ومن جملة دلائل الألوهيّة وبراهينها أنّ الإنسان لم يخلق نفسه بل الخالق والمصوّر له غيره، ومن اليقين الّذي لا مرية فيه أنّ خالق الإنسان ليس مثل الإنسان لأنّ الكائن الضّعيف ليس في مقدوره أن يخلق كائناً آخر مثله، والخالق الفاعل يجب أن يكون حائزاً لجميع الكمالات حتّى يمكنه أن يخلق ويصنع، فهل من الممكن أن يكون الصّنع في نهاية الكمال والصّانع ناقص؟ وهل يمكن أن يكون النّقش في نهاية الإتقان والنّقّاش غير ماهر في صنعه؟ مع أنّ النّقش من عمله وصنعه، والنّقش لن يكون مثل صانعه وإلاّ لنقش نفسه. ومهما كان النّقش في نهاية الكمال فإنّه إذا قورن بالنّقّاش يبدو في نهاية النّقص، وعليه فالإمكان معدن النّقائص والله تبارك وتعالى مصدر الكمال، وإنّ وجود النّقائص في عالم الإمكان لدليل على كمالات الله، فمثلاً إذا نظرت إلى الإنسان ترى أنّه عاجز فعجز الخلق دليل على قدرة الحيّ القدير، فإن لم تكن القدرة لما أمكن تصوّر العجز، إذاً فعجز الخلق دليل على قدرة الحقّ ولو لم تكن القدرة لما تحقّق العجز ومن هذا العجز ندرك أنّ في العالم قدرة.
مثلاً في عالم الإمكان فقر، فلا بدّ من وجود الغنى الّذي يتحقّق به الفقر، وفي العالم جهل فلا بدّ من وجود العلم الّذي يتحقّق به الجهل، لأنّه لو لم يكن العلم لما تحقّق الجهل، لأنّ الجهل عدم العلم، ولو لم يكن الوجود لما تحقّق العدم.
ومن المسلّم به أنّ عالم الوجود خاضع لأحكام ونظم لا يتجاوزها أبداً، وحتّى الإنسان مجبر على الموت والنّوم وغيرهما، أي أنّه محكوم في بعض المراتب، ولا بدّ لهذا المحكوم من حاكم، وما دام الاحتياج صفة الممكنات ومن لوازمها الذّاتيّة، فلا بدّ من وجود غنيّ بذاته، مثلاً يعلم من وجود المريض أنّ هناك صحيحاً ولو لم يكن هناك الصّحيح لما ثبت وجود المريض، وعليه صار من المعلوم أنّه يوجد حيّ قدير حائز لجميع الكمالات لأنّه إن لم يكن متّصفاً بالكمالات بأسرها لكان كالخلق أيضاً، كما وأنّ أدنى صنعة من الصّنائع في عالم الوجود تدلّ على صانع لها، فهذا الخبز مثلاً يدلّ على أنّ له صانعاً، سبحان الله ألا يدلّ تغيير هيئة الكائنات الجزئيّة على صانع؟ وهذا الكون العظيم اللاّمتناهي أوجد من تلقاء نفسه وتحقّق من تفاعل المواد والعناصر! فما أوضح بطلان هذه الفكرة! هذه أدلّة نظريّة للنّفوس الضّعيفة، ولو فتحت عين البصيرة لشاهدت مائة ألف دليل من الدّلائل الباهرة، مثال هذا لو كان للإنسان إحساس روحيّ لاستغنى عن دليل لإثبات وجود الرّوح، أمّا النّفوس المحرومة من الفيض الرّوحيّ فتحتاج لإقامة الدّلائل الخارجة عن عالم الرّوح.