مفاوضات - حضرة محمّد

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

حضرة محمّد – من مفاوضات عبدالبهاء

أمّا حضرة محمّد فقد سمع عنه أهل أوروبّا وأمريكا بعض الرّوايات واعتبروها صدقاً، والحال أنّ الرّاوي إمّا أنّه كان جاهلاً أو مبغضاً وأكثر الرّواة كانوا قسّيسين، وكذلك نقل بعض جهلة الإسلام روايات لا أصل لها عن حضرته زاعمين أنّها مدح، فمثلاً رأى بعض هؤلاء الجهلاء أنّ تعدّد الزّوجات محور مدح لحضرته وعدّوها كرامة له لأنّ هذه النّفوس الجاهلة كانت تعتبر تكاثر الزّوجات من قبيل المعجزات، واستند أكثر مؤرّخي أوروبّا على أقوال هذه النّفوس الجاهلة، مثلاً قال شخص جاهل لقسّيس بأنّ دليل العظمة هو الشّجاعة وسفك الدّماء وبأنّ شخصاً واحداً من أصحاب حضرة محمّد قطع بحدّ السّيف في يوم واحد مائة رأس في ميدان الحرب، فظنّ ذلك القسّيس أنّ القتل هو البرهان الحقيقيّ لدين محمّد، والحال أنّ هذا مجرّد أوهام، بل إنّ غزوات حضرة محمّد جميعها كانت دفاعيّة، والبرهان الواضح على ذلك أنّ نفس محمّد وأصحابه تحمّلوا في مدّة ثلاث عشرة سنة في مكّة كلّ الأذى وكانوا في هذه المدّة هدفاً لسهام الأعداء، فقتل بعض الأصحاب ونهبت الأموال وترك الباقون وطنهم المألوف وفرّوا إلى ديار الغربة، وبعد أن أسرفوا في إيذاء حضرة محمّد صمّموا على قتله، ولذا خرج من مكّة نصف اللّيل وهاجر إلى المدينة، ومع هذا لم يكفّ الأعداء عن الإيذاء بل تعقّبوهم إلى الحبشة والمدينة، وكانت قبائل العرب وعشائرهم هذه في نهاية التّوحّش والقسوة فبرابرة أمريكا ومتوحّشوها بالنّسبة إليهم كأفلاطون بالنّسبة إلى أهل زمانه، لأنّ برابرة أمريكا ما كانوا يدفنون أولادهم أحياء تحت التّراب، أمّا هؤلاء فكانوا يئدون بناتهم معتقدين أنّ هذا العمل منبعث عن الحميّة وكانوا يفتخرون به، فمثلاً كان أكثر الرّجال يتوعّدون زوجاتهم بالقتل إن هنّ ولدن إناثاً، ولا تزال القبائل العربيّة حتّى الآن تنفر من ذرّيّة البنات، وكذلك كان الشّخص الواحد يتّخذ لنفسه ألف امرأة، وكان لكثير منهم في بيته ما يزيد عن عشر زوجات، وإذا ما نشبت الحرب والقتال بين هذه القبائل تأسر القبيلة الغالبة نساء القبيلة المغلوبة وأطفالها ويعدّون هؤلاء الأسرى أرقّاء يتصرّفون فيهم بالبيع والشّراء، وإذا مات أحدهم وترك عشر نسوة استحوذ أولاده منهنّ بعضهم على أمّهات البعض، وعندما كان يلقي أحد هؤلاء الأولاد عباءته على رأس زوجة أبيه وينادي هذه حلالي، تصير تلك المرأة المسكينة على الفور أسيرته ورقيقته وله الحرّيّة التّامّة أن يفعل بها ما يشاء، فإن أراد قتلها أو سجنها في جبّ عميق أو شتمها أو ضربها وزجرها كلّ يوم حتّى يقضي على حياتها تدريجيّاً، ولا ضير عليه فيما يختار من هذه المعاملة حسب العرف وعادات العرب.

وغنيّ عن البيان ما ينشأ بين نساء الشّخص الواحد وبين أولادهنّ من الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، فانظروا كيف كانت حال هؤلاء النّسوة المظلومات ومعيشتهنّ.

وفوق ما ذكر فإنّ حياة القبائل العربيّة كان قوامها نهب بعضهم بعضاً، لذا كانت في حروب وغارات مستمرّة، يقتل ويسلب بعضهم بعضاً، يأسرون النّساء والأطفال ثمّ يبيعونهم للأجانب، وكم من بنات أمير وبنيه قضوا يومهم في النّعمة والرّخاء ثمّ أمسوا في منتهى الذّلّة والأسر والهوان بالأمس كانوا أمراء واليوم أصبحوا أسراء، بالأمس كنّ سيّدات محترمات واليوم أصبحن أرقّاء ذليلات، فبين هذه القبائل بعث حضرة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وما من بلاء إلاّ وتحمّله من هؤلاء مدّة ثلاث عشرة سنة، ثمّ خرج مهاجراً ومع ذلك لم يكفّوا عن إيذائه بل حشدوا جموعهم وخرجوا عليه بالجند والمحاربين مهاجمين ليعدموا كلّ من اتّبعه من رجال ونساء وأطفال، فاضطرّ حضرته لمحاربة تلك القبائل في مثل تلك الظّروف.

هذه هي حقيقة الحال ولسنا بمتعصّبين ولا بمدافعين عنه بل نحن منصفون لا نقول غير الحقّ.

فانظروا بعين الإنصاف لو كان حضرة المسيح في موقف كهذا بين قبائل متوحّشة طاغية كهذه وتحمّل صابراً مع الحواريّين مدّة ثلاث عشرة سنة كلّ جفاء من هؤلاء، ثمّ هاجر أخيراً من وطنه ومسقط رأسه إلى البادية فراراً من الظّلم، ومع ذلك ظلّ هؤلاء الطّغاة يتعقّبونه جادّين في قتل عموم الرّجال ونهب الأموال وأسر النّساء والأطفال، فأيّ سبيل كان يسلكه السّيّد المسيح مع أمثال هؤلاء؟

نعم لو لحق الضّير حضرته وعفا وصفح لكان هذا العفو والصّفح من الأعمال المقبولة والمحمودة جدّاً، ولكنّه لو رأى بأنّ ذلك الظّالم القاتل السّافك للدّماء يريد أن يقتل جمعاً من المظلومين وينهب أموالهم ويأسر نساءهم وأطفالهم، فلا شكّ أنّه كان يعمل لحماية هؤلاء المظلومين ويمنع عنهم ظلم الظّالمين.

إذاً فلِمَ الاعتراض على حضرة الرّسول؟ ألأنّه لم يسلّم نفسه مع الصّحابة والنّساء والأطفال لهذه القبائل الطّاغية؟

وفضلاً عن هذا فإنّ تهذيب أخلاق تلك القبائل ومنعها من سفك الدّماء هو عين الموهبة، وردع تلك النّفوس وزجرها محض الرّحمة والعناية، مثل ذلك كمن بيده قدح من السّمّ يريد أن يشربه، فالصّديق المحبّ هو من يكسر القدح وينجّي الشّارب ويزجره، فلو كان حضرة المسيح في موقف كهذا لا بدّ أنّه كان يعمل لنجاة الرّجال والنّساء والأطفال من براثن تلك الذّئاب الكاسرة، على أنّ حضرة محمّد لم يحارب النّصارى بل كثيراً ما شملهم برعايته ومنحهم كامل الحرّيّة، وكان في نجران طائفة من المسيحيّين فقال حضرة محمّد إنّي خصم لكلّ من يعتدي على حقوق هؤلاء وعليه أقيم الدّعوى أمام الله.

وصرّح في أوامره بأنّ أرواح النّصارى واليهود وأموالهم في حماية الله، فلو كان الزّوج مسلماً والزّوجة مسيحيّة لا يجوز أن يمنعها عن الذّهاب إلى الكنيسة أو يرغمها على التّحجّب، وإذا ماتت وجب عليه أن يسلّم جثمانها إلى القسّيس، وإذا أراد المسيحيّون بناء كنيسة فعلى المسلمين أعانتهم، وعلى الحكومة الإسلاميّة أيضاً حين محاربتها لأعداء الإسلام أن تعفو عن النّصارى الخدمة العسكريّة ما لم يتطوّعوا بمحض اختيارهم لمعاونة الإسلام لأنّهم تحت حمايته، وفي مقابل هذا العفو عليهم أن يدفعوا كلّ سنة مبلغاً ضئيلاً.

وقصارى القول أنّه يوجد سبعة مناشير مفصّلة في هذا الشّأن بعضها موجود في القدس إلى اليوم، وليس هذا القول من عندي، بل هو الحقيقة الواقعة، فإنّ فرمان الخليفة الثّاني وأوامره موجودة عند بطريرك الأرثوذكس بالقدس، وهذا ممّا لا ريب فيه، ولكن حدث بعدئذٍ أن حلّ الحقد والحسد بين المسلمين والنّصارى، فتجاوز كلاهما حدّه وما يقوله كلا الطّرفين أو غيرهم خلافاً لهذه الحقيقة حكايات وروايات ناشئة إمّا عن التّعصّب والجهالة أو صادرة من شدّة العداوة، فمثلاً يقول المسلمون إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شقّ القمر فوقع على جبال مكّة متصوّرين أنّ القمر جرم صغير فشقّه نصفين ألقى بأحدهما على هذا الجبل وبالثّاني على جبل آخر، فالتّمسّك بظاهر هذه الرّواية تعصّب محض، وكذلك ما يرويه القسّيسون قدحاً وذمّاً كلّه مبالغ فيه وأكثره لا أساس له.

وبالاختصار فقد ظهر حضرة محمّد في صحراء الحجاز بجزيرة العرب حيث لا زرع ولا شجر ولا عمران، وبعض بلادها كمكّة والمدينة شديدة الحرارة، والأهالي من سكّان البادية فأخلاقهم وطباعهم بدويّة، وما كان لهم نصيب قطّ من العلوم والمعارف حتّى أنّ حضرة محمّد نفسه كان أمّيّاً وكانوا يكتبون القرآن على عظام أكتاف الخراف أو على ورق النّخيل "خوص"، فمن هذا المثال يمكنك أن تدرك حالة القوم الّذين بعث بينهم حضرة محمّد.

وكان أوّل اعتراض عليهم قوله لماذا لم تقبلوا التّوراة والإنجيل ولم تؤمنوا بعيسى وموسى، فثقل عليهم هذا القول وأجابوا كيف كان حال آبائنا وأجدادنا وهم لم يؤمنوا بهذين الكتابين، فرد عليهم أنّهم كانوا ضالّين وعليكم أن تتبرّءوا من تلكم النّفوس حتّى ولو كانوا آباءكم وأجدادكم، ففي أقليم كهذا وبين قبائل كهذه جاء رجل أمّيّ بكتاب شامل للصّفات الإلهيّة وكمالات ونبوّات الأنبياء والشّرائع الرّبّانيّة مبيّن فيه بعض العلوم والمسائل العلميّة بنهاية الفصاحة والبلاغة، فمن ذلك تعلمون أنّه في القرون الأولى والوسطى وحتّى القرن الخامس عشر الميلادي قبل الرّاصد الشّهير الأخير اتّفق جميع الرّياضيّين في العالم على مركزيّة الأرض وحركة الشّمس، وكان هذا الرّاصد الأخير أوّل من قال بالرّأي الجديد من أنّ السّكون للشّمس والحركة للأرض، وإلى ذلك الوقت كان جميع الرّياضيّين والفلاسفة في العالم متّبعين نظريّة بطلميوس ويرمون بالجهل من يقول بغير ذلك.

نعم لقد تصوّر فيثاغورث وأفلاطون في أواخر أيّامهما بأنّ الحركة السّنويّة للشّمس في منطقة البروج ليست ناشئة من هذا الجرم، بل من حركة الأرض حول الشّمس ولكن هذا الرّأي بات نسياً منسيّاً وأصبح ما قاله بطلميوس هو المسلّم به لدى جميع الرّياضيّين، ولكن نزلت في القرآن آيات تخالف رأي بطلميوس وقواعده، ومن ذلك الآية الكريمة (والشّمس تجري لمستقرّ لها) المتضمّنة ثبوت الشّمس وحركتها على محورها، وكذلك الآية (وكلّ في فلك يسبحون) فقد صرّح بأنّ الشّمس والقمر وسائر النّجوم متحرّكة، فلمّا انتشر القرآن استهزأ الرّياضيّون بهذا الرّأي ونسبوه إلى الجهل، حتّى أنّ علماء الإسلام لمّا رأوا مخالفة هذه الآيات لقواعد بطلميوس اضطرّوا إلى تأويلها لأنّ نظريّة بطلميوس كانت شائعة ومسلّماً بها وصريح القرآن يخالفها وذلك حتّى القرن الخامس عشر الميلادي أي بعد ظهور حضرة محمّد بنحو تسعمائة سنة تقريباً حيث رصد الرّياضيّ الشّهير رصداً جديداً واخترعت الآلات التّلسكوبيّة وحدثت الاكتشافات المهمّة فثبتت حركة الأرض وسكون الشّمس، وكذلك عرفت حركة الشّمس حول محورها، وصار من المعلوم أنّ صريح الآيات القرآنيّة يطابق الواقع وأصبحت القواعد البطلميوسيّة محض أوهام.

وبالاختصار فلقد تربّى في ظلّ الشّريعة المحمّديّة جمّ غفير من الأمم الشّرقيّة مدّة ألف وثلثمائة سنة، وفي القرون الوسطى حيث كانت أوروبّا في منتهى الوحشيّة تفوّق العرب في العلوم والصّنائع والرّياضيّات والمدنيّة والسياسة بل وفي سائر الفنون على سائر ملل العالم، وكان مربّي هذه القبائل البدويّة العربيّة ومحرّكها والمؤسّس للمدنيّة والكمالات الإنسانيّة بين تلك الطّوائف المختلفة هو ذلك الشّخص الأمّيّ وأعني به حضرة محمّد، فهل كان هذا الشّخص المحترم مربّياً للكلّ أم لا؟ يجب الإنصاف.

المصادر
المحتوى
OV