله والله الخبير شاهد على أنّه لا مقصد لي غير الخير الصّرف، لأنّ هذا الهائم ببادية محبّة الله قد بلغ عالمًا لا تصل إليه يد إطراء النّاس وتزييفهم أو تصديقهم أو تكذيبهم «إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا».
دست پنهان وقلم بين خط گذار اسب در جولان وناپيدا سوار
يا أهل إيران سيروا قليلاً في رياض تواريخ العصور السّالفة وتأمّلوا وتفكّروا فيها مليًّا، عندئذ تبصرون عظم مشهدها بعين العبرة. كانت مملكة إيران في الأزمنة السّابقة بمثابة قلب العالم وكالشّمع المضيء بين الجمع منيرًا للآفاق، وكانت عزّتها وسعادتها مشرقتين من أفق الكون كالصّبح الصّادق، وكان نور معارفها منتشرًا ساطعًا في أقطار المشارق والمغارب، بلغت شهرة ملوك إيران حتّى مسامع مجاوري الدّائرة القطبيّة، وأخضع صيت سطوة ملك ملوكها ملوك اليونان والرّومان، وحيّرت حكمة حكومتها أعظم حكماء العالم، وصارت قوانينها السّياسيّة دستورًا لجميع ملوك القارات الأربع في العالم، وامتازت ملّة إيران عن ملل العالم بفتوحاتها، وتفاخرت بصفة التّمدّن والمعارف الممدوحة، وكانت في قطب العالم مركز العلوم والفنون الجليلة ومنبع الصّنائع والبدائع العظيمة، ومعدن الفضائل الحميدة والخصال الإنسانيّة، وقد حيَّر علم هذه الملّة الباهرة وفطنتها عقول سائر شعوب العالم، فأثارت فطنة هذه الطّائفة الجليلة وذكاؤها غبطة العالمين. فبغضّ النّظر عما جاء في التّواريخ الفارسيّة واندرج في متونها نرى في أسفار التّوراة الّتي هي اليوم كتاب مقدّس مسلَّم به عند كلّ ملل أوروبّا من دون تحريف، أنّه في أيّام قورش الّذي عرف في الكتب الفارسيّة باسم بهمن بن اسفنديار، امتدّت حكومة إيران من حدود الهند والصّين الدّاخليّة إلى أقصى بلاد اليمن والحبشة المنقسمة إلى ثلاثمائة وستّين إقليمًا. وكما ورد في تواريخ الرّومان، إنّ هذا الملك (قورش) الغيور الّذي قوّض - بجيشه الجرّار - بنيان حكومة الرّومان الّتي عرفت بالفتوح، وزلزل أركان حكومات العالم جميعًا، وبناءً على تاريخ أبي الفداء، وهو من التّواريخ العربيّة المعتبرة، استولى على الأقاليم السّبعة. وكما ورد في هذا التّاريخ وغيره من التّواريخ أنّ فريدون وهو أحد ملوك الأسرة البيشداديّة، والّذي حقًّا امتاز بالكمالات الذّاتيّة والحكم والمعارف الكلّيّة وبغزواته وفتوحاته العديدة المتتالية، فأصبح فريد ملوك السّلف والخلف، قد قسّم الأقاليم السّبعة بين أولاده الثّلاثة. ومجمل القول إنّه بناءً على تواريخ الملل المشهورة قد ثبت وتحقّق بأنّ أوّل حكومة تأسّست في العالم كانت حكومة إيران وأعظم عرش استقرّ بين الملل كان عرش إيران.
فيا أهل إيران! يجب أن نفيق الآن لمحة من سكر الهوى ونصحو من الغفلة والكسل وننظر بعين الإنصاف، أتقضي غيرة الإنسان وحميّته بأن يصبح هذا الإقليم المبارك -الّذي كان منشأ تمدّن العالم ومبدأ عزّة بني آدم وسعادتهم ومثار غبطة الآفاق وحسد كلّ ملل الشّرق والغرب- يصبح اليوم موضع تأسّف كلّ القبائل والشّعوب؟ فتتّسم في تواريخ العصور الحاليّة بانعدام المدنيّة فيها وهكذا سيبقى اسمه منقوشًا على صفحة الأيّام إلى أبد الآباد؟ فبالرّغم من أنّ ملّته كانت أشرف الملل، إلاّ أنّه اليوم يقتنع بهذه الأحوال المؤسفة. وبالرّغم من أنّه كان أفضل الأقاليم جمعاء يعدّ اليوم أشدّ أقطار العالم جهلاً وأفقرها إلى المعارف من غفلته وقلّة سعيه واجتهاده. ألم يكن أهل إيران في القرون السّالفة عنوان دفتر العلم والعقل والمعرفة؟ ألم يشرقوا من أفق العرفان ويطلعوا كالنّيّر الأعظم بفضل الرّحمن؟ فكيف نكتفي الآن بهذه الحالة المملّة ونسلك سبيل أهوائنا النّفسانيّة، ونغضّ الطّرف عما فيه السّعادة الكبرى ورضاء الله وننهمك في أغراضنا الشّخصيّة ومنافعنا الذّاتيّة المذلّة؟ كان هذا الإقليم الجليل كالسّراج الوهّاج منيرًا بأنوار المعرفة وضياء العلوم والفنون وعلوّ المنزلة وسموّ الهمّة والحكمة والشّجاعة والمروءة، فأمسى اليوم نور إقباله كدرًا مظلمًا من الكسل والبطالة والخمود والفوضى وعدم التّرتيب وقلّة غيرة أهله وهمّتهم. «بكت السّموات السّبع والأرضون السّبع على عزيز ذلّ». ولا يظنّ أنّ أهل إيران هم أقلّ فطنة من غيرهم أو أحطّ منهم في الذّكاء الخلقيّ والدّهاء الجبلّيّ أو الإدراك والشّعور الفطريّ أو العقل والنّهى والعلم والاستعداد الطّبيعي، أستغفر الله بل إنّهم كانوا وما يزالون متفوّقين على كلّ القبائل والطّوائف من حيث القوى الفطريّة. وكذلك مملكة إيران فإنّها لعلى أعلى درجة من الجودة من حيث الاعتدال والمواقع الطّبيعيّة والمحاسن الجغرافيّة والقوّة النّباتيّة، إلاّ إنّه يجب التّفكر والتّعمّق وينبغي السّعي والجهد ويليق التّربية والتّشويق والتّحريض، ويلزم الهمّة الكاملة والغيرة التّامّة.
نجد الآن قارّة أوروبّا وأكثر مواقع أمريكا قد اشتهرت بين قارّات العالم الخمس من حيث النّظام والتّرتيب والسّياسة والتّجارة والصّناعة والفنون والعلوم والمعارف والحكمة الطّبيعيّة، في حين كانت أممها وقبائلها في الأزمنة الغابرة أشدّ طوائف العالم توحّشًا وجهلاً وأكثر القبائل والأمم تكاسلاً، بل إنّها كانت تلقّب بالبرابرة وفي هذا اللّقب ما فيه من دلالة على الوحشيّة الخالصة. وفضلاً عن ذلك فمنذ القرن الخامس الميلاديّ حتّى القرن الخامس عشر -وهي الفترة الّتي يعبّر عنها بالقرون الوسطى- وقعت وقائع عظيمة وحوادث موحشة مدهشة متّسمة بالعنف والشّدّة بحيث جعلت أهل أوروبّا يعتبرون تلك القرون العشرة عصور التّوحش، بناءً على ذلك فإنّ أساس المدنيّة والإصلاح والتّرقي قد وضع في أوروبّا منذ القرن الخامس عشر الميلاديّ حيث حصلت لها المدنيّة المشهودة بجميع جوانبها وذلك إثر تشويق العقلاء وحثّهم، وتوسّعت نطاق دائرة المعارف وبذلت المساعي وأظهرت الهمّة والأقدام والغيرة.
وأمّا اليوم، وبفضل الباري وتأييد مظهر النّبوّة الكلّيّة الرّوحانيّة، ضرب سلطان إيران العادل على آفاق ممالكها سرادق العدل، وفلق صبح النّوايا الخالصة الخيّرة السّلطانيّة من مشرق همّته، فأراد أن يضع أساس العدل والحق، ويشيد أركان المعارف والمدنيّة في هذه المملكة ذات المنقبة العظيمة، ويخرج جميع وسائل الرّقيّ من حيّز القوّة إلى مقام الفعل حتّى يصبح عصر السّلطنة هذا مثار حسد العصور السّابقة. وظلّ هذا العبد وأقرانه ساكتين حتّى الآن حيث لم نكن نلاحظ أنّ الزّعيم الّذي وضعت أزمّة الأمور في كفّ كفايته وأنيط إصلاح حال الجمهور بهمّته العاليّة يسعى كالوالد الحنون لتربية أهل مملكته وتوفير أسباب المدنيّة والرّاحة والطّمأنينة لهم كما ينبغي ويليق. ولم نكن نشاهد علائم تدلّ على رعايته للشّعب بالوجه المطلوب. غير أنّه عندما لاحظ أولو البصائر الآن أنّ جلالة السّلطان بذاته قد أمر، بمحض اختياره، بإقامة حكومة عادلة وتأسيس بنيان التّقدّم والرّقيّ لعموم أتباع الدّولة، دفعتني النّيّة الصّادقة لعرض هذا المقال.
ومن المستغرب أنّه بدلاً من أن يقوموا جميعًا لشكر هذه النّعمة الّتي هي في الواقع من توفيقات ربّ العزّة، أو يطيروا بجناحي الامتنان والمسرّة إلى سماء الانشراح، أو يرفعوا أكفّ الدّعاء والابتهال إلى الله بأن تزداد هذه المقاصد الخيريّة الطّيّبة يومًا فيومًا، طفقت طائفة ترفع علم الشّقاق وأخذت في الشّكوى، وهم ممن أخلّت بعقولهم العلل وأضرّت بأفكارهم الأغراض الذّاتيّة، وحجبت نور رأيهم الأنانيّة، وكدّرت ضياء تصوّراتهم ظلمات المنفعة الشّخصيّة، وانصرفت همّتهم إلى الشّهوات النّفسيّة، وحوّلوا غيرتهم إلى التّنافس على وسائل الرّئاسة، وكانت شكواهم حتّى الآن هي أنّه لماذا لم يباشر السّلطان بنفسه النّفيسة بالاهتمام في خير العموم ولا ينصرف إلى ما يؤدّي إلى راحة الجمهور واطمئنان بالهم، وأمّا الآن وبعد مبادرته بهذه الهمّة الكبرى فإنّهم يعترضون اعتراضًا آخر. ويقول بعضهم ما هذه الأفكار إلاّ أفكارًا جديدة ابتدعتها الممالك البعيدة فهي منافية لمقتضيات أوضاع إيران الحاضرة وأحوالها القديمة، وفئة أخرى -جمعت حولها قومًا بائسين من الّذين لا علم لهم بأساس الدّين المتين وأركان الشّرع المبين ولا يملكون قوّة التّمييز- تقول هذه الفئة إن هي إلاّ قوانين بلاد الكفر فهي تغاير الأصول الشّرعيّة المرعيّة و«من تشبّه بقوم فهو منهم». ويذهب قوم إلى أنّه لا بدّ من التّأنّي في إجراء أمثال هذه الأمور الإصلاحيّة، فلا يجوز التّعجيل فيها. ويرى حزب آخر أنّه يجب التّشبّث بوسائل تمكّن أهل إيران أنفسهم من إيجاد الإصلاحات السّياسيّة والعمليّة والمدنيّة التّامّة الكاملة اللازمة، فلا داعي للاقتباس من سائر الطّوائف. ومجمل القول إنّ كلَّ فريق يطير في فلك له.
فيا أهل إيران، إلى متى الحيرة وإلى متى الذّهول؟ وإلام اختلاف الآراء وتضادّ الأفكار العقيمة وإلام الغفلة والجهالة؟ الآخرون صاحون ونحن أسراء نوم الغفلة! فجميع الملل تسعى في إصلاح أحوالها العامّة بينما كلّ واحد منّا واقع في فخّ هواه وهوس نفسه! وما زلنا نقع في كلّ حين في فخّ جديد. شهد الله أننّي لا أقصد من طرح هذه المطالب المداهنة أو جلب القلوب، ولا أنتظر مكافأة ماديّة قطّ، وإنّما أقول ابتغاء لمرضاة الله ملتجئًا إلى حمايته تعالى مغمضًا الطّرف عن العالم وأهله، «لا أسألكم عليه أجرًا» «إنّ أجري إلاّ على الله.»
قصارى القول إنّ الّذين يقولون بأنّ هذه الأفكار الجديدة توافق حال الطّوائف الأخرى ولا تلائم مقتضيات أوضاع إيران الحاضرة أو مجرى أحوالها لا يلاحظون أنّ الممالك الأخرى كانت في القرون السّابقة على هذه الشّاكلة أيضًا، فكيف أصبح هذا التّرتيب والتّنظيم والتّشبّث بالوسائل المدنيّة سببًا لترقّي تلك الممالك والأقاليم؟ هل لحق بأهل أوروبّا الضّرر من التّشبّث بهذه الوسائل، أم أنّهم نالوا المنزلة الجسمانيّة العالية الكاملة؟ ومع أنّ أهل إيران عامّة ساروا عدّة قرون على النّهج المعهود وعملوا بالأصول المعتادة فماذا أفادوا، وماذا بدا من تقدّمهم؟ ولو لم تكن هذه الأمور قد وضعت موضع التّجربة لكان من الجائز أن يتشكَّك فيها بعض ضعاف النّاس، وهم أولئك الّذين خمدت شعلة العقل الهيوليّ النّورانيّة في زجاج فطرتهم، ولكنّ أمر هذه المدنيّة قد تناولته التّجربة مرارًا وتكرارًا في كلّ جزء من أجزاء صورها في الممالك الأخرى، وبلغت فوائدها من الوضوح بحيث أدركها كلّ غبيّ أعمى. فلنغمض عين الاعتساف ولْننظر بطَرْف العدل والإنصاف حتّى نلاحظ أيًّا من هذه الأسس المحكمة المتينة والأبنية الحصينة يخالف مقتضيات أوضاع إيران الحسنة، وينافي مستلزمات سياستها الصّالحة، ويناقض مصالح الجمهور المستحسنة ومنافعه العموميّة؟ أترى توسيع دائرة المعارف وتشييد أركان الفنون والعلوم النّافعة وترويج الصّنائع الكاملة من الأمور المضرّة لأنّها تنتشل أفراد الهيئة الاجتماعيّة من وهدة الجهل إلى أعلى أفق العلم والفضل؟ أم أنّ سنّ القوانين العادلة الموافقة للأحكام الإلهيّة الّتي تكفل السّعادة للبشر وتحفظ حقوق الهيئة العامّة بصيانتها القويّة وحريّة الحقوق لأفراد الأهالي بصورة عامّة مباين للفلاح ومناقض للنّجاح؟ أفهل يكون منافيًا لموازين العقل النّافذ أن يدرك الإنسان حوادث المستقبل الّتي ما تزال في حيّز القوّة وذلك ببعد نظره والأخذ بقرائن الظّروف القائمة حاليًّا ودلائل الأفكار العامّة السّائدة، ومن ثمّ يسعى ويجاهد في توفير الأمن للحال والاستقبال؟ أم أنّ التّشبّث بوسائل الاتّحاد مع الأمم المجاورة وعقد المعاهدات المتينة مع الدّول العظيمة، والمحافظة على العلاقات الودّيّة مع الدّول المتحابّة، وتوسيع دائرة التّجارة مع أمم الشّرق والغرب، وزيادة إنتاج ثروة المملكة الطّبيعيّة والعمل على إغناء الأمّة يعتبر من الأمور الّتي تكون عاقبتها وخيمة ومخالفة للرأي الصّائب ومنحرفة عن النّهج القويم؟ أم إنّ بنيان رعاية الشّعب يتزعزع لو منع حكّام الولايات والمقاطعات عن التّصرف في الأمور كيفما يشاؤون وحرموا عن الحريّة السّياسيّة المطلقة، وتقيّدوا بقانون الحقّ، وجعلوا تنفيذ أحكام القصاص للقتل والحبس وأمثالهما منوطًا بالاستئذان من البلاط الملكيّ المتّسم بالعدالة وذلك بعد إقرارها من طرف مجالس العدل القائمة في مقرّ سرير السّلطنة بعد التّحقيق من درجات جناية الجاني وقبح فعلته ومبلغ شقاوته ثم تنفيذ ما يستحقّه من القصاص بعد صدور الأمر العالي؟ أم إنّ إغلاق أبواب الرّشوة الّتي يعبّرون عنها اليوم بتعبير «الهديّة» أو «التّقدمة» سبب هدم بنيان العدل؟ أم إنّ السّعي في إنقاذ الجنود -الّذين هم في الواقع فدائيّو الدّولة والملّة وتتعرّض أرواحهم للموت في كلّ الأحيان- من الذّلّة الكبرى والمسكنة العظمى بترتيب مأكلهم ومشربهم وتنظيم ملبسهم ومسكنهم، وبذل الهمّة في تعليم ذوي المناصب العسكريّة الفنون الحربيّة، وإكمال المهمّات والآلات والأدوات الحربيّة، يعتبر من الأفكار السّقيمة؟ فإذا قال قائل بأنّ هذه الإصلاحات المذكورة لم تخرج بعد إلى حيّز الوجود كما ينبغي ويليق، فإنّه لو أنصف لرأى أنّ هذا القصور قد نتج عن عدم اتّحاد الآراء العامّة وقلّة همّة أكابر المملكة وقلّة غيرة أولي الأمر فيها. وإنّه لمن الواضح الثّابت أنّ الأمور لن تدور على محورها اللائق ما لم ينل الجمهور قسطه من التّربية، وتستقرّ الأفكار العامّة في أوضاعها الصّحيحة ويتطهّر ذيل عفّة أولياء الأمور بل وأصحاب المناصب الثّانويّة من شوائب الأحوال غير المرضيّة، وأنّ الإصلاح التّامّ المنشود لن يتجلّى ما لم تبلغ الأحوال من الانتظام والأمور من الضّبط والرّبط بحيث يجد الفرد نفسه عاجزًا عن أن يتجاوز عن مسلك الحقّ قيد شعرة حتّى ولو بذل الجهد الجهيد. وفضلاً عن ذلك فإنّ كلّ خير من شأنه أن يكون وسيلة لأعظم سعادة للعالم عرضة لسوء التّصرّف به. وحسن التّصرّف وسوؤه إنّما منوطان بدرجات أفكار الوجهاء والأعيان من الأهلين وتفاوت استعدادهم وتديّنهم وإحقاقهم للحقّ وعلوّ همّتهم وسموّ غيرتهم.
والواقع أنّ حضرة السّلطان أجرى ما كان على نفسه، فإنجاز أمور العباد ورعاية مصالحهم أضحى اليوم في كفّ كفاية أفراد يجتمعون في المجالس، فإن تطرّز هؤلاء الأفراد بطراز العصمة وتزيّنوا بزينة العفّة، ولم يلوّثوا أذيالهم الطّاهرة بدنس الخبث ستجعل التّأييدات الإلهيّة هؤلاء الأفراد منشأ خير للعالم، فيصدر عن ألسنتهم وأقلامهم ما فيه مصلحة النّاس ويستضيء جميع مملكة إيران بأنوار عدل هؤلاء الأفراد الثّابتين الرّاسخين بحيث تحيط أشعّة تلك الأنوار العالم أجمع وليس هذا على الله بعزيز. وما عدا ذلك فلا شكّ أنّ النّتائج ستكون غير مقبولة، كما شوهد عيانًا في بعض مدن الممالك الأجنبيّة أنّه بعد تأسيس المجالس أصبح التئام ذلك الجمع سببًا لاضطراب الجمهور، وتلك الإصلاحات الخيريّة علّة للوقائع المضرّة. نعم إنّ إنشاء المجالس وتأسيس محافل المشورة هو أساس عالم السّياسة المتين وبنيانه الرّصين، ولكنّ هناك عدّة أمور تعدّ من مستلزمات هذا الأساس: أوّلها أن يكون الأعضاء المنتخبون متديّنين ومظاهر خشية الله وذوي همّة عاليّة وعفيفي النّفس. وثانيها أن يكونوا مطّلعين على دقائق الأوامر الإلهيّة، واقفين على الأصول المستحسنة المتقنة المرعيّة، عالمين بقوانين ضبط الأمور الدّاخليّة وربطها، مدركين للرّوابط والعلاقات الخارجيّة متبحّرين في الفنون المدنيّة النّافعة، قانعين بمواردهم الماليّة الخاصّة. ولا يظن أحد أنّه من الممتنع الصّعب وجود أمثال هؤلاء الأعضاء، فما من مشكل إلاّ تيسّر وما من صعب مستصعب إلاّ كان حلّه أهون من لمح البصر، وذلك إثر عناية الله وعناية مقرّبيه وهمّة أصحاب الغيرة العالية. وأمّا إذا كان أعضاء هذه المجالس على النّقيض من ذلك جهلة سفلة لا علم لهم بقوانين الحكم وسياسة البلدان والممالك ولا همّة لهم ولا غيرة لديهم يلتمسون منافعهم الذّاتيّة، فإنّ تأسيس المجالس لا يفيد فائدة ولا يثمر ثمرة، إلاّ أنّه لو أراد مسكين فقير الحصول على حقّه وجب عليه أن يسترضي كلّ أعضاء المجلس بعد أن كان يقدّم الهديّة إلى شخص واحد، وإلاّ لما أمكنه إحقاق حقوقه.
ولو نظرتم نظرًا دقيقًا لتجلّى لكم أنّ العلّة العظمى للجور والفتور وعدم العدل والإنصاف أو انتظام الأمور إنّما هي من قلّة التّديّن الحقيقيّ وفقر ثقافة الجمهور؛ ذلك بأنّ الأهلين إذا كانوا متديّنين، ماهرين في الكتابة بارعين في القراءة، ثم حصلت لهم مشكلة يرفعون شكواهم إلى حكومتهم المحلّيّة أوّلاً، فإذا رأوا أمرًا مخالفًا للعدل والإنصاف، وشاهدوا من مسلك الحكومة ما ينافي رضاء الباري ويخالف عدل الملك يرفعون قضيّتهم إلى المجالس العليا ويبيّنون فيها انحراف الحكومة المحليّة عن مسلك الشّرع المبين المستقيم، فتطلب المجالس العدليّة صورة للتّحقيق من الجهة المعنيّة. ولا شكّ في أنّ العدل والإنصاف سيشملان ذلك الشّخص. وأمّا اليوم فإنّ أكثر الأهلين فاقدو اللّسان الّذي يظهرون به مقاصدهم وذلك لقلّة ثقافتهم، وكذلك الأشخاص الّذين هم من وجهاء القوم وأكابرهم في أنحاء البلاد، ولمّا كانوا لم يرتقوا إلى درجات المعارف العالية -وهم في باكورة هذه المؤسّسات الجديدة والتّشكيلات الحديثة- لم يتذوّقوا بعد لذّة إحقاق الحقّ وبسط العدل، ولم يرتشفوا من معين الطّويّة الصّادقة والنّيّة الخالصة، ولم يدركوا حقّ الإدراك أنّ عزّة النّفس وعلوّ الهمّة والمقاصد الكريمة والعصمة الفطريّة والعفّة الخلقيّة هي أعظم شرف للإنسان، وأكبر سعادة كلّيّة للعالم، بل يحسبون أنّ النّيل من الحظّ الأوفر والوصول إلى العظمة لا يمكن إلاّ عن طريق جمع الزّخارف الدّنيويّة بأيّ نحو كان.
والآن لا بدّ للإنسان من قليل من الإنصاف حتّى يتفكّر ويرى أنّ ربّ الورى خلقه بفضله وموهبته الكبرى، وشرّفه بخلعة «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» فجعله يتنوّر بالتّجلّيات الإلهيّة من صبح الأحديّة وأصبح منبع الآيات الإلهيّة، ومهبط الأسرار الملكوتيّة، واستنار في فجر الخليقة بأنوار الصّفات الكاملة والفيوض القدسيّة، فكيف يلوّث الآن هذا الرّداء المطهّر بدنس الأغراض النّفسيّة ؟ ويستبدل الذّلّ الشّديد بهذه العزّة الأبديّة؟
أتزعمُ أنّكَ جُرْمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
ولو لم تكن الغاية هي الاختصار ومراعاة ما أنا بصدده من المقصد الأصليّ لكتبت طرفًا من المسائل الإلهيّة في بيان الحقيقة الإنسانيّة وعلوّ المنزلة البشريّة وسموّ منقبتها، ولكن دع هذا الآن إلى حين آخر.
إنّ لأنبياء الله في عالم الكون الشّأن الأعظم ولهم المقام الأكبر الأرفع الأفخم في الظّاهر والباطن وفي الأوّل والآخر، ومع ذلك فلم يكن لهم نصيب في الظّاهر غير الفقر المحض، كما أنّ أولياء الحقّ والمقرّبين إلى الله الأحد اختصّوا بالعزّة الكاملة بالرّغم من أنّهم لم يفّكروا قطّ في الغنى الظّاهر، وكذلك الملوك العادلون -الّذين طبّق صيت عدلهم السّماويّ وسياستهم في حفظ البلاد آفاق الكائنات، وأحاط صوت عظمتهم ومراعاتهم حقوق الشّعب الأقاليم السّبعة- هؤلاء لم يكونوا يفكّرون في ترفهم الذّاتيّ وغنائهم الشّخصيّ الفاحش، بل كانوا يعدّون غنى جمهور الرّعيّة غناهم الشّخصيّ بعينه، ويعتبرون ثروة الأهلين وسعة عيش جميعها ازدهارًا لخزائن السّلطنة نفسها. لم يكن افتخارهم قطّ بالذّهب والفضّة بل بسداد الرّأي والهمّة العاليّة الّتي بها يتزيّن العالم، حالهم في ذلك حال الوزراء المكرمين والوكلاء المفخمين الّذين آثروا رضاء الحقّ على رضاء أنفسهم، ورفعوا علم المهارة الكاملة في فنون السّياسة على تلال الحكمة في الحكم، ونوّروا مجمع العالم بمصباح معرفتهم، وبدت من أحوالهم وأفكارهم ومسلكهم مخايل حبّ الدّولة ولاحت دلائل الاعتناء والاهتمام بالشّعب، وقنعوا برواتبهم الزّهيدة، وكانوا يشتغلون ليل نهار بتمشية مهام الأمور وإيجاد وسائل ترقية الجمهور، وجعلوا دول العالم تطيع دولتهم بفكرهم الثّاقب ورأيهم الصّائب، كما جعلوا سرير سلطنتهم مركز رتق أمور الملل العظيمة، وفتق شؤون الأمم الجليلة، وتباهوا ببلوغهم أعلى مراتب الفخر الذّاتيّ وأسمى معارج الشّرف الفطريّ. وكذلك مشاهير العلماء الأجلاّء الّذين اتّصفوا بالفضائل العلميّة والخصال الحميدة، وتشبّثوا بعروة التّقى الوثقى، وتمسّكوا بذيل الهدى وتوسّلوا به، وارتسمت على مرآة خيالهم صور المعاني الكلّيّة، واقتبست زجاجة تصوّرهم من شمس المعارف العامّة، وانكبّوا في اللّيالي والأيّام على التّدقيق والتّحقيق في العلوم النّافعة، واهتمّوا بتربية النّفوس المستعدّة وتعليمها، ولا شكّ في أنّ الكنوز الّتي حازها الملوك بمهبّ من الرّيح لم تكن تعدل في مذاق عرفانهم بقطرة من زلال المعارف والبيان، ولا قناطير الذّهب والفضّة المقنطرة تساوي حلّ مسألة من المسائل الغامضة، إنّهم يعتبرون لذائذ الأمور المادّيّة لديهم بمثابة لهو الصّبيان ولعبهم، ويحسبون التّكلّف للزّخارف الزّائدة لائقًا بالأرذال الجاهلين، وهم يقتنعون بحبّات معدودات كالطّيور الشّكورة حتّى تغدو نغمات حكمتهم ومعارفهم محيّرة لأفهام فضلاء أمم العالم ومشاعر أجلاّئها. وكذلك العقلاء العظماء من الأهلين والوجهاء الخيّرين في الولايات والنّواحي -وهم أركان الحكومة- يعدّون علوّ منزلتهم وسموّ شأنهم وسعادتهم في حبّ الخير للنّاس والبحث عن وسائل عمران المملكة وثروة الرّعيّة وأسباب راحتها وطمأنينتها. انظروا مثلاً لو كان هناك في إقليم من الأقاليم شخص من أكابر القوم عاقلاً طاهر القلب متّصفًا بالفطنة الفطريّة متّسمًا بالذّكاء والدّراية الخلقيّة واعتبر ركنًا من أركان أهل ذلك الإقليم، ففيم تكون عزّته الكلّيّة وسعادته السّرمديّة وشرفه الدّنيويّ والأخرويّ؟ أفي مواظبته على الصّدق والإستقامة والغيرة والحميّة وابتغاء مرضاة الله واستمالة عطف السّلطان واسترضاء الأهلين؟ أم باهتمامه في قضاء ليله حافلاً بالعيش المهيّأ والمائدة المهنّئة ونهاره بالعمل لتخريب الوطن والبلاد وإحراق قلوب العباد؟ فيجعل نفسه مردودًا من عتبة ربّ الكبرياء، ومطرودًا من سدّة الملك العادل ومذمومًا، وذليلاً لدى جمهور النّاس، فوالله إنّ العظام البالية في القبور لخير من هذا الشّخص وأمثاله، إذ ما الجدوى وهم لم يتذوّقوا شيئًا من موائد الخصال الإنسانيّة السّماويّة ولم يرتشفوا قطرة من عين موهبة العوالم البشريّة الصّافية.
ومن المعلوم أنّ الهدف من تأسيس هذه المجالس هو تحقيق العدل والحقّ بحيث لا مجال لإنكار ذلك، ولكنّ هذا منوط بما يمكن أن تبلغه همّة أركانها المنتخبة وأعضائها، فإذا هم وفِّقوا إلى النّيّة الخالصة تمّت لهم النّتائج المباركة والإصلاحات الّتي لا يرتقب حصولها، وما عدا ذلك أدّى وجودها دون ريب إلى تعويق الأمور وإهمالها واختلالها اختلالاً كلّيًّا.
أرى ألف بانٍ لا يقوم بهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
لقد كان مقصدي من هذه البيانات الّتي فصّلتها أن يتّضح على الأقلّ أنّ عزّة الإنسان وسعادته وعظمته ومنقبته وتلذّذه وراحته لم تكن بثروته الشّخصيّة، بل بعلوّ فطرته وسموّ همّته واتّساع معلوماته وحلّ مشكلاته فنِعمَ ما قال:
عَلَيَّ ثيابٌ لو يُباع جميعها بفلسٍ لكان الفلسُ منهنَّ أكثرا
وفيهنَّ نفسٌ لو يُقاس بهـا نفوسُ الورى كانت أجلَّ وأكبرا
ويبدو لي أنّه لو يناط انتخاب الأعضاء المؤقّتين في مجالس الممالك المحروسة برضى الأمّة وانتخابها لكان أفضل، وذلك حتّى يتوخّوا العدل والإنصاف في الأمور بقدر الإمكان لئلاّ يسوء صيتهم وسمعتهم فيفقد النّاس ثقتهم فيهم.
ولا يظنّ أنّ المقصود من هذه الكلمات ذمّ الغنى ومدح الفقر والحاجة، فالغنى ممدوح أشدّ المدح إن تسنّى ذلك بفضل الله للفرد وبسعيه واجتهاده عن طريق التّجارة والزّراعة أو الصّناعة، ثم أنفق في وجوه الخير، وبوجه خاصّ لو تشبّث عاقل مدبّر بوسائل لإثراء الأهلين وبلوغهم الغنى الكامل لما كانت همّة أسمى من هذه الهمّة حيث إنّه يعدّ من أكبر المثوبات عند الله، لأنّ عاقلاً ذا همّة عالية كهذا أصبح سبب راحة جمع غفير من العباد واطمئنان بالهم وسدّ حاجاتهم. أجل إنّ الثّروة والغنى ممدوحان إذا شملت الأمّة كلّها، أمّا إذا امتاز بعض الأفراد المعدودين بالغنى الفاحش وظلّ الباقون فقراء محتاجين بحيث لا يرون من ذلك الغنى أثرًا ولا ينالون منه ثمرًا، فثروة غنيّ كهذا كانت له سببًا للخسران المبين، ولكنه إذا أنفق ثروته في ترويج المعارف وتأسيس المدارس الابتدائيّة والمعاهد الصّناعيّة وتربية الأيتام والمساكين والمنافع العامّة الأخرى، لكان أعظم سكان الأرض عند الحقّ والخلق ولاعتبر من أهل أعلى العلّيّين.
وأمّا الحزب الّذي يذهب إلى أنّ هذه الإصلاحات الجديدة والهيئات السّديدة مغايرة لرضاء الرّحمن قوّة وفعلاً ومنافية لأوامر المشرّع المختار ومخالفة لأساس الشّرع المتين ومباينة لسيرة حبيب ربّ العالمين فينبغي أن يتدبّروا قليلاً في وجوه هذه المخالفة.
أتأتي مغايرتها بسبب الاقتباس من الملل الأخرى فيحصل بهذا الاقتباس التّشبّه و«من تشبّه بقوم فهو منهم»؟ فنقول أوّلاً: إنّ هذه الأمور الظّاهرة الجسمانيّة لهي من أسباب التّمدّن ووسائل المعارف، وفنون الحكمة الطّبيعيّة، وطرائق التّرقّي لأهل الحرف والصّناعات العامة، وعلّة ضبط مهامّ المملكة وربطها، فلا دخل لها بأساس المسائل الإلهيّة الكلّيّة ولا بغوامض حقائق العقائد الدّينيّة. فإذا قيل إنّ الاقتباس في هذه الأمور غير جائز أيضًا دلّ هذا القول على جهل القائلين وغباوتهم، أفنسوا الحديث المشهور «اطلبوا العلم ولو بالصّين»؟ ولا شكّ أنّ أهل الصّين هم أبعد النّاس عن باب الله الأحد، لأنّهم من عبدة الأصنام الّذين هم غافلون عن عبادة الخبير العلاّم، أمّا أهل أوروبّا فهم على الأقلّ من أهل الكتاب المعترفين بالعزيز الوهّاب مصداقًا لصريح الآية «ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى.» وعلى هذا طلب العلم والمعرفة من ممالك أمّة الإنجيل جائز بل أوفق وأنسب، وما دام التّعلّم من عبدة الأصنام مقبولاً عند الله فلماذا يكون ذلك من أهل الكتاب مبغوضًا لديه عَزَّ وجَلَّ؟
كذلك في غزوة الأحزاب تعاهد أبو سفيان مع بني كنانة وبني قحطان ويهود بني قريظة، وقام مع طوائف قريش جميعًا على إطفاء السّراج الإلهيّ الّذي أضاء في مشكاة يثرب، ولمّا كانت رياح الامتحان والافتتان تهبّ من ذلك الزّمان بقوّة شديدة من كلّ جهة مصداقًا لقوله تعالى «الم أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون»، وكان المؤمنون قلّة أمام الأعداء الّذين هجموا هجومًا عامًّا يريدون بذلك أن يغبّروا شمس الحقيقة المشرقة بغبار الظّلم والجور، عرض سيّدنا سلمان على مطلع الوحي الإلهيّ ومهبط تجلّيات الفيض اللاّنهائيّ أنّ أهل فارس يحفرون بأطراف المملكة خندقًا يحتمون به ويصونون به أنفسهم من الأعداء، فهو مفيد كلّ الفائدة لاتّقاء الهجوم المباغت. فهل قال منبع العقل الكلّيّ ومعدن الحكمة والعلم الإلهيّ إنّ هذا من عادات الممالك المشركة الكافرة المجوسيّة، فلا يجوز لأهل التّوحيد أن يتّبعوه؟ بل إنّه أمر الموحّدين جميعًا بأن يسرعوا في حفر الخندق، حتّى أنّه تناول بيده المباركة آلة الحفر وعاون أصحابه وأحبّاءه. وفضلاً عن هذا جاء في كتب جميع الفرق الإسلامية من تاريخيّة وغيرها والّتي صنّفها العلماء العظام والمؤرّخون الفخام، أنّه بعد إشراق نيّر الآفاق من مشرق الحجاز الّذي استنار الوجود كلّه بأشعّته السّاطعة وظهر التّغيير الكلّيّ والتّبديل الكامل في أركان العالم بنزول الشّريعة الجديدة الإلهيّة وتأسيس مباني الحكم الرّبانيّة نزلت الشّريعة المقدّسة السّماويّة في بعض أحكامها مطابقة لعادات أهل الجاهليّة المألوفة، من ذلك مراعاة حرمة الأشهر الحُرُم، وتحريم أكل لحم الخنزير، وإقرار الشّهور القمريّة وأسمائها، وغير ذلك هنالك كثير ممّا يُنقل عن الكتب بعينه وبعبارته كما يلي: «وكانت الجاهليّة تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها فكانوا لا ينكحون الأمّهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمّونه الضّيزن، وكانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعَون ويقفون المواقف كلّها ويرمون الجمار، وكانوا يكبسون في كلّ ثلاثة أعوام شهرًا، ويغتسلون من الجنابة، وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق وفرق الرّأس والسّواك وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وكانوا يقطعون يد السّارق اليمنى». فهل يجوز الآن -والعياذ بالله- أن يخطر بالبال أنّ بعض أحكام الشّريعة الغرّاء قد اعتراها النّقص حين شابهت عادات أهل الجاهليّة الّذين هم منبوذو جميع الطّوائف؟ أم أنّه يمكننا أن نتصوّر أنّ الحقّ الغنيّ المطلق اتّبع الآراء المتّسمة بالكفر؟ نستغفر الله من ذلك، إنّ في ذلك لحكمة بالغة إلهيّة. أكان بعيدًا عن قدرة الحقّ وممتنعًا عليها أن تنزل الشّريعة المباركة من دون أن تشابه عادة من عادات الأمم الجاهليّة؟ لا، بل المقصود من هذه الحكمة الكلّيّة هو تحرير العباد من قيود التّعصّبات الجاهليّة، وعدم تفوّههم بمثل هذه الأقوال الّتي من شأنها اليوم أن تؤدّي إلى تبلبل أذهان البسطاء من النّاس وتشويش ضمائرهم، ولكنّ بعض النّاس الّذين لا اطّلاع لهم -كما هو حقّه- على حقائق الكتب الإلهيّة وجوامع الصّحف النّقليّة والتّاريخيّة سيقولون إنّ هذه التّقاليد والعادات إنّما هي من جلائل سنن الخليل عليه السّلام بقيت ورسخت بين أقوام الجاهليّة، وهي واردة في مدلول الآية المباركة «اتبع ملّة ابراهيم حنيفا». غير أنّه من المسلّم به والمذكور في جميع كتب الفرق الإسلاميّة وصحفها أنّ احترام الأشهر الحرم والعمل بالأشهر القمريّة وقطع يمين السّارق لم تكن من سنن الخليل عليه السّلام. فضلاً عن هذا فإنّ التّوراة ما زالت بين أيدينا وفيها شريعة إبراهيم عليه السّلام فليراجعوها، ولا بدّ بعد ذلك سيقولون إنّ التّوراة محرّفة هي الأخرى مصداقًا للآية المباركة «يحرّفون الكلم عن مواضعه»، مع أنّ التّحريف وقع في مواضع معلومة ذكرتها كتب العلم والتّفسير، ولو فصّلنا القول في هذه المسألة خرجنا عن المقصد الأصليّ من تأليف هذه الرّسالة لهذا كان الاختصار أولى.
هذا وقد ورد في بعض الرّوايات الأخرى الحثّ على اقتباس بعض الأخلاق الحسنة والاعتبار ببعض الشّيم المرضيّة من الوحوش، فإذا كان تعلّم الأخلاق الحسنة من الحيوان الأبكم جائزًا فإنّ اقتباس العلوم المادّيّة واكتسابها من الملل الأجنبيّة أولى بالجواز، فهي -على الأقلّ- من نوع الإنسان الممتاز بالنّفس النّاطقة والقوّة المميّزة، فإذا قيل إنّ هذه الصّفات الممدوحة في الحيوان فطرة فطر عليها، فبأيّ حجّة يمكن أن يدلّل على أنّ أصول المدنيّة وأساس العلوم والحكمة الطّبيعيّة في الممالك كلّها غير موجودة بالفطرة ؟ «هل من خالق غير الله» قل سبحان الله.
وكذلك تتبّع جميع العلماء الأفاضل الكاملين والفقهاء الأكابر المتبحّرين بعض الفنون الّتي بدأها وابتدعها حكماء اليونان من أمثال أرسطو وغيره من الحكماء، واعتبروا اقتباس معارف الحكمة كعلم الطّبّ والرّياضة والجبر والحساب من الكتب اليونانيّة سبب الفوز والفلاح، كما يتتبّع العلماء قاطبة فنّ المنطق ويدرسونه في حين أنّهم يعتبرون مؤسّسه من الصّابئة. ولقد صرّح أكثرهم بأنّه إذا برع عالم نحرير في فنون شتّى واقتدر عليها، ولم يدرس المنطق دراسة تامّة لم يعتمد على أقواله ولا إنتاجه الفكريّ ولا استنباطه في المسائل الكلّيّة اعتمادًا تامًّا.
إذًا فقد اتّضح بهذه الدّلائل الواضحة وتبيّن بهذه البراهين اللاّئحة أنّ اكتساب الأصول والقوانين المدنيّة واقتباس المعارف والصّنائع العامّة -أو قل باختصار كلّ ما ينتفع به الجميع- من الممالك الأخرى جائز، وذلك كي تتّجه أفكار النّاس عامّة إلى هذه الأمور النّافعة وينهضون لاكتسابها وتنفيذها بالهمّة الكاملة حتّى يسود هذا الإقليم الطّاهر -بعونه تعالى- كلّ الأقاليم الأخرى في أقصر زمن.
يا أيّها العقلاء تأمّلوا بعين العقل والتّدبير، أيمكن أن تقاس البندقيّة أو المدفع العاديّ ببندقية هنري مارتي ومدفع كروب؟ أيستمع طفل بسمع الرّضا والقبول إذا قال قائل إنّ هذه الأسلحة النّاريّة القديمة تناسبنا ولا داعي لاستيراد الأسلحة والآلات الّتي استحدثتها الممالك الأجنبيّة؟ أو يقال إنّه طالما ننقل أمتعتنا وبضائعنا من مملكة إلى مملكة على الدّولاب لسنا بحاجة إلى القاطرات، فأيّة ضرورة تدفعنا إلى التّشبّه بالأمم الأخرى؟ أيذعن صاحب العقل الواعي بمثل هذا الكلام؟ لا والله، اللّهم إلاّ إذا كنّا ننكر الأمور البديهيّة بسبب وجود أغراض نكتمها في قلوبنا. إنّ الممالك الأجنبيّة تقتبس من بعضها البعض رغم أنّها نالت المهارة الكاملة في الفنون والمعارف والصّنائع العموميّة، فكيف يجوز للممالك الإيرانيّة الّتي انحطّت إلى أقصى دركات الاحتياج أن تظلّ مهملة معطّلة؟
إنّ العلماء الأكابر الّذين سلكوا السّبيل المستقيم والمنهج القويم، ووقفوا على أسرار الحكمة الإلهيّة، وأطّلعوا على حقائق الكتب المقدّسة الرّبانيّة، فتزيّنت قلوبهم المباركة بحلية التّقى، وأنارت وجوههم النّضرة بأنوار الهدى قد التفتوا إلى الاحتياجات الحاليّة، ونظروا إلى مقتضيات الزّمان، فهم لا شكّ يحثّون على التّمدّن كلّ الحثّ ويحضّون على تحصيل المعارف كلّ الحضّ «هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون» و«هل تستوي الظّلمات والنّور؟»
إنّما العلماء سُرُج الهداية بين ملأ العالم، ونجوم السّعادة المشرقة اللاّئحة من أفق الطّوائف والأمم، إنّما هم سلسبيل الحياة للنّفوس الّتي أماتها الجهل والغفلة، ومعين الكمالات الصّافي للعطاش في بادية النّقص والضّلال، هم مطالع آيات التّوحيد المطّلعون على حقائق القرآن المجيد، هم الأطبّاء الحذّق لجسم العالم العليل، والتّرياق الفاروق الأعظم لهيئة بني آدم المسمومة، هم الحصن الحصين لمدينة الإنسانيّة والكهف المنيع للمضطرّين المضطربين في بيداء الجهالة «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» ولكنّ ربّ العالمين خلق لكلّ شيء علائم وآثارًا، وقدّر له محكًّا وامتحانًا، فالكمالات المعنويّة والظّاهريّة لازمة للعالم الرّباني، كما ينبغي له أن يتحلّى بحسن الأخلاق ونورانيّة الفطرة وصدق النّيّة والفطنة والذّكاء والفراسة والنّهى والعقل والحِجى والزّهد والتّقوى الحقيقيّ وخشية الله القلبيّة، وإلاّ فإنّه مثل الشّمع الّذي لا ضوء له مهما كان طويلاً وعريضًا كأعجاز نخلٍ خاوية وخُشُب مسنّدة.
ناز را روئي بيايد همچو ورد چون نداري گرد بدخوئي مگرد
زشت باشد روى نازيبا وناز سخت باشد چشم نابينا ودرد
وقد ورد في الرّواية الصّحيحة «وأمّا من كان من العلماء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه ومخالفًا لهواه ومطيعًا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» ولمّا كانت هذه الكلمات المشرقة جامعة لجميع الشّروط العلميّة فإنّي أبيّن هذه الرّواية المباركة بيانًا مجملاً.
إنّ كلّ من لم يحرز هذه الشّؤون الرّحمانيّة، ولم يكن مُظهرًا لمدلول هذه الرّواية الصّحيحة تنقطع عنه نسبة العلم، ولا يعود لائقًا لأن يطيعه الموحّدون. إنّ أوّل شرط من هذه الشّروط المقدّسة هو أن يكون «صائنًا لنفسه»، من الواضح أنّ المراد لم يكن حفظ النّفس من البلايا والمحن الجسمانيّة، ذلك لأنّ كلّ الأنبياء وجميع الأولياء تعرّضوا لأعظم شدائد العالم، واستهدفوا لسهام بلايا الملل وأذى الأمم، فضحّوا بأنفسهم لخير النّاس، وأسرعوا إلى مشهد الفداء بالرّوح والفؤاد، وزيّنوا هيكل العالم برداء جديد من الفضائل الذّاتيّة والشّيم المرضيّة الاكتسابيّة وذلك بكمالاتهم المعنويّة والصّوريّة. ولكنّ المقصد الأصليّ الحقيقيّ هو الصّيانة من النّقائص الباطنيّة والظّاهريّة، والاتّصاف بأوصاف الكمال المعنويّ والصّوريّ. والعلم والفضل هما أوّل صفة من صفات الكمال، والجهة الجامعة لهذا المقام الأعظم الأقوم هي الوقوف التّامّ على غوامض المسائل الإلهيّة، والإحاطة بحقائق حكم القرآن السّياسيّة الشّرعيّة، ومحتويات سائر الكتب السّماويّة، والإلمام بضوابط ترقّي الملّة الباهرة وروابط تمدّنها، والاطّلاع على القوانين والأصول والرّسوم والأحوال والأطوار والقوى الماديّة والأدبيّة العاملة لدى الملل الأخرى في العالم السّياسيّ وفي الفنون العصريّة النّافعة وجامعيّتها، والتّتبّع في الكتب التّاريخيّة للملل والدّول في العصور السّالفة. ذلك لأنّه لو لم يقف العالم على محتويات الكتب المقدّسة، ولم يحط بالحكمة الإلهيّة والطّبيعيّة والعلوم الشّرعيّة والفنون السّياسيّة والمعارف العصريّة، ولم يطّلع على وقائع القرون السّالفة العظيمة عند الملل والدّول سيبقى عاجزًا حينما تستدعي الضّرورة، وهذا مناف لصفة الجامعيّة، فمثلاً إذا حاور أحد العلماء الرّبانيّين مسيحيًّا من دون أن يكون له نصيب من لحن القول في الإنجيل الجليل، فإنّ ما يبيّنه له من حقائق الفرقان لا يقع في سمع المسيحيّ موقع القبول قطّ، أمّا إذا رأى ذلك المسيحيّ أنّ هذا العالم أعلم بما لدى القوم من العلوم وبما يستند عليه، وأكثر إدراكًا لحقائق الكتب المقدّسة من قساوسة أمّة الإنجيل لقبل كلّ ما يبيّنه العالم طوعًا، إذ لا مفرّ له إلاّ الإقرار، مثله كمثل رأس الجالوت حين حضر بمحضر شمس فلك العرفان ونيّر أوج الهدايّة والإيقان الإمام الرّضا عليه السّلام، فلو لم يجب معدن العلم هذا على أسئلة رأس الجالوت بالأدلّة والبراهين المألوفة لديه لما أقرّ ولا اعترف بفضل الإمام وعظمته. وفضلاً عن ذلك يجب أن تكون للعالَم السّياسيّ قوّتان عظيمتان قويمتان، ألا وهما القوّة التّشريعيّة والقوّة التّنفيذيّة، أمّا مركز القوّة التّنفيذيّة فالحكومة، وأمّا مرجع القوّة التّشريعيّة فالعلماء النّبهاء، إذًا فكيف يمكن تصوّر فلاح الأمّة ونجاحها إن لم يكن هذا الرّكن الرّكين جامعًا وهذا الأساس المتين كاملاً؟ غير أنّه لمّا كان أمثال هؤلاء الأشخاص نادرين في هذه الأزمنة، وكانت الأمّة والحكومة في أقصى غايات الاحتياج من حيث تنظيم الأحوال، كان لزامًا أن تتأسّس هيئة علميّة يبرع كلّ جماعة من أعضائها في فنّ من الفنون المذكورة، ويتفكّرون في جميع احتياجات الحاضر والمستقبل بكلّ إقدام وجهد بليغ، حتّى تستقرّ الأمور في مستقرّ معتدل وترتكز في مركز ثابت. وذلك لأنّه لم يكن حتّى يومنا هذا للأحكام الشّرعيّة في المرافعات والمحاكمات مدار معين، إذ إنّ كلّ عالم من العلماء يصدر حكمًا برأيه واجتهاده، فإن احتكم اثنان في قضيّة ما مثلاً نرى عالمًا يحكم للمدّعي وآخر للمدّعى عليه، بل قد يصدر أحيانًا حكمان مختلفان في أمر واحد من عالم مجتهد واحد، ومردّ ذلك أنّ الأمر في البدء تبيّن له على نحو ثم بدا له بعدئذ على نحو آخر، ولا شبهة في أنّ هذا يحدث الفوضى والاضطراب في كافة الأمور المهمّة، ويتطرّق الضّعف الشّديد إلى أساس الهيئة الاجتماعيّة، ذلك لأنّه طالما لم ييأس المدّعي أو المدّعى عليه من إقامة دعواه يظلّ طول عمره مترصّدًا محاولاً الفوز بحكم ثانٍ مخالف للحكم الأوّل، فيقضيان بذلك جميع عمرهما في اللّجاج. فلذلك يعجزان عن القيام بإمور الخير النّافعة وعن إنجاز أعمالهما الشّخصيّة ما داما يقضيان أوقاتهما في العناد والنّزاع، وهما في الواقع في حكم الأموات، لا يستطيعان أن يقدّما للحكومة وللهيئة الاجتماعيّة مثقال ذرّة من الخدمة. ولكن إذا صدر الحكم الفاصل بينهما لم يعد للمحكوم عليه أمل ما في الحصول على حكم ثان، ولذلك تحصل له الرّاحة والطّمأنينة فينصرف إلى أعماله وخدماته وخدمة غيره من النّاس. ولمّا كان هذا الأمر الأهمّ الأتمّ أعظم وسيلة لطمأنينة الأهلين وراحتهم وأكبر واسطة لترقّي أعالي الجمهور وأدانيهم، يجب على العلماء الواقفين على المسائل الشّرعيّة في هذا المجلس الكبير أن يضعوا في بادئ الأمر منهجًا قويمًا للفصل في دعاوى العموم يكون كالصّراط المستقيم ينشر بأمر السّلطان في جميع البلدان حتّى يجري بموجبه الحكم، ولا بدّ من الاهتمام بهذا الأمر المهمّ اهتمامًا بالغًا.
وأمّا الصّفة الثّانيّة من صفات الكمال فهي العدل وإحقاق الحقّ، وهو عدم الالتفات إلى المنافع الذّاتيّة والفوائد الشّخصيّة والالتزام بها، وإجراء أحكام الحقّ بين الخلق دون التّحيّز إلى جهة من الجهات، واعتبار الإنسان نفسه كالآخرين عبدًا من عباد الغنيّ المطلق، وعدم انفراده بامتياز ما في أمر من الأمور عن الجمهور إلاّ في الامتياز المعنويّ واعتبار ما هو خير النّاس جميعًا خير نفسه، وبالاختصار اعتبار الهيئة العامّة بمنزلة الشّخص الواحد، واعتبار النّفس ذاتها عضوًا من أعضاء هذه الهيئة الممثّلة، واليقين المبين بأنّ ألم أيّ جزء وتأثّره إنّما هو سبب تألّم كلّ أجزاء الهيئة.
وأمّا الصّفة الثّالثة من صفات الكمال فهي الاهتمام في تربية الجمهور بصدق الطّويّة وخلوص النّيّة، وبذل الجهد البليغ والسّعي الحثيث في تعليم المعارف العامّة، وتدريس العلوم النّافعة، والحضّ على مواكبة التّرقّيات العصريّة، والتّحريض على توسيع نطاق الصّنائع والتّجارة، والتّرغيب في اتخاذ الوسائل الّتي بها تزداد ثروة أهل المملكة، وذلك لأنّ النّاس عامّة لا علم لهم بهذه الأمور الهامّة الّتي فيها البرء المباشر لعلّة الهيئة الاجتماعيّة المزمنة، فيجب على العلماء العقلاء والعرفاء الألبّاء أن ينهضوا خالصين مخلصين لوجه الله، ويعظوا النّاس وينصحوهم حتّى تتنوّر أبصار الأمّة وتبصر بكحل المعارف، ذلك لأنّ النّاس اليوم صوّرت لهم ظنونهم وأوهامهم أنّ الّذي أيقن بالله وآمن بآياته ورسله وكتبه والشّرائع الإلهيّة، وأصبح مظهرًا لخشية الله يجب أن يظلّ مهملاً متخلّفًا يقضي أيّامه بالكسل والبطالة حتّى يعدّ من المقربين لدى الله الّذين أعرضوا عن الدّنيا وما فيها، وأقبلوا بقلوبهم إلى العالم الأخرويّ ونأوا عن الخلق والتمسوا القرب من الحقّ. ونظرًا إلى أنّه سيُفصّل بيان هذا الأمر في موضع آخر من مواضع هذا الكتاب، رأيت من الأولى تركه الآن.
أمّا بقيّة الصّفات الكماليّة فهي خشية الله ومحبّة الله في محبّة عباده، والحلم والسّكون والصّدق وحسن السّلوك والرّحمة والمروءة والجَلَد والشّجاعة والثّبات والإقدام والجهد والسّعي والكرم والبذل والوفاء والصّفاء والغيرة والحميّة والهمّة والنّخوة ومراعاة الحقوق وأمثال ذلك، وفاقد هذه الأخلاق الحسنة الإنسانيّة يعتبر ناقصًا، ولو أنّنا أتينا على بيان حقائق كلّ واحدة من هذه الصّفات «لأصبح المثنوي [أي هذه الرّسالة] سبعين مَنًّا من الورق.»
أمّا الشّرط الثّاني من تلك الشّروط المقدّسة العلميّة فهو قوله: «حافظًا لدينه». ومن المعلوم أنّ القصد من هذه الكلمة لم يكن منحصرًا في استنباط الأحكام والحرص على العبادات واجتناب الكبائر والصّغائر وإجراء الأحكام الشّرعيّة، أو بالأحرى المحافظة على دين الله بهذه الوسائل، بل إنّ الغاية منها المحافظة على هيئة الأمّة من كلّ الجهات وبذل السّعي البليغ في سبيل إعلاء كلمة الله، وزيادة اتباع الدّين الإلهيّ ونشره وغلبته واستعلائه على سائر الأديان، وذلك باتّخاذ جميع الوسائل والوسائط. والواقع لو أقدم العلماء المسلمون على هذه الأمور كما ينبغي ويليق لكانت جميع ملل العالم قد دخلت اليوم في ظلّ كلمة الوحدانيّة ولسطعت شعلة «ليظهره على الدّين كلّه» النّورانيّة طلوع الشّمس في قطب الوجود ولاحت في جميع الآفاق.
في القرن الخامس عشر للميلاد كان مارتن لوثر عضوًا من أعضاء هيئة الكاثوليك الإثني عشر في مركز حكومة البابا، ثم أصبح فيما بعد مؤسّسًا لمذهب البروتستانت، خالف لوثر البابا في مسائل عدّة منها عدم السّماح للرّهبان بالزّواج، وتعظيم صور الحواريّين، وتكريم صور رؤساء المسيحيّة السّالفين، ومسائل أخرى كالعادات والرّسوم المذهبيّة الزّائدة على أحكام الإنجيل. وعلى الرّغم من أنّ سلطة البابا بلغت في ذلك الزّمان من القوّة أن كان ملوك أوروبّا يرتعدون من سطوته ويضطربون، وكان أزمّة ضبط أمور أوروبّا المهمّة وربطها موكولة بيمين قوّته واقتداره، ولكن لما كان لوثر محقًّا في تلك المسائل كزواج رؤساء الدّين، وعدم السّجود للتّماثيل أو تعظيم الصّور المعلقة في الكنائس، وإبطال العادات والرّسوم الزّائدة على محتويات الإنجيل، واتخّذ التّرتيبات اللاّزمة لترويج مبادئه هذه، فقد دخل في المذهب البروتستنتيّ خلال أربعة قرون ونيّف أكثر أهل أمريكا، وأربعة أخماس ألمانيا وإنجلترا، وكثير من أهل النّمسا أي قرابة مائة وخمسة وعشرين مليونًا من مختلف المذاهب المسيحيّة الأخرى، وما زال رؤساء هذا المذهب يروّجونه وينشرونه بهمّة كاملة، وحسب الظّاهر اتّخذوا من الحريّة السّائدة في السّودان وبلاد الزّنج وسيلة لتأسيس المدارس والمكاتب، وما زالوا يشتغلون في تعليم الطّوائف المتوحّشة الأفريقيّة وتدريسهم ومنحهم المدنيّة، أمّا مقصدهم الأصليّ الباطن فهو إدخال بعض طوائف الزّنوج المسلمين في المذهب البروتستنتيّ.
كلّ طائفة مهتمّة لإعلاء شأن أمّتها بينما نحن نغطّ في سبات الغفلة، تأمّلوا هذا الرّجل الّذي لم يكن أحد يعلم مرمى أهوائه، وإلى أيّ هدف يتحرّك، كيف روّج مذهبه بهمّة رؤساء طريقته وغيرتهم، فلو أنّ الملّة الباهرة الحقّة الّتي هي مظهر التّأييد الإلهيّ ومطلع التّوفيق الرّبّانيّ أقدمت بالهمّة التّامّة وسعت بالغيرة الكاملة وتشبّثت بوسائل النّشر متوسلّة إلى الله منقطعة عمّا سواه، لسطعت بلا ريب أنوار الحقّ المبين في كلّ الآفاق، إلاّ أنّ من لا اطلاع لهم على حقائق الأمور، ولا دراية لهم بنبض العالم، ولا علم لهم بالتّرياق الفاروق الحقّ لعلّة الباطل المزمنة يظنون أنّ نشر الدّين منوط بالسّيف مستدلّين بحديث «أنا نبيّ بالسّيف» والواقع أنّهم لو نظروا بالنّظر الدّقيق لرأوا أنّ السّيف ليس واسطة النّشر في هذا العصر بل سبب استيحاش النّفوس واشمئزاز القلوب ودهشتها، كما أنّه لا يجوز في الشّريعة المباركة الغرّاء دفع أهل الكتاب إلى الإيمان والإقرار بالقوّة القاهرة، مع أنّ الإرشاد والهداية فرض على كلّ مؤمن موحّد. غير أنّ حديث «أنا نبيّ بالسّيف» وكذلك «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله» قد ورد في حقّ مشركي الجاهليّة الّذين انحطّوا عن المرتبة البشريّة لشدّة توحّشهم وجهالتهم. فالإيمان الّذي يتمّ بحدّ السّيف لا قيمة له قطّ، وسرعان ما ينقلب إلى كفر وضلال لأتفه الأمور، كما كان الحال مع القبائل والطّوائف المجاورة للمدينة المنوّرة بعد عروج شمس أوج النّبوّة إلى «مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر» حيث ارتدّوا مرّة أخرى إلى دين الجاهليّة.
ثم تأمّلوا كيف عطّرت نفحات روح الله القدسيّة إقليم فلسطين والجليل وسواحل نهر الأردنّ وجوانب أورشليم، وشنّفت ألحان الإنجيل الجليل أسماع الرّوحانيين في ذلك الزّمان، حين كانت قبائل آسيا وطوائف أوروبّا وأفريقيا وأمريكا وجزائر البحر المحيط مجوسًا وعُبّاد أصنام، غافلين عن خطاب يوم «أَلسْتُّ»، ولم يكن هناك من ملّة تقرّ بالوحدانيّة والألوهيّة غير ملّة موسى، فلمّا انبعثت أنفاس السّيّد المسيح الطّيبة الطّاهرة المحيية للأرواح منحت لأهل تلك الدّيار الحياة الباقية في ثلاثة أعوام، وتأسّس بالوحي الإلهيّ أساس الشّريعة العيسويّة الّتي كانت دواء السّاعة النّاجع للهيئة البشريّة العليلة. ومع أنّ نفرًا قليلاً من النّاس أقبلوا إلى الله في أيّامه، بل إنّ المؤمنين الموقنين لم يكونوا يتجاوزون في الواقع بضع نساء واثني عشر حواريًّا ارتدّ أحدهم -وهو يهوذا الإسخريوطي- فبقي منهم أحد عشر رجلاً، إلاّ أنّ هذا النّفر القليل بعث بالأخلاق الرّوحانيّة الحسنة والمسلك المقدّس الرّحمانيّ بعد صعوده إلى أفق العزّة وقاموا -تؤيّدهم القوّة الإلهيّة والأنفاس العيسويّة- يهدون كلّ من على الأرض. وفي تلك الأثناء نهضت كلّ الأمم الوثنيّة واليهود بالقوّة الكاملة والهمّة التّامّة ليطفئوا ذلك السّراج الإلهيّ الّذي اشتعل في زجاجة إقليم أورشليم «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون» وقتلوا كلّ نفس من هذه النّفوس المباركة بأقسى ألوان العذاب، بل إنّهم مزّقوا أجساد بعضهم المطهّرة إربًا إربًا بسواطير القصّابين واحرقوها في الأتانين، ودفنوا بعض أتباع هؤلاء الرّجال المقدّسين وأشياعهم تحت التّراب وهم أحياء، وذلك من بعد التّعذيب والتّنكيل. وبالرّغم من كلّ هذه العقوبات الشّديدة لم يفتروا عن تبليغ أمر الله قط، حتّى طوّقت ملّة عيسى العالم آخر الأمر، بحيث لم يعد هناك في أوروبّا ولا أمريكا من أثر لدين من الأديان الأخرى، ودخل جمع غفير من أهل آسيا وأفريقيا وجزائر البحر المحيط في ظلّ الإنجيل وتمّ كلّ ذلك دون أن يستلّوا سيفًا أو يخدشوا وجهًا.
إذن ثبت الآن بهذه الأدلّة الواضحة اللاّئحة أنّ نشر الدّين الإلهيّ لا يتمّ إلاّ بالكمالات الإنسانيّة والأخلاق الحسنة والشّيم المرضيّة والسّلوك الرّوحانيّ، ومن أقبل إلى الله طوعًا فهو مقبول لديه تعالى، لأنّه بريء من الأغراض الشّخصيّة وطمع المنافع الذّاتيّة، وملتجئ إلى كهف حماية الحقّ فيصبح بذلك مشهورًا بين الخلق بالأمانة والصّدق والورع ورعاية الحقوق والهمّة والوفاء والتّديّن والتّقوى وبحصول كلّ ذلك يحصل المقصد الأصليّ من إنزال الشّرائع المقدّسة السّماويّة الّتي تكفل السّعادة الأخرويّة والتّمدّن الدّنيويّ وتهذيب الأخلاق، وإلاّ فإنّ الضّرب بالسّيف يدفع النّاس إلى الإقبال إلى الدّين في الظّاهر والإدبار والحقد في الباطن، وبهذه المناسبة نذكر قصّة لتكون موضع عبرة للنّاس جميعًا.
ورد في كتب التّاريخ العربيّة أنّه في يوم من أيّام ما قبل بعثة النّبيّ عليه السّلام شرب النّعمان بن المنذر اللّخميّ - أحد ملوك العرب في الجاهليّة وكانت مدينة الحيرة مقرّ سريره- فزايله عقله لكثرة ما تجرّع من أقداح المُدام وتعطّل شعوره، وفي عالم السّكر وفقدان الوعي أمر بقتل خالد بن مضلّل وعمر بن مسعود الكنديّ اللّذين كانا نديميه وأنيسيه وخليليه وجليسيه في محفل الطّرب. فلمّا أفاق من سكره وثمله طفق يسأل عن نديميه، فأحيط علمًا بتفاصيل ما حدث، فحزن عليهما غاية الحزن وأدمى قلبه لهما، وبنى على قبريهما لشدّة حبّه لهما وعظيم تعلّقه بهما بناءين عاليين مسمَّيان بالغرييّن، وجعل لنفسه في كلّ سنة يوم بؤس ويوم سعد تذكارًا لهذين النّديمين، وكان يخرج في هذين اليومين بكمال حشمته وجلاله، ويجلس بين الغرييّن، فما كانت تلمح عينه في يوم البؤس من أحد إلاّ وقتله، وما كان يدخل داره أحد أو يفد إليه في يوم النّعيم إلاّ وأحسن إليه كلّ الإحسان، واعتنى به منتهى العناية. واستمرت هذه القاعدة واستحكمت بالأيمان الغلاظ حتّى جاء يوم من الأيّام ركب فيه الملك جواده «محمودًا» وتوجّه إلى الصّحراء متصيّدًا، فلمحت عينه حمارًا وحشيًّا عن بعد بغتةً، فأطلق عنان جواده في عقب ذلك الحمار الوحشيّ حتّى بعد عن خيله وجيشه، فلمّا تأخّر به الوقت يئس وبينما هو كذلك إذا بسواد خباء مضروب في البادية يتجلّى له، فعطف إليه عنان جواده حتّى بلغ باب الخباء وقال «أتستضيفونني؟» فقال ربّ الخباء -وكان حنظلة بن أبي غفراء الطّائي- نعم، واستقبله وأنزله عنده وقال لزوجه: إنّ مخايل النّجابة لتلوح من ناصية هذا الرّجل، فهيّئي القرى وابذلي في إكرامه الهمّة والغيرة»، فقالت المرأة: «عندنا شاة فاذبحها، ولقد ادّخرت لأمثال هذا اليوم قدرًا من الدّقيق»، فحلب حنظلة الشّاة وحمل إلى النّعمان قدحًا من حليبها، ثم ذبح الشّاة ومدّ السّماط، وقضى النّعمان ليلته من محبّة حنظلة مسرورًا كلّ السّرور، فلمّا طلع الفجر تأهّب النّعمان للرّحيل، وقال مخاطبًا حنظلة: «إنّك أبديت في استضافتي هذه اللّيلة غاية المروءة والجود، وأنا النّعمان بن المنذر لأرقب قدومك عليّ مشتاقًا». وانقضت مدّة إلى أن أناخ القحط والغلاء العظيم على ديار طيّ، وأصابت حنظلة فاقة شديدة، فأسرع إلى الملك، وكان من غريب الاتّفاق أنّه أقبل على النّعمان وهو في يوم بؤسه، فتبلبل خاطر الملك وأخذ يعاتبه أن: «لماذا حضرت عند رفيقك في مثل هذا اليوم الّذي هو يوم البؤس، فإنّه لو لمحت عينيّ اليوم ابني الوحيد قابوس لقتلته، فما هي حاجتك الآن فاطلبها». فقال حنظلة: «لا علم لي بيوم بؤسك هذا، فما الجدوى الآن من نعمة الدّنيا الّتي هي للعيش بها والبقاء فيها، وما فائدة خزائن الأرض جميعًا إن قدّر لي أن أشرب السّاعة كأس المنون؟» فقال النّعمان: «لا مفرّ من ذلك» فقال حنظلة: «أمهلني زمنًا أعود فيه إلى عيالي وأوصيهم ثم أحضر السّنة القادمة في يوم بؤسها»، فطلب النّعمان من يضمنه حتّى إذا ما خالف وعده قتل ضامنه عوضًا عنه. فطفق حنظلة يدير بصره في كلّ ناحية متحيّرًا حتّى لمحت عينه شريكًا بن عمرو بن قيس الشّيبانيّ -وكان من جملة خدم النّعمان- فأنشد يقول:
يا شريكًا يا ابن عمرو هل من الموت محالة
يا أخا كلّ مصاب يا أخًا من لا أخًا له
يا أخا النّعمان فيك اﻟ ـيوم عن شيخ كفاله
ابن شيبان كريم أنعم الرّحمن باله
فقال شريك: «يا أخي لا يستطيع المرء أن يجود بنفسه». فظلّ المسكين متحيّرًا، وكان هناك رجل يسمى بقراد بن أجدع الكلبي، فنهض وكفله شريطة أن يجري الملك فيه ما يريد إذا لم يسلّم حنظلة في يوم البؤس من السّنة الآتية، فأنعم النّعمان لحنظلة بخمسمائة ناقة وصرفه.
وفي السّنة التّالية أقبل يوم البؤس وطلع فجره الصّادق من المشرق، وتوجّه النّعمان على عادته إلى موضع الغرييّن في حشمته الكاملة، وحمل معه قرادًا ليكون فريسة لسخطه، وأخذ أركان الدّولة يشفعون له ويستمهلونه حتّى الغروب لعلّ حنظلة يعود، وكان الملك يريد أن يقتل ضامنه حتّى ينجيه من الهلاك وذلك ثمنًا لمحبّته إيّاه، فلما دنت ساعة الغروب عرّي قراد حتّى يضرب عنقه، فما راعهم إلاّ أنّ فارسًا فاجأهم يقترب عن بعد بسرعة، فسأل النّعمان السّياف: «فيم انتظارك؟» فردّ الوزراء: «لعلّ هذا الفارس يكون حنظلة»، فلما اقترب الفارس وجدوه حنظلة الطّائي، فلم يرق النّعمان قدومه وقال: «أيّها الجاهل الأحمق لماذا عدت مرّة أخرى وقد نجوت من براثن الموت؟» فقال حنظلة: «جعل الوفاء بالعهد السّمّ الزّعاف حلوًا مستساغًا في مذاقي»، فسأل النّعمان عن الباعث له على هذا الوفاء ومراعاة الحقّ والعهد والميثاق، فقال حنظلة: «هو إقراري بوحدانيّة الله وإيماني بالكتب المنزّلة السّماويّة» فقال النّعمان: «بأيّ دين تدين؟» فأجابه: «أحياني نفس المسيح فأنا أسير على صراط روح الله المستقيم» فقال النّعمان: «فأعرض على مشامي نفحات روح الله القدسيّة» فأخرج حنظلة يد الهداية البيضاء عن جيب محبّة الله، وأشرقت أنوار الإنجيل على أبصار الحاضرين وبصائرهم. فلمّا تلا حنظلة بضع آيات إلهيّة من الإنجيل باللّحن الجليل، تبرأ النّعمان ووزراؤه جميعًا من الأصنام وعبادتها، وثبتوا في دين الله ورسخت أقدامهم فيه، وقالوا: «يا حسرة علينا قد غفلنا إلى اليوم واحتجبنا عن هذه الرّحمة الواسعة الّتي لا نهاية لها وكنّا محرومين وميئوسين من غمام فضل الرّحمن هذا». وهدم النّعمان الغرييّن من فوره وندم على ظلمه واعتسافه وأحكم أساس العدل والإنصاف.
فتأمّلوا كيف أنّه رجل من أهل البادية وهو مغمور لا مقام له في الظّاهر، لمّا اتّصف بصفة من صفات المخلصين استطاع أن ينقذ مثل هذا الملك الغيّور هو وجمعًا غفيرًا من ظلمات ليل الضّلالة، ويدلّهم على صبح الهداية ويخلّصهم من مفازة عبادة الأصنام المهلكة، ويرد بهم ساحل بحر الوحدانيّة الإلهيّة، ويكون سببًا في إبطال مثل هذه العادات الّتي هي في الواقع آفة البشريّة وعلّة لهدم بنيان المدنيّة.
فلا بدّ من التّفكّر والتّعمّق والتّعقّل والتّدبّر، وقصارى القول إنّ القلب لفي أقصى غايات الحزن والتّأسّف بما أنّه لم يعد يرى أنّ اهتمام النّاس بوجه من الوجوه متّجه اليوم إلى الأمور اللاّئقة المناسبة، لقد أشرقت شمس الحقيقة على كلّ الآفاق ونحن ما زلنا أسراء ظلمات أهوائنا، ولقد ماج البحر الأعظم من كلّ الجهات ونحن ما زلنا عجزاء خامدين ومحترقين من الظّمأ، ولقد نزلت الموائد الإلهيّة من سماء الأحديّة ونحن ما زلنا في مفاوز القحط حيارى هائمين «من ميان گفت وگريه مي تنم».
ومن بين الأسباب العامّة الّتي أصبحت سببًا في إعراض سائر أهل الأديان عن التّديّن بالدّين الإلهيّ هو التّعصّب والحميّة الجاهليّة. ولو تأمّلنا لرأينا أنّ الخطاب الإلهيّ صدر إلى الجمال النّورانيّ والفلك الرّحمانيّ سيّد أهل العالم أن «وجادلهم بالّتي هي أحسن« وأمره بالمداراة واللّين، فأورفت هذه الشّجرة النّبويّة المباركة الـ «لا شرقيّة ولا غربيّة» ظلّ ألطافها اللاّنهائيّ على رأس أهل العالم جميعًا، وكانت دائبة في مسلكها باللّطف الكبير والخلق العظيم، وكذلك أمر موسى وهرون عليهما السّلام في خطابهما وعتابهما لفرعون ذي الأوتاد بأن: «قولا له قولاً ليّنًا.» ومع أنّ أنبياء الله وأولياءه نظرًا لحسن سيرتهم –تلك الّتي اشتهروا بها– في الواقع كانوا وما يزالون أسوة حسنة للهيئة البشريّة في جميع المراتب حتّى قيام السّاعة، وبالرّغم من ذلك كلّه فقد غفل بعض النّاس عن هذا التّلطّف الخارق، واحتجبوا عن هذا التّعطّف الفائق، وحرموا من حقائق الكتب المقدّسة الإلهيّة، فاجتنبوا أهل الأديان الأخرى تمام الاجتناب، واحترزوا منهم تمام الاحتراز بحيث لا يجوّزون لأنفسهم حتّى أداء التّحيّات العاديّة، فإذا كانت الألفة والمعاشرة لا تجوز فكيف يمكن هداية نفس واحدة من ظلام «لا» الفاني إلى صبح «إلاّ» النّوراني، وحثّها على الصّعود من أسفل قاع الجهل والضّلال إلى أعلى أفق العلم والهدى؟
انظروا الآن بعين الإنصاف، لو لم يتصرّف حنظلة مع النّعمان بن المنذر بكمال المحبّة والصّداقة والمودّة وحسن الضّيافة، لاستحال عليه أن يهدي ذلك الملك وجمعًا غفيرًا من المشركين إلى الإقرار والاعتراف بالوحدانيّة الإلهيّة. إنّما الاجتناب والاحتراز والفظاظة سبب اشمئزاز القلوب ونفور النّفوس، وأمّا المحبة والمودّة والمداراة واللّين فسبب إقبال النّفوس وتوجّه القلوب. ولو أبدى أحد المؤمنين الموحّدين الحذر والاحتراز عند ملاقاته لفرد من أفراد الأمم الأجنبيّة وتفوّه بالكلمات الموحشة كـ «عدم التّجويز للمعاشرة» و«فقدان الطّهارة» لحزن هذا الفرد الأجنبيّ من هذا القول وتكدّر كدرًا بحيث لو رأى معه شقّ القمر بعيني رأسه لما أقبل إلى الحقّ، إذًا فثمرة هذا الاحتراز هي أنّه لو كان في قلب هذا الشّخص بعض التّوجّه إلى الله لندم على ذلك أيضًا، وفرّ فرارًا من شاطئ الإيمان إلى بادية الغفلة والبطلان، فإذا عاد إلى وطنه ومملكته كتب في جميع الجرائد أنّ الأمّة الفلانيّة في مراعاتها شروط الإنسانيّة بلغت أحطّ دركات الانحطاط والقصور.
ولو أنّنا تفكّرنا قليلاً في آيات القرآن وبياناته، وفي الرّوايات المأثورة عن نجوم سماء الأحديّة لعلمنا بالبرهان أنّه إذا اتّصفت نفس ما بصفات الإيمان وتخلّقت بالأخلاق الرّوحانيّة لكانت مظهر الرّحمة الإلهيّة للكائنات جميعًا، ومشرق الألطاف الرّحمانيّة لكلّ الموجودات، ذلك لأنّ صفات أهل الإيمان المقدّسة هي العدل والإنصاف والحلم والرّحمة والكرم ورعاية الحقوق والصّدق والأمانة والوفاء والمحبّة واللّطف والغيرة والحميّة والوداعة، بناءً على ذلك إن تنزّهت نفس في الحقيقة وتقدّست لتشبّثت بالوسائل الّتي من شأنها اجتذاب قلوب الأمم بأسرها، ولتحلّت بصفات الحقّ الّتي تهدي جميع العالم إلى الصّراط المستقيم، وتسقيه من كوثر الحياة الأبديّة، وأمّا نحن نغضّ الطّرف عن جميع الأمور المستحسنة ونفتدي بسعادة النّاس الأبديّة في سبيل منافعنا الوقتيّة، ونعتبر التّعصّب والحميّة الجاهليّة وسيلة عزّتنا وسموّ أنفسنا، ولسنا قانعين بهذا فحسب بل نسعى في تكفير بعضنا بعضًا، وتحطيم بعضنا بعضًا. فإذا أردنا إظهار العلم والمعرفة والزّهد والورع وتقوى الله طفقنا نطعن هذا ونسبّ ذاك ونقول إنّ عقيدة فلان باطلة، وعمل فلان ناقص، وعبادة زيد قليلة، ودين عمرو ضعيف، وأفكار فلان مشابهة لأفكار الفرنجة، وميول فلان متجهة إلى الجاه والشّهرة الزّائفة، كما أنّ صفّ صلاة الجماعة لم يكن في ليلة البارحة مستويًا كما هو مطلوب، والاقتداء بإمام آخر غير جائز ولا لائق، وفي هذا الشّهر لم يرتحل من الأغنياء المقتدرين إلى عالم البقاء حتّى تصل هبات من خيراته ومبرّاته إلى سدّة النّبيّ، وتفتّت أساس الدّين وهدم، وانطوى بساط الإيمان واختفت أعلام الإيقان، لقد ضلّ العالم وحصل الفتور في ردّ المظالم. ثم ما بال الأيّام والشّهور والعقار والضّياع ما زالا باقيين في يد مالك العام المنصرم! لقد كان في هذه المدينة سبعون حكومة مختلفة، فما بالها في تناقص يطرّد يومًا بعد يوم حتّى لم يعد باقيًا منها إلاّ خمس وعشرون! فالأحكام المتناقضة والفتاوى المتضادّة الصّادرة من مصدر واحد كان يبلغ عددها مائتي حكم، فما بالها اليوم لا تتجاوز الخمسين حكمًا وفتوى؟ كانت الجموع الغفيرة من عباد الله في حيرة من أمرهم لدى المحاكم، فما بالهم الآن في أمن وراحة بال؟ كان المدّعي يغلب يومًا المدّعى عليه ثم يغلب المدّعى عليه المدّعي يومًا آخر، وأمّا الآن ترك النّاس هذا المسلك المستقيم أيضًا، ما ديانة الكفر هذه وما ضلال الشّرك ذاك؟ فواويلاه واشريعتاه واديناه وامصيبتاه. يا أيّها الإخوان المؤمنون إنّ الزّمان هو الزّمان الآخر ويوم القيامة قريب.
قصارى القول إنّهم بهذه الكلمات وأمثالها يبلبلون خواطر النّاس البؤساء، ويوقعون الاضطراب في قلوب العاجزين المساكين الّذين لا علم لهم بحقائق الأمور ولا بأساس هذه الأقوال، وإنّهم لا يعلمون أنّ مائة ألف غرض نفسانيّ قد استتر تحت نقاب هذه الأقوال المتّسمة بالتّعصّب الصّادرة من بعضهم، بناءً عليه يحسبون أنّ القائل قد حفّزته الغيرة الدّينيّة وخشية الله، على حين أنّ القائل يصرخ ويئنّ لأنّه يرى في عمران النّاس خرابًا له، ويشاهد في إبصار الآخرين عماه، ولكن لا بدّ من وجود العين البصيرة حتّى تدرك أنّ هذه القلوب لو كانت مظاهر خشية الله حقًّا لكان عطّر عبيرها الزّكيّ المسكيّ أرواح العالمين ولا يمكن تصديق أمر من الأمور في العالم بمجرّد القول به:
ورنه اين جغدان دغل افروختند بانگ بازان سفيد آموختند
بانگ هدهد گر بياموزد قطا راز هدهد كو وپيغام سبا
وأمّا العلماء الرّبّانيّون الّذين استنبطوا المعاني والمعارف والحكم اللاّنهائيّة من كتاب الوحي الإلهيّ، وكانت قلوبهم المنيرة مهبط الإلهام الغيبيّ الرّبانيّ، فإنّهم بلا ريب يلتمسون بكمال الجدّ والجهد تفوّق ملّة الحقّ البيضاء على جميع الملل في كلّ المراتب، وهم ساعون ومجاهدون بتمام الهمّة في سبيل التّشبّث بكلّ وسائل الرّقيّ، فإن ظلّت نفس غافلة عن هذه المقاصد الحسنة لم تكن قطّ مقبولة لدى الله الفرد الأحد فحسب بل هي في منتهى النّقص تبدو بهيئة كاملة، وفي غاية الفقر تنطق بكلمة الغنى.
گر ضريري لَمتُر است وتيز خشم گوشت پاره اش دان كه اورا نيست چشم
از مقلّد تا محقّق فرقهاست كين چه داوداست وآن ديگر صداست
إنّ العلم والعرفان والطّهر والزّهد والورع والشّهامة لم يكن بالهيئة واللّباس، ولقد سمعت في أيّام السياحة من رجل عظيم كلمة مباركة لم يزل طعمها الحلو ماثلاً في مذاقي إلى الآن، وهي «ليس كلّ عمامة دليلاً على الزّهد والعلم وليس كلّ قلنسوة علّة الجهل والفسق، فكم من قلنسوة رفعت علم العلم، وكم من عمامة مزّقت حكم الشّرع.»
وأمّا الكلمة الثّالثة من هذه الكلمات المقدّسة فكانت قوله: «مخالفًا لهواه». ما أشمل هذه العبارة للمعاني الجليلة، إنّها لمن جوامع الكلم ومن السّهل الممتنع، إنّها لأسّ أساس الأخلاق الإنسانيّة الممدوحة، إنّ هذه الكلمة شمع العالم والبنيان الأعظم لأخلاق البشر الرّوحانيّة النّورانيّة، وهي معدّلة لكلّ الأخلاق وسبب الاعتدال لشيم الإنسان المرضيّة جميعًا، ذلك لأنّ هوى النّفس نار تحرق آلاف القناطير الّتي حصدها الحكماء العلماء، ولم يستطع بحر علومهم وفنونهم أن يطفئ هذه النّار المشتعلة، وكم اتّفق أن تزيّن أحد النّاس بكلّ هذه الصّفات الحسنة الإنسانيّة، وتطرّز بطراز العرفان، غير أنّ اتّباع الهوى أخرج شيمه المرضيّة عن حدّ الاعتدال، وألقى به في ورطة الإفراط، وحوّل النّيّة الخالصة إلى النّيّة الفاسدة، كما أنّ هذه الأخلاق لم تظهر في مواضعها المناسبة اللاّئقة بل تحوّل بقوّة الأهواء عن المسلك المستقيم النّافع إلى المنهج الضّار غير الصّحيح، نعم إنّ الأخلاق الحسنة من أعظم الأمور عند الله قبولاً وأشدّها امتداحًا لدى المقرّبين وأولي الألباب، ولكن شريطة أن يكون مركز سنوحها العقل والعلم، ونقطة استنادها الاعتدال الحقيقيّ، ولو أنّا بيّنا حقائق هذه الأمور كما هي حقّه لطال بنا القول وضاع الموضوع والمحمول.
مجمل القول لقد هلكت كلّ طوائف أوروبّا في بحر الهوى الهائل هذا واستغرقت فيه رغم بلوغها كلّ هذا التّمدّن والصّيت، ولذلك باتت كلّ قضاياها الحضاريّة دون جدوى، فلا يستغرب بعض النّاس من هذه الكلمة أو ينفر منها، لأنّ المقصد الأصليّ من بسط القوانين العظمى، والمطلب الكلّيّ لوضع أصول التّمدّن القويمة وأساسه المتين هو السّعادة البشريّة، وما السّعادة البشريّة إلاّ في التّقرّب إلى الله، والعمل من أجل راحة عموم بني الإنسان واطمئنانهم من أعلاهم حتّى أدناهم. ووسائل هذين المقصدين العظيمين هي الأخلاق الإنسانيّة الحسنة، فالتّمدّن الصّوريّ من دون التّمدّن الخلقيّ هو أضغاث أحلام، كما يعدّ الصّفاء الظّاهر من دون الكمال الباطن «كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء». ذلك لأنّ النّتيجة المتوخّاة -وهي رضاء الباري وراحة النّاس واطمئنانهم- لم تتمّ من هذا التّمدّن الظّاهر الصّوري. وأمّا أهل أوروبّا فلم يرتقوا في معارج التّمدّن الخلقيّ العالية كما هو واضح بيّن من أفكار مللها وأحوالها العامّة. تأمّلوا مثلاً كيف أنّ أعظم آمال دولها وأممها اليوم هو تغلّب بعضها على بعض، والسّعي في إضعاف بعضها البعض، وهي رغم كراهيّتها القصوى الباطنة، تتظاهر بأقصى درجة من الألفة والمحبّة والاتّحاد، ويؤيّد هذا ما اشتهر عن ذلك الملك المحبّ للسّلام والأمن ومرّوجهما والّذي يبذل جهدًا حثيثًا في جمع الذّخائر الحربيّة وازدياد القوّة العسكريّة أكثر ممّا بصدده الملوك الّذين يحبذّون الحرب، ومردّ هذا أنّه برأيهم لا يمكن حصول السّلم والوفاق إلاّ عن طريق القوّة الشّديدة، فتذرّعوا بذلك على الظّاهر لكي ينهمكوا ليل نهار وبكلّ ما في وسعهم من قوّة وجهد لجمع الآلات الحربيّة، وإنّ الأهلين المساكين عليهم أن ينفقوا في هذا السّبيل جلّ ما اكتسبوه بعرق الجبين، فكم من أقوام يتجاوز عددهم الألوف تركوا صنائعهم النّافعة واشتغلوا ليلاً ونهارًا بكمال الهمّة في اختراع آلة مضرّة جديدة تكون أقوى مما سبقها تؤدّي إلى سفك دماء أبناء الجنس البشريّ، وطفقوا يصنعون كلّ يوم آلة حارقة حديثة ممّا تدفع بالدّول إلى ترك الآلات الحربيّة القديمة والسّعي في الحصول على الآلات الجديدة، ذلك لأنّ الآلات الحربيّة القديمة لا تقاوم الآلات الحربيّة الحديثة، وفي هذا العام الّذي هو عام ألف ومائتين واثنين وتسعين للهجرة، فقد صنعوا في بلاد الألمان بندقيّة جديدة، واخترعوا في بلاد النّمسا مدفعًا نحاسيًّا جديدًا أشدّ قوّة من بندقيّة هنري مارتي ومدفع كروب، وأقوى على هدم البنيان الإنسانيّ وأسرع تأثيرًا، فيجب على الرّعايا البؤساء أن يتحمّلوا هذه النّفقات الباهظة.
أنصفوا الآن، أهذا التّمدّن الصّوريّ بدون التّمدّن الخلقيّ الحقيقيّ سبب راحة النّاس واطمئنانهم ووسيلة اجتذاب مرضاة الله أم إنّه مخرّب لبنيان الإنسانيّة ومدمّر لأركان الطّمأنينة والسّعادة؟
وفي سنة ألف وثمانمائة وسبعين للميلاد حين دارت رحى الحرب بين ألمانيا وفرنسا قتل ستّمائة ألف رجل -كما قيل- في ميدان الهجوم والدّفاع ميئوسين مقهورين، وكم من أسر هدمت من أساسها، وكم من مدن أمست عامرة كلّ العمران وفي الصّباح غدا عاليها سافلها، وكم من طفل صغير بات يتيمًا بلا عائل ولا ملاذ، وكم من أب شيخ وأمّ عجوز رأوا ثمرات حياتهم من شبّان أحداث موتى يهال عليهم التّراب مضرّجين في دمائهم، وكم من نساء بِتْنَ بلا رجال ولا معين، وكذلك كانت الحال في إحراق دور الكتب وبعض أبنية فرنسا العظيمة، وقصف المستشفيات العسكريّة بمن فيها من الجنود الجرحى والمرضى، ووقائع طائفة الكومون وأفاعيلهم المروّعة والحوادث المدهشة الّتي وقعت إثر تحزّب الجمعيات المتضادّة المتقاتلة واختلافاتها في باريس، والمنازعة والعدوان بين رؤساء الكاثوليك وحكومة ألمانيا وظهور الفتن والمفاسد وتدمير البلاد والأوطان، والمذابح بين حزبيّ الجمهوريّة وحزب دون كارلوس في أسبانيا، وقصارى القول إنّ أمثال هذه الحوادث الّتي تدلّ على فقدان الحضارة الخلقيّة في طوائف أوروبّا كثيرة. ولمّا لم يكن مقصدي الانتقاص من أمر جهة من الجهات فقد اختصرت بكلمات قلائل.
ولقد اتّضح الآن أنّ العاقل البصير والعارف الخبير لا يصدّق أمثال هذه الأمور، إذ كيف يتسنّى لهذه الطّوائف والقبائل الّتي خالفت شيم العالم الإنسانيّ الحسنة، فحدثت بينها هذه الحوادث المروّعة أن تدّعي لنفسها التّمدّن الحقيقيّ الكامل، خاصّة وأنّ النّتيجة المأمولة من هذه الأمور لا تتعدّى التّغلّب الوقتيّ والتّسلّط الآنيّ، ولمّا كانت هذه النّتيجة لا بقاء لها ولا دوام، فإنّها غير جديرة بالاهتمام والحرص من قِبَل أولي الألباب.
وكم غلبت ألمانيا فرنسا مرارًا وتكرارًا في القرون السّالفة، وكم حكمت فرنسا بلاد الألمان فهل يجوز اليوم أن يذهب ستّمائة ألف عبد مسكين من عباد الله ضحيّة لهذه المنافع الوقتيّة الصّوريّة؟ لا والله. إنّ الأطفال ليدركون ضرر أمثال هذه الأمور غير أنّ الانصياع للهوى يقيم بين القلب والبصيرة مائة ألف حجاب فيعمي البصر والبصيرة معًا؛
ﭼﻭﻥ ﻏﺭﺽ آمد ﻫﻨﺭ پوشيده شد صد حجاب از دل بسوى ديده شد
نعم إنّ التّمدّن الحقيقيّ لينشر أعلامه في قطب العالم عندما يتقدّم ذوو الهمّة العالية من أعاظم الملوك الّذين هم مشرقون كالشّمس في عالم الغيرة والحميّة، ويعملون بالعزم الأكيد والرّأي السّديد على خير البشر وسعادته، فيطرحون مسألة السّلام العام في مجال المشورة، ويتشبّثون بجميع الوسائل والوسائط ويعقدون مؤتمرًا عالميًا، ويبرمون معاهدة قويّة، ويؤسّسون ميثاقًا بشروط محكمة ثابتة فيعلنونها، ثمّ يؤكّدونها بالاتّفاق مع الهيئة البشريّة بأسرها، فيعتبر كلّ سكّان الأرض هذا الأمر الأتمّ الأقوم الّذي هو في الحقيقة سبب اطمئنان الخليقة أمرًا مقدّسًا، ويهتمّ جميع قوى العالم لثبات هذا العهد الأعظم وبقائه، ثم تعيّن حدود كلّ دولة وتحدّد ثغورها في هذه المعاهدة العامّة، ويعلن بوضوح عن مسلك كلّ حكومة ونهجها، وتتقرّر جميع المعاهدات والاتّفاقات الدّوليّة وتتحدّد الرّوابط والضّوابط بين هيئة الحكومة البشريّة. وكذلك يجب أن تكون الطّاقة الحربيّة لكلّ حكومة معلومة ومحدّدة، ذلك لأنّه إذا ازدادت الاستعدادات الحربيّة والقوى العسكريّة لدى إحدى الدّول، كان ذلك سببًا لتخوّف الدّول الأخرى. وقصارى القول يجب أن يبنى هذا العهد القويم على أساس إنّه إذا أخلّت دولة ما بشرط من الشّروط من بعد إبرامه قامت كلّ دول العالم على اضمحلالها، بل هبّت الهيئة البشريّة جميعًا لتدميرها بكلّ قوّتها.
فإن فاز جسم العالَم المريض بهذا الدّواء الأعظم لاكتسب بلا ريب الاعتدال الكامل ونال شفاءً دائمًا. فلاحظوا أنّه لو تيسّرت هذه النّعمة للعالم لما احتاجت أيّة حكومة إلى تهيئة المهمّات الحربيّة، ولما اضطرّت إلى اصطناع الآلات الحربيّة الجديدة لقهر الجنس البشري، بل لاحتاجت فقط إلى عسكر قليل يكون سبب أمن المملكة وتأديب أهل الفساد والشّغب وقمع الفتن الدّاخليّة. وبهذا يستريح الأهلون من عباد الله من تحمّل أعباء نفقات الدّول الحربيّة الباهظة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنّ الكثير من النّاس لا يقضون أوقاتهم دائمًا في اصطناع الآلات المضرّة الّتي تدلّ على الوحشيّة والتّعطّش للدماء، وتنافي موهبة العالم الإنسانيّ الكلّيّة، بل يسعون في تحصيل ما فيه راحة العالمين وحياتهم، ويكونون بذلك سبب فلاح البشريّة ونجاحها، وتستقرّ جميع دول العالم على سرير الملك بكمال العزّة، وتخلد القبائل عامّة والأمم كافّة إلى الرّاحة في مهاد الطّمأنينة.
ويعتبر بعض من لا علم لهم بعلوّ همّة الإنسان أنّ هذا الأمر في غاية التّعقيد والإشكال بل من ضروب المحال، وليس الأمر كذلك، فما من أمر في الوجود مستحيل تحقيقه بفضل الله وعناية مقرّبي عتبته وهمّة الأنفس الكاملة الماهرة الفريدة وأفكارهم الفذّة وآرائهم السّديدة، فالهمّة الهمّة! والغيرة الغيرة! فكم من أمر كان في الأزمنة السّابقة يعتبر من قبيل الممتنعات حيث أن العقول لم تكن تتصوّر وقوعه قطّ، أمّا اليوم فقد أصبح كما نرى سهلا متيسّرا، وكيف إذًا يمكننا أن نفترض استحالة هذا الأمر الأعظم الأقوم الّذي هو في الحقيقة شمس عالم المدنيّة النّوراء، وسبب الفوز والفلاح والرّاحة والنّجاح؟ فلا بدّ من أن يتجلّى شاهد هذه السّعادة في مجمع العالم آخر الأمر، ذلك لان الآلات والأدوات الحربيّة ستبلغ مبلغًا يجعل الحرب فوق طاقة الهيئة البشريّة.
لقد ثبت من هذه التّفاصيل المشروحة الآنفة الذّكر أنّ شرف الإنسان ونبله ليسا في سفك الدّماء والافتراس وتدمير المدن والممالك الأجنبيّة، وتتبير وإبادة الجيوش والأهالي، بل إنّ سبب سعد الإنسان ويمن طالعه هو الاشتهار بمراعاة العدل، وتفقّد حال جميع الرّعايا من أعلاهم إلى أدناهم، وتعمير الممالك والمدن والقرى ومضافاتها وترفيه عباد الله وترويحهم، ووضع أساس قواعد رقيّ الجمهور وازدهار أحوالهم، وازدياد الثّروة العامّة وغناها.
انظروا في العالم كم من ملوك فاتحين استووا على عرش الاستيلاء في البلدان ومن بينهم هولاكو خان والأمير تيمور ﮔﻭركان اللّذان وضعا اليد على قارّة آسيا العظمى، والإسكندر الرّوميّ (المقدونيّ) ونابليون الأوّل اللّذان تطاولت يد استيلائهما على ثلاث قارات من قارات العالم الخمس، ماذا كانت ثمرة هذه الفتوحات الجسيمة؟هل ازدهرت مملكة وهل تحقّقت سعادة مشهودة؟ هل استقرّت بسببها سلطنة، أم أصبحت باعثة لانقراض الحكم عن تلك الأسرة؟ فلم تظهر ثمرة ما من الفتوحات الّتي قام بها هولاكو بن ﭼﻨﮔيز المغوار إلاّ أن صارت قارّة آسيا كتل الرّماد من نيران الحروب الطّاحنة. ولم يفز تيمور من تسلّطه على البلاد بشيء سوى تشتيت شمل العالم وتخريب بنيان بني آدم. أمّا الإسكندر الرّوميّ فلم يفد من فتوحاته العظيمة سوى سقوط ابنه عن سرير الملك وتغلّب فلسقوس وبطليموس على كلّ ممالكه. وأمّا نابليون الأوّل فلم يجْنِ من ظفره بملوك أوروبّا إلاّ تخريب الممالك المعمورة، وتدمير النّفوس عامّة وهيمنة التّزلزل والاضطراب الشّديد على قارّة أوروبّا، ثم وقوعه هو نفسه أسيرًا في أواخر أيّامه.
تلك هي آثار الملوك الفاتحين، ولكن تأمّلوا قليلاً في فضائل الملك العادل انوشروان الباذل وفضائله وخصاله الحميدة وعظمته وجلال شأنه. فقد استقرّ هذا السّيد العادل على سرير الملك في زمان اختلّ فيه بنيان سلطنة إيران القويّ الأركان وطرأ عليه الوهن من كلّ جانب، فأسّس بموهبة العقل أساس العدل والإنصاف، وقلع بنيان الظّلم والاعتساف، وجمع أهل إيران المضطربين تحت ظلّ جناح سلطنته، وفي مدّة قليلة انتعشت بلاد إيران الذّاوية الخربة بأثر عناياته المحيية للأرواح حتّى أضحت أعظم ممالك المعمورة المسكونة شأنًا، واستعادت الحكومة قواها وزادتها من بعد اضمحلالها، وطبّق صيت عدله وإنصافه آفاق الأقاليم السّبعة، وارتقى الأهلون من حضيض الذّلّة والمسكنة إلى أوج العزّة والسّعادة. وبالرّغم من أنّه كان من ملّة المجوس إلاّ أنّ صدر الخليقة وشمس سماء النّبوة الحقيقيّة قال في حقّه: «إنّي ولدت في زمن ملك عادل» وأبدى السّرور لولادته في عهده، فهل فاز هذا الملك العظيم بهذا المقام السّامي الرّفيع بالسّيرة المرضيّة أم بالفتوح وسفك الدّماء؟ تأمّلوا كيف نال هذا الشّأن فافتخر في قطب الكون وتباهى به حيث عمّ صيت عظمته وخلّد في العالم الفاني، وفاز بالحياة الأبديّة ولو أنّنا أخذنا في بيان سيرة العظماء الخالدة لطال بنا هذا الكتاب المختصر، ولمّا لم يكن واضحًا وجليًّا أن يتمّ تأثير الفوائد الكلّيّة في أفكار أهل إيران العامّة من قراءتهم لهذا الكتاب، فإنّنا نختصر القول ونقتصر على ذكر بعض المسائل القريبة إلى عقول النّاس، ولكن إذا أدّى هذا الكتاب المختصر إلى النّتائج الحسنة فإنّي، إن شاء الله، سوف أحرّر بعدئذ بعض الكتب المفيدة مفصّلاً القول فيها في أساس الحكم الإلهيّة في العوالم الملكيّة.
إذًا فسطوة جنود العدل القاهرة في عالم الوجود لا تعادلها أعظم قوى العالم، ولا تقاومها أبنية الحصون الحصينة المرصوصة، ذلك لان كلّ البرايا تستسلم لفتوحات هذا السّيف القاطع طوعًا ورضاءً، وتنال خرائب العالم بهجوم هذا الجند العمران والحضارة في أعلى درجاتهما. وهناك رايتان عظيمتان إذا ورفت ظلالهما على تاج كلّ ملك كانتا لحكومته بمثابة النّيّر الأعظم ونفذت أنوار حكومته السّاطعة في أركان العالم بسهولة تامّة، أمّا الرّاية الأولى فهي العقل، وأمّا الثّانية فهي العدل. فلا يمكن لأيّة قوّة أن تقاوم هاتين القوّتين العظيمتين حتّى لو كانت جبلاً من الحديد أو سدّ الإسكندر. ومن الواضح البديهيّ أنّ حياة هذا العالم الفاني عابرة لا ثبات لها كنسائم الصّبح، فإذا كان الأمر كذلك فطوبى لعظيم خلَّد ذكره بصيت ممدوح وذكر طيّب في سبيل رضاء الباري.
والنّفس إن همَّت إلى نحو المسير ففيه سيّانٌ تراب وسرير
نعم إنّ الفتوح والاستيلاء على البلاد ممدوح بل ربما كانت الحرب في بعض الأحيان هي بنيان الصّلح الأعظم والتّدمير سبب التّعمير، فمثلاً لو حشد ملك عظيم جنده ضد باغ طاغ أو إذا أطلق عنان همّته في ميدان الجلادة والشّجاعة ابتغاء جمع شمل الأمّة والبلاد المشتّتة، وبالتّالي كانت حربه مبنيّة على النّيّات الصّالحة كان ظفره هذا هو اللّطف بعينه، وكان ظلمه هذا هو العدل بجوهره، وكانت هذه الحرب هي بنيان الصّلح والوئام. وما أجدر بالملوك القادرين اليوم تأسيس السّلم العام لأنّ في ذلك حقًّا حريّة للعالمين.
أمّا الكلمة الرّابعة في تلك الرّواية الباهرة الهداية فكانت «مطيعًا لأمر مولاه». من المعلوم والواضح أنّ أعظم مناقب العالم الإنسانيّ إطاعة الله، فما شرفه وعزّته إلاّ في اتّباع أوامر الله الأحد والانتهاء عن نواهيه، وما نورانيّة الوجود إلاّ في التّديّن، وما رقيّ الخلق وفوزهم وسعادتهم إلاّ في اتّباع أحكام الكتب الإلهيّة المقدّسة. فلو تأمّلتم لتبيّن أنّه ليس في عالم الوجود -ظاهرًا كان أم باطنًا- أساس أعظم متانة ورصانة وبنيان قويم أكثر رزانة من الدّيانة الّتي هي محيطة بالوجود، وكافلة للكمالات المعنويّة الإلهيّة والصّوريّة، وضابطة لسعادة الحياة البشريّة ومدنيّتها بصورة عامّة. ولئن كان بعض البلهاء الّذين لم يتدبّروا أساس الأديان الإلهيّة ولم يتعمّقوا فيها، واتّخذوا من مسلك بعض دعاة التّديّن الكذبة ميزانًا يزنون به كلّ المتديّنين، لذا ظنّوا أنّ الأديان عائق يحول دون رقيّ النّاس بل عدّوها سبب النّزاع والجدال وعلّة البغض والعداوة التّامة بين أقوام البشر. فإنّهم لم يلاحظوا أنّ أساس الأديان الإلهيّة لا يمكن إدراكه من أعمال دعاة التّديّن، ذلك لأنّ كلّ خير ممّا لا يمكن تصوّر وجود مثله في الوجود عرضة للاستغلال، مثله كمثل السّراج النّورانيّ، وإن وقع في أيدي جهلاء الصّبيان أو العميان، فإنّه لا ينير لهم المنزل ولا يزيل الظّلمة المستولية عليهم، بل يحرقهم ومنزلهم جميعًا. فهل يمكن إذًا أن يقال إنّ السّراج مذموم؟ لا والله! بل إنّ السّراج هادي السّبيل، وواهب النّور لكلّ بصير، غير أنّه للأعمى آفة عظيمة.
كان من بين من أنكروا الدّين رجل من أهل فرنسا يدعى فولتير، ألّف في ردّ الأديان كتبًا عديدة لا تستحقّ محتوياتها إلاّ أن تكون ملعبة الصّبيان البلهاء. فهذا الرّجل اتّخذ من مسلك البابا رئيس المذهب الكاثوليكيّ وتصرّفاته ومن فِتَن رؤساء ملّة المسيح الرّوحيّين وفسادهم ميزانًا له، ثم بسط قوله معترضًا على روح الله ولم يلتفت بعقله السّقيم إلى المعاني الحقيقيّة للكتب الإلهيّة المقدّسة، فأورد الشّبهات على بعض محتويات الكتب السّماويّة المنزلة. «وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلاَّ خسارًا».
خوش بيان كرد آن حكيم غزنوي بهر محجوبان مثال معنوي
كه ز قرآن گر نبيند غير قال اين عجب نبود ز اصحاب ضلال
كز شعاع آفتاب ﭘر زنور غير ﮔرمى مى نيابد چشم كور
«يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين». ومن المعلوم الواضح أنّ المحبّة والألفة والاتّحاد التّامّ بين أفراد نوع الإنسان أعظم وسائط فوز العباد وفلاحهم، وأكبر وسائل تمدّن من في البلاد ونجاحهم. ولا يمكن لأحد أن يتصوّر حدوث أمر من الأمور في العالم أو تيسّره من غير الاتّحاد والاتّفاق، والدّين الإلهيّ الحقيقيّ هو أكمل وسيلة من وسائل الألفة والاتّحاد في العالم. «لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألّف بينهم.»
فترى في بعثة أنبياء الله أن قوّة الاتّحاد الحقيقيّ الباطنيّ والظّاهريّ جمعت كلّ القبائل المتضادّة والطّوائف المتقاتلة في ظلّ الكلمة الواحدة، بحيث أصبحت مئات ألوف الأرواح في حكم روح واحدة، وآلاف الأنفس في صورة فرد واحد.
بر مثال موجها اعدادشان در عدد آورده باشد بادشان
چونکه حقّ رَشّ عليهم نوره مفترق هر گز نگردد نور هو
جان گرگان و سگان از هم جداست متّحد جانهای شيران خداست
ولم تذكر تفاصيل ما حدث في أيّام بعثة أنبياء السّلف عليهم السّلام، ولم تفصّل أحوالهم وآثارهم كما هو حقّه في كتب التّاريخ المهمّة، غير أنّها وردت بالإجمال في آيات القرآن والحديث والتّوراة. ولكن لمّا كانت جميع الأمور منذ أيّام موسى إلى اليوم مندرجة في القرآن العظيم والأحاديث الصّحيحة والتّوراة والتّواريخ المهمّة، لذا اختصر القول فيها حتّى يتّضح لجميع النّاس بالبراهين المتقنة، هل الدّين هو الأساس الجوهريّ للإنسانيّة والمدنيّة في العالم أم أنّه مخرب لبنيان رقيّ الجامعة البشريّة وراحتها واطمئنانها كما زعم فولتير وأمثاله؟ ولئلاّ يبقى مجال إنكار لدى أيّ طائفة من طوائف العالم، لذا أبني القول بحيث يطابق التّواريخ الصّحيحة لدين جميع الملل ويكون مقبولاً لدى كلّ أهل العالم.
حينما ازداد عدد بني إسرائيل في بلاد مصر نتيجة التّوالد والتّناسل، وانتشروا في جميع تلك البلاد، قام ملوك فراعنة مصر الأقباط يعزّزون جانب قومهم، ويمدّونهم بالقوّة ويحقّرون ويذلّون الأسباط الّذين كانوا يعدّونهم غرباء. وظلّ بنو إسرائيل مشتّتين متفرّقين مدّة طويلة تحت أيدي الأقباط الظّالمين وجورهم، وظلّوا سفلة محتقرين في أعين النّاس جميعًا، حتّى كان أحقر قبطيّ يؤذي أعزّ سبطيّ ويجافيه، وظلّ الأمر كذلك حتّى بلغ الذّل والظّلم غايتهما. ولم يكن بنو إسرائيل يأمنون على أرواحهم ليلاً أو نهارًا ولم يكن لأطفالهم أو لعيالهم من ملجأ أو ملاذ من ظلم فرعون وعمّاله، وكأنهم يطعمون دماء قلوبهم المفتّتة ويشربون عبراتهم الجارية كالأنهار وذلك من فرط المصائب والآلام. وظلّ بنو إسرائيل يعيشون في تلك الحال الأليمة حتّى شاهد الجمال الموسويّ بغتة أشعّة نار الأحديّة من شطر الوادي الأيمن بالبقعة المباركة، واستمع إلى النّداء الإلهيّ المحيي للأرواح من النّار الرّبانيّة الموقدة في شجرة «لا شرقيّة ولا غربيّة»، وبعثه الله بالنّبوّة الكلّيّة. ولمع نور هدايته كالسّراج في مجمع الأسباط، ودلّ بنور إرشاده التّائهين في ظلمات الجهل إلى سبيل العلم والكمال المستقيم، وجمع فرق أسباط إسرائيل المختلفين في ظلّ كلمة التّوحيد الواحدة الجامعة، فرفعوا علم الوحدة الكاملة على تلال الاتّفاق والاتّحاد، وفي مدّة قليلة تربّت هذه النّفوس الجاهلة بالتّربية الإلهيّة، وآمنوا بوحدانيّة الله من بعد ضلالهم، وتخلّصوا من الحقارة والذّلّة والمسكنة والأسر والجهالة، وفازوا بأقصى درجات العزّة والسّعادة. ثم رحلوا بعد ذلك من مصر وتوجهوا إلى موطن إسرائيل الأوّل، ووردوا أرض كنعان وفلسطين، وفتحوا سواحل نهر الأردن وأريحا أوّل الأمر، وسكنوا تلك البلاد، ثم سكنوا آخر الأمر جميع البلاد المجاورة من فينيقية وأدوم وعامون، وقصارى القول إنّ الممالك الّتي انبسط عليها سلطان بني إسرائيل بلغت في زمان يوشع إحدى وثلاثين مملكة، وتفوّقت هذه الطّائفة في جميع الشّؤون والصّفات والفضائل الإنسانيّة من علم ومعرفة وثبات وهمّة وجلد وشجاعة وعزّة وسخاء على كلّ قبائل العالم وشعوبه. فكان الإسرائيليّ في ذلك العصر إذا دخل مجمعًا امتاز بجميع الشّيم المرضيّة بحيث لو أرادت القبائل السّائرة أن تمدح نفسًا كانت تنسبه إلى بني إسرائيل.
ولقد ورد في كتب التّواريخ المتعدّدة أنّ فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورث اقتبسوا أكثر مسائل الحكمة الإلهيّة والطّبيعيّة من تلاميذ سليمان، والتقى سقراط في سياحته مع بعض علماء بني إسرائيل الرّبانيين الأجلاء، وعند عودته إلى اليونان أسّس الاعتقاد بالوحدانيّة الإلهيّة وخلود الأرواح الإنسانيّة من بعد خلعها للباس الأجسام العنصريّة. غير أنّ جهلاء اليونان اعترضوا على هذا الواقف على أسرار الحكمة، وتآمروا على قتله ودفع الأهلون بملك اليونان لذلك إلى أن جرّعوا سقراط كأس السّمّ في مجلسهم.
وخلاصة القول إنّ بني إسرائيل أخذوا ينسون أسّ أساس الدّيانة الموسويّة وشريعتها قليلاً قليلاً بعد أن ارتقوا في جميع نواحي التّمدّن، وفازوا بأقصى درجة السّعادة، فالتهوا بالعادات والرّسوم والأحوال غير المرضيّة. ووقع بين بني إسرائيل في زمن رحبعام بن سليمان اختلاف عظيم، فطغى على الحكم ياربعام الّذي كان من أفراد الشّعب الإسرائيليّ، وأسّس عبادة الأصنام، ووقعت الحروب بين رحبعام وياربعام وسلالتهما قرونًا عدّة وتفرّقت قبائل اليهود واختلفت. وبالاختصار إنّهم لمّا نسوا معنى شريعة الله واتّسموا بالتّعصّب الجاهليّ واتّصفوا بصفات غير مرضيّة كالبغي والطّغيان، وغضّ علماؤهم الطّرف عن مستلزمات الإنسانيّة الحقيقيّة الواردة في الكتاب المقدّس، وانهمكوا في الاشتغال بمنافعهم الذّاتيّة، وابتلوا الأمة بأقصى غايات الغفلة والجهالة، تبدّلت تلك العزّة الباقية بأسفل دركات الذّلّة، وتسلّط عليهم ملوك الفرس واليونان والرّومان. ونكست راية استقلالهم، وأدّت جهالة رؤسائهم وغفلة أحبارهم ونكبتهما وأنانيّتهما إلى ظهور بختنصّر ملك بابل الّذي هدم بنيان بني إسرائيل هدمًا تامًّا، وكلّ ذلك كان نتيجة لأعمالهم. وبعد القتل العامّ والغارة وهدم البيوت وقلع الأشجار أسر من نجا من ضرب سيفه وحملهم إلى بابل، وبعد سبعين سنة أذن لأولاد الأسرى أن يرجعوا إلى بيت المقدس، وأعاد حزقيا وعزير عليهما السّلام تأسيس أساس الكتاب المقدّس من جديد، فأخذت ملّة بني إسرائيل تتقدّم يومًا فيومًا حتّى لاح صبح العصور الأولى من جديد. غير أنّ الخلاف عاد يدبّ في أحوالهم وأفكارهم بعد مدّة قليلة، واتّجهت همم علماء اليهود إلى أهوائهم النّفسيّة، وتبدّلت الأحوال من الإصلاحات الّتي جرت في أيّام عزير عليه السّلام إلى الفساد في المسلك والأخلاق، وبلغ بهم الأمر إلى أن غلب عليهم جند الملوك وجمهوريّة الرّومان مرارًا وتكرارًا والى أن دكّ طيطوس البطل -وكان زعيم الرّومان- وطن بني إسرائيل دكًّا، وقتل جميع الرّجال وأسر النّساء والأولاد وهدم البيوت وقطع الأشجار وحرق الكتب ونهب الأموال، وجعل بيت المقدس تلاًّ من الرّماد. وتوارى نجم حكومة بني إسرائيل بعد هذه المصيبة الكبرى في مغرب العدم، وظلّت هذه الملّة على هذا النّحو إلى اليوم متشتّتة الشّمل في أطراف العالم «وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة». وقد ذكرت هاتان المصيبتان العظيمتان، أي مصيبة بختنصّر وطيطوس في القرآن المجيد، حيث قال «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد. فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً» إلى أن قال «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبرّوا ما عملوا تتبيرًا.»
فالمقصود مما شرح آنفًا هو تبيان كيف أنّ الدّين الحقيقيّ يصبح سببًا لتمدّن الطّوائف الذّليلة الأسيرة الحقيرة الجاهلة وسعادتها وعلوّ منزلتها وزيادة معارفها وتقدّمها وعزّتها، وكيف أنّه عندما يقع بيد العلماء الجهلاء المتعصّبين تتحوّل هذه النّورانيّة العظمى إثر سوء الاستعمال إلى الظّلمة الدّهماء.
فلما بانت مرّة أخرى علائم تشتّت طائفة بني إسرائيل وذلّتها وانعدامها وباتت مقهورة، فاحت نفحات روح الله الطّيبة القدسيّة على شواطئ نهر الأردنّ وإقليم الجليل، وارتفع غمام الرّحمة وهطلت على هذه الدّيار أمطار الرّوحانيّة الكبرى، وتعطّرت برّيّة القدس من رشحات البحر الأعظم وطفحاته برياحين معرفة الله، وارتفعت جوامع ألحان الإنجيل الجليل إلى مسامع أهل صوامع الملكوت، وقامت النّفوس الميتة من قبر الغفلة والجهالة بنفس المسيح، وفازوا بالحياة الأبديّة، ونهض ذلك النّيّر السّاطع من أوج الكمال ليتنقّل في صحاري فلسطين وبراري أورشليم مدّة ثلاث سنوات، ويهدي فيها النّاس جميعًا إلى صبح الهداية، ويربّيهم بالأخلاق الرّوحانيّة والصّفات المرضيّة، وإذا كان بنو إسرائيل قد أقبلوا على ذلك الجمال النّورانيّ وشدّوا إزار الخدمة في طاعته لنالوا روحًا جديدة، وفتح لهم فتحًا مبينًا. ولكن ما الجدوى وقد أعرضوا جميعًا وقاموا على إيذاء معدن العلم اللّدنّيّ ومهبط الوحي الإلهيّ إلاّ نفرًا قليلاً تقدّسوا عن شؤون العالم الظّلمانيّة وعرّجوا متوجّهين إلى الله من المكان الفاني إلى اللاّمكان الباقي.
وخلاصة القول لقد ورد من البلايا الشّديدة على مشرق الألطاف الإلهيّة هذا ما جعل إقامته واستقراره في قرية من القرى أمرًا مستحيلاً. ورغم هذا ارتفع علم الهداية الكبرى، وتأسّس تمدّن الأخلاق الإنسانيّة الّذي هو أصل المدنيّة الجامعة، فهو ينصح في الأصحاح الخامس بالآية السّابعة والثّلاثين من إنجيل متّى حيث يقول: «وأمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشّر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا» وكذلك يقول في الآية الثّالثة والأربعين: «سمعتم أنّه قيل تحبّ قريبك وتبغض عدوّك، وأمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم، كي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّموات، فإنّه يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين ويمطر على الأبرار والظّالمين، لأنّه إن أحببتم الّذين يحبّونكم فأيّ أجر لكم، أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟»
وتعاليم من هذا القبيل لمطلع الحكمة الإلهيّة هذا كثيرة، والواقع أنّ الّذين اتّصفوا بهذه الصّفات المقدّسة هم جواهر الوجود ومطالع التّمدّن الحقيقيّ. وخلاصة القول إنّه أسّس الشّريعة المقدّسة على الرّوحانيّة الصّرفة والأخلاق الحسنة، وجعل للمؤمنين منهجًا ومسلكًا خاصًا يعتبر جوهرًا لحياة العالم، وبالرّغم من أنّ أولئك المهتدين ابتلوا في الظّاهر بأشدّ نقمة النّاقمين وظلم الظّالمين، إلاّ أنّهم نجوا في الحقيقة من ظلمات خذلان اليهود ولاحوا وأشرقوا في صبح الوجود بأنوار العزّة السّرمديّة، واضمحلت تلك الأمة اليهوديّة الكبيرة وانعدمت. ولكن لمّا كانت هذه الأنفس المعدودات قد استظلّوا في ظلّ الشّجرة العيسويّة المباركة فقد بدّلوا هيئة العالم بصورة عامّة، وفي ذلك الوقت كان جميع أهل أقاليم العالم في منتهى درجة التّعصّب والغفلة وحميّة الجاهليّة والشّرك بالله، ولم يكن من أحد يؤمن بوحدانيّة الله إلاّ شرذمة قليلة من اليهود الّذينهم كانوا أيضًا مخذولين ومنكوبين، ولقد قامت هذه الأنفس المباركة بترويج أمر كان مختلفًا ومناقضًا لآراء جميع الهيئة البشريّة، وقام ملوك القارّات الأربع من بين القارّات العالم الخمس على اضمحلال ملّة عيسى بأتمّ عزم، ومع ذلك نهض الكثيرون بالرّوح والفؤاد إلى ترويج الدّين الإلهيّ آخر الأمر، واجتمعت أمم أوروبّا وكثير من طوائف آسيا وأفريقيا وبعض القاطنين في جزائر البحر المحيط في ظلّ كلمة التّوحيد.
تأمّلوا الآن، أترون في الوجود كلّه أساسًا خلقاً أعظم من الدّيانة؟ وهل يتصوّر أمر محيط على العالم الوجود مثل الأديان الإلهيّة؟ أم هل هناك أمر يكون وسيلة المحبّة والألفة والاتّحاد والائتلاف التّامّ كالإيمان بالعزيز العلاّم؟ أم هل رأى أحد أساسًا لتربية النّاس في جميع مناهج الأخلاق غير الّذي جاء في الشّرائع السّماويّة؟ إنّ الصّفات الّتي كان الحكماء يتّصفون بها بعد فوزهم بمنتهى درجات الحكمة والخصال الّتي كانوا يبلغونها بعد وصولهم إلى أعلى درجات الكمال كان المؤمنون بالله ينالون تلكم الشّيم المرضيّة الإنسانيّة في بداية تصديقهم وإيمانهم.
انظروا إلى الّذين ارتشفوا سلسبيل الهداية من يد ألطاف روح الله (المسيح) واستظلّوا بظلّ الإنجيل، أيّة درجة من الأخلاق بلغوا حتّى كتب جالينوس الحكيم المشهور في مدح المؤمنين بالله –رغم أنّه لم يكن من ملّة عيسى عليه السّلام– وذلك في شرحه لجوامع كتاب أفلاطون الّذي ألّفه في سياسة المدن، قال ما ترجمته نصًّا وحرفًا:
«إنّ جمهور النّاس عاجزون عن إدراك سياق الأقوال البرهانيّة، فهم لهذا بحاجة إلى كلمات رمزيّة تشير إلى أخبار الثّواب والعقاب في دار الآخرة. والدّليل على صحّة هذا المطلب هو أنّنا اليوم نرى الّذين يسمّون بالنّصارى يعتقدون بثواب الآخرة وعقابها ويؤمنون بهما، وتصدر من هذه الطّائفة أفعال حسنة كالّتي تصدر من الفيلسوف الحقيقيّ، كما أنّنا جميعًا نراهم لا يخافون من الموت، وهم لكثرة حرصهم على العدل وشوقهم إلى الإنصاف يعدّون من الفلاسفة الحقيقيّين». وكان مقام الفيلسوف في ذلك الزّمان وفي عقيدة جالينوس مقامًا لا يمكن تصوّر مقام أعظم منه في الوجود. فانظروا كيف أنّ القوّة النّورانيّة الرّوحانيّة للأديان الإلهيّة تسمو بجمهور المتديّنين إلى درجات من الكمال تدفع حكيمًا مثل جالينوس إلى أن يشهد بهذه الشّهادة رغم أنّه لم يكن من أفراد تلك الأمّة. وكان من آثار هذه الأخلاق الحسنة أن تعلّق أهل الإنجيل في تلك الأزمنة والعصور بالخيرات والصّالحات وبنوا المستشفيات والمصحّات والمؤسّسات الخيريّة، كما أنّ أوّل شخص شيّد في ممالك الرّومان الأبنية العامّة لعلاج المساكين والجرحى الّذين لا عائل لهم كان الملك قسطنطين، وكان هذا الملك العظيم أوّل ملك من ملوك الرّومان قام لنصرة دين روح الله، وبذل في سبيل ترويج أساس الإنجيل الغالي والرّخيص، وحوّل الحكم الرّومانيّ الّذي كان قائمًا على الاعتساف المحض إلى مركز العدل والإنصاف، وصار اسمه المبارك بمثابة نجم السَّحَر الدّرّيّ ساطعًا من فجر كتب التّاريخ، وأصبح صيت عظمته في عالم المدنيّة والجاه ما تردّده ألسنة الفرق المسيحيّة جمعاء.
وخلاصة القول ما أمتن ذلك الأساس الّذي وضع للأخلاق الحسنة ببركة وجود الأنفس المقدّسة الّتي قامت بترويج تعاليم الإنجيل في العالم في ذلك الزّمان، وكم من مكتب ومدرسة ومستشفى ومعهد ومكتبة تأسّس لتربية أولاد الأيتام والفقراء، وكم من أنفس تركوا منافعهم الذّاتيّة وقضوا أعمارهم في تعليم النّاس وتربيتهم ابتغاء مرضاة الله.
ولكن عندما دنا طلوع صبح الجمال الأحمديّ النّورانيّ وقعت زمام جمهور المسيحيّين في أيدي قساوسة جهلة، فانقطعت تلك النّسائم الرّحمانيّة من مهبّ العناية انقطاعًا كلّيًّا وباتت أحكام الإنجيل الجليل الّتي كانت أساس مدنيّة العالم دون جدوى، وذلك من جرّاء سوء الاستعمال وتصرّف أولئك الّذين ازدان ظاهرهم وخبث باطنهم، حتّى أنّ جميع المؤرّخين الأوروبيّين المشهورين في بيان أحوال القرون القديمة والوسطى والجديدة وسياستها وتمدّنها ومعارفها وجميع شؤونها ذكروا أنّ ممالك أوروبّا كانت في غاية من التّوحش وفقدان المدنيّة أثناء القرون العشرة الوسطى الممتدّة من بدء القرن السّادس الميلاديّ إلى نهاية القرن الخامس عشر، وكان السّبب الأصليّ لذلك أنّ الرّهبان –أو الرّؤساء الدّينيّين الرّوحانيّين باصطلاح أهل أوروبّا– غفلوا عن العزّة الأبديّة الكامنة في اتّباع أوامر الإنجيل المقدّسة وتعاليمه السّماويّة، واتّفقوا مع أركان الحكومة الدّنيويّة الّذين كانوا في ذلك الزّمان على أكبر جانب من الظّلم والطّغيان، غضّوا الطّرف عن العزّة الباقية واهتمّوا بمنافعهم الآنيّة الفانية وأغراضهم النّفسيّة اهتمامًا كثيرًا، حتّى بلغ من الأمر أن أصبح الأهلون جميعًا أسرى في أيدي هذين الفريقين، وكانت هذه الأحوال سببًا لهدم أساس الدّين والمدنيّة والسّعادة لأهل أوروبّا.
ولما زالت روائح نفحات روح الله الطّيبة الرّوحانيّة من آفاق العالم نتيجة لأعمال الرّؤساء وأفكارهم المنحطّة ونيّاتهم غير اللاّئقة، وأحاطت العالم ظلمة الجهل والغفلة والأخلاق غير المرضيّة انبثق فجر الأمل ووافى موسم الرّبيع الإلهي، وارتفع غمام الرّحمة وهبّت النّسائم المحيية للأرواح من مهّب العناية الإلهيّة، فأشرقت شمس الحقيقة السّاطعة في الوجود المحمّديّ من أفق الحجاز ويثرب، وأغدقت أنوار العزّة السّرمديّة على آفاق الموجودات، فتبدّلت أراضي الاستعدادات وتحقّق معنى «وأشرقت الأرض بنور ربّها» فأصبح العالم عالمًا جديدًا وفاز جسد الوجود الميّت بالحياة الخالدة، وانهدم بنيان الظّلم والجهل، وارتفع وتعالى إيوان العلم والعدل الرّفيع، وهاج بحر المدنيّة وتلألأت أنوار المعارف، وكانت أقوام الحجاز وطوائفه المتوحّشة قبل اشتعال سراج النّبوّة الكبرى الوهّاج في زجاجة البطحاء من أشدّ القبائل جهلاً والطّوائف توحّشًا، ولقد ذكرت سيرهم الذّميمة وعوائدهم الموحشة وحبّهم لسفك الدّماء والقتل ونزاعهم وعداء بعضهم لبعض في كلّ كتب التّاريخ وصحفه، حتّى أنّ طوائف العالم المتمدّنة في ذلك الزّمان لم تكن تعدّ أعراب يثرب والبطحاء من نوع البشر، ولكن بعد أن طلع كوكب الآفاق في تلك البلاد والدّيار استظلّ هذا الجمهور المتوحّش في ظلّ كلمة الوحدانيّة في مدّة قليلة، وبفضل تربية ذلك المعدن للكمال ومهبط وحي ذي الجلال وبفيض من الشّريعة المقدّسة الإلهيّة ارتقوا في جميع المراتب الإنسانيّة والكمالات البشريّة ارتقاء حيّر كلّ أمم العالم في ذلك العصر. فأسرعت إلى ممالك العرب طوائف العالم وقبائله وملله الّذين كانوا دائمًا يتّخذون الأعراب هزوًا وسخرية ويعتبرونهم جنسًا بلا فصل، وأقبلت يحدوها الشّوق لتحصيل الفضائل الإنسانيّة واقتباس العلوم السّياسيّة واكتساب المعارف والمدنيّة وتعلّم والفنون والصّنائع.
فانظروا إلى آثار تربية المربّي الحقيقيّ في الأمور المحسوسة لدى قوم كانوا لشدّة توحّشهم وغفلتهم في جاهليتهم يئدون بناتهم إذا بلغن سنّ السّابعة، ويعدّون ذلك غاية الغيرة والحميّة لفرط جهالتهم، وهو أمر تنفر منه طبيعة الحيوان وتتبرّأ فضلاً عن الإنسان، انظروا كيف استطاع أمثال هؤلاء الجهلة بفضل تربية هذا المربّي العظيم أن يفتحوا ممالك مصر والسّريان والشّام والكلدان والعراق وإيران، ويديروا وحدهم جميع أمور أقاليم العالم الأربعة، وخلاصة القول إنّ العرب فاقوا كلّ الأمم والأقوام في جميع العلوم والفنون والمعارف والحكمة والسّياسة والأخلاق والصّنائع والمخترعات. والواقع أنّ بلوغ مثل هذه الطّائفة المتوحشة الحقيرة إلى أقصى درجات الكمال البشريّ في مدّة يسيرة لأعظم برهان على صحّة نبوّة سيّد الكائنات. وكانت جميع طوائف أوروبّا تكتسب الفضائل ومبادئ المدنيّة من المسلمين القاطنين في ممالك الأندلس في عصور الإسلام الأولى، ولو أمعن النّظر في الكتب التّاريخيّة لاتّضح أنّ اكبر جانب من تمدّن أوروبّا مقتبس من الإسلام، حيث قام علماؤها بجمع كافة كتب حكماء المسلمين وعلمائهم وفضلائهم شيئًا فشيئًا، وأخذوا يطالعونها في المعاهد والجامعات العلميّة ويناقشونها بكمال الدّقّة مطبّقين ما كان مفيدًا منها. وإنّنا نرى أنّ نسخًا من كتب علماء المسلمين المفقودة الآن من الممالك الإسلاميّة موجودة في مكتبات أوروبّا، وأنّ أكثر القوانين السّارية والأصول المعمول بها في كلّ ممالك أوروبّا وربّما جميع مسائلها فمقتبسة من الكتب الفقهيّة الإسلاميّة وفتاوي علمائها ولولا الخوف من الإطالة لحرّرت المسائل المقتبسة مسألة مسألة.
ولقد بدأ تمدّن أوروبّا في القرن السّابع الهجريّ، وتفصيل ذلك أنّه في أواخر القرن الخامس الهجريّ أخذ البابا رئيس الملّة المسيحيّة يصرخ ويشكو من استيلاء المسلمين على مقامات النّصارى المقدّسة كبيت المقدس وبيت لحم والنّاصرة، وارتأى أن يحرضّ جمهور ملوك أوروبّا وأهلها ويحثّهم على الجهاد والحرب الدّينيّة، وبلغ حنينه وأنينه وصريخه مبلغًا قامت له كلّ ممالك أوروبّا، وعَبَر الملوك الصّليبيون في جحافلهم الجرّارة من خليج القسطنطينيّة وتوجّهوا إلى قارّة آسيا. وكان الخلفاء العلويّون يحكمون مصر وبعض بلاد المغرب آنذاك، وكان السّلاجقة الحاكمون في برّيّة الشّام منقادين في أكثر الأوقات لحكمهم. ومجمل القول فإنّ ملوك أوروبّا هاجموا برّيّة الشّام ومصر بجموع لا عدّ لها ولا حصر، واستمرّت الحرب بين ملوكها وملوك أوروبّا ثلاث سنوات ومائتي سنة، وكان المدد يأتي من أوروبّا دائمًا، وكان ملوك الفرنجة يستولون على كلّ قلعة من قلاع سوريّا مرارًا وتكرارًا ثم يستردّها ملوك المسلمين من أيديهم. وظلّ الأمر كذلك حتّى طرد الملك النّاصر صلاح الدّين الأيوبيّ في سنة ستّمائة وثلاث وتسعين للهجرة ملوك أوروبّا وجنودها من ممالك برّيّة الشّام وسواحل مصر، فعادوا إلى أوروبّا يائسين منكوبين، ولقد هلك مئات الألوف من النّاس في هذه الحروب المعروفة بالحروب الصّليبيّة.
وخلاصة القول إنّه منذ سنة تسعين وأربعمائة للهجرة حتّى سنة ثلاث وتسعين وستّمائة للهجرة كان ملوك أوروبّا وقوّادها ووجهاؤها يتردّدون بلا انقطاع على برّيّة الشّام ومصر، فلمّا عادوا جميعًا نهائيًّا نقلوا إلى أوروبّا ما شاهدوه طوال مائتي سنة ونيّف من السّياسة والمدنيّة والمعارف والمدارس والمكاتب وعادات الممالك الإسلاميّة المستحسنة ورسومها وكان ذلك بداية تمدّن أوروبّا.
يا أهل إيران! إلى متى هذا التّكاسل والتّراخي؟ كنتم متبوعي كلّ العالم وحاكميه، فما بالكم الآن قد سقطتم من أوج العزّة إلى هاوية الخمول؟ كنتم منشأ معارف العالمين ومبدأ حضارتهم فكيف صرتم مخمودين ذابلين؟ كنتم سبب نور الآفاق فكيف أمسيتم الآن في ظلمات الكسل والغفلة عاجزين؟ افتحوا عين البصيرة وأدركوا احتياجاتكم الحاليّة، شمّروا عن ساعد الهمّة والغيرة، واجتهدوا في سبيل تحصيل وسائل المعارف والمدنيّة، أيجدر بالطّوائف والقبائل الأجنبيّة أن تقتبس الفضائل والمعارف من آثار أسلافكم وأجدادكم وتبقون أنتم الورّاث والأخلاف محرومين عنها؟ أم أيليق أن يسعى المجاورون ليلاً ونهارًا إلى التّشبّث بوسائل الرّقيّ والعزّة والسّعادة وأنتم لتعصّبكم الجاهليّ تكونون منهمكين في النّزاع والعناد وملتهين بأهواء أنفسكم؟ وهل يكون ممدوحًا ومقبولاً أن تضيّعوا هذا الذّكاء الفطريّ والاستعداد الطّبيعيّ والفطنة الموهوبة وتصرفوها في الكسل والبطالة؟ لقد بعدنا عن المقصد مرّة أخرى استطرادًا.
إنّ جميع العقلاء والمطّلعين على حقائق الأحوال التّاريخيّة للأزمان السّالفة من أهل أوروبّا المتّصفين بالصّدق والإنصاف يقرّون ويعترفون أنّ أساس جميع مدنيّتهم مقتبسة من الإسلام، من ذلك ما كتبه المؤلّف المحقّق المشهور "دري بار" الفرنسيّ الّذي يسلّم جميع مؤلّفي أوروبّا وعلمائها باطّلاعه وبراعته وعلمه، حيث شرح في كتابه «ترقّي الأمم» –وهو أحد كتبه الأدبيّة المشهورة– شرحًا مبسّطًا في باب اقتباس أمم أوروبّا لقوانين مدنيّتها وقواعد رقيّها وسعادتها من الإسلام، ولمّا كان بيانه مفصّلا كلّ التّفصيل فإنّ ترجمته وإدراجه في هذه الرّسالة يؤدّي إلى الإطناب الخارج عمّا هي بصدده. فإذا لم يقتنع أحد بما قيل فليرجع إلى ذلك الكتاب. وخلاصة ما بيّنه هي أنّ جميع تمدّن أوروبّا من قوانين ونظم وأصول ومعارف وحكم وعلوم وعادات ورسوم مستحسنة وآداب وصنائع ونظام وترتيب ومسلك وأخلاق بل وكثير من الألفاظ المستعملة في اللّغة الفرنسيّة مقتبس من العرب، وذكر ذلك كلّه مسألة مسألة وفصّل القول فيها، وأثبت لكلّ مسألة زمان اقتباسها من الإسلام، وكذلك ذكر بتفصيل دخول العرب بلاد الغرب المعروفة اليوم بأسبانيا، وكيف أنّهم أسّسوا مدنيّة كاملة في تلك الممالك بمدّة وجيزة، وإلى أيّة درجة من الكمال بلغت سياسة مدنهم ومعارفهم، وبأيّ إحكام وانتظام أسّسوا مدارسهم ومكاتب علومهم وفنونهم وحكمتهم وصنائعهم، وإلى أيّ شأو بلغت سيادتهم وعظمتهم في عام المدنيّة، وكيف أقبل كثير من أطفال عظماء ممالك أوروبّا على مدارس قرطبة وغرناطة وأشبيلية وطليطلة ليتعلّموا المعارف والفنون، ويكتسبوا المدنيّة حتّى لقد ذكر أنّ أحد أهل أوروبّا – وهو المسمّى بجربرت– رحل إلى مملكة الغرب ودخل مدرسة قرطبة الّتي كانت من ممالك العرب وحصّل المعارف والعلوم، فلمّا عاد إلى أوروبّا اشتهر اشتهارًا مكنّه من أن يتبوّأ سرير رئاسة الكاثوليك الدّينيّة ليشغل منصب البابا. والقصد من هذه البيانات هو أن يتّضح بأنّ الأديان الإلهيّة هي المؤسّس الحقيقيّ للكمالات المعنويّة والظّاهريّة للإنسان وأنّها مشرق اقتباس مدنيّة البشر ومعارفهم النّافعة العامّة ومصدرها.
ولو أنّنا نظرنا بعين الإنصاف لرأينا جميع القوانين السّياسيّة تدخل في مدلول هذه الكلمات المباركات القلائل ألا وهي قوله تعالى: «ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصّالحين» وقوله: «ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» وقوله: «إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون» وقوله في التّمدّن الخلقيّ: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وقوله أيضًا «الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحب المحسنين» وقوله أيضًا: «ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفّون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّراء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون» وقوله أيضًا: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. »
لاحظوا كيف ذكرت في هذه الآيات المباركات القلائل درائج حقائق المدنيّة ولوامع الشّيم الإنسانيّة الجامعة المستحسنة، فو الله الّذي لا اله إلاّ هو إنّ ما تكوّنت منها حضارة العالم من أجزاء ليست إلاّ نتيجة ألطاف أنبياء الله أيضًا، أيّ أمر نافع وجد في الوجود دون أن يذكر في الكتب الإلهيّة المقدّسة تصريحًا أو تلويحًا؟ كما أنّه لا جدوى من وجود السّلاح والآلات الحربيّة بيد الجبان، حيث لا يؤدّي ذلك إلى حفظ الأموال والأرواح بل يكون حافزًا للسّارق في ازدياد قوّته وبطشه، كذلك أزمّة الأمور إذا تولّتها أيدي العلماء النّاقصين يكونون لنورانيّة الدّين حجابًا عظيمًا حائلاً. إنّ أساس الدّين هو الخلوص، بمعنى أنّ المتديّن يجب أن يتخلّى عن جميع أغراضه الشّخصيّة، ويسعى بكلّ الوجوه في سبيل خير الجمهور، ولا يتسنّى للنّاس أن يغمضوا الطّرف عن منافعهم الذّاتيّة ويفتدوا خير النّاس بخير أنفسهم إلاّ بالتّديّن الحقيقيّ، ذلك لأنّ طينة الإنسان مخمّرة بحبّ الذّات، ولا يتمكّن أحد أن يتخلّى عن مصالحه المادِّيّة المؤقّتة إلاّ أملاً في الأجر الجزيل والثّواب الجميل، إلاّ أنّ الشّخص المؤمن بالله والموقن بآياته عندما يتيقّن بالمثوبات الكلّيّة الأخرويّة، ويحسب النّعم الدّنيويّة جميعًا فانية زائلة مقابل العزّة والسّعادة الأخرويّة، فإنّه يترك راحته ومصالحه ابتغاء وجه الله ويؤثرها في سبيل نفع العموم من صميم قلبه. «ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله».
ويظنّ البعض أنّ فطرة الإنسان تمنعه من ارتكاب الأعمال القبيحة، وتضمن له الكماليّات الصّوريّة والمعنويّة، وذلك يعني أنّ الّذي اتّصف بعقل طبيعيّ وحميّة ذاتيّة وشهامة فطريّة يمتنع ذاتيًّا عن أن يصيب العباد بالضّرّر، ويحرص على الأعمال الخيريّة دون أن يأخذ بعين الاعتبار العقوبات القاسية المترتّبة على الأعمال الشّرّيرة والمثوبات العظيمة الممنوحة للأفعال الحسنة. لو أمعنّا النّظر أوّلاً في التّواريخ العموميّة تبيّن لنا بوضوح بأنّ النّاموس الطّبيعيّ إنّما هو فيض من تعاليم أنبياء الله، وكذلك نلاحظ أنّ آثار التّعدّي والتّجاوز في الأطفال ظاهرة من صغر سنّهم، وفي حال حرمان الطّفل من تربية المربّي يزداد آنًا فآنًا في ممارسة سجايا غير مرضيّة. إذًا اتّضح بأنّ ظهور النّاموس الطّبيعيّ أيضًا من نتائج التّعليم. ثانيًا لو فرضنا أنّ العقل الطّبيعيّ والنّاموس الفطريّ يمنعان الشّرّ ويهديان إلى الخير، من الواضح جدًّا أنّ وجود مثل هؤلاء النّفوس كالإكسير الأعظم، لأنّ مثل هذا الادّعاء (أي تأثير النّاموس الطّبيعيّ) لا يثبت بالقول بل يتطلّب العمل، إذًا ما هو الأمر الّذي يجعل الجمهور مضطرًّا ليلجأ إلى النّيّات الحسنة والأعمال الصّالحة؟ أضف إلى ذلك أنّ الشّخص الّذي يضرب به المثل في العمل بموجب النّاموس الطّبيعيّ لو يتحلّى بخشية الله لا ريب أنّه سوف يتمكّن من ممارسة نواياه الحسنة بصورة أفضل وأكثر رسوخًا. وخلاصة القول إنّ الفوائد الكلّيّة لا تتمّ إلاّ من فيض الأديان الإلهيّة، ذلك لأنّها ترشد المتديّنين الحقيقييّن إلى صدق الطّويّة وحسن النّيّة والعفّة والعصمة الكبرى والرّأفة والرّحمة العظمى والوفاء بالعهد والميثاق وحريّة الحقوق والإنفاق والعدل في جميع الشّؤون والمروءة والسّخاء والشّجاعة والسّعي والإقدام على منفعة جمهور عباد الله، أو قل باختصار إنّها تدلّه على جميع الشّيم الإنسانيّة المرضيّة الّتي هي شمع عالم المدنيّة المنير، فإن لم يتّصف إنسان بهذه الصّفات الممدوحة فإنّه ما فاز قطّ بقطرة واحدة من يمّ الفرات العذب المتموّج في مجاري الكلمات التّعليميّة للكتب السّماويّة المقدّسة، وما استشمّ نفحة من روائح الرّياض الإلهيّة القدسيّة حيث لا يتمّ في عالم الوجود أمر بالقول وحده فلكلّ مقام مسلك وعلامة، ولكلّ شأن دليل وإشارة.
ومجمل القول إنّ القصد من هذه البيانات هو أن يتّضح ويتبرهن أنّ الأديان الإلهيّة والشّرائع المقدّسة الرّبانيّة والتّعاليم السّماويّة هي أعظم أسس السّعادة البشريّة، وأنّه لا يتسنّى لأهل العالم النّجاح والفلاح الحقيقيّ بدون هذا التّرياق الفاروق، ولكن بشرط أن يكون هذا التّرياق بيد الطّبيب العالم الحاذق، وأما إذا وقعت كلّ هذه الأدويّة النّاجعة الّتي أوجدها ربّ العالمين لشفاء آلام بني آدم وأسقامهم في يد الطّبيب غير الحاذق فإنّها لا تؤدّي إلى الصّحة والعافية بل تكون سببًا لهلاك نفوس البؤساء وأذى لقلوب العاجزين، ومثال ذلك أنّ منبع الحكمة الإلهيّة ومظهر النّبوّة الكلّيّة، في تحريضه على اكتساب المعارف وترغيبه في اقتباس الفنون والكمالات أمر بقصده ولو كان ذلك في أقصى بلاد الصّين، ولكنّ الأطّباء غير الحاذقين يمنعون ذلك بعنادهم ويستدلون بـ «من تشبّه بقوم فهو منهم». مع أنّهم لم يدركوا وجه التّشابه، ولا يعلمون أنّ الشّريعة الإلهيّة المقدّسة تحثّ جمهور الأمّة على تمهيد أصول الإصلاحات المتتابعة، وترشدهم إلى اقتباس الفنون والمعارف من سائر الأمم، وكلّ من يقول بغير ذلك فهو محروم من سلسبيل العلم وهائم في بادية الجهل وراء سراب أغراضه النّفسيّة.
انظروا الآن بعين الإنصاف أيّ هذه الإصلاحات الجديدة تخالف الأوامر الإلهيّة في حيّز القوّة كانت أم في حيّز الفعل؟ خذ أمر تأسيس مجالس الشّورى مثلاً فذلك منصوص في الآية المباركة حيث يقول:«أمرهم شورى بينهم»، وكذلك يخاطب الله مطلع العلم ومنبع الكمال -وهو الحائز على الفضائل الكلّيّة المعنويّة والصّوريّة- بقوله: «وشاورهم في الأمر»، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون أمر الشّورى مخالفًا لقوانين الشّريعة المقدّسة؟ ناهيك أنّ فضيلة المشورة ثابتة ومبرهنة بالدّلائل العقليّة ومجرّبة أيضًا. فهل ثمّة خلاف أو تباين مع الشّرائع الإلهيّة لو أنيط أمر قصاص المجرمين وإعدامهم بالتّحقيقات الدّقيقة وتصديق مختلف المجالس وثبوت القضيّة شرعًا، وتعليق تنفيذ الحكم بصدور الفرمان الملكيّ؟ وهل ما كان جاريًا في أيّام الحكومة السّابقة موافقًا لأحكام القرآن المبين؟ لقد سمع وبلغ ما بلغ إلى حد التّواتر أن حاكم گلپايگان قطع رقاب ثلاثة عشر رجلاً من عمداء قرى گلپايگان المساكين الّذين كانوا من السّلالة الطّاهرة في ساعة واحدة من دون جرم وبلا شفقة ولا سؤال ولا جواب ولا استئذان، وكان ذلك في أيّام صدارة الحاج ميرزا آقاسي. لقد كان عدد سكان إيران في زمن من الأزمان يفوق الخمسين مليون نسمة، فأدركهم التّلف بسبب بعض الحروب الدّاخليّة وغالبًا ما لعدم وجود القوانين واستبداد الولاة وكونهم مطلقي العنان والإرادة، وأخذ عددهم يتناقص شيئًا فشيئًا بمرور الأيّام حتّى لم يعد باقيًا أقلّ من خمسهم، ذلك لأنّ الحكّام كانوا ينكلون بنار القهر والتّعذيب كلّ بريء بمحض إرادتهم، أو يعطفون على قاتل أقدم على قتل أشخاص عديدة وثبت جرمه شرعًا وذلك وفقًا لمصالحهم الذّاتيّة. ولم يكن لأحد قدرة على الاعتراض ذلك لأن الحاكم كان يتصرّف كيف يشاء.
أيمكن القول بأنّ هذه الأمور مطابقة للعدل والإنصاف أو موافقة لأحكام شريعة الله؟ أم أنّ الحضّ على تعلّم الفنون المفيدة واكتساب المعارف العموميّة والحثّ على الاطّلاع على حقائق الحكمة الطّبيعيّة النّافعة، والعمل على توسيع دائرة الصّنائع والاستزادة من مواد التّجارة والاستكثار من وسائل ثروة الأمّة مناف لأصول الدّين الإلهيّ؟ أم أنّ تنظيم أحوال المدن والضّواحي والقرى وتعمير الطّرق وتمهيد السّبل ومدّ خطوط القطارات وتيسير وسائل النّقل والحركة، والعمل على ترفيه كلّ الأهلين مضادّ لعبوديّتنا لله الأحد؟ أم أنّ استغلال المعادن المتروكة الّتي هي أعظم وسائل ثروة الدّولة والأمّة، وإنشاء المعامل والمصانع الّتي هي مصدر الرّاحة والطّمأنينة ومبعث الغنى والاقتدار للأمّة جميعًا، والتّرغيب في إيجاد الصّناعات الجديدة والحثّ على ازدهار البضائع الوطنيّة يغاير أوامر ربّ البريّة ونواهيه؟ قسمًا بذات ذي الجلال المقدّسة إنّني متحيّر كيف حجبت الأبصار بحيث لا تدرك هذه الأمور البديهيّة لهذا الحدّ. وما من شكّ في أنّ مثل هذه البراهين والأدلّة المحكمة، إذا ظهرت ووضحت أجابوا -لما يبطنون في صدورهم من غايات وأغراض لا عدّ لها ولا حصر- بأنّ النّاس لا يُسألون في يوم الحشر بين يدي الله عن معارف الإنسان ومدنيّته الكاملة بل يُسألون عن الأعمال الصّالحة.
فإذا سلّمنا أوّلاً بأنّهم لا يٌسألون عن المعارف والمدنيّة، أفلا يؤاخذون يوم الحشر في المحكمة الإلهيّة بأن: يا رؤساء هذه الأمّة العظيمة وكبراءها! لماذا صرتم سببًا لسقوطها من أوج عزّتها القديمة، وحرمانها من المركز الّذي كانت حائزة عليه في حضارة العالم؟ رغم أنّكم كنتم قادرين على أن تتمسّكوا بوسائل تجعلكم سبب العزّة المقدّسة لهذه الأمّة، فلم يقتصر أمر أعمالكم بذلك فحسب بل تعدّاه إلى حرمان الأمّة من الفوائد الماديّة، ألم يكن هؤلاء القوم في سماء السّعادة كالنّجوم الزّاهية؟ كيف أصبحتم باعثًا على أن يهووا في هذه الظّلمة الدّهماء؟ كنتم مقتدرين على إيقاد سراج عزّة الدّنيا والآخرة في هذه الأمّة، فلِمَ لم تسعوا السّعي الحثيث؟ وحينما أضاء السّراج النّورانيّ بتوفيق الله لِمَ لم تحافظوا عليه بزجاج الهمّة من الرّياح العاصفة، ولماذا نهضتم لإطفائه بكلّ ما أوتيتم من قوّة؟ «وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا. »
وثانيًا أيّة أعمال صالحة أعظم في الوجود من نفع النّاس جميعًا؟ أتتصوّر موهبة في العالم أعظم من أن يكون الإنسان سببًا لتربية عباد الله ورقيّهم وعزّتهم وسعادتهم؟ لا والله! إنّ أكبر المثوبات أن يأخذ النّفوس المباركة بأيدي المساكين وينجّوهم من الذّلّة والمسكنة والجهل، ويشمّروا عن ساعد الهمّة بنيّة خالصة لله، وينهضوا لخدمة الأهلين ويتركوا مصالحهم الدّنيويّة ويسعوا في نفع النّاس جميعًا «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»، «خير النّاس من ينفع النّاس وشرّ النّاس من يضرّ النّاس».
سبحان الله! ما هذه الأمور والأحوال العجيبة الواقعة حيث لا ترى نفسًا يستمع القول بفراسة ودقّة ويدرك قصد القائل من قول ما ويتحقّق في ما استتر خلف ذلك من أغراض ذاتيّة. انظروا مثلاً كيف يقوم شخص من الأشخاص حائلاً دون سعادة جمهور من النّاس لا لشيء إلاّ لمنافعه الذّاتيّة اليسيرة، ولأن يدير طاحونته يخرّب مزارع جمع غفير ويحرق حقولهم عطشًا، ويدلّ النّاس دائمًا على تعصّب الجاهليّة المخرّب لبنيان المدنيّة لأجل الاحتفاظ بطاعتهم له. فإذا رأى هذا الرّجل -وهو الّذي ارتكب ذلك العمل المردود لدى باب الله والمبغوض من كلّ أنبياء الله وأوليائه- رجلاً يغسل يديه بعد الطّعام بصابون صنعه عبد الله البونيّ المسلم، ولم يمسح هذا المسكين يديه بذيله وثوبه ولحيته صاح مستغيثًا: قد انهار بنيان الشّريعة وسرت آداب ممالك الكفر، ولم ينظر قطّ إلى سوء عمله ولكنّه حسب ما يؤدّي إلى اللّطافة والنّظافة جهلاً وفسقًا.
يا أهل إيران!
افتحوا أبصاركم ثمّ افتحوا آذانكم منزّهين من تقليد الأنفس المتوهّمة الّتي هي السّبب الأعظم لضلال الإنسان وضياعه وتدنّيه وجهالته، أدركوا حقيقة الأمور واسعوا في التّشبّث بوسائل حياتكم وسعادتكم وعظمتكم وعزّتكم بين أمم العالم وطوائفه، إنّ نسائم الرّبيع الحقيقيّ لتهبّ فتزيّنوا كأشجار البستان بالبراعم والأزهار، وإنّ أمطار الرّبيع لتفيض وتنهمر فترعرعوا كروضة الخلد، وإنّ نجم الصّبح قد أشرق فامضوا في المسلك المستقيم، وإنّ بحر العزّة موّاج فأسرعوا إلى شاطئه مقبلين ومقدمين، وإنّ معين الحياة الطّيبة ليتدفّق فلا تبقوا خاملين في بادية الظّمأ، فلتكن همّتكم عالية وأهدافكم عزيزة، إلام الكسل وإلام الغفلة؟ لا جدوى من التّرف إلاّ اليأس وانعدام الأمل في الآخرة والأولى، ولن تجدوا من التّعصّب الجاهليّ والاستماع إلى أقوال من لا عقل لهم ولا تفكير غير النّكبة والذّلّة، إنّ التّوفيقات الإلهيّة مسدّدة خطاكم والتّأييدات الرّبانيّة موفّقة لكم، فلم لا تهبّوا بأرواحكم ولا تجهدوا بنفوسكم؟
ومن بين الأمور المفتقرة إلى الإصلاحات التّامّة الكاملة هو منهاج تعلّم العلوم ونظام تحصيل المعارف والفنون، ذلك لأنّ منهاج العلوم والمعارف قد طرأ فيه الخلل والتّشويش نتيجة لانعدام النّظام بحيث أنّ الفنون الموجزة الّتي لا داعي لإسهابها قد طالت طولاً يتحتّم معه على المتعلّمين أن يقضوا المدّة المديدة من أعمارهم، ويبذلوا من جهد أذهانهم لأمور لا وجه لها من الثّبوت والتّحقّق وهي تخيّليّة بحتة، حيث أنّ ذلك يعتبر تعمّقًا في أفكار وأقوال لو أبصرناها بالبصيرة لثبت لنا واتّضح أنّها مطالب لم تكن جديرة بالاهتمام حتّى وإن وصفت بأنّها واقعيّة، بل هي أوهام محضة وتتابع تصوّرات لا فائدة فيها وتوالي ملاحظات لا طائل تحتها. ولا شبهة في أنّ الاشتغال بمثل هذه الأوهام والتّدقيق والبحث المستفيض في مثل هذه الأقوال ليس سببًا من أسباب إضاعة الوقت وإتلاف العمر فحسب بل هو مانع للإنسان يجعله محرومًا من تحصيل تلك المعارف والفنون الّتي تحتاج إليها الهيئة البشريّة. إذًا فلا بدّ للإنسان أن ينظر في كلّ فنّ قبل تحصيله ليرى ما فوائد ذلك الفنّ؟ وأيّة ثمرة يؤتيها وأيّة نتيجة تتأتّى منه، فإذا كان من العلوم المفيدة -أي من العلوم الّتي تتأتّى فيها الفوائد العامّة للهيئة البشريّة- وجب أن يبذل النّفس والنّفيس في تحصيله، أمّا إذا كان لا يعدو الأبحاث الّتي لا فائدة فيها والتّصوّرات المتواردة المتوالية الّتي لا نتيجة لها سوى النّزاع والجدال، فلماذا يقضي الإنسان حياته في المنازعات والمجادلات الّتي لا طائل تحتها؟ ولما كان هذا المطلب بحاجة إلى كثير من التّفصيل والتّمحيص الكامل لكي يثبت أن بعض العلوم الّتي لا يهتمون بها اليوم لهي ذات أهمّيّة قصوى، وكذلك يتّضح أنّ الأمّة لم تكن بحاجة، بأيّ وجه من الوجوه، إلى دراسة بعض الفنون الزّائدة، فإنّي سوف أفصّل ذلك في الجزء الثّاني من هذا الكتاب إن شاء الله. وإنّني لآمل أن تتأتّى من قراءة هذا الجزء الأوّل التّأثيرات الكاملة في أفكار الهيئة العامّة وأحوالها، ذلك لأن تأليف هذا الكتاب كان بدافع من نيّة خالصة لوجه الله. وبالرّغم من أنّ الّذين يميّزون بين الأفكار الصّادقة والأقوال الكاذبة في العالم نادرون ندرة الكبريت الأحمر، إلاّ أنّ أملي معقود بألطاف الله الأحد الّتي لا نهاية لها.
نعود الى حديثنا الأصليّ فنقول وأمّا الحزب الّذي يذهب إلى أنّ التّحلّي بالصّبر والتّأنّي ضروريّ للإصلاحات اللاّزمة، فيا ترى ما هو مقصودهم من إجرائها شيئًا فشيئًا؟ إذا كان مرادهم من التّأنّي الّذي هو من لوازم الحكمة في الحكم، فإنّ هذا الرّأي مقبول كلّ القبول كما أنّه بموقعه، ذلك لأنّ مهامّ الأمور لا يمكن أن تتمّ بالعجلة قطّ، بل إنّ العجلة تصير سببًا للفتور. وما مثل عالم السّياسة الا كمثل عالم الانسان من حيث أنّه نطفة أوّل الأمر، ثم يتدرّج في مراتب العلقة والمضغة والعظام واكتساء اللّحم فإنشاء خلق آخر الى أن يبلغ مرتبة «فتبارك الله احسن الخالقين». وكما أنّ هذا من لوازم الخلقة المبنيّة على الحكمة الكلّيّة، فكذلك عالم السّياسة لا يبلغ أوج الكمال والسّداد من حضيض الضّعف والفتور دفعة واحدة بل إنّ الأنفس الكاملة تتشبّث ليلاً ونهارًا بالوسائل الّتي تؤدّي إلى تقدّم الدّولة والأمّة حتّى ترتقيان وتنميان في جميع المراتب يومًا فيومًا بل آنًا فآنًا.
وهناك أمور ثلاثة إذا وجدت في عالم الكون بالعناية الالهيّة فاز هذا العالم التّرابيّ بحياة جديدة ولطف وزينة لا حدّ لهما:
أمّا الأمر الأوّل فهو الرّياح اللّواقح الرّبيعيّة.
أمّا الأمر الثّاني فهو فيضان سحب نيسان وكرمها.
أمّا الأمر الثّالث فهو حرارة الشّمس النّورانيّة.
وكما أنّه إذًا من الفضل الإلهيّ الّذي لا نهاية له بهذه الأمور الثّلاثة اخضرّت بإذن الله الأشجار والأغصان الذّابلة رويدًا رويدًا وتزيّنت بأنواع البراعم والأزهار والأثمار، كذلك إذا اجتمعت نيّات السّلطان الخالصة وعدله وعلم أولياء الأمور وحنكتهم السّياسيّة إلى همّة الأهلين وغيرتهم تجلّت يومًا فيومًا آثار الرّقيّ والإصلاحات الكاملة وعزّة الدّولة وسعادة الأمّة.
ولكن إذا كان المقصد من التّأنّي أن ينجز في كلّ عصر جزء ضئيل من لوازم الإصلاح، فهذا هو الكسل والتّراخي بعينه، و بذلك لا تتأتّى أيّة ثمرة بأيّة حال من الأحوال، اللّهم إلاّ تكرار الأقوال الّتي لا فائدة منها، فإذا كانت العجلة مضرّة فإنّ التّراخي والتّباطؤ أشدّ ضررًا ألف مرّة. فيا حبّذا الاعتدال كما قيل. «عليكم بالحسنة بين السّيّئتين» وهو الحدّ بين الإفراط والتّفريط «لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط» «وابتغ بين ذلك سبيلاً».
إنّ ألزم الأمور وأبدى الوسائل الملحّة هو توسيع دائرة المعارف، لا يتصوّر النّجاح والفلاح لأمّة من الأمم بدون تطوّر هذا الأمر المهمّ الأقوم، كما أنّ الجهل والسّفه أعظم باعث على انحطاط الأمم واضطراب أحوالها. وإنّنا لنرى أكثر الأهلين لا اطّلاع لهم على الأمور العاديّة، فما بالك بوقوفهم على حقائق الأمور الكلّيّة ودقائق المتطلّبات العصريّة، لهذا وجب أن تصنّف الرّسائل والكتب المفيدة الّتي تتناول بالبراهين القاطعة وتبيّن ما تحتاج إليه الأمة اليوم وما تتوقّف عليه سعادة البشريّة وتقدّمها، وأن تطبع هذه الرّسائل والكتب وتنشر في أنحاء المملكة حتّى تتفتّح عيون خواصّ الأمة وآذانهم بعض الشّيء لكي يجتهدوا في ما يؤدّي إلى عزّتهم المقدّسة. فإنّ نشر الأفكار العالية هو القوّة المحرّكة في شريان الوجود بل قل هو روح العالم، مثل الأفكار كمثل البحر اللّجّيّ ومثل أحوال الوجود وآثاره كمثل تعيّنات الأمواج وحدودها، فإن لم يتحرّك البحر هائجًا لم يرتفع الموج ولم يقذف بلآليء الحكمة على الشّاطئ
اي برادر تو همه انديشه ئى ما بقى تو استخوان وريشه ئى
فيجب أن تتّجه الأفكار العامّة إلى ما هو لائق اليوم وهذا لا يتأتّى إلاّ بالتّبيان الكافي وإقامة الدّليل الواضح الوافي، ذلك لأن الأهلين البؤساء لا علم لهم عمّا يجري في العالم، ولا شبهة في أنّهم يسعون وراء ما يسعدهم آملين الوصول إليها غير أنّ حجاب الجهل حائل حاجز.
انظروا إلى أيّ مدى تبعث قلّة المعارف على ذلّة الأمّة وحقارتها، إنّ أمة الصّين اليوم أعظم طوائف العالم من حيث كثرة السّكان، وهم يبلغون أربعمائة مليون ونيّف، وعلى هذا يجب أن تكون دولتها أرفع الدّول وأمّتها أشهر أمم العالم، ولكنّنا نرى العكس، فإنّها لعدم وقوفها على معارف التّمدّن الأدبيّ والمادّيّ تعتبر من أضعف دول العالم الضّعيفة وملله وأوهنها قوّة، بحيث قبل مدّة وجيزة قاتلتها فئة قليلة من جند إنجلترا وفرنسا، فغلبت الصّين على أمرها وفتحت هذه الفئة القليلة عاصمتها المسمّاة بپكين، فلو كانت دولة الصّين وأمّتها عالية الكعب في المعارف العصريّة واسعة الباع في فنون التّمدّن لعجزت كلّ دول العالم إذا هاجمتها وارتدّت خائبة خاسرة.
وأغرب من هذا أنّ اليابان الّتي كانت تحت حماية الصّين في أوّل الأمر وتابعة لها، قد وعت منذ بضع سنين ففتحت عينيها لتتشبّث بوسائل الرّقيّ وأساليب التّمدّن العصريّ ونشر المعارف والصّناعات العامّة، وبذلت ما في استطاعتها وقدرتها من جهد وسعي حتّى اتّجهت الأفكار العامّة نحو الإصلاحات إلى أن وصلت في هذه الأيّام مرتّبة استطاعت أن تتحدّى دولة الصّين رغم أنّ تعداد سكّانها هو سدس بل عشر تعداد سكّان حكومة الصّين فاضطرّت دولة الصّين إلى مصالحتها آخر الأمر، فتأمّلوا كيف تكون المعارف والتّمدّن سبب عزّة الدّولة وسعادة الأمّة وحرّيّتها.
وكذلك يجب أن تفتح دور الكتب المتعدّدة في جميع بلاد إيران حتّى القرى والقصبات الصّغيرة، وأن يحضّ الأهلون بكلّ وسيلة على تعليم الأطفال القراءة والكتابة، بل وأن يلزموا ذلك إلزامًا إذا اقتضى الأمر. فما لم تتحرّك عروق الأمّة وأعصابها كانت كلّ الوسائل عديمة الجدوى، ذلك لأنّ مثل الأمّة كمثل الجسم ومثل الغيرة والهمّة كمثل الرّوح ولا يتحرّك جسم بلا روح، إنّ هذه القوّة العظمى موجودة في طينة أهل إيران بأعظم قسط إلاّ أنّ توسيع دائرة المعارف هو المحرّك لها.
وهنالك حزب يذهب إلى الاعتقاد بأن أصول الحضارة وأساس الرّقيّ إلى مراتب سعادة البشريّة العالية في العوالم الملكيّة وقوانين الإصلاحات الكاملة واتّساع دوائر المدنيّة التّامّة لا يجب أن تقتبس من الملل الأخرى، ولا يتلاءم أخذها منها، بل ينبغي لدولة إيران وأمّتها أن تتفكّر وتتعمّق لنفسها لكي تضع دعائم رقيّها بذاتها. أجل لو اجتمعت العقول المستقيمة والمهارة الكاملة لنخب الأمّة وهمّة كبراء الدّولة وغيرتهم وجهد أرباب الدّراية والكفاية المطّلعين على القوانين الهامّة لعالم السّياسة وجاهدوا وأقدموا على التّدبير في جزئيّات الأمور وكلّياتها لكان من الممكن أن يوفّقوا بتدبيراتهم الصّائبة إلى الإصلاحات الكلّيّة لبعض الأمور، ولكنّهم سوف يضطرّون في أكثرها إلى الاقتباس، ذلك لأنّ الملايين من النّاس قد قضوا أعمارهم الكاملة طوال القرون العديدة في التّجربة حتّى برزت تلك الإصلاحات إلى حيّز الوجود، فإذا غُضّ النّظر اليوم عن تلك الأمور حتّى تتهيّأ الأسباب في المملكة ذاتها على نحو آخر ويتّم بذلك الرّقيّ المأمول، انقضت عصور كثيرة دون أن يتيسّر الرّقيّ المطلوب. فإذا نظرتم مثلاً إلى الممالك الأخرى لرأيتم أنّها سعت مدّة مديدة حتّى اكتشفت قوّة البخار وعرفتها، فسُهّل بواسطتها كثير من الأمور والأعمال العسيرة الّتي كانت فوق طاقة الإنسان، فأمّا الآن لو ترك استعمال هذه القوّة وبذل السّعي والجهد لاكتشاف قوّة مشابهة لها لاستلزم ذلك قرونًا كثيرة، فالأولى إذًا عدم التّقاعس في استعمال هذه القوّة، وفي الوقت نفسه الاستمرار في البحث عسى أن تكتشف قوّة أعظم من الأولى. وقيسوا على ذلك سائر الفنون والمعارف والصّناعات والقضايا الّتي ثبتت فوائدها في عالم السّياسة، تلك الّتي جرّبت مرارًا خلال القرون العديدة، وتبرهنت فوائدها ومنافعها ومحاسنها التّامة لعزّة الدّولة وعظمتها ورقيّ الأمّة واطمئنانها. وأمّا إذا تركت هذه الأمور بلا سبب ولا مبرّر وبذل الجهد في صدد الإصلاح على نحو آخر فإنّه حتّى تتحقّق تلك الإصلاحات وتثبت فوائدها ومنافعها تنقضي السّنون وتنتهي الأعمار ونحن ما زلنا في أوّل الدّرب.
إنّما شرف الأخلاف ومزيّتهم على الأسلاف هو في أن يقتبس الأخلاف من الأسلاف تلك الأمور الّتي امتحنتها التّجربة في الزّمن الماضي فثبتت فوائدها العظيمة، وأن يقتدوا بهم، وفضلاً عن ذلك يقومون هم بدورهم باكتشاف قضايا أخرى تضمّ إلى مجموعة تلك الأمور المفيدة. اتّضح إذاً أنّ معلومات السّلف وأمورهم المجرّبة حاضرة بين أيدي الخلف على حين أنّ الكشفيّات المختصّة بالأخلاف مجهولة لدى الأسلاف، هذا كلّه على شرط أن يكون الخلف من أهل الكمال، وإلاّ فكم من أخلاف لم يكن لهم نصيب مقدار قطرة واحدة من بحر معارف الأسلاف اللّجّيّ.
تأمّلوا قليلاً، لنفرض أنّ نفوسًا خلقت بالقدرة الإلهيّة في الأرض، فما من شكّ في أنّ تلك النّفوس محتاجة إلى مشاريع كثيرة لعزّتها وسعادتها واطمئنانها وراحتها، أمن الأهون أن تقتبس تلك الأمور من المخلوقات الأخرى الموجودة أم أن يحدثوا في كلّ قرن أمرًا من الأمور اللاّزمة لمعيشة البشر دون اقتباسهم من الآخرين؟ فإذا قيل إنّ أساس الرّقيّ وقوانينه ومبادئه في مدارج المدنيّة الكاملة العالية المعمول بها في الممالك الأخرى ليس ملائمًا لأحوال أهل إيران ولا لمقتضياتهم المألوفة، لهذا كان لزامًا أن يبذل مدبّرو الأمور في إيران نفسها الجهد البليغ لإجراء الإصلاحات الملائمة لحالة البلاد، وجب عليهم بادئ الأمر أن يبيّنوا الجهة الّتي يأتي الضّرر منها، أترى عمران البلاد وتمهيد الطّرق، والمسالك والتّمسك بوسائل تقوية الضّعفاء وإحياء الفقراء وإعداد مسبّبات تقدّم الجمهور وإكثار مواد ثروة النّاس وتوسيع دائرة المعارف وتنظيم الحكومة وحرّيّة الحقوق وتأمين النّفس والمال والعرض والشّرف ممّا يخالف أحوال أهل إيران؟ أما ما عدا أمثال هذه الأمور فمضرّته واضحة في كلّ مملكة بحيث لا تختصّ بمكان دون مكان.
إذًا فجميع هذه الأوهام تصدر عن عدم العقل والمعرفة وقلّة التّفكير والملاحظة، بل إنّ أكثر المعارضين والمتهاونين يسترون في الحقيقة أغراضهم الشّخصيّة تحت نقاب أقوال لا طائل منها، ويشوّشون عقول الأهالي البؤساء فيتظاهرون بكلمات لا تمتّ بصلة إلى ما يضمرونه في قلوبهم.
يا أهل إيران!
طهّروا القلوب الّتي هي الوديعة الرّبانيّة من دنس الأنانيّة وزيّنوها بإكلّيل النّوايا الخالصة حتّى تطلع عزّة هذه الأمة الباهرة المقدّسة، وتتجلّى عظمتها السّرمديّة كتجلّي الصّبح الصّادق من مشرق الإقبال، فأيّام الحياة الدّنيويّة هذه أيّام قليلة، عمّا قريب تزول كالظّلّ الزّائل، فاجتهدوا حتّى تشملكم ألطاف الله الرّبّ الواحد وعنايته وتتركوا أثرًا طيّبًا في قلوب أخلافكم وذكرًا حسنًا على ألسنتهم «واجعل لي لسان صدق في الآخرين».
طوبى لنفس نسيت ذاتها وبذلت همّتها في سبيل منفعة الجمهور وبعناية الباري وتأييداته الصّمدانيّة ربحت قصب السّبق كالمقربين للعتبة الإلهيّة واستطاعت أن تبلغ بهذه الأمّة العظيمة أوج العزّة القديمة، وأن تمدّ هذا الإقليم الخامل بروح حياة طيّبة جديدة وأن تكون كالرّبيع الرّوحانيّ لأشجار النّفوس الإنسانيّة يزيّنها بأوراق السّعادة المقدّسة وأزهارها وأثمارها ويهبها النّضارة والزّهاء.